المعنى والدلالة
«إن الإنسان الذي لا يستطيع أن يفكر لنفسه، ويخضع لأفكار الآخرين، يظل عبدًا لأفكارهم. من الواضح أن الهدف من تعلم التفكير يُعَد أكثر صعوبة من هدف تعليم كيفية التعلم، لكن الصعوبة التي نضيفها دائمًا إلى أعبائنا ليست ببساطة كافية لتجعلنا قادرين على ابتكار موضوع هو ملك لشخص آخر. ستشعر أي كلية جامعية بالفخر والزهو إذا استطاع طلبتها القيام بعمل موسوعي. أن تكون إنسانًا كاملًا فإن ذلك يعني من ناحية أن تفكر في أفكار شخص آخر وأن تصل إلى النقطة التي تعرف فيها الاختلاف بين الأفكار.»
***
أحضرت معي اليوم إلى الفصل كيسًا من الورق وبداخله صورة، وكرة صغيرة، وبعض مسامير، وواحدة من فاكهة الموز، وضعتهم في مواجهتي تمامًا فوق المكتب، ورحت أعرض على الطلبة في الفصل كل واحدة على حدة، ثم أعطيت الكرة الصغيرة إلى الطالب الجالس على يميني فراح يتطلع إليها وقام بتدويرها على شكل دائرة. وبعد ذلك فعلت الشيء نفسه مع المسامير، لكنني تركت الموزة فوق المكتب، ثم وقفت وأمسكت بالصورة ورحت أمشي داخل الدائرة وأنا أعرض عليهم الصورة وسألتهم: ما هذا؟
حاولوا خنق ضحكاتهم، فقلت: يمكنكم معرفة هذا الشيء.
– إنه عنقود يرتدي بدلة من قماش البوليستير.
وقال آخر: انظر إلى شعرهم، إنه يتسم بالوحشية، إنهم يبدون مثل المهرجين.
قلت: إنهم أصدقائي.
قال آخر بسرعة: هل أصدقاؤك من عائلة الحجلة؟
قال آخر: كان أصدقاؤك في السيرك.
قلت لهم: إن بمقدورهم الضحك كما يشاءون؛ لأنني أتحكم في درجاتهم وأنني مصمم على استقبال آخر الضحكات.
سأل أحدهم: لكنك لا تفعل؟
أوه، اللعنة، إذن توقفوا عن الضحك في هذه الحالة.
لكنهم لم يفعلوا، فقلت: لا، إنهم ليسوا من أبناء المدن في القرن السابع عشر، إنه صيفي السابع عشر، صيف عام ١٩٧٨م، إنه نوع من أنواع السحر والسباحة أو الكرة الناعمة أو أول قبلة …
قاطعني أحد الطلبة وقال متسائلًا: من المحظوظ من أولئك الأولاد؟
تساءلت أيضًا: ما هذا؟
ثم أشرت إلى الكرة الصغيرة وهي تتدحرج في كل أرجاء الفصل.
إن رجل الشرطة الذي لا ينفذ الأوامر المدنية ينزلق بدون تفكير إلى ما يقوله «جاك ويب»: إن القطر الصغير للمسدس يحتوي بداخله على نوع من الحياة، كما يحدث مع أي تشويه يمكنكم القيام به، أو كما يحدث بتلطيخ الأواني الخزفية الجميلة.
قلت لهم: قوموا بالتصحيح، لكنني في النهاية توقفت وطلبت منهم ألا يفعلوا.
تدلت حواجب أعينهم عبر حجرة الفصل، وساد كثير من الوجوم، فلم يكونوا يدركون ما أتحدث عنه.
كانت عطلة نهاية الأسبوع عندما كنت في السادسة أو السابعة من عمري، وذات يوم حارٍّ كان أخي الأكبر مستلقيًا فوق السرير بعد الظهر وهو يطالع كتابًا، بينما كنت أنا جالسًا إلى جواره في السرير المقابل، ولا أعرف لماذا كان يمتلك بعض الكرات الصغيرة، لكنني كنت أعي قليلًا لماذا وضعْتُ واحدة منها في فمي، وأتذكر أنني قمت بابتلاعها.
