من المنفى إلى الوزارة
كان عدلي هو الذي قطع المفاوضات مع كرزون، وكان سعد هو الذي نُفي إلى سيشل بعد قطع هذه المفاوضات!
وليس هذا كل ما هنالك، بل كان اللورد اللنبي حريصًا على بقاء الوزارة العدلية في الحكم، ولَمَّا استقالت وأكدت استقالتها مرة أخرى كان حريصًا على «إقناع أعضاء من حزب عدلي بالانضمام إلى الحكومة»؛ لأنه يشعر كما قال في برقية العشرين من ديسمبر إلى حكومته «بأن هذا الحزب لا محالة ممزق ما لم يتقدم الآن».
وهذا تصرف من جانب الإنجليز لا معنى له إلا أنهم يعتقدون أنَّ المعارضة التي أحبطت المفاوضات هي معارضة زغلول، وأنَّ ما عداها إنما هو معارضة «المظاهر» والمراسم ومقتضيات الأحوال.
وقد اجتمعت المعارضة الحقيقية ومعارضة المظاهر بعد نفي زغلول وأصحابه في صف واحد؛ فاجترفت كل ما دبرته السياسة الإنجليزية وخيبت رجاءها في كل ما قدرته من تخويف المصريين بتهديد اللورد كرزون في كتابه إلى السلطان، وشملت المعارضة السياسيين وغير السياسيين، فاشترك فيها كبار القضاة والمحامين والأطباء، و«حزب عدلي» — كما يسميه اللورد اللنبي — وسائر الأحزاب التي تنضوي إلى هذا الجانب أو ذاك، أو تقف بين بين في انتظار الطوارئ والتقلبات.
استقال عدلي وأكد استقالته مرة أخرى بعد اعتقال سعد وأصحابه لكيلا يُنسب إليه الاشتراك في هذا التصرف، وأسرع إلى اللورد اللنبي «يؤكد أنه شخصيًّا سيظل مؤيدًا لحكومة السلطان ولقوى القانون والنظام»؛ أي للأحكام العسكرية البريطانية بطبيعة الحال؛ لأنها هي القوى التي تدَّعي حفظ القانون والنظام فيما عدا حكومة السلطان!
واستحال تأليف وزارة جديدة بعد المعارضة الإجماعية من جميع الطبقات للسياسة التي رسمها اللورد كرزون في كتابه.
وبعد مفاوضات بين ثروت واللنبي أُعْلِن في الثامن والعشرين من فبراير التصريح المنسوب إلى هذا التاريخ؛ لأن أحدًا لم يستطع أن يسميَه تصريح إلغاء الحماية أو تصريح الاستقلال، أو ما إلى ذلك من الصفات، لا فرق بين أنصاره المرحبين به، وخصومه المعترضين عليه!
تألفت الوزارة الثروتية عقب هذا التصريح، وأرسلت وزارة الخارجية المنشأة حديثًا منشورًا في منتصف شهر مارس إلى وكالات الدول السياسية تبلغها النطق الملكي المعلن استقلال مصر واتخاذ ولي الأمر لقب صاحب الجلالة ملك مصر.
وفي الوقت نفسه أعلنت الحكومة البريطانية الدول أنَّ كل معاملة بينها وبين مصر على غير الخطط التي رسمتها لاستقلالها تنظر إليها بريطانيا العظمى كأنها عمل من أعمال العداء.
وقد حكمت المحكمة العسكرية عليهم بالإعدام. ثم عُدل الحكم إلى سبع سنوات وغرامة خمسة آلاف جنيه على كلٍّ منهم. وأُبلغوا حكم الإعدام أولًا فهتفوا «لتحيَ مصر» قبل أن يسمعوا ما وراء ذلك. ثم تُليت عليهم تتمة الحكم وفيها ذلك التعديل، فكرروا الهتاف لمصر بالحياة.
أما الوفد بعد اعتقال سعد فقد عاد إليه بعض أعضائه المنفصلين، ثم تركوه بعد أيام لسببٍ ظاهرُه أنهم اختلفوا على اختيار عضو من الأعضاء الجدد، وباطنه أنهم عرفوا السياسة التي رُسمت للمستقبل، وهي سياسة «حزب عدلي» — كما سمَّاه اللورد اللنبي — فرجعوا إلى تأييد هذه السياسة.
وقد أصدر الأعضاء الباقون منشورًا مفصلًا ببرنامج المقاطعة، وسياسة عدم التعاون مع الإنجليز في الحكومة وخارج الحكومة؛ فقُبض عليهم ثم أُفرج عنهم، وعادوا فأصدروا منشورًا حضوا فيه الأمة على بذل ما في الطاقة لإعادة سعد وأصحابه من منفاهم، فقُبض عليهم في الرابع والعشرين من شهر يوليو، وحوكموا في التاسع من شهر أغسطس، وانتهت المحاكمة بعد ثلاث جلسات وجيزة؛ لأن الأعضاء رفضوا بتاتًا أن يجيبوا على أي سؤال.
إنَّ عدم الاهتداء إلى مرتكبي تلك الجرائم وبقاءهم بعيدًا عن طائلة العقاب يدل أوضح الدلالة على عدم كفاية التدابير التي اتُّخذت لمنع وقوع تلك الاعتداءات، وإنَّ الحكومة البريطانية تجد نفسها تلقاء هذه الحالة مضطرة لأنْ تعتبر الحكومة المصرية مسئولة عن تعويض من يقع به اعتداء من الأجانب، أو تعويض ورثته إن أدركته الوفاة، كما أنها تحتفظ بحق تقدير ما إذا كان التعويض الذي تمنحه الحكومة المصرية كافيًا أو غير كافٍ.
وفيما عدا ذلك الاحتجاج الرسمي كانت العلاقات بين الإنجليز والوزارة الثروتية علاقة مودة وتأييد متبادل، وكانت العقبة الكبرى التي تلقاها الوزارة إنما هي الخلاف المتعاظم بينها وبين الملك فؤاد على مسألة الدستور.
