في رئاسة الوزارة
إنَّ عيبنا الأكبر في تلك الوزارة أننا أخذناها جدًّا وصدَّقنا أننا مستقلون!
وهذا عيب من وجهة النظر الإنجليزية لا شك فيه؛ لأن الذي كان مطلوبًا من سعد — على ما يظهر — هو أن يصدق أنه رئيس حكومة مستقلة ولكن بمقدار ما يؤدي ثمن الاستقلال، ويحمل ما فيه من المغارم والتكاليف، ثم ينسى الاستقلال كلما كان للسياسة البريطانية مطلب تبتغيه، وهو وشأنه بعد ذلك في تمثيل هذا ا الدور ذي الوجهين.
لكنه يخلف لتمثيل دور ذي وجهين في رواية طويلة كرواية الاستقلال، فاكتفى بتمثيل الدور من جانب واحد وهو جانب الاستقلال الصحيح، ومضى في وزارته كما يمضي كل رئيس حكومة في أمة مستقلة، وترك للسياسة البريطانية أن تقنع بهذا الدور الصريح، أو تعلن أغراضها الخفية من وراء الظواهر والمراسم، فتقوم هي بتمثيل الدور ذي الوجهين.
بدأ وزارته بالإفراج عن جميع السجناء السياسيين، وألغى نفقات جيش الاحتلال الإنجليزي التي كانت تُدرج في الميزانية المصرية، كأن بقاء الاحتلال مطلب من مطالب البلاد!
ورجع بالموظفين الإنجليز إلى حدودهم القانونية التي ترسمها لهم صفتهم الرسمية؛ وهي صفة المستشارين والخبراء الفنيين، الذين هم موظفون يخدمون الحكومة المصرية لا الحكومة الإنجليزية، يُسألون فيجيبون بما يعلمون، ويتركون الرأي الأخير للوزير المسئول.
وأصبح هؤلاء الموظفون خاضعين للقوانين بعد أن كانت إرادتهم وحدها هي القانون. فلما ظهر الخلل في أعمال بعضهم بوزارة المالية ووزارة المواصلات أمر بتحقيق التهم المنسوبة إليهم، وقدَّم واحدًا منهم إلى مجلس التأديب، وأصرَّ على تقديمه للمحاكمة على الرغم من احتجاج دار المندوب.
وكان على الحكومة المصرية أن تتلقى الأوامر من كل إنجليزي له مصلحة، أو هوًى في السيطرة عليها ولو لم يكن من الموظفين، فكان مستر كارتر يعمل — مثلًا — في تنظيف مقبرة «توت عنخ آمون»، ويستبد بفتحها وإغلاقها حين يشاء ولمن يشاء، ولا يبالي بما تقرره مصلحة الآثار من مواعيد الفتح والإغلاق. وكل حقه في المقبرة أنه رجل مرخص له في التنقيب عن الآثار بالشروط التي تسمح بها الحكومة لجميع المنقِّبين.
فلما نبهته الحكومة إلى خطئه لم يكترث لها، وأرسل إلى سعد باشا برقية ينذره فيها «بإقفال المدفن ومقاضاة الحكومة المصرية»، وهو ينتظر في هذه الحالة ما ينتظر من كل حكومة مصرية ينتهي إليها تهديد واحد من السادة المحتلين كيفما كان؛ لأن المرجع في الوزارات لمستشار أو مفتش إنجليزي، وهو لا يقبل من المصريين أن يسمعوا هذا التهديد ولا يسرعوا إلى الخوف والإذعان، فلما وصل الإنذار إلى سعد كتب إليه يقول: «لكم الحرية في أن تقاضوا الحكومة، ولكن الحكومة تريد أن تكون مواعيد الزيارات مصونة ومحترمة، وأما ما يتعلق بإغلاق المدافن كما تقولون، فإنه يشق عليَّ أن أُضطر إلى تذكيركم بأن المدفن ليس ملكًا لكم، وأنَّ العلم الذي تدعونه بحق لا يمكن أن يسلم بإقدامكم مع زملائكم — من أجل أمر خاص بزيارة أفراد تريدون تمييزهم — على ترك التنقيبات العلمية التي لا تهتم بها مصر وحدها أعظم اهتمام، بل يهتم بها العالم كله أيضًا.»
إنه جواب لا يعدو حدود الإنصاف ولا حقوق الحكومة، ولكنه قوبل بالاستياء بين الجالية الإنجليزية؛ لأنه يخالف ما تعودوه، لا لأنه يخالف الإنصاف.
ولما نمى إلى سعد أنَّ السودان سيمثل رسميًّا في معرض «ويمبلي» مع المستعمرات البريطانية، كتب إلى حاكم السودان يسأله: «على أي قاعدة دُعي السودان للاشتراك في هذا المعرض الخاص بالمستعمرات؟ وكيف قبلتم أن تشركوا فيه من غير إذن الحكومة المصرية؟»
فجاءه الرد من دار المندوب البريطاني بأن حاكم السودان أبلغه نبأ تلك البرقية، وأنه كتب إلى حكومته يستفسر عن المسألة، وسيكتب إلى الحكومة المصرية بفحوى جوابها.
فكتب سعد مرة أخرى إلى حاكم السودان يسأله ما سبب تأخير رده ويقول له: «إنَّ المسائل التي كلفتموها من شأنكم دون سواكم لتعلقها بأعمال هي من خصائصكم، وإني ما زلت في انتظار الرد منكم، وأرجو ألا يتأخر الرد زيادة عما مضى.»
وأبرق إلى وزير مصر المفوض بالعاصمة الإنجليزية ليبلغ حكومتها احتجاج مصر على دعوة السودان إلى معرض خاص بالمستعمرات البريطانية بدون علم الحكومة المصرية، وعلى قبول حاكم السودان الدعوة بغير إذن من تلك الحكومة، وفي كلا الأمرين اعتداء على حقوق مصر، وعمل غير ودي موجَّه للحكومة المصرية.
وقد جاءه الرد من الحاكم العام بالاعتذار من التأخير؛ لأنه أبلغ المعلومات المطلوبة إلى المندوب السامي الذي هو الطريق المعتاد للمخاطبة بين الحكومة المصرية وحكومة السودان عملًا بالإجراءات المتبعة.
إنَّ الحكومة البريطانية لم يكن ليخطر لها أن تطلب أخذ رأيها إذا وجَّهت الحكومة المصرية دعوة لحكومة السودان لتشترك في معرض تجاري شبيه بهذا يُعقد في مصر. وقد سبق أن قبلت حكومة السودان مباشرة ودون رجوع إلى دار المندوب السامي أو الحكومة البريطانية ما عرضته الحكومة المصرية من تخصيص حجرة لمعروضات السودان في المكتب المصري للتجارة والصناعة بالقاهرة، وذلك في يونيو سنة ١٩٢٠. ومن جهة أخرى فإن معرض ويمبلي ليس وقفًا على الإمبراطورية البريطانية، بل إنَّ فيه أشياء أخرى متنوعة ذات فائدة عامة، مثل صورة لمسجد فارسي، ونماذج لشلالات نياجرا، ومعرض من التبت، والسودان موصوف في الخرائط والفهارس المعروضة في القسم الخاص بأفريقيا الشرقية باسم السودان الإنجليزي المصري؛ ولذلك لا محل لتساؤل الزائرين للمعرض عن اشتراك السودان فيه.