ارتفعت حواجبهم واتسعت عيونهم ثم سأل أحدهم: وماذا فعلت؟
قلت: قضيت إجازة نهاية الأسبوع كلها في السرير، كنت طفلًا ناضجًا وكنت شقيًّا وأمتلك كثيرًا من الطاقة، ودائمًا ما كنت أوقع الأذى بإخوتي وأقربائي، وحيثما كان أخي الذي كان يكبرني بعشرة أعوام تقريبًا يأتي إلى المنزل بصحبة إحدى الفتيات لمقابلة العائلة، كنت أتدخل بكثير من الأسئلة وبأعلى صوت قائلًا مثلًا: هل ستقوم بتقبيلها يا «ريك»؟ هل ستقبلها الآن؟
كان يستغرق وقتًا حتى يتمكن من الإجابة على أسئلتي، فقال لها: «ساندي»، هذا أخي الأصغر، إنه كذلك منذ ولادته.
اعتاد بعد ذلك أن يأتي مع الفتاة حين يكون والدي وأقربائي بالخارج، وأكون أنا في منزل الجيران، وحين كنت أعود للمنزل لإحضار شيء ما كنت أسمعهم فأسارع بالزحف خلف السرير، وذات مرة قفزت من رقدتي وقلت: هاي «ريك» هل أنت سعيد برؤيتي؟
قال أحد الطلبة متسائلًا: وماذا فعلت عندئذٍ؟
أجبت: ماذا تعتقد بأنني فعلت؟ لقد هربت طبعًا إنقاذًا لحياتي.
سأل طالب آخر: لو أنني أنا لكنت قتلتك.
قلت: حسنًا، هذا يعيدنا مرة أخرى إلى الرصاصة، وإلى السبب الذي قضيت من أجله إجازة نهاية الأسبوع في السرير، وبطريقة ما خطرت ببالي فكرة لو أنني تحركت بسرعة لأصابني الانفجار، إن أحدًا من أقربائي ولا حتى إخوتي قد أخبرني بتلك الفكرة، وعلى أية حال فإن كل أفراد الأسرة كانوا سعداء لقضاء إجازة هادئة.
ابتسموا وضحكوا، ثم ساد وقت قليل من الهدوء استطعت خلاله رؤية عقولهم وهي تتساءل وتقلب الأفكار، ثمة أشياء لم يفهموها، وفي النهاية سأل أحدهم: كيف، كيف انتهى بك الأمر مع الرصاصة؟
أوه، الطريقة العادية.
نظروا إلى أياديهم، فقلت: كنت أشعر بقلق شديد تحسبًا من توبيخ أمي الذي تفعله معي في كل مرة، وأخيرًا وجدته ثم أخرجته من أجلي.
توقفت ثم قلت: والآن، ما تلك الأشياء؟
بدءوا يفهمون وعرفوا بأنني كنت في سباق، وقال أحدهم: هذه أفضل قفزة لك طوال حياتك.
وقال آخر: كان يومًا حارًّا وكنت تتحرك بصعوبة لأنها كانت مقابلة الموسم الأخيرة.
إنها الفراشات داخل معدتك.
وأضاف آخر: لا عليك بالفراشات، انس أمر الفراشات، هل رأيت طوال حياتك امرأة في القفز العالي؟ إنهن الأفضل.
قلت له بأنني كنت في كلية يشكل الذكور فيها نسبة ٨٣٪.
ضحك وقال: لذلك خرجت من أجل السباق …
قلت مقاطعًا إياه: شيء رائع، ذلك كل شيء من تلك الأشياء فيما عدا النساء، أنا لم أتواعد أبدًا مع لاعبات القفز، رغم علمي بأنهن يظهرن في شكل بديع بين كل الفرق في السباق، وطبعًا يمكننا قول الشيء نفسه على الذكور، على الأقل في مثل حالتي.