وخلاصة المسألة الدستورية أنَّ الوزارة أنشأت برأيها ورأي أصدقائها لجنة مؤلَّفة من ثلاثين عضوًا برئاسة «حسين رشدي باشا» لوضع الدستور الجديد، تمهيدًا لانتخاب الهيئة التي تبرم الاتفاق بين مصر وإنجلترا على القضية المصرية. ودعت الوزارة عضوين أو ثلاثة من الوفد المصري إلى الاشتراك في اللجنة فلم يجيبوا الدعوة؛ لأن تمثيل الوفد بهذا العدد القليل بين ثلاثين من أنصار الوزارة المعادية للوفد ورئيسه عبث، لا يناله منه إلا التبعة وتصحيح مركز الوزارة تصحيحًا يقويها ويضعفه ويفل سلاحه، ولأنه كان من ناحية أخرى يقترح انتخاب جمعية تأسيسية لوضع الدستور برأي نواب البلاد لا برأي الوزارة ومن يشايعها، ولأنه كان يستريب بمقاصد عبد الخالق ثروت، ويناصبه العداء مقابلة لعدائه بمثله، وتطبيقًا لسياسة عدم التعاون التي أعلنها بعد اعتقال سعد وأصحابه.
وارتسمت الخطة التي كان ينويها ثروت باشا وأصدقاؤه، ويطمئنون إلى جريان الأمور في مجراها إلى الغاية المنشودة؛ وهي تنفيذ الاتفاق بينهم وبين الإنجليز باسم النواب المنتخبين وضمان الحكم على القواعد الدستورية.
فسعد وأصحابه في المنفى، والبقية الباقية من أعضاء الوفد البارزين في السجون أو المعتقلات، والانتخابات تجري على الأسلوب الذي يحسنه ثروت باشا وجرى عليه في جمع التوقيعات، وهو وأصدقاؤه من «حزب عدلي» ينزلون إلى ميدان الانتخاب بغير منازل، أو يقهرون منازليهم بمعونة الحكومة وما عندها من وسائل الترهيب والترغيب وقضاء المصالح من هنا ومنعها من هناك؛ ولا يبقى إلا النجاح والاستئثار بالأمر إلى زمن طويل.
ولهذا كانت الوزارة وأنصارها يقررون المبادئ التي تلائمهم في الدستور، وهي مبادئ التبعة الوزارية والاعتراف بالأمة وحدها مصدرًا للسلطات، بدلًا من حصر السلطة الدستورية في أيدي الملك، وهو الجانب الذي كانوا لا يأمنونه ولا يرجون منه المساعدة على نجاح الخطة المرسومة وجريانها في ذلك المجرى المعلوم. وكان يشايعهم المخلصون من أعضاء اللجنة الذين لا ينظرون إلى المآرب الحزبية ويُؤْثرون المبادئ الديمقراطية في الدستور على مبادئ الاستبداد.
فاستفاد الدستور كثيرًا من حيطة الوزارة وإخلاص المخلصين، وجاء على الجملة دستورًا لا بأس به في القواعد والنصوص.
لكن الملك فؤادًا كان يريد الدستور على غير هذه القواعد، فيما يرجع إلى التبعة الوزارية ومصدر السلطات، ومجمل ما يريده في هذا الباب أن تكون الوزارة مسئولة بين يديه، وألا يُنص في الدستور على أنَّ الأمة مصدر السلطات جميعًا. فتوترت العلاقات بين القصر والوزارة الثروتية، ولاح في الأفق أنَّ الملك فؤادًا يترقب الفرصة التي يتخلص فيها من تلك الوزارة دون أن يفتح للإنجليز باب التدخل في الموضوع، وقد سنحت هذه الفرصة بعد زمن وجيز بما نقله محمد سعيد باشا إلى الملك من حديثٍ رواه حسن صبري «بك» المحامي عن الخديو السابق، وفحواه أنَّ الخديو يَعتبر ثروت باشا من رجاله، ولا يخشى منه أن يقيم الصعوبات في تسوية ما له من المسائل المالية … وواجه الملك ثروت باشا بهذه الرواية، فلم يبقَ للرجل إلا أن يستقيل بعد قيام هذه الشبهة، ثم قضى على تردده في نية الاستقالة أنه دُعي للصلاة مع الملك في الجامع الأزهر، وسمع من المصادر المختلفة أنَّ مظاهرة كبرى ستلقاه في داخل المسجد وخارجه بما يكره من هتافات التشهير والاتهام على مسمع ومشهد من ولي الأمر والحاشية الملكية، فعجَّل بالاستقالة ولم يذكر فيها من أسبابها إلا أنه قال في ختامها: «وقد كنت أرجو أن أمضيَ مع زملائي في تنفيذ برنامجنا حتى تمامه، ولكن أرى أن أترك الأمر لغيري.»
فجاءه الأمر الملكي بقبول الاستقالة بعد نصف ساعة من رفعها، وكان ذلك في التاسع والعشرين من نوفمبر، وفي اليوم التالي قامت الوزارة النسيمية وغرضها الأول تعديل الدستور، وتوسيع حقوق الملك في التبعة الوزارية، وتعيين أعضاء مجلس الشيوخ.
أما وسيلتها إلى هذه الغاية، فهي التقرب من الوفد واسترضاؤه بما يجنح به إلى السكوت عن التعديل المقصود؛ فلا يرى الإنجليز وجهًا للاعتراض مع موافقة الملك والشعب على المبادئ الدستورية التي يستقر عليها القرار.
ولهذا أكثر من دعوة الوفد إلى القصر الملكي وإلى الصلاة في المساجد التي يحضرها الملك أيام الجمعة. وكتب ردًّا على مذكرة اللورد اللنبي التي يحتج فيها على حوادث الاعتداء السياسي قال فيه: «إنَّ تكرارها المؤلم منذ نحو سنة يحمل على الاستنتاج أنَّ هناك رد فعل ضد سياسة لا تراعي عواطف الأكثرية من الأهلين المراعاة الكافية، وهو ردُّ فعل يؤسَف له، كما أنه صادر عن قلة رَوِيَّة من قِبل بعض العناصر المتهوسة غير المسئولة، كما يوجد لسوء الحظ في كل بلد. والذي يزيد في ترجيح هذا الافتراض أمر يستوقف النظر، وهو أنه في كل المدة التي يؤمل فيها الوصول إلى اتفاق ودِّيٍّ بين لسان حال تلك الأكثرية والحكومة البريطانية ليس فقط لم ترتكب جريمة من تلك الجرائم، بل إنَّ العلاقات بين المصريين والإنجليز لم تكن قط أكثر ثقة وأوفر ولاءً مما كانت في تلك الفترة، مع أنَّ الأمر صار على العكس من ذلك من يوم ما أصبحت الحكومة البريطانية غير متصلة بممثلي الأكثرية المصرية بسبب المفاوضات غير الرسمية أولًا، ثم بسبب تدابير العنف التي تلت قطع المفاوضات الرسمية، وأخيرًا بسبب التدابير التي صاحبت الاتفاق مع أقلية لا تأثير لها حقيقة في الأمة؛ فزادت الحالة تحرجًا والعواطف تألمًا؛ مما جعل الاتفاق المرغوب فيه أكثر صعوبة.»