يتضح جليًّا من نص المادة الثالثة من الاتفاق المذكور — اتفاق سنة ١٨٩٩ — أنَّ حاكم السودان العام موظف يعيِّنه ملك مصر ويستمد سلطته من هذا التعيين ذاته، وتنص المادة الرابعة صراحةً على أنَّ كل إعلان للقوانين والأوامر واللوائح يجب أن يبلغ في الحال إلى المعتمد البريطاني في القاهرة وإلى رئيس مجلس نظار سمو الخديو المعظم؛ وبناءً عليه يكون الطريق الطبيعي الوحيد للتخاطب بين الحكومة المصرية وحاكم السودان العام إنما هو الطريق المباشر، وهذا ما قصده واضعو اتفاق سنة ١٨٩٩. وفعلًا كانت الحكومة المصرية وحاكم السودان العام يتخاطبان مباشرة في غضون المدة التي تلت توقيع الاتفاق …
أما من جهة تمثيل السودان بمعرض ويمبلي، فقد بينت أنه بالنظر إلى الظروف التي حدث فيها، لا يمكن أن يبرره الحكم الثنائي في إدارة السودان الداخلية، كما أوضحت أنه ما كان يوجد لدى الحكومة المصرية أي اعتراض على أن يمثل السودان في معرض صناعي أو تجاري بحت، وليس هذا حال معرض ويمبلي؛ ولذلك احتججت على تمثيل السودان في معرض المستعمرات البريطانية. ولا شك أنه كان يسرني ألا يكون تمثيل السودان في هذا المعرض إلا في نفس الموضع الذي وضع فيه تمثيل العجم والولايات المتحدة وتيبت في المعرض المذكور. ولست في حاجة لأنْ أزيد على ما تقدم أني آسف لأن الحادث وقع ونحن على أبواب المفاوضات. نعم! إنَّ مسألة السودان كلها سيدور البحث عليها بيني وبين المستر مكدونالد، ولكن من واجبي أن أحتج على كل عمل أعتبره ماسًّا بحقوق مصر.
- أولًا: سحب جميع القوات البريطانية من الأراضي المصرية.
- ثانيًا: سحب المستشار المالي والمستشار القضائي.
- ثالثًا: زوال كل سيطرة بريطانية على الحكومة المصرية، ولا سيما في العلاقات الخارجية التي ادَّعى زغلول باشا أنها تعرقل بالمذكرة التي أرسلتها الحكومة البريطانية إلى الدول الأجنبية في ١٥ مارس سنة ١٩٢٢ قائلة: إنَّ الحكومة البريطانية تعد كل سعي من دولة أخرى للتدخل في شئون مصر عملًا غير ودي.
- رابعًا: عدول الحكومة البريطانية عن دعواها حماية الأجانب والأقليات في مصر.
- خامسًا: عدول الحكومة البريطانية عن دعواها الاشتراك بأية طريقة كانت في حماية قناة السويس.
أما في شأن السودان فإنني ألفت النظر إلى بعض البيانات التي فاه بها زغلول باشا باعتباره رئيس مجلس الوزراء أمام البرلمان المصري في الصيف في ١٧ مايو، ويؤخذ مما علمته في هذا الصدد أنَّ زغلول باشا قال: «إنَّ وجود قيادة الجيش المصري العامة في يد ضابط أجنبي وإبقاء ضباط بريطانيين في هذا الجيش لا يتفق مع كرامة مصر المستقلة.» فإبداء مثل هذا الشعور في بيانات رسمية من رئيس الحكومة المصرية المسئول لم يقتصر على وضع السردار السر لي ستاك باشا في مركز صعب، بل وضع جميع الضباط البريطانيين الملحقين بالجيش المصري أيضًا في هذا المركز.
ولم يفتني أيضًا أنه قد نُقل لي أنَّ زغلول باشا ادعى لمصر في شهر يونيو الماضي حقوق ملكية السودان العامة، ووصف الحكومة البريطانية بأنها غاصبة.
«فلما حادثت زغلول باشا في ذلك قال لي إنَّ الأقوال السابقة التي قالها لم يكن مرددًا فيها صدى رأي البرلمان المصري فقط، بل رأي الأمة المصرية أيضًا …»
وبعد العودة من المفاوضات أوشكت مدة المستشار القضائي أن تنتهيَ فرفض سعد إبقاء هذه الوظيفة، وأبى تجديد العقد لمن كان يشغلها، وكان ذلك في الثاني عشر من شهر نوفمبر لذلك العام؛ لأنه لم يذهب إلى المفاوضة ليكون كل ما كسبه منها أن يعود متطوعًا لتنفيذ السياسة الإنجليزية، قابعًا من قضيته بطلبات لا تجاب.
لا جرم صدق سعد أننا مستقلون وعمل بما صدق! لكننا نسأل هل كان في وسعه ألا يصدق؟ وهل كان ينفعه عند الإنجليز — فضلًا عن المصريين — أن يمثل الدور على وجهين؟
إنَّ الكثيرين لَيفهمون أنه لم يفعل بمسلكه هذا في الوزارة إلا ما ينبغي لزعيم ينادي بقضية وطنية، ولكنهم لو نظروا إلى الموقف من جميع جوانبه لَفهموا كذلك أنه فعل ما ينبغي للسياسي اللبق الذي يلمس الواقع ويَحذر العواقب، ولا يفرط في شيء قل أو كثر من أجل «لا شيء».