ضحكوا وتألمت أنا.
أضفت: شيء آخر أيضًا، إنه الأفضل، حين كنت طفلًا ومراهقًا كنت غالبًا ما أقلل من إنجازاتي، وكنت أشعر بأنني محظوظ، أو أن نجاحي نتيجة لأسباب خارجية، كان خصومي في كرة السلة في إجازة، وهكذا كنت دائمًا أبحث عن باعث خفي عندما يقوم الناس بالثناء عليَّ. والآن نستطيع أن نتحدث في كل ما نرغب إذا لم تكن الفعالية العاطفية والصحية الخارجية لشخص ما غير ضرورية. إن قيامك بأفضل ما تستطيع يُفترض أن يكون كافيًا، لكنني أعرف ما أشعر بحاجتي إليه، وأعرف تأثير تلك الفعالية عندما أحصل عليها، ذلك هو معنى حلقة السباق بالنسبة لي، كنت الأفضل ولم أستطع التقليل من إنجازاتي، كان الحاجز منتصبًا فلم أستطع التصرف حياله، لذلك يمكنني إخباركم بقصة عنه عن مكان التنافس، فإذا ذهبتم معي يمكنكم عندئذٍ أن تشعروا بالحرارة القادمة منه، وستتنسمون حفرة القفز العالية، وتسمعون بداية إطلاق النيران وصوت العاملين وهم يصيحون بكلمة البداية وقعقعة العمود عندما يصطدم به أحد المتنافسين، غير أن كل ذلك هو الخطوة الأولى فقط، يتوجب عليَّ أن أضيف للقصة ميزة خاصة وهدفًا ما، يجب أن تكون القصة ذات دلالة ومعنًى.
لقد قمتم بعمل رائع حقًّا حين جعلتم القارئ يبحر معكم في مقالاتكم وقصصكم، وأنا أتفق معكم في كل خطوة، وأنتم الآن مستعدون للخطوة التالية، والتي من خلالها تقدمون للقراء سببًا يجعلهم ينتبهون، إنني متأكد بأنكم على اتصال بالناس الذين يقدمون لكم كل تفاصيل حياتهم اليومية، أو تلك التي حدثت منذ عشر سنوات، وأنتم لا تعرفون لماذا هم يواصلون ويستمرون في الحياة، وتريدون أن تصرخوا قائلين: أين المعنى والدلالة؟
أنتم تريدون منهم أن يزودوكم بالمحتوى العاطفي وبالثراء المثير للعاطفة، الشيء نفسه يجب أن يحدث عندما تكتبون قصة ما، فأنتم لا تريدون المضي بالقارئ قدمًا وفقط، كما أفعل أنا معكم حين أعرض عليكم حذاء السباق، لكنكم تريدون لهم أن يعرفوا الدلالة والمعنى الذي تريدونه أنتم، وعليكم أيضًا أن تصلوا بهم إلى أن ذلك يعني شيئًا بالنسبة لهم.
التزَموا الصمت، فاعتقدت بأنهم فهموا ما أعنيه، ثم قال شخص ما بعد لحظة: وإلى أي شيء ترمز قطعة الموز؟
قلت: إنها وجبة غذائي.
•••
ثمة شيء آخر أرغب في قوله عن الإطراء والثناء في الفصل، وهو ليس بالشيء المهم بالنسبة لي أن الإطراء والثناء الذي أقدمه دائمًا يجب أن يكون حقيقيًّا، ولكنه أيضًا مهم؛ لأنه غير مشروط، وليس من الجدير القول بأنه إطراء نوعي، يجب أن يكون كذلك، لكنه لن يساعد الطلبة أبدًا في القيام بالثناء على الكتابات التي أحببتها، إن كل الأبحاث والكتابات التي قرأتها توحي بأن الثناء المشروط يقف حائلًا ضد الإبداع، إنه يجعل القارئ غير قادر على التفاعل مع الكاتب الذي ينشغل في تلك الحالة بالإطراء والثناء بدلًا من استغراقه في التأمل.