بَيْدَ أنَّ هذا التقرب إلى «الأكثرية» لم ينفع الوزارة النسيمية طويلًا في تخدير الأمة وتهيئة الجو لتعديل الدستور؛ ذلك التعديل الذي يضيق من حدوده ويكاد ينقضه من أساسه، وهو الاعتراف بسلطة الأمة والتبعة الوزارية.
فقد كانت الأمة أيقظ من أن تؤخذ بهذه الأساليب، أو تستمع فيها إلى رأي أحد، وزادها يقظة وحذرًا أنَّ الوزارة لم تصنع شيئًا في مسألة المنفيين والمعتقلين كما كان منتظرًا منها، ولم تصنع شيئًا لتمثيل مصر في مؤتمر لوزان الذي كان منعقدًا للنظر في مسائل الشرق وتنقيح المعاهدات بين الحلفاء والدولة التركية صاحبة السيادة القديمة على مصر. فأذاع الوفد المصري بيانًا في العشرين من يناير قال فيه: «ما زالت الوزارة ملتزمة خطة الصمت، وما زالت مصالح البلاد معطلة، فلا مُثلت مصر في مؤتمر لوزان تمثيلًا شعبيًّا، ولا أُلغيت الأحكام العرفية، ولا احتُرم حق الأمة في أن يكون الدستور وليد إرادتها، ولا عاد الوكلاء المنفيون، ولا أُطلق سراح الزعماء المسجونين، وهذا سر ما استولى على النفوس من الحيرة والقلق.» ثم قال: «والأخبار متواترة أيضًا على وقوع أمور خطيرة بشأن مشروع الدستور؛ فإنهم يؤكدون أنَّ هناك أخذًا وردًّا بين الوزارة والإنجليز متعلقَين بالنص الخاص بالسودان، وأنَّ الوزارة قد أدخلت من جهتها تعديلًا جديدًا على نص المشروع يقضي بزيادة عدد الأعضاء المعينين في مجلس الشيوخ إلى النصف وتقرير مسئولية الوزارة أمامه.»
وأتبع هذا البيان بيانات أخرى في معناه.
ثم استقالت الوزارة النسيمية؛ لأن الإنجليز تخطوها ووجهوا إلى الملك إنذارًا يطلبون فيه حذف النص الخاص بالسودان من الدستور والاكتفاء فيه بلقب «ملك مصر» بدلًا من «ملك مصر والسودان»؛ فقبل نسيم باشا هذا الطلب واستقال بعد قبوله وتنفيذه!
وهنا يجب أن نلخص الحالة من حيث المناورات الوزارية لنفهم حقيقة الموقف الذي وقفه سعد باشا من هذه الوزارة؛ لأنه موقف في حاجة إلى التوضيح.
وذاك أنه لما أحس رؤساء الوزارات والمرشحون لرياسة الوزارة أنَّ رشدي وعدلي وثروت وأصحابهم قد احتكروا الميدان في السياسة المصرية تألَّبوا حزبًا واحدًا على مقاومة هذا الفريق، وأصبحوا فريقًا آخر يرأسهم محمد سعيد وأحمد مظلوم وتوفيق نسيم ويوسف وهبة وإخوان هذا الطراز، وأصبح في مصر على هذا التقسيم فريق وزاري يصح أن يسمى بالمدرسة المتفرنجة وهم عدلي وأصحابه، وفريق آخر يصح أن يسمى بالمدرسة التركية وهم محمد سعيد وأصحابه.
وبحكم العداء بين الفريقين أصبح لزامًا على «المدرسة التركية» أن تخطب ود الوفد وتتقرب إليه، وتلوذ بالقصر الملكي؛ لتستند إليه في وجه المعاونة المكشوفة من الإنجليز لعدلي وأصحابه.
وهذا سر الصداقة التي كان يبديها محمد سعيد وتوفيق نسيم وأحمد مظلوم لسعد زغلول بعد أن كانوا جميعًا يحاربونه أو لا يتقدمون إلى مساعدته بعمل من الأعمال. فسعى محمد سعيد في إنشاء وفد غير الوفد السعدي، وأبى توفيق نسيم أن يوقع التوكيلات القومية، ولبث أحمد مظلوم على صداقته للاثنين.
إنكم بعملكم الشريف المفعم بالوطنية والحكمة استحققتم تقدير الوطن.
ونظر إلى الموقف في جملته بين أن ينصر حزب ثروت أو ينصر حزب نسيم، فاختار ما اختاره بعد هذه الموازنة المجملة، وحدا به إلى حسن الظن بالرجل وعدم استغراب سياسته الجديدة أنه كان صهرًا له؛ إذ كانت شقيقة نسيم زوجًا لشقيق سعد المرحوم أحمد فتحي زغلول.
ولسنا نقول هذا لتسويغ ذلك التقدير، فإننا لا نسوغه الآن كما لم نسوغه في حينه، ولكننا نقوله لتبيين الأسباب التي باعدت بين حكم سعد على الوزارة النسيمية، وما تستحقه هذه الوزارة بما عملته وبما تنويه.
بعد سقوط الوزارة النسيمية اتجهت الأنظار إلى عدلي يكن باشا لاستئناف الخطة التي اقتضبت على ثروت قبل تمامها، وكان عدلي باشا قد أنشأ حزبًا ينزل به إلى ميدان الانتخاب وسماه من أجل ذلك «حزب الأحرار الدستوريين».
ولكن الملك كان لا يرغب في استيزاره، ولا يزال يرجو أن تقوم وزارة من رجاله تعيد النظر في الدستور على المبادئ التي يريدها، وتعاظمت المصاعب أمام عدلي بين مقاومة الوفد ومقاومة القصر وكثرة الجرائم السياسية في أيام ترشيحه وصعوبة إصلاح الخطأ الذي وقعت فيه الوزارة النسيمية، وإنجاز الوعود التي لم تنجزها، فاعتذر عن تأليف الوزارة وأصر على اعتذاره، وانتهى الأمر في منتصف شهر مارس ١٩٢٣ بإسنادها إلى يحيى إبراهيم باشا، وهو قاضٍ نزيه ولكنه رجل ضعيف كان يخشى كثيرًا أن يتم تعديل الدستور المطلوب على يديه، وضاعف هذه الخشية قوله في اليوم التالي لتأليفه الوزارة: «إن كان الناس قد تكلموا كثيرًا عن التعديل الذي أُدخل على الدستور وتساءلوا عما إذا كانت وزارتنا تسلم بالتعديل الذي قد أدخلته الوزارة النسيمية فتصدر الدستور كما عدلته، أم ترجعه إلى أصله كما وضعته اللجنة، فإن ما وضعناه نصب عيوننا هو أن يحقق الدستور رغبات الأمة كل التحقيق.»