ولا حاجة إلى القول بأن سعدًا لم يكن يطمع من المفاوضات في الوصول إلى كل ما جاء في الكتاب الأبيض من المطالب، وهو نزول الإنجليز دفعة واحدة عن كل دعوى يدعونها وتهاونهم في كل مصلحة يرومونها، ولكنه كان مسئولًا أن يقر الأمور في نصابها ويضع القضية المصرية في موضعها. وليس في استطاعته أن يأمل النجاح من مفاوضة يكون الأساس فيها أنَّ مصر هي المطالِبة وإنجلترا هي صاحبة الحق في المنع والإعطاء، وإنما الأساس الصالح للمفاوضة أنَّ مصر هي صاحبة الحق في بلادها، وأنها إذا قبلت أن تراعيَ بعض المصالح البريطانية، فذلك من حسن نيتها ورغبتها في السلام والصداقة. وقد سأل مستر مكدونالد سعدًا في بداءة المفاوضة: ماذا تطلبون؟ فكان الجواب الطبيعي أننا لا نطلب من إنجلترا سخاءً ولا مبرةً، وإنما شأن البلاد المستقلة أن تكون على الصفة التي تقدمت في الكتاب الأبيض؛ لا إملاءً ولا سيطرةً على الحكومة في سياستها الداخلية والخارجية، وكل ما نقص من ذلك فهو عطاء من مصر، ودليل على الهوادة والرغبة في الوفاق.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يعلم سعد أنَّ الإنجليز لم يخلوا بينه وبين الوزارة ليمكنوا له في الحكم ويثبتوا مركزه من الزعامة، ولكنهم أخلوا بينه وبين الوزارة عسى أن تكبحه أعباء الحكم ومطامعه وتكف من غيرته وشنآنه، فيسمعوا من سعد الحاكم غير ما سمعوا من سعد الزعيم، ولا يلبث المصريون أن يروا زعيمهم على حالٍ غير الذي عهدوه وضعفٍ غير الذي توقعوه؛ فيقال لهم إنَّ الزعامة الوطنية ليست إلا جعجعة في الخلاء يلغط بها غير المسئولين طمعًا في المناصب ومنافسة على المآرب، ثم يصبح الزعماء وغير الزعماء سواءً فيما يقبلون ويرفضون، وفيما يعملون ويقولون، ويذهب عناء الأمم وجهادها مع الريح!
وعلى كون هذه النية واضحة من سوابق الإنجليز مع سعد وازدادت وضوحًا في أيام الحكم وبعد تلك الأيام؛ لم يقتصر الأمر فيها على الظن والاستقرار، بل فاه بها اللورد اللنبي فعلًا في السودان بعد قيام الوزارة السعدية؛ حيث راح يقول لمن يلقاه من رؤساء الإنجليز الناقمين على تلك الوزارة: «لقد وضعت زغلولًا في قفص! وسنرى كيف يخرج منه أو يبقى فيه.»
ولعله كان يقول ذلك ليحفظ مهابته ويدخل في روع مرءوسيه أنه لم ينهزم، ولم يكن رجوع زغلول إلى مصر ثم إلى الوزارة على كره منه وبغير تدبير مقصود على حسب رأيه، ولكنه لم يقل في الحقيقة غير ما ينويه، وينويه معه رجال دوننج ستريت.
ولا شك أنَّ مستر مكدونالد كان يود — بل كان يتمنى — أن ينجح في حل القضية المصرية وإبرام الاتفاق بصددها مع سعد زغلول، إلا أنه كان يودُّ ذلك لنجاحه هو في توطيد وزارته المتداعية وإرضاء المحافظين والأحرار عن بقائه، والحل الذي يرضي المحافظين عن وزارة عمال متداعية يريدون إسقاطها لن يكون نجاحًا لسعد ولا نجاحًا للقضية المصرية.
ولقد دلت الطوالع من أحاديث مكدونالد وتصريحاته على العواقب التي يُرجى أو يُخشى أن تؤديَ إليها، فإن مكدونالد كان يعلم أنَّ سعدًا لا يقر تصريح ٢٨ فبراير، وأنَّ هذا التصريح لم يتيسر إعلانه في مصر إلا بعد أن يمهد بنفيه إلى سيشل، وأنه إذا جرت مفاوضات مع سعد فليس بالمعقول أن يقبل دخولها على أساس هذا التصريح، ومع هذا كان مكدونالد لا يفتأ يعلن مرة بعد مرة أنَّ التصريح هو أساس ما يدعو إليه من مفاوضات، وأنَّ السياسة البريطانية لا تتحول في هذا الموضوع، ولو أنه قال إنَّ المفاوضات حرة من كل قيد لَمَا اعتُبر ذلك نزولًا من الحكومة البريطانية عن تصريحها، ولكنه كان ييسر للزعيم المصري دخول المفاوضات على ذلك الأساس. فكأنما كان المقصود هو اضطرار سعد عاجلًا إلى الاعتراف بما لم يكن يعترف به قبل الوزارة وهو يقدم على مفاوضات لا يضمن فيها النجاح، وقد يكون كل ما يصيبه منها أن ينقض موقفه بيديه وأن يقيم الحجة عليه لخصومه، وأن يسجل على نفسه التقلب من أجل المناصب الحكومية من النقيض إلى النقيض.
وما جاءت هذه المفاوضات إلا بعد مطاولة في المواعيد وتقاذف بالخطب والتصريحات وحوادث مدبرة في مصر والسودان، وعُزِي في أثناء ذلك إلى مستر مكدونالد حديث جاء فيه أنه «حدثت في الوقت نفسه حوادث يؤسَف لها في السودان، تقع المسئولية في حدوثها على الحكومة المصرية بلا جدال. وإني معتقد تمام الاعتقاد أنَّ القلاقل الحديثة دبرها بعض أعضاء الحكومة المصرية، وأنَّ دولة زغلول باشا غض الطرف عن أعمال المتطرفين».
ثم انتهى الحديث بوعيد جاء فيه أنه «لا يمكن بحال ما أن يكون هناك محل للكلام في جلاء الجنود البريطانية عن مصر، أو إبعاد القوات البريطانية عن منطقة القناة وفي استطاعتي أن أقول إننا أعددنا العدة التامة لجميع الطوارئ»، فأغضى سعد عن هذا الوعيد، واكتفى بأن صرح في حديث مع مراسل الديلي إكسبرس بأنه أخذ تذكرة العودة إلى مصر في يوم ١٧ سبتمبر — وكان يومئذٍ في باريس — ثم قال إنه ظل ينتظر أن تعين الحكومة البريطانية الزمان والمكان للاجتماع، ولكنه لا يرغب أن ينتظر أكثر من ذلك الآن وبعد أن صرح مستر مكدونالد بأن مواعيده المقبلة لا تسمح له بترتيب موعد قريب للمقابلة.
فكان لهذا التصريح أثره، وكذَّب مستر مكدونالد الحديث المعزُوَّ إليه قائلًا إنه دهش أشد الدهش لسماع ما عُزِي إليه … ووصف أقوال المراسل بأنها مناورة خبيثة مما يسمونه صحافة!
وكتب مستر مكدونالد إلى سعد قائلًا إنه يرغب رغبة شديدة في الاشتراك في إعادة حسن التفاهم في العلاقات بين البلدين، وإنه يكون مسرورًا لمقابلته بلندن في أواخر هذا الشهر.