وجدت في كل ورقة شيئًا ما يمكن الإشادة به، نعم فأنا ما زلت أدفع بأفكاري المثالية عن الكتابة الجيدة وأركز عليها بين ثنايا الأوراق والكتابات التي أحبها أكثر من غيرها.
غالبًا ما يكتب الطلبة إبداعات عن السياسة أو كتابات تحمل في طياتها بعض القضايا السياسية، لكنني لا أهتم بذلك كثيرًا، إنني أقوم بالثناء على تلك الأعمال إذا راقت لي فقط، لقد أمضى أحد طلبتي فصلًا كاملًا من فصول السنة الأربعة وهو يكتب مديحًا في «رونالد ريجان»، وقد قدمت له يد العون وطلبت منه أن يقوم بتحسين منطقه وخطابه الذي كان يتحدث عن حالة القبول في الفصل الجديرة بالاحترام والمليئة بالحياة، وعن تلك المناقشات السياسية مع امرأة في الفصل كانت قد أقامت حفلًا لكي تحتفل بإطلاق النار على «ريجان».
وبالمثل، وعلى الرغم من أنني لا أحب تناول المشروبات الكحولية، فإن طالبًا يعمل بتجارة النبيذ حين انتهى من الكتابة لم أستطع أن أجد شيئًا يحمل قيمة إبداعية، ولم تتجاوز كتاباته بعض الإعلانات عن النبيذ، وشعرت بالسرور عندما نحيت قناعاتي جانبًا وتخليت عن رؤيتي قليلًا وقمت بمساعدته بالطريقة التي يجب مساعدته بها، وكانت سعادتي أكبر حين تمكن من تحسين مستواه وكتب بشكل أفضل.
لم أتظاهر أبدًا بأنني لم أكن أملك أن أقوم بالتمييز والتفضيل وحق الاختيار، أو أنني لم أكن أملك رؤية سياسية، وكنت أشير إلى طلبتي بأنني لا أتأثر باتفاقهم معي في الرأي أو قبولهم كل ما أقول.
ما زلت أتذكر إحدى الأوراق التي كانت أكثر صعوبة من الأوراق الأخرى، كانت الورقة لرجل التحق حديثًا بحفلة البكالوريوس، لقد قام بوصف اثنتين شبه عاريتين وهما يرقصان وسط حلقة دائرية تضم جماعة من الأصدقاء، كانت واحدة منهما ترقص بجوار العريس الجالس فوق المقعد، فقام بِعَضِّها في فخذها بقوة حتى تألمت وتوقفت عن الرقص ثم غادرت الحجرة، وعندما عادت راحت ترقص مع المرأة الأخرى بمفردهما، وراحتا تتظاهران بحركات تثير الرغبات الجنسية. كتب الطالب أن الراقصتين قد نجحتا في إثارته وفتنته، وأن ذلك المشهد كان من أكثر المشاهد انحرافًا التي شاهدها في حياته، وقال: أنا لا أفهم لماذا يقومان بالرقص معًا ويعملان على إثارة الأحاسيس الجنسية، بينما يمكنهما القيام بذلك مع أي واحد منا؟ لا بد أنهما شاذتان!