وهذا كلام ليس فيه من نفي التعديل بقدر ما فيه من ترجيحه. فاسترابت الأحزاب بما وراء هذه الفاتحة، وكتب الوفد المصري بيانًا يقول فيه: «إنَّ ما نشر عن رئيسهم — رئيس الوزراء — كله تنصل وإبهام؛ ففي الدستور لم تكن سيادة الأمة وإرادتها موضع عناية، بل إنه أقر من سبقه على اغتصاب حق الأمة في وضعه، ورفع الأحكام العرفية ليس لديه إلا مجرد أمل من الآمال، وإصدار قانون التضمينات بالقيود التي يود الإنجليز أن يقيدوا بها سيادة البلاد وحرية أبنائها قضاءً محتومًا لا يرجو فيه — كما قال — سوى لطف فخامة اللورد والتخفيف. أما مسألة السودان على أهميتها فقد اكتفى بأنها ستكون موضع مباحثاته مع زملائه.»
واحتج حزب الأحرار الدستوريين على التعديلات التي قيل إنها أُدخلت على الدستور في عهد الوزارة النسيمية، وأبلغ الوزارة الجديدة مطالبه في السياسة العامة، وأهمها العمل على اتباع سياسة الاتحاد والوئام؛ لأنه أيقن أنَّ مجاملة الكثرة خير من مجافاتها؛ ومن ثم طلب رفع الأحكام العرفية في الحال وفك المعتقلين والإفراج عن المبعدين والمسجونين السياسيين، كما طلب إصدار الدستور كاملًا شاملًا للمبادئ التي قررتها لجنة الدستور.
ونشر الأستاذ عبد العزيز فهمي بك خطابًا مفتوحًا إلى رئيس الوزارة، سرد له فيه المبادئ التي لا يُستغنى عنها في الدستور، وقيل إنها مُست بالتعديل في عهد الوزارة النسيمية، وهي: سلطة الأمة، واشتراك الوزارة في الإنعام بالرتب والنياشين، واقتصار حق الحل على مجلس النواب دون مجلس الشيوخ، وإبقاء عدد الشيوخ المعينين دون عدد المنتخبين، وإشراك مجلس الشيوخ في تعيين رئيسه، وعدم إصدار مراسيم أثناء دور انعقاد البرلمان قبل عرضها عليه، وعرض معاهدات التجارة والملاحة على البرلمان، وإشراف الوزارة على المعاهد الدينية، وترك القيود التي قُيد بها تنقيح الدستور على ما هي عليه.
أمام هذا الإجماع من الأحزاب المختلفة تراجعت الوزارة، وأفضى وزير الحقانية في الوزارتين النسيمية والإبراهيمية بحديث إلى الصحف اعترف فيه بحذف المادة التي تنص على أنَّ الأمة مصدر السلطات، وقال فيه عن عدد الشيوخ: «أؤكد لكم أننا قبل أن تخطر لنا فكرة الاستقالة عدلنا عن تعديلٍ كنا عدلناه في المادة الخاصة بمجلس الشيوخ بالنسبة إلى عددهم؛ لأن اللجنة الاستشارية لفتت نظرنا إليها، ولم تزل هذه المسألة باقية تحت البحث كغيرها من المسائل.»
ثم سرت الحملة في مسألة الدستور من مصر إلى الصحافة الإنجليزية، فقالت التيمس بالعبارة الصريحة: إنَّ القصر هو المؤخر لصدور الدستور. وساندتها صحف أخرى من صحف الأحرار والمحافظين، وتماوج الرأي العام في مصر حول هذه المسألة، فثبت للوزارة أنَّ التعديل على المبادئ التي يريدها القصر عسير غير مأمون العواقب، وصدر الدستور بغير تعديل ذي بال في التاسع عشر من شهر أبريل.
وفي خامس يوليو صدر قانون التضمينات، وهو قانون تعويضات الموظفين الأجانب أهم ما أصدرته الوزارة الإبراهيمية بعد الدستور، وقد أُفرغ في قالب اتفاق بين مصر وإنجلترا ليمتنع تعديله على البرلمان، واعترف بالحالة الفعلية فيما يتعلق بالأرض التي استولت عليها الحكومة البريطانية، وعهد بالأشخاص المحكوم عليهم من المحاكم العسكرية إلى لجنة يسود فيها رأي الإنجليز دون المصريين، ولم تقبل الحكومة الإنجليزية فيه أن تحمل التبعة فيما اتخذته من التدابير أيام الحرب وما بعدها، بل اكتفت بوعد مبهم «أن تكون مستعدة على الدوام للاتفاق مع الحكومة المصرية على الحل الذي تقتضيه الحالة بروح العدل والإنصاف» إذا حدثت حالة من الأحوال التي تعود فيها الخسارة من جراء التدابير الإنجليزية.
وبصدور هذا القانون تم التمهيد لإلغاء الأحكام العرفية بالإنجليزية، فأُلغيت «مع استمرار السلطات العسكرية على مباشرة الحقوق التي خولتها إياها الإعلانات المختصة بتنفيذ معاهدات الصلح فيما عدا الحقوق الجنائية، وذلك إلى أن تتم التدابير المقررة في تلك الإعلانات، وتبقى القضية المنظورة أمام المحاكم العسكرية إلى أن يحكم فيها».
ومن القوانين التي أصدرتها الوزارة الإبراهيمية — ولا تقل عن هذا القانون في الخطر والضرر — قانون تعويضات الموظفين الإنجليز، وهو الوثيقة التي تعهدت مصر بموجبها بأداء ما لا يقل عن عشرة ملايين من الجنيهات لتعويض الموظفين الأجانب، ثمنًا لحريتها في الاستغناء عنهم واختيار غيرهم، وهي لا تملك إلى الساعة هذه الحرية!