وعلى ذلك سافر سعد إلى لندن، فكان من المصادفات التي لها دلالتها أنَّ وفد السودان الذي استقدمته الحكومة الإنجليزية لتمثيل السودان في معرض ويمبلي كان بين المستقبلين على المحطة عند وصول سعد إلى العاصمة الإنجليزية، وكان أشد الهاتفين هتافًا لاستقلال وادي النيل، وشارك السودانيين رهط من أبناء الهند وفارس، فجعلوا يهتفون بلغاتهم وباللغة الإنجليزية لزعيم الشرق الكبير، وكذَّبوا بذلك ما يقال من أنَّ هذه المظاهرات لا تحصل حيث حصلت إلا بتدبير وتحضير.
أنذرت الظواهر بالفشل من أول لقاء، وكأن مستر مكدونالد لم يكفه ما هنالك من النذر والعلامات، فعمد إلى «مناورة» صبيانية لا خير فيها غير التكدير والإساءة والإغراء بالتشاؤم والعناد؛ فبعد أن استقبل سعدًا في حجرة بيته معتذرًا بالمرض والإعياء، جاءته رسالة على حين غرة، فوثب مهرولًا إلى الديوان، ونسي مرضه وإعياءه، وخرج يعتذر في غير اكتراث وكأنه يقول: «هناك مسائل لحجرة البيت ومسائل للديوان!» ولعله استكثر من رئيس وزارة مصرية أن يأنف من مطاولة المواعيد ويستوثق من أساس المفاوضة قبل البدء فيها كما فعل سعد … فأراد أن يُريَه بهذه المناورة الصبيانية مبلغ ما تستحقه قضية مصر عند رئيس وزارة بريطانيا العظمى من الاحتفاء والاهتمام.
… لاحظت مع ذلك أنَّ وزارة مكدونالد ترتطم الآن بصعاب عديدة جعلتها مهددة بالسقوط. وقال لي مستر مكدونالد — بالرغم من كثرة شواغله — إنه على استعداد للمناقشة وإياي، ولكني أختار المناقشة مع رجل أكثر حرية وأقل مشغلة منه، وهو محاط بالشواغل من كل جانب.
ولا يظن ظانٌّ أنني أتيت إلى لوندرا لأوقِّع على اتفاق يمس حقوق مصر! فمن ظن هذا وقع في الخطأ. إنني أتيت لأكسب لا لأخسر. فإذا كنت لم أكسب شيئًا فإنني لم أخسر شيئًا.
إنَّ المحادثات فشلت نظرًا للتمسك بحفظ قوات بريطانية على قناة السويس … وإنما إذا كانت حماية القطر المصري للقناة تلوح غير كافية، فقد يقبل المصريون أن يضعوا القناة تحت حماية عصبة الأمم. وإنَّ مصر لا يسعها أن تتخلى عن السودان.
إني قبل الدخول في المحادثة اشترطت أنَّ الشروع في المباحثات لا يمكن على أي وجه من الوجوه أن يمس حقوق مصر أو يضر بها. ثم إنَّ هناك أمرًا تم التسليم به، وهو أنه إذا أفضت المحادثات إلى مفاوضات، فإن هذه المفاوضة تجري على حد المساواة التامة، أو تكون مفاوضة الند للند.
فيُرى من جميع ما تقدم أنَّ سعدًا الزعيم لم يسلك في الوزارة إلا كما ينبغي أن يسلك الوزير المحنك الخبير بعواقب الأمور. إنهم كانوا يسوقونه إلى شَرَك لا مفر له من الوقوع فيه أو النجاة منه، وقد اختار هو النجاة واختار لها آمَن طريق، وليس في مقدور ناقد أن يدله على طريق آمن ولا أجدى عليه وعلى القضية الوطنية مما توخاه.
نعم، كان في الوسع تأجيل المفاوضة إلى موعد آخر، ولكن ماذا عسى أن يفيد هذا التأجيل؟ إنَّ مستر مكدونالد إذا سقط فليس الذي يليه بأسهل قيادًا منه ولا أقرب إلى إجابة المصريين، فالدخول في المحادثات كان ضربة لازب، وكان ضربة لازب أن تفشل، وكان ضربة لازب مع هذا التقدير أن يسلك سعد في مفاوضاته وفي علاقاته بالسياسة البريطانية مسلك الزعيم، وهو بعينه مسلك الوزير القدير والسياسي الخبير.
على أنَّ المتاعب قد صادمت الوزارة السعدية من اللحظة الأولى، ولا سيما في مسألة السودان. فلما أراد أن ينص في خطاب العرش على الاستقلال التام لمصر والسودان، حال بينه وبين ذلك عبارة الإنذار الذي وجهته بريطانيا العظمى إلى جلالة الملك مباشرة — في عهد الوزارة النسيمية — لاشتمال الدستور على اسم «ملك مصر والسودان». ولم يشأ صاحب العرش أن يستهدف لأزمة أخرى من ذلك القبيل؛ فاستغنى سعد عن عبارة تحقيق الاستقلال التام لمصر والسودان بعبارة «تحقيق الأماني القومية بالنسبة لمصر والسودان».
وهي العبارة التي أوشكت أن تدفع بسعد إلى الاستقالة، حين تعرض النواب لها بالتعديل والتفسير، وقد أتبعها في بعض أحاديثه بتفسير يقول فيه: إنَّ الآمال القومية هي الاستقلال التام.
وما زالت مسألة السودان مثار السؤال والجدل والإحراج والتعنت من خصوم سعد الإنجليز والمصريين في وقت واحد، كلا الفريقين يريد أن ينقلب المنصب الوزاري على سعد شَرَكًا مُرديًا، وكلاهما يريد أن يرى كيف يعجز ويفشل، ولا يريد أن يرى كيف يقتدر وينجو بكرامة الزعامة وكرامة القضية.
فالمعارضون في مجلس النواب يطالبون بعرض ميزانية السودان كما كانت تُعرض على مجلس الشورى، وهي أحرى أن تُعرض على أول برلمان.
والموظفون الإنجليز في السودان يجمعون الأذناب والأتباع ليعلنوا ولاءهم للحكومة البريطانية دون غيرها، واستمساكهم بالتبعية والإخلاص لتلك الحكومة العادلة المحبوبة تعريضًا بحكومة المصريين.
وإذا قوبلت هذه المظاهرة بمظاهرة من السودانيين المتعلقين بوحدة وادي النيل حلَّ بهم البطش الشديد، وحاق بهم العذاب الأليم.
فإذا شَكَوْا إلى الحكومة السعدية — وليس لهم من يشكون إليه غيرها — فخصوم سعد الإنجليز يمعنون في إحراجه بزيادة البطش والتعذيب، وخصومه المصريون يمعنون في إحراجه بطلب الإفراج عن المعاقبين، وتعجيل الحساب والعقاب للموظفين المسئولين، وكان من هذا وذاك أنه استقال، ولم يكد يمضي على الوزارة ثلاثة أشهر.
استقال بعد تصريح اللورد بارمور باسم الحكومة البريطانية — حكومة العمال — «بأن الحكومة البريطانية لن تترك السودان بأي معنًى كان».