عندما انتهيت من القراءة كنت غاضبًا بشدة من ذلك الرجل وتلك الثقافة التي تخلد هذه المواقف والممارسات التي كنت أهتز لها، أردت أن أوقظه، كانت ثمة ظروف في مثل تلك الاستجابة قد تكون مناسبة، لكن إدراكي لاختلاف القوة بين المدرس والطالب جعلني أتوقف، فأنا لا أنسى أبدًا ذلك الأستاذ في الكلية الذي قال لي في الفصل بأنني شخص ماكر ومراوغ وغبي ولا يهمه أي شيء، وكذلك لا أستطيع أن أنسى شعوري الناتج عن تلك الكلمات، إن المدرسين يملكون سطوة لا يجدون عائقًا في فرضها على الطلبة، وغالبًا ما يعقب تلك السطوة الإحساس بالمسئولية في استخدامها بشكلٍ مناسب ولائق، شعرت بسعادة بالغة حين قرأت تلك الورقة في البيت؛ لأنها استغرقت مني طوال اليوم أو معظمه في التفكير في كيفية الاستجابة المناسبة وفي البحث عن الشكل اللائق لرد الفعل، فجَّرت الورقة كثيرًا من الموضوعات المثيرة، ورحت أتساءل بشكل خاص عن الانحراف، وقلت لنفسي بأن المرأتين ارتضتا القيام بتلك الرقصات، وكذلك قَبِلَ الرجال في الحجرة مشاهدة المرأتين، ومن الواضح أن شخصًا ما كان يعتقد بأن له الحق في عضهما، لماذا إذن تتسم المرأتان بالانحراف؟ إنني أتساءل أيضًا عن موضع كلمة الاحترام في مثل ذلك المشهد، وما العلاقة بين الاحترام والجنس؟ وأين يكمن الاحترام في العلاقة الجسدية بين رجل وامرأة؟
أريد القول بأنني استطعت تغيير مواقف ذلك الرجل تجاه النساء، ونجحت في تغيير علاقاته المستقبلية وحياته، لكنني لم أكن أملك أي فكرة عن كيفية قدرتي على الاستجابة لما فعلت، إنه لم ولن يعيد كتابة مثل تلك الورقة مرة أخرى، كما أننا معًا لن نناقشها.
كنت أيضًا أفكر بعناية في كيفية الإطراء والمديح التي يتوجب عليَّ تقديمهما للطلبة، ولأنني أعرف كيف يكون شعور الطالب وكيف يكون إحساسه بآدميته، كانت عملية الإطراء، وبخاصة أمام الجمع، محل تساؤل، وأتذكر في الوقت نفسه كيف يكون الإحساس سيئًا عندما لا يشعر الآخرون بنوع من المديح والإطراء، أتذكر تلك الإثارة التي شعرت بها عندما كانت المدَرِّسة تقرأ شيئًا كنت قد كتبته في مواجهة الفصل، وذلك الارتباك الذي أصابني وهي تقرأ من خلال كُومة كبيرة من الأوراق حتى قاربت على الانتهاء دون أن تقرأ ورقتي. في بداية الربع الأول من كل عام كنت أقول لطلبتي بأنني في الوقت المناسب سأقرأ مقتطفات من كتابات كل شخص.
كان ذلك لخلق جو يستطيع فيه الطلبة أن يشعروا بما يكفي من الراحة مما يساعدهم في البدء باكتشاف محتويات جلودهم ونوع بشرتهم، وبينما كان طلبتي يواصلون تطورهم ككتَّاب ومفكرين وآدميين ظللت أفكر بأن ذلك العمل سهل فعلًا، وكيف أن طلبتي قد قبلوا ذلك طواعية، وكانوا يحبون ما هم عليه، ويقبلون سنوات عمرهم التي تنحصر في عمر المراهقة، ويشعرون بقرب المسافة بينهم وبين آبائهم وأساتذتهم وبين العاملين في المدرسة وزملائهم في الكنيسة، لقد شعرت بأنني قمت بعمل جيد.
إنني مدرك تمام الإدراك بأن جنسي الذكوري يمنحني ميزة كبيرة للقيام بعملية التدريس، وبالطريقة التي أعمل بها، وكذلك أنا أعي تمامًا بأن كوني من الذكور يمنحني أيضًا ميزات تقريبًا في مناحي الحياة، ساعدني لون بشرتي الأبيض أيضًا في الشعور بالتميز، بالإضافة إلى كوني طويل القامة، كل تلك الصفات المتميزة مكتسبة من الثقافة.