قبل صدور قانون التضمينات بثلاثة أشهر أفرجت الحكومة البريطانية عن سعد في جبل طارق، وقالت في بلاغها: إنَّ الطبيب المعالج لزغلول باشا قرر «أنَّ تغيير نظام الحياة والاستحمام بالمياه المعدنية في أوروبا ضروريان لصحة الباشا. ولهذه الأسباب قررت الحكومة بعد استشارة المندوب السامي أن تفرج عن زغلول باشا من جبل طارق».
وكانت الأسباب الصحية في الواقع من أقوى الأسباب التي حملت الحكومة البريطانية على هذا القرار؛ لأن الدكتور موريسون الذي زار سعدًا في الثاني والعشرين من أكتوبر رأى أنَّ الحالة الصحية على جملتها مقلقة للسكر أو الزلال أو الأسيتون، وأخفى الخبر عن سعد فلم يُطلعه على تقريره المفصَّل بعد كتابته، تفاديًا من إزعاجه.
وكان في النية التعجيل بالإفراج عنه عقب ذلك، ولكن اللورد اللنبي ظل يعارض أمر الإفراج ويتوعد بالاستقالة، وصرَّح مستر بونارلو بذلك لأحد النواب المهتمين بالسؤال عن حالة سعد وقرار الحكومة بشأنه في السابع عشر من شهر ديسمبر، فقال للنائب: «تريدون الإفراج عنه! حسن. ولكن ذلك معناه إقالة اللورد اللنبي على الأثر.»
إلا أنَّ الأسباب الصحية لم تكن هي كل الباعث إلى شروع الحكومة البريطانية في إطلاق سعد زغلول؛ ففي مقدمة الأسباب الأخرى اقتناعها بفشل اللورد اللنبي في المقاصد التي كان يرمي إليها باعتقاله وتأييد ثروت وأشياعه؛ فقد ساءت العلاقات بين المصريين والإنجليز أشد ما يتاح لها من سوء، وبلغت من الحرج ما لم تبلغه قط في وقت من الأوقات، وتعاقبت أعمال القمع والقضايا العسكرية من جهة، وحوادث الاعتداء ومظاهرات الاحتجاج من جهة، حتى أصبحت مصر المستقلة المطلوب منها الرِّضَى والاستقرار كأنها ميدان حرب دائمة بين عدوَّين متناحرَين، وليس هذا هو المقصود بسياسة التصريح، ولا يمكن أن يكون مقصودًا بسياسة أخرى في بلد من البلدان.
ولما سقط ثروت وأخفق عدلي في تأليف وزارة بعد الوزارة النسيمية، وصار الوزراء والأحزاب يقدمون طلب الإفراج عن سعد وسائر المنفيين والمعتقلين على كل طلب آخر في البرامج الوزارية والحزبية، شعرت الحكومة البريطانية بأن نجاح كل سياسة في مصر مستحيل مع بقاء هذه الحال أو بقاء سعد في منفاه، وشعرت قبلها — أو بإيعاز منها — صحف الأحرار والعمال وبعض صحف المحافظين بخَطَل السياسة التي سار عليها اللورد اللنبي، فأنحت باللائمة عليه، وأجمعت كلها على وجوب النظر من جديد في عواقب تلك السياسة الخرقاء.
ومن الأسباب التي دعت إلى الإفراج عن سعد تلك القضية التي رفعها وكيل سعد في إنجلترا طالبًا الحكم فيها ببطلان أمر اعتقاله؛ لأنه سُجن بغير محاكمة ولا تهمه معروفة.
نعم! إنَّ الحكم من المجلس الأعلى قد صدر برفض هذه الدعوى، ولكنه لم يصدر إلا بعد جهد شديد من النائب العام السير دجلاس هوج «اللورد هليشام» لإقناع الأعضاء باجتناب هذه السابقة الخطيرة في معاملة الثائرين على الإمبراطورية، ويغلب على الظن أنَّ أعضاء المحكمة كانوا يفهمون بالإيحاء أنَّ الإفراج حاصل عما قريب، فلا ضرورة لتسجيل المبدأ الخطير من أجل تحصيل الحاصل. وقد نمى إلى بعض المطلعين أنَّ الوزارة البريطانية قررت الإفراج في أول فبراير وإرجاءه إلى أن ينتهيَ الفصل في القضية، وقد انتهى في التاسع من شهر مارس، وليس معنى ذلك أنَّ القضية لم تفعل فعلها في تقرير الإفراج، بل معناه أنَّ الوزارة اهتمت بها، واهتمت في الوقت نفسه بحسن التخلص منها ومن مثيلاتها؛ لئلا يقال إنَّ الحكم هو الذي أكرهها على اتخاذ ذلك القرار.
وربما كان أهم الأسباب جميعًا — إلى جانب سبب الصحة — تلك الحركة التي أحسن توجيهها الدكتور حامد محمود بين فريق كبير من نواب الأحرار والعمال بلغت عدتهم تسعة وتسعين؛ فقد كثر الكلام في الدوائر البرلمانية عن فشل السياسة الإنجليزية المصرية، وعن وصمة العار التي تصم الدولة البريطانية باعتقالها الشيخ العظيم وتعريضه للموت في منفاه، فترددوا على الوزارة سائلين ملحين في وجوب الإفراج، وأجمعوا آخر الأمر على كتابة عريضتهم المشهورة، فقدموها في التاسع والعشرين من شهر مارس وأُذيع الأمر بالإفراج بعدها بيومين.
يضاف إلى ذلك أنَّ قانون التضمينات سيصدر، وأنَّ الأحكام العسكرية ستُلغى، وأنَّ الانتخابات ستُجرى، ولا بدَّ أن تسفر عن انتخاب نواب مجمعين على المطالبة بعودة سعد إلى بلاده؛ لأن خصومه وأصدقاءه كانوا يعلمون علم اليقين أنَّ رضاء الشعب بغير هذه الوسيلة من وراء كل رجاء، ولا معنى لإلغاء الأحكام العسكرية في مصر وإجراء الانتخابات فيها وزعيم النواب المنظورين خاضع للأحكام العسكرية في منفاه.
ولقد كان الرجاء قويًّا في تحضير الانتخابات على الوجه الذي يهواه اللورد اللنبي أيام ثروت وأشياعه، ولكنْ أيُّ رجاء هناك في هذه النتيجة بعد سقوط ثروت وإحجام عدلي عن تأليف الوزارة، وصعوبة المضي في هذه السياسة من جميع الأنحاء؟!
فالإفراج عن سعد كان كجميع الحوادث التاريخية متعدد الأسباب غير محصور في سبب واحد، وإنما كانت المسألة مسألة الزمن، أو الانتظار حتى تتفق جميع هذه الأسباب.