إنني بالنيابة عن الشعب المصري جميعه، وفي حضرتكم الموقرة، أصرح بأن الأمة المصرية لن تتنازل عن السودان ما حييت وما عاشت … إنَّ حقوق الأمم لا تضيع بمجرد أن يقول الغاصب إني أريد أن أتمتع بها دون أصحابها … نعم أيها السادة، لا يمكننا مطلقًا أن نتنازل عن السودان، لا لأنه مستعمرة، بل لأنه جزء من كياننا، بل لأنه منبع حياتنا، بل لأنه لا يمكن لمصر أن تعيش بدون السودان أصلًا.
وربما ظنت الحكومة البريطانية أنها تبيح نفسها مثل ذلك التصريح دون أن يجسر سعد على إباحة مثله نفسه؛ لأنه قائم في منصب الوزارة، فيسمعه ويغضي عنه ويذهب إلى المفاوضة وهو مسلم به سكوتًا قبل أن يسلم به مقالًا! فكانت إجابته على التصريح بمثله حتمًا، وكان حتمًا معها أن يعرب عن زهده في الوزارة التي يحسبونها قيدًا له يجبره على الإغضاء، وقد استقال فرفض الملك قبول استقالته، وأبدى له — كما أبدى الشيوخ والنواب — أنَّ فيما صرَّح به الكفاية للرد على التصريحات الإنجليزية.
لم يكن المقصود إذنْ أن يرى خصومه الإنجليز والمصريون كيف يعمل في الوزارة، بل كان المقصود أن يروا كيف يعجز عن العمل، وكيف يتغير في الوزارة ويخل بأمانة الزعامة، فلا هو وزير ولا زعيم، وليس له وهو محاط بهذه النيات المدخولة أن يصنع غير ما صنع وأن يعالج الشَّرَك المنصوب بغير ما عالجه به من ثبات ومراس، هما في وقت واحد إقدام الزعامة وحيلة السياسة، وإخلاص المجاهد وحيطة الأريب.
ولقد أصيبت وزارة سعد بالإجرام كما أصيبت بالإحراج، فوقعت في عهدها جنايتان وبيلتان، إحداهما موجهة إلى حياته والأخرى موجهة إلى وزارته، وكلتاهما في اعتقاد سعد من تدبير واحد.
أما الجناية الأولى، فهي حادثة الاعتداء عليه في محطة العاصمة، حين كان ينتوي السفر إلى الإسكندرية لحضور تشريفات عيد الأضحى (١٢ يوليو سنة ١٩٢٤).
اعتدى عليه شاب مفتون من أعداء المفاوضات؛ لأنها في رأيهم تصد الأمة عن سبيل الجهاد الناجع، وقال في التحقيق إنه تعمد إرهاب سعد؛ لأنه يرغب في المفاوضة، ولأنه قال: «إنَّ الإنجليز خصوم شرفاء معقولون.»
وقد أصابته الرصاصة في الساعد الأيمن ثم في صدره، وحاول الجاني أن يطلق غيرها فتكاثرت عليه الجماهير، وهمُّوا بتمزيقه لولا رجال الشرطة الذين أحاطوا به فأنقذوه. ومن غرائب ما حدث في هذا الاعتداء أنَّ المسدس الذي كان مع الجاني اختفى عقب الاعتداء فلم يُعثر له على أثر، وشهد محامٍ كان على مقربة من الجاني أنه رأى ضابطًا إنجليزيًّا من ضباط الشرطة يخفيه في جيبه، وأنكر الضابط ذلك واعترف بأنه أخفى شيئًا في جيبه، ولكنه كان مقبض المنشة التي كان يحملها وانكسرت في الزحام.
وأشرف على التحقيق بعض الوزراء، واستمر على الإشراف عليه حسن نشأت باشا وكيل وزارة الأوقاف يومذاك، وبعد بحث طويل أُحيل الجاني إلى الكشف الطبي، فقرر الدكتور «ددجن» كبير الأطباء العقليين أنه مجنون، وتقرر اعتقاله في مستشفى المجاذيب، وهو المعتدي الوحيد على الوزراء الذي صار إلى هذا المصير.
لقد تبينت شجاعة سعد منذ صباه في شدائد السجن والنفي والاضطهاد، كما تبينت شجاعته بالجهر برأيه وإمضاء عزمه، ولو تصدى لإغضاب أقوى الأقوياء … ففي هذه الجناية تبينت منه شجاعة أخرى قد لا يتاح ظهورها كثيرًا في حياة الأبطال المجاهدين بسلاح الحجة والإيمان لا بسلاح النار والحديد، وتلك هي شجاعة الرجل في وجه الموت الداهم وهو منه على يقين؛ فقد نفذت الرصاصة إلى صدره، وهو مصاب بشتى الأمراض التي لا تؤمن معها الجراح إذا نجا صاحبها من الموت بفتك الرصاص، فما وجم ولا تردد ولا فكر لحظة فيما أصابه، ولبث كأنه ينظر إلى مصاب أحد لا يعنيه، والتفت إلى الوزراء الباكين حوله يقول لهم: «لا تحزنوا، ولا تبتئسوا، إذا مات سعد فمبدأ سعد باقٍ لا يموت، اعملوا من بعدي، وثابروا على تحقيق سعيي.»
ولما قال بعض الوزراء: إنَّ الله أرحم بمصر من أن تُصاب بسوء، عاد يقول: «وماذا في ذلك؟ نحن ميتون، فلنمت نحن وليحيَ الوطن.»
فقد عاد سعد من المفاوضات، فوجد خصومه مجدين في محاربته بالشغب تارة والدسيسة تارة أخرى، وسعى هؤلاء الخصوم بالوقيعة عند الأزهريين؛ لأنهم يعلمون من ماضي سعد أنه هو صاحب الرأي قديمًا في إنشاء مدرسة القضاء الشرعي التي تخرج القضاة الشرعيين، وأنَّ الأزهريين كانوا ينقمون من نشأة هذه المدرسة؛ لأنهم يطلبون أن تنحصر فيهم وظائف القضاة وما إليها من وظائف التعليم الديني وتعليم اللغة العربية قبل السماح بإجراء الإصلاح في برامج التعليم الأزهرية، وكانوا قد عرضوا على الوزارة السعدية مطالب لتحسين أحوالهم فألفت الوزارة لجنة خاصة لدرسها والإشارة بما تراه فيها، وعاد سعد من المفاوضات فاستثارهم خصومه مدخلين في روعهم أنَّ مدرسة القضاء عائدة وأنَّ مطالبهم غير مجابة؛ فخرجوا في الطرقات يتظاهرون ويهتفون ويُعرِّضون بسعد في هتافهم مهددين متوعدين، ونسوا أو نسي صغارهم أنَّ أمر المعاهد الدينية بيد الملك لا بيد الوزارة، فإذا تأخرت إجابة المطالب، فليست الوزارة صاحبة الرأي الفصل في التأخير أو في الرفض والقبول.