ذلك التسليم بالسلطة قد يراه البعض ضعفًا، شيء سيئ حقًّا لأن بعض الناس أو الكثير من الناس يفهمون العالم ويتعاملون معه وكأنه صراع القوة الذي لا ينتهي، والذي هو عالم مخيف جدًّا ولكنه محتمل، سواء من الطالب أو المدرس أو القائم بالأعمال الإدارية أو أي شخص آخر أن يحاول استغلال ذلك الضعف المدرك، وفي العموم فإنه يشكل ألمًا في المؤخرة.
وبالمناسبة عليك أن تلاحظ بأنني لم أقل بأن التمرد على السلطة شيء ضروري ليتكون الألم في المؤخرة، على الرغم من وجود أوقات يكون فيها بالتأكيد شيئًا غير مريح لكل المشاركين، إنني أقول بأن هناك بعض الناس، وأكرر مرة أخرى بأن الكثير منهم، من الذين لا يشعرون بالراحة سواء بموافقتهم أم بدون موافقتهم، وبصراحة أولئك الذين لا يوافقون يكونون في وضع أصعب من حيث التعامل معهم.
ليس حقيقيًّا أنني استسلمت للسلطة على أية حال، وقد يكون أكثر دقة القول بأنني نحيت بعض السلطة جانبًا، لكنني بالتأكيد احتفظت بها قريبًا من متناول اليد، المعادل النفسي لجهاز الإنذار الذي كنت أرتديه في حزامي أثناء فترة السجن، كان نظام الدرجات في الاتجاه الصحيح، لكنني ما زلت أفرضه من الخارج، وما زلت مترددًا، وما زلت مصرًّا على أجندة الفصل رغم أنني لم أستخدمها قط، وما زلت أملك القوة لطرد أي شخص أقوم باختياره لأي سبب أراه.
دعنا نكن صادقين عن الدور الذي أقوم به في الفصل، أستطيع قول كل شيء أريده عن محاولة إدارة الفصل، لكن الحقيقة تتمثل في أن ما أقوله، وغالبًا في أي موضوع، يحمل أبعد من مغزاه في فصلى أكثر مما يمكن أن يقوله أي شخص منفرد، إن المدرس يتحدث وينتبه الطلبة له أكثر من انتباههم لأحد الطلبة من زملائهم إذا قام بدور المتحدث وقال الكلام نفسه الذي يقوله المدرس أو شيئًا يدحض كلامه، وأتذكر حين حاولت أن أضرب مثالًا تافهًا أن مدرس العلوم في المرحلة السابعة أخبرنا بأنه من الممكن أن تشرب ما يكفي من الماء لتملأ المعدة والمرِيء، ثم تستطيع بعد ذلك السير إلى المغطس وتميل بوجهك للأمام ثم تصب الماء من معدتك إلى الخارج، إذا قال ذلك أحد أصدقائي لما صدقته، ولكن بما أن المدرس هو الذي قال ذلك فقد صدقته في وقتها، وما زلت أتذكر كل ما قاله، يمكن قول الشيء نفسه في كثير من الأشياء العبثية المشابهة التي قالها المدرسون، بما في ذلك كل ما قاموا بتدريسه في الرياضيات والعلوم والتاريخ والاقتصاد وهكذا.
وهل لم أفرض أنا أجندتي الخاصة أيضًا لاختيار الموضوعات التي يمكن التحدث بشأنها في الفصل؟ وهل لم أحدد لهم فرضيات سياسية عندما طلبت منهم الكتابة عن إعدام الثوار؟ وهل لم أحدد حالات مختلفة بعرض صور الباعة في شارع وول ستريت أو قتل المدنيين في الفلبين وكوريا وفيتنام وبنما وجرينادا والصومال والعراق وأفغانستان؟ لا شك أن الصور التي قمت بعرضها هي صور سياسية بامتياز.