غادر سعد جبل طارق بعد خمسة أيام من إعلان الإفراج عنه إلى طولون، ومعه السيدة الجليلة صفية زغلول، وكانت قد وافته في منفاه لما اشتد عناؤه من الوحدة مع انحراف الصحة والحاجة إلى حسن الرعاية.
فتلقاه الطلبة المصريون في عرض البحر بالترحيب والتهليل، ومنهم مندوبون عن زملائهم في جامعات فرنسا وسويسرا حضروا خصوصًا لتحيته وتجديد عهده. وخطبوا يذكرون مآثره، وخطب فيهم راجيًا أن ينسَوه في تلك اللحظة ليفكروا في الذين لا يزالون يرسفون في قيود السجن والاعتقال، ثم قال: «إنَّ مصدر قوتي هو أني لست إلا معبرًا عن شعور الأمة وآرائها معربًا عن تصميمها على أن تعيش حرة مستقلة.»
ثم توالى الإفراج عن المعتقلين في مصر؛ فأُفرج أولًا عن أعضاء الوفد الذين كانوا معتقلين بقصر النيل، ثم أُفرج في الرابع عشر من شهر مايو عن المعتقلين في صحراء ألماظة «المخزن»، وهم حمد الباسل باشا وأصحابه الذين كتبوا منشور المقاطعة والاستبسال في رد سعد إلى وطنه، ثم أُفرج في آخر مايو عن المنفيين إلى سيشل، ثم سُمح بزيارة بيت الأمة بعد إغلاقه برهة مع منع الاجتماعات فيه، ثم نشرت الحكومة المصرية بلاغًا في العشرين من شهر يوليو صرَّحت فيه «بإمكان عودة جميع المبعدين» ومنهم سعد باشا؛ لأنه كان إلى ما قبل صدور قانون التضمينات ممنوعًا من العودة إلى بلاده.
وفي الثالث عشر من سبتمبر أبحر سعد من مرسيليا فوصل إلى الإسكندرية في السابع عشر منه، ووصل إلى القاهرة في غدِه، وتكررت مظاهر الحفاوة الكبرى التي قوبل بها في العودة الأولى، وزاد عليها في هذه المرة اشتراك الأجانب في الاستقبال بما كانوا ينثرون عليه من الأزهار والرياحين بأيدي السيدات والأطفال حتى امتلأت بها السيارة.
وقد انحلت مشكلة الاستقبالات الرسمية هذه المرة؛ لأن القصر الملكي لم يعد مقاطعًا الوفد كما كان في المرة الأولى، ودارُ المندوب البريطاني لم تعد دار الحماية بعد إلغائها، فزار سعد القصر وزار دار المندوب.
ونشطت مساعي التوفيق بين القصر وسعد على يدَي توفيق نسيم ومحمد سعيد وأحمد مظلوم، فتمت المقابلة الأولى بين الملك فؤاد وسعد في تاسع نوفمبر بعد ظهور نتيجة الانتخابات الثلاثينية، وتحقق النجاح للوفديين فيها، وكان المظنون يومئذٍ أنَّ سعدًا لا يشكل الوزارة، وأنه قد يعهد بها إلى توفيق نسيم أو أحمد مظلوم على الأرجح، أو إلى محمد سعيد على احتمال بعيد، وكان هو لا يبوح بنياته لمن يسألونه في هذا الموضوع، وإلى ذلك أشارت صحيفة التيمس في بعض مقالاتها، فزعمت أنَّ سعدًا لا يُقدِم على تأليف الوزارة؛ لأنها «مقبرة الشهرة» … ولا يبعد أن يكون هذا الاحتمال ملحوظًا في مساعي التوفيق.
وقد جرت الانتخابات الثلاثينية في السابع والعشرين من سبتمبر؛ لأن الانتخاب كان على درجتين لا على درجة واحدة، وجرت الانتخابات لمجلس النواب في الثاني عشر من يناير ١٩٢٤، فأسفرت عن نجاح مائة ونيفٍ وتسعين نائبًا وفديًّا من مائتين وأربعة عشر عدة الأعضاء في مجلس النواب، ومن حسنات الوزارة الإبراهيمية أنَّ رئيسها كان قاضيًا نزيهًا في مباشرة الانتخاب، كما كان قاضيًا نزيهًا في المحاكم؛ فأدار المعركة الانتخابية بالحيدة الواجبة، وشهد الكثيرون من رجال الأحزاب المختلفة أنَّ الانتخابات في عهده كانت أنزه الانتخابات في جميع العهود، حتى لقد أخفق هو نفسه في دائرته ولم يظفر بالنيابة التي كان يبتغيها.
بقيت انتخابات الشيوخ وتعيين الخمسين من الأعضاء الذين تعينهم الوزارة القائمة، فلم يبقَ مناص من تأليف الوزارة الدستورية لمباشرة هذا التعيين، وعلى هذا أعرب سعد لمكاتب روتر عن رأيه حين سأله فقال: «إذا اتُّبعت القواعد الدستورية وجب على يحيى إبراهيم باشا أن يستقيل أمام حقيقتين كبيرتين: الأولى أنَّ البلاد أوضحت رأيها بشكل لا يمكن الشك فيه، والثانية أنَّ رئيس الوزراء قد هُزم في الانتخابات.»
وبدا من هذا جليًّا أنَّ سعدًا زعيم الكثرة البرلمانية لا يؤيد بقاء الوزارة إلى أن تتولى اختيار الشيوخ المعينين، فاستقال يحيى إبراهيم باشا في السابع عشر من يناير، وتأجل النظر في قبول استقالته إلى أن يعود الملك من السويس، فلم تُقبل إلا بعد عشرة أيام.
وقبل إعلان قبولها بيومين أدب النواب لسعد مأدبة كبرى في فندق شبرد، خطب فيها مظلوم باشا وسعيد باشا راجيًا أن يقبل سعد رئاسة الوزارة إذا عُرضت عليه، فنهض سعد وتلا خطابًا مكتوبًا لم يشر فيه إلى شيء في قبول الوزارة، ولكنه لم يشر فيه كذلك إلى رفضها، وعرض على السامعين ما يصح أن يُسمى برنامجًا وزاريًّا يسير عليه.
وفي اليوم التالي لقبول استقالة الوزارة الإبراهيمية دُعي سعد إلى القصر الملكي، فمكث في حضرة الملك نحو نصف ساعة، ثم خرج وتلا على الجموع المحتشدة في بيت الأمة نص الأمر الملكي الصادر بتأليف الوزارة وإسناد رتبة الرئاسة إليه.