ثم تعاقبت أمثال هذه الدسائس والسعايات، واجترأ بعض الموظفين على الخوض فيها والحض عليها لاعتقادهم أنَّ الجهات العليا ترحب بإضعاف الوزارة السعدية وتنفير الناس منها، ولا سيما رجال الدين والموظفين.
وكان يساعد على سريان التذمر بين طبقة الموظفين أنَّ الوزارة فكرت في إصلاح نظام الدرجات والترقية والتعيين، فخشي جمهرة منهم أن يتبع ذلك نقص المرتبات أو الاستغناء عن بعض الوظائف، واستقال أحد الوزراء وهو محمد توفيق نسيم باشا المعروف بعلاقاته بالقصر الملكي، فكان هذا وأشباهه من دواعي الظن بقرب أيام الوزارة وسهولة الخروج عليها والإساءة إليها.
وهكذا توالت الأزمات والمشكلات والمساعي الظاهرة والخفية، فبرم سعد بما يلقاه من كل ذلك، وقدَّم استقالته إلى جلالة الملك في منتصف شهر نوفمبر مبينًا لجلالته الأسباب الصريحة التي تدعوه إلى الاستقالة، وفيها أنَّ أناسًا من كبار الموظفين المنسوبين إلى القصر يستخدمون اسم جلالته لمحاربة الوزارة في الخفاء … فقال له جلالته: إنه يثق به ويعتمد عليه، ورغب في عدوله عن عزمه، فاعتذر بأنه قد فرغ من التفكير في هذا الموضوع.
فقال الملك لنُبقِ المسألة إذنْ إلى غدٍ. وحدث في هذه الأثناء أنَّ الشيوخ والنواب أوفدوا إلى جلالة الملك من يتوسل إليه أن لا يقبل الاستقالة، وأوفدوا إلى سعد من يرجوه العدول عنها. فقبل أخيرًا أن يستعفي من الاستعفاء — كما قال — ولكنه طلب إلى جلالة الملك — توكيدًا للثقة وقطعًا لدسائس الدساسين — أن تدخل مسائل الأزهر والمعاهد الدينية ومناصب السلك السياسي ومناصب القصر والرتب والنياشين في اختصاص مجلس الوزراء. ولكل طلب من هذه الطلبات سبب من الحوادث التي مرت بالوزارة السعدية وبخاصةٍ في الأيام الأخيرة.
فهو يريد أن تنظر الوزارة في مسائل الأزهر ليكون مسئولًا حقًّا عن الإصلاح لا ليُحرجه المحرجون بطلب الإصلاح، ويمنعوه عمدًا مبالغة في الإحراج، وهم يتظاهرون بصداقة الأزهريين.
ويريد أن تنظر الوزارة في مناصب السلك السياسي لئلا يتمادى الوزراء المفوضون والسفراء في إحراجها مع الدول — كما حدث من بعضهم في أوائل قيام البرلمان — وهم آمنون ما يستحقون من جزاء.
ويريد أن تنظر الوزارة في مناصب القصر والإنعام بالرتب والنياشين؛ لأنه طلب إقصاء حسن نشأت باشا من وكالة الأوقاف فنُقل إلى القصر، وجاء على أثر ذلك إلى شرفات مجلس النواب وهو يتشح بالوشاح الأكبر من نوط النيل، وقد أنعم به عليه بغير رأي الوزارة.
فأجاب الملك سعدًا إلى هذه الطلبات، ووعده أن تضاف إلى الدستور، وأن يشرع في ذلك عقب رد الاستقالة إذا شاء، هذا في اليوم السادس عشر من نوفمبر، وفي اليوم السابع عشر أعلن سعد في مجلسَي النواب والشيوخ أنه «تشرف أمس بمقابلة جلالة الملك، فأعرب له أنه متفق تمام الاتفاق مع الأمة ومجلسَي الشيوخ والنواب في الثقة بالوزارة، وأنه أمام هذا الإجماع لا يسعه قبول استعفاء الوزارة؛ وبِناءً على هذا وعلى التصريحات التي لطفت من عبء العمل عليه ومن عنائه، لم يرَ بدًّا من سحب الاستقالة والعود إلى العمل في حدود صحته».
سبق إلى بعض الظنون أنَّ الوزارة سوف تستريح برهةً بعد عودته إلى العمل لتتفرغ لشئون الإصلاح التي شغلتها عنها الأزمات السياسية، ولكن لم يمضِ يوم واحد حتى وقع الاعتداء على حياة السردار «لي ستاك باشا»، وهو خارج من وزارة الحربية، ولسوء الحظ كان الرجل على نية السفر إلى السودان قبل ذلك بيوم، ثم أرجأ سفره لحضور مأدبة أقيمت له في القاهرة، فصادفته المنية على أيدي أولئك الجناة.
ولو شاءت السياسة البريطانية لعلمت أنَّ جناية كهذه قد وقعت في العاصمة الإنجليزية — وهي قتل المارشال ويلسون — فلم يقل أحد: إنها دليل على خلل الحكومة أو سوء النية أو التقصير في حفظ الأمن والنظام.
ولو شاءت لعلمت أنَّ سعدًا خليق أن يكره وقوع هذا الاعتداء أشد من كراهة الحكومة البريطانية؛ لأنه اعتداء يصيبه هو ويصيب وزارته ويصيب الحكومة النيابية التي يمثلها، ولا ينفعه في شيء، بل ينفع خصومه من الإنجليز والمصريين.
ولو شاءت لعلمت أنه قد أصيب باعتداء على حياته من جراء المفاوضات قبل أن ينزع الجناة إلى إصابة حاكم السودان.
ولو شاءت لعلمت أنَّ حاكم السودان هو قائد الجيش المصري، ولا مانع يمنعه من «تقدير الظروف» وحماية حياته بما لديه من الحراس والجنود، وليس بالإنصاف ولا بالميسور أن تطالب الوزارة السعدية بعناية أكبر من عناية الرجل نفسه، وفي البلاد «إدارة أوروبية» للأمن والاستعلامات لا يفوتها الانتباه والتحذير.
ولكن السياسة البريطانية لم تشأ أن تعلم شيئًا من ذلك وهو معلوم غير مجهول، وكل ما شاءته أنها اغتنمت الفرصة كأنها كانت في انتظارها، أو كانت تشفق أن تضيع منها، وهي قد كانت حقًّا في انتظار فرصة تزعج بها الوزارة السعدية جهد ما استطاعت من إزعاج.
تخلَّت وزارة مستر رامزي مكدونالد عن الحكم في نهاية أكتوبر، وخلفتها وزارة محافظة تولى فيها مستر أوستن شمبرلن وزارة الخارجية، وكان مستر مكدونالد يفكر — بمعاونة المندوب البريطاني — في توجيه تبليغ إلى الحكومة المصرية يسرد لها المخالفات المكررة التي خالفت بها النظام المتبع أو الحالة الواقعة، فواصل مستر شمبرلن بحثه مع القاهرة في الصيغة التي يفرغ فيها هذا التبليغ، وكانت هذه المخالفات تزداد أثناء ذلك، وآخرها رفض زغلول في الثامن عشر من نوفمبر بقاء وظيفة المستشار القضائي وامتناعه من تجديد العقد للسير إيموس الذي كان يشغلها إذ ذاك.
سنحت الفرصة إذنْ فينبغي ألا تضيع، وبلغ من التهافت على انتهازها أنهم لم يكلفوا أنفسهم مشقة إخفاء النية المبيتة وراءها؛ فجاء في الإنذار البريطاني أنهم يطلبون من الحكومة المصرية «أن تبلغ المصلحة المختصة أنَّ حكومة السودان ستزيد مساحة الأطيان التي تُزرع في الجزيرة، فبدلًا من أن تكون ثلاثمائة ألف فدان تكون غير معينة المقدار على نسبة ما تقتضيه الحاجة» … وجاء في ملحق الإنذار «أنَّ القوانين والشروط الخاصة بخدمة الموظفين الأجانب الذين لا يزالون في خدمة الحكومة المصرية وتأديبهم وخروجهم من الخدمة؛ يجب أن يعاد النظر فيها وتنقح طبقًا لرغبة الحكومة البريطانية»، وأنه «إلى أن يتم الاتفاق بين الحكومتين على موضوع حماية مصالح الأجانب في مصر، تحافظ الحكومة المصرية على مركز المستشار المالي ومركز المستشار القضائي، وتحترم سلطتهما وامتيازاتهما كما نُص عليهما عند إلغاء الحماية، وتحترم بالمثل مركز المكتب الأوروبي في وزارة الداخلية، ومعهما المالية كما حُددت بالقرار الوزاري، وتأخذ بعين الاعتبار المشورة التي يقدمها مديره العام في الأمور الداخلة في اختصاصه».
أما الطلبات الأخرى فمنها الاعتذار الوافي الكافي، وقمع كل مظاهرة شعبية سياسية، ودفع نصف مليون جنيه، وإصدار الأوامر برجوع الضباط المصريين والوحدات المصرية البحتة في الجيش المصري من السودان خلال أربع وعشرين ساعة … ومهد لهذه الطلبات بعبارة جاء فيها أنَّ حكومة جلالة الملك «ترى أنَّ هذا الاغتيال — الذي يُعرِّض مصر بالحالة التي تُحكم بها الآن إلى ازدراء الشعوب المتمدينة — هو النتيجة الطبيعية لحملة عدوانية على حقوق بريطانيا العظمى وعلى الرعايا البريطانيين في مصر والسودان».
وعلم اللورد اللنبي أنَّ أمنيته المرقوبة قد حانت آخر الأمر؛ فاحتفى ما شاء بمظاهر التخويف والتشفي والإرهاب، وذهب في ركب يتقدمه مئات من حاملي الرماح إلى مجلس الوزراء، وأعلن وصوله بنفخ الأبواق وقعقعة السلاح، فلم يتمالك سعد — كعادته — أن يلمح الجانب المضحك من هذه المبالغة في استغلال فاجعة أليمة، وقال واللورد اللنبي يدخل عليه: «ماذا؟ هل أعلنت الحرب؟!»
أما جواب الحكومة المصرية على الإنذار، فقد قبلت فيه ما له علاقة بالجريمة كالاعتذار ودفع التعويض واقتفاء أثر الجناة ومنع المظاهرات المخلة بالنظام، ولم تقبل ما عدا ذلك من المطالب التي لا علاقة لها بسبب الإنذار، فما هي إلا ساعات حتى أخذت البلاغات تتعاقب من اللورد اللنبي بأنه أمر حكومة السودان أن تسرح الضباط المصريين، وأن تطلق يدها في زراعة الجزيرة، وأنه سيتخذ ما شاء لحماية الأجانب، وأنه سيحتل الجمارك، ويتبع ذلك بضروب أخرى من النذر والقوارع.
وكانت الوزارة قد رفعت استقالتها إلى جلالة الملك، فلما تعاقبت هذه التبليغات كتبت إلى جلالته عريضة تقول فيها إنها «إزاء هذه التعديات المتتالية المضرة بالبلاد، لا يسع الوزارة إلا أن تلح على جلالتكم بأن تتفضل بالإسراع في قبول الاستقالة؛ لأنه ربما كان في هذه الاستقالة وفي قبولها ما يقي شر الأضرار المتوالية»، فقبل جلالته الاستقالة، وأعلن سعد في المجلسين قبولها، وعقَّب على ذلك بقوله: «كذلك أصرح لكم أنا وزملائي بأننا مستعدون بكل إخلاص لأنْ نؤيد في مجلس النواب الذي نحن أعضاء فيه كل وزارة تشتغل لمصلحة البلاد، ليس فينا عاطفة معارضة إلا فيما يختص بالمصلحة العامة، فإننا نخدم هذه المصلحة ونؤيد كل من يؤيد هذه المصلحة.»
وبذلك تم للسياسة البريطانية ما أرادته من إقصاء سعد، وإن لم يتم لها ما هو أفضل لديها من الاستقالة العاجلة، وهو قبول المطالب ثم معاودة الإحراج لإقصائه بعد حين.
وإنَّ الإنسان لا يدري بعد ذلك هل تَعتبر السياسة الاستعمارية هذه الحوادث من المصادفات السعيدة أو من الفواجع المحذورة؟!
فمقتل غردون في الخرطوم — وإنما قُتل؛ لأن الإنجليز القابضين على الحكومة المصرية لم يبادروا إلى إنقاذه — قد أكسب السياسة الاستعمارية نصف السودان وهو القطر الذي يعدل القارات في الاتساع وخصوبة الموارد، ولا تنال الدول مثله إلا بسفك دماء العشرات من القواد وعشرات الألوف من الجنود.
وقالت السياسة الاستعمارية يومئذٍ إنها لا تشارك مصر في السودان؛ لأنها تدعي حقًّا في ملكه أو السيادة عليه، ولكنها تريد هذه الشركة توسلًا بها إلى منع سريان الامتيازات الأجنبية عليه، وهي تسري على كل قطر تابع للدولة العثمانية، وقد يكون في سريانها على السودان تعطيل لإصلاحه، وتقييد لحرية المصريين في حكمه … وفيما عدا ذلك لا مطمع للدولة البريطانية في الحكم ولا في الاستغلال.
وباسم مصر وحقِّها احتجت إنجلترا على فرنسا حين احتل القائد مرشان «فاشودة»؛ لأن التعليمات قد صدرت «بتوطيد السلطة المصرية على ذلك الإقليم».