مولاي صاحب الجلالة
إنَّ الرعاية السامية التي قابلت بها جلالتكم ثقة الأمة ونوابها بشخصي الضعيف توجب عليَّ والبلاد داخلة في نظامٍ نيابي يقضي باحترام إرادتها، وارتكان حكومتها على ثقة وكلائها ألا أتنحى عن مسئولية الحكم التي طالما تهيبتها في ظروف أخرى، وأن أشكل الوزارة التي شاءت جلالتكم تكليفي بتشكيلها من غير أن يُعتبر قبولي لتحمل أعبائها اعترافًا بأية حالة أو حق استنكره الوفد المصري الذي لا أزال متشرفًا برئاسته.
إنَّ الانتخابات لأعضاء مجلس النواب أظهرت بكل جلاء إجماع الأمة وتمسكها بمبادئ الوفد التي ترمي إلى ضرورة تمتُّع البلاد بحقها الطبيعي في الاستقلال التام لمصر والسودان، مع احترام المصالح الأجنبية التي لا تتعارض مع هذا الاستقلال. كما أظهرت شدة ميلها للعفو عن المحكوم عليهم سياسيًّا، ونفورها من كثير من التعهدات والقوانين التي صدرت بعد إيقاف الجمعية التشريعية وأنقصت من حقوق البلاد، وحدَّت من حرية أفرادها، وشكواها من سوء التصرفات المالية والإدارية ومن عدم الاهتمام بتعميم التعليم وحفظ الأمن وتحسين الأحوال الصحية والاقتصادية، وغير ذلك من وسائل التقدم والعمران؛ فكان حقًّا على الوزارة — التي هي وليدة تلك الانتخابات — وعهدًا مسئولًا منها أن توجِّه عنايتها إلى هذه المسائل، الأهم فالمهم منها، وتحصر أكبر همِّها في البحث عن أحكم الطرق وأقربها إلى تحقيق رغبات الأمة فيها، وإزالة أسباب الشكوى منها، وتلافي ما هناك من الأضرار مع تحديد المسئوليات عنها وتعيين المسئولين فيها، وكل ذلك لا يتم على الوجه المرغوب إلا بمساعدة البرلمان؛ ولهذا يكون من أول واجبات هذه الوزارة الاهتمام بإعداد ما يلزم لانعقاده في القريب العاجل، وتحضير ما يحتاج الأمر إليه من المواد والمعلومات لتمكينه من القيام بمهمة خطيرة الشأن.
ولقد لبثت الأمة زمنًا طويلًا وهي تنظر إلى الحكومة نظر الطير للصائد لا الجيش للقائد، وترى فيها خصمًا قديرًا يدبر الكيد لها لا وكيلًا أمينًا يسعى لخيرها، وتولَّد من هذا الشعور سوء تفاهم أثَّر تأثيرًا سيئًا في إدارة البلاد وعاق كثيرًا من تقدمها؛ فكان على الوزارة الجديدة أن تعمل على استبدال سوء هذا الظن بحسن الثقة في الحكومة، وعلى إقناع الكافة بأنها ليست إلا قسمًا من الأمة تخصص لقيادتها والدفاع عنها وتدبير شئونها بحسب ما يقتضيه صالحها العام؛ ولذلك يلزمها أن تعمل ما في وسعها لتقليل أسباب النزاع بين الأفراد وبين العائلات، وإحلال الوئام محل الخصام بين جميع السكان على اختلاف أجناسهم وأديانهم، كما يلزم أن تبث الروح الدستورية في جميع المصالح، وتُعوِّد الكل على احترام الدستور والخضوع لأحكامه؛ وذلك إنما يكون بالقدوة الحسنة وعدم السماح لأيٍّ كان بالاستخفاف بها والإخلال بما تقتضيه.
هذا هو بروجرام وزارتي وضعتُه طبقًا لما أراه وتريده الأمة شاعرًا كل الشعور بأن القيام بتنفيذه ليس من الهنات الهينات خصوصًا مع ضعف قوتي واعتلال صحتي، ودخول البلاد تحت نظام حُرمت منه زمنًا طويلًا، ولكني أعتمد في نجاحه على عناية الله وعطف جلالتكم وتأييد البرلمان ومعاونة الموظفين وجميع أهالي البلاد ونزلائها.
فأرجو إذا صادف استحسان جلالتكم أن يصدر المرسوم السامي بتشكيل الوزارة على الوجه الآتي مع تقليدي وزارة الداخلية:
محمد سعيد باشا لوزارة المعارف العمومية، وأحمد مظلوم باشا لوزارة الأوقاف، ومحمد فتح الله بركات باشا لوزارة الزراعة، ومصطفى النحاس بك لوزارة المواصلات، ومحمد نجيب الغرابلي أفندي لوزارة الحقانية، ومحمد توفيق نسيم باشا لوزارة المالية، وحسن حسيب باشا لوزارة الحربية والبحرية، ومرقص حنا بك لوزارة الأشغال العمومية، وواصف بطرس غالي أفندي لوزارة الخارجية.
وإني على الدوام شاكر نعمتكم وخادم سُدَّتكم.
ومن الملاحظات على هذا البيان ما لوحظ في القصر الملكي، وهو أنَّ رئيس الوزارة ذكر «الرعاية السامية التي قابل بها جلالة الملك ثقة الأمة ونوابها»؛ فجعل الأصل في ولاية الوزارة ثقة الناخبين.
وأنه قال: «شاكر نعمتكم وخادم سُدَّتكم»، ولم يقل كما جرت العادة «عبدكم الخاضع أو خادمكم المطيع».
ولوحظ في الدوائر القضائية تعيين الأستاذ الغرابلي لوزارة الحقانية، وفيها قدماء المستشارين وكبار الموظفين من رجال القانون، وقد كان لهذه الملاحظة صداها فنقل الأستاذ إلى وزارة الأوقاف، كما لوحظ في الصحف والدوائر السياسية تعيين سعيد باشا لوزارة المعارف، وهو رئيس وزارة قديم، وهي من الوزارات التي لا تعد في الصف الأول بين وزارات الحكومة، وفُهم من ذلك أنَّ اشتراك سعيد وصاحبيه مظلوم ونسيم في الوزارة إنما كان في مقابلة الدور الذي داروا به لمعاونة الوفد على خصومه والتقريب بين الوفد والقصر بعد سقوط الوزارة الثروتية، وليس اشتراكهم فيها عن تجانس أصيل في الميول والأفكار.
ومن قبل ذلك لاحظ بعضُ الناقدين أنَّ دخول سعد ميدان الانتخاب يُعدُّ اعترافًا بتصريح ٢٨ فبراير الذي أنكره واحتج عليه، وهي ملاحظة لا محل لها من الاعتبار؛ لأن تمثيل المصريين في الحكومة حق لا نزاع فيه، فإذا اعترف به الإنجليز فليس ذلك سببًا داعيًا لصاحب الحق إلى النزول عنه وإسقاطه بيديه، وقد دخلت جميع الأحزاب المصرية ميدان الانتخاب حتى ما كان منها منكِرًا للمفاوضات والمعاهدات مع الحكومة الإنجليزية؛ فلا موجِب إذنْ لانفراد الوفد بمقاطعة الانتخاب، وهو لو قاطعه لَمَا كان لذلك من نتيجة إلا تمكين خصومه من ادعاء النيابة عن الأمة، وأن يبرموا باسمها ما يأباه الوفد وتأباه.
ولاحظ بعض الناقدين أنَّ سعدًا قَبِل الوزارة وكان عليه ألَّا يقبلها، وأن يعهد بها إلى أحد أنصاره وحلفائه؛ لئلا يُضطر وهو في الوزارة أن يجيز ما لا يجيزه الزعيم الوطني في حل القضية المصرية، وفات هؤلاء أنَّ مجرد التنحي عن رئاسة الوزارة لهذا الغرض معناه إعلان الاستعداد للرِّضَى بما دون المطالب الوطنية، واتخاذ المناورات المصطنعة لتسهيل النزول عن تلك المطالب، ثم ماذا يكون إذا تطلب الأمر موافقة النواب وسعد رئيس النواب؟! فليس هنا من ضرر يُتَّقى باجتناب سعد رئاسة الوزارة عقب الانتخابات الأولى، ولكن الضرر كل الضرر في ذلك الاجتناب. إنما ينبغي للزعيم الوطني أن يتنحى عن الانتخاب، أو يتنحى عن رئاسة الوزارة إذا حبطت وسيلة الدستور لتحقيق المصالح العامة والمطالب القومية، وذلك تقدير لا يطالب سعد بافتراضه في ذلك الحين، ولو كان يعلم الغيب العلم القاطع الذي لا مراء فيه لوجب عليه أن يقنع الجماهير بما هو مقتنع به، وأن يضع أيديَهم على الحقيقة بتجربة لا تحتمل الجدل.
وخير مقياس نقيس به خطة من الخطط أن ننظر إلى الخطة التي تناقضها، ونذهب معها إلى جميع نتائجها لكي نوازن بين النتائج في الحالتين، وليس في نتائج رفض الانتخاب ورفض الوزارة في ذلك الحين ما هو أجدى وأحق بالاطمئنان من نتائج القبول على أسوأ الفروض.
ومن ثَمَّ نحن من المعتقدين أنَّ سعدًا أصاب في قبول الوزارة هذه المرة، وأنه كان يخطئ لو رفضها بعذر من تلك الأعذار، وليس منها ما يستحق المبالاة.
في أثناء وضع الدستور كان الملك فؤاد ينوي أن يجعل نصف مجلس الشيوخ من المعينين، وأن يَكِلَ إلى هذا المجلس حق النظر في الثقة بالوزارة.
وبعد الانتخاب كان يأمر باستدعاء النواب الناجحين إلى القصر واحدًا بعد واحد لينشئ بينه وبينهم الصلة التي ينال بها من السلطان النيابي ما لم ينله بنصوص الدستور.
فلما استقر حكم الدستور على تعيين الخمسين من أعضاء الشيوخ، وحرمان هذا المجلس حق الاقتراع على الثقة بالوزارة، كان من رأي الملك بداهة أن يتولى هو حق اختيار الأعضاء ولا يكون للوزارة إلا التنفيذ، وهكذا نجم أول خلاف بين الملك فؤاد وسعد في عهد الدستور، وانحسم الخلاف في حينه بتقرير المبدأ الذي يخول الوزارة حق الاختيار، وإجابة الرغبة الملكية في ترشيح فئة من الأعضاء.
ثم جاءت أزمة أخرى من أزمات المراسم والأشكال، ولكنها تمس الخلاف بين الوفد وخصومه في صميم المبادئ الأصلية، ساقها التقويم السنوي في ركابه ولم يسقها أحد باختياره.
وذاك أنَّ اليوم الخامس عشر من شهر مارس يقترب والحكومة القائمة وَفْدِيَّة والبرلمان وَفْدِيٌّ، وتصريح ٢٨ فبراير نظام بغيض لجميع هؤلاء، فكيف يحتفلون بهذا اليوم؟! لقد احتفلوا به في السنة الماضية لأنه عيد الاستقلال، والرأي الغالب بين المصريين أنَّ الاستقلال لم يترتب، ولن يترتب على ذلك التصريح، فهل يحتفلون به هذه السنة على هذا المعنى، أو يهملونه مع ما يتربط به من تبليغات مصر إلى الدول وإعلان لقب صاحب الجلالة؟ مشكلة بحقٍّ من مشاكل الأيام. وقد حلَّها سعد باختيار ذلك اليوم لافتتاح البرلمان. فإذا تعطلت فيه دواوين الحكومة، فلمن شاء أن يفهم أنها تتعطل احتفالًا بعيد الدستور، وافتتاح الهيئة النيابية الأولى في البلاد!
وهكذا كان، وخرج سعد في ذلك اليوم إلى جانب الملك يفتتحان البرلمان الأول، وتلاحمت الجماهير والجند بين قصر عابدين ودار النيابة. وسُمع لأول مرة هتاف الجماهير بحياة الملك وسعد في صوت واحد، وكان شعار ذلك الموكب «يعيش الملك ويحيا سعد»، وهي كلمة لم تُسمع قبل ذلك في أنحاء وادي النيل؛ إذ كان الحجاب كثيفًا بين القصر والرعية، ولم يزل كذلك إلى أن عاد سعد من منفاه، فعود الجماهير كلما هتفوا بحياته أن يجيبهم قائلًا بل نادوا: «لتحيَ مصر، وليحيَ الملك»، فكانوا يجيبون عليه موفِّقين بين الأمرين: «يعيش الملك ويحيا سعد»، وكذلك كان هتافهم يوم اجتمع الملك وسعد في موكب واحد، ومن عجائب التقادير أنَّ هذه البدعة الناشئة لم تقع من المسامع الملكية موقع الاستحسان.