وباسم مصر وحقِّها دفعت الخزانة المصرية أكثر من عشرين مليونًا من الجنيهات لتعمير السودان وحراسته وتحصينه وتسديد العجز في موارده!
ثم جاء مقتل لي ستاك بعد مقتل غردون بنحو أربعين سنة؛ فضيَّع على مصر كل ما بذلته من مالها ودمها في العصور القديمة والحديثة، ونقل ذلك حلالًا زلالًا سائغًا إلى أيدي السياسة الاستعمارية تتخذه ذريعة إلى زرع ما تشاء من الأرض، وإقصاء جميع الموظفين المصريين، وطرد الجيش المصري كله، مع تكليف الخزانة المصرية سبعمائة وخمسين ألف جنيه للدفاع عن السودان!
إنَّ السياسة الاستعمارية لو راجعت نفسها لحارت كما نحار نحن؛ فلم تدرِ هل هذه الحوادث من المصادفات السعيدة أو من البلاء المحذور!
ونعود إلى مصاعب الوزارة السعدية فنقول: إنَّ الشواغل والأزمات لم تكن موقوفة على العلاقات المصرية الإنجليزية وحدها وما يتفرع عليها؛ فإن الوزارة السعدية لم تقم في الحكم أيامًا حتى قابلتها مشكلة عسيرة مع الحكومة الإيطالية، وهي إلحاح هذه الحكومة في تسليم عشرة من اللاجئين السياسيين من أهل طرابلس قدموا إلى مصر، واعتقلتهم الوزارة الإبراهيمية قبل قيام الوزارة السعدية. وكانت حكومة موسوليني تأبى أن تقنع بما دون التسليم، وثارت ثائرة الأمة المصرية لهذه المطاردة العنيفة لأناس لم يقترفوا من وزر إلا الدفاع عن حرية بلادهم كما يحق لكل إنسان، بل كما يجب على كل إنسان، واحتدمت النفوس غيظًا من هذا اللدد الغريب في ملاحقة اللاجئين بالعقاب بعد أن هجروا ديارهم وألقوا سلاحهم وذاقوا مرارة الخيبة والهزيمة، كأنما هم الواترون وإيطاليا هي الموتورة المعتدى عليها التي لا ينبغي لها أن تنسى جزاء الوتر والعدوان.
والطرابلسيون بَعْدُ جيران المصريين وإخوانهم في اللغة والدين وفي قضية الحرية والاستقلال، والوزارة السعدية لا تشعر إلا بهذا الشعور، ولا يجمل بها — وعلى رأسها زعيم المجاهدين الوطنيين في الشرق العربي — أن تسلم بيديها أولئك الغرباء المساكين للموت والبلاء؛ فرفضت تسليمهم وأصرت على الرفض كل الإصرار، وخشيت في الوقت نفسه أن يتفاقم الخلاف بينها وبين الحكومة الإيطالية تفاقمًا يجر إلى دخول الحكومة البريطانية في القضية؛ لأنها مسئولة — كما تدعي — عن حماية الأجانب وعن علاقات مصر الخارجية، حيث يؤذن الخلاف بتعريض مصر لاعتداء أو تهديد من إحدى الدول القوية؛ فتوسط سعد في فض هذه المشكلة بحل لا يسخط الحكومة الإيطالية كل السخط وإن كان لا يُرضي المصريين كل الرِّضَى، واكتفى بإطلاق اللاجئين المعتقلين ليبرحوا القطر إلى حيث يشاءون.
ولم ينتهِ الخلاف مع إيطاليا بهذه المشكلة، بل نشبت بعدها مشكلة أخرى لإكراه الحكومة المصرية على ضم واحة جغبوب إلى البلاد الطرابلسية، وقد استغرب الناس هذا التحرش بالوزارة السعدية من الحكومة الإيطالية، حتى بدر إلى ظنهم أنها مغراة بذلك من أناس يتصلون بها، ويجوز أن يحرضوها على خلق الأزمات لإحراج سعد وتكبير المصاعب عليه، وطال الأخذ والرد في هذه المشكلة، حتى انتهت بالاتفاق بين قائد السلوم ومندوب الحكومة الإيطالية على حد موقوت بين مصر وطرابلس تدخل به جغبوب والسلوم في الأرض المصرية، وسرعان ما عادت الحكومة الإيطالية وحدها إلى تغيير هذا الحد بغير مشاورة ولا استئذان!
يضاف إلى هذه المشاكل كلها شواغل البرلمان الأول التي لا بدَّ منها؛ فقد كان على الوزارة البرلمانية الأولى أن تعرض عليه جميع القوانين والمعاهدات التي حدثت بعد فض الجمعية التشريعية، وكان عليها وعلى البرلمان أن يشتركا في ترتيب نظامه الداخلي وعلاقته بالوزارة ومصالح الحكومة، وأن يشتركا في تعديل قانون الانتخاب على الوجه الذي يرضاه السعديون، وهم لا يرضون عن قانون الدرجتين.
والبرلمان هل كان يخلو من صعوباته؟ وهل كانت الوزارة السعدية لا تحسب حسابه إلا لتستعين به على خصومها في جميع قراراته ومناقشاته؟
النظام يتطلب من كلٍّ منكم أن ينزل عن جزء يسير من حريته حتى تجتمع الحرية كاملة من هذه الأجزاء للهيئة التي قبلتم العمل تحت لوائها، والحرية متوافرة من قبل في اختيار الهيئة التي تتضامنون معها واختيار النظام الذي تسيرون عليه، فلا معنى للقول بأن الحرية تنعدم مع النظام. إنَّ الحكومة منكم وأنتم عضد الحكومة، فيجب أن تكون هيئتكم منظمة ليمكن أن يكون سير الحكومة منظمًا.
ومع هذا لم تخلُ جلسات الشيوخ والنواب من معارضةٍ للحكومة في أمور أصرت فيها الحكومة على رأيها وأصروا فيها على رأيهم، فلم يرجعوا عنه بعد طول المساجلة والجدال.
إنَّ المسألة التي أريد عرضها على حضراتكم هي أنكم نظرتم قانون الاجتماعات مع أنه غير وارد بجدول الأعمال، ولم تكن الحكومة حاضرة؛ فهل يجوز أن يُتخذ مثل هذا القرار في غيبة الحكومة؟! هذا ما أردت طرحه على حضراتكم لإبداء الرأي فيه.
المجلس صاحب الحق المطلق في جدول أعماله، فموضوع البحث هو: هل للمجلس — إذا لم تكن الحكومة ممثلة — أن يغير جدول أعماله قبل أن يخطرها بذلك أم لا؟ فيجب أن تقرر أولًا أنَّ الحكومة تعمل على تمثيل نفسها دائمًا في المجلس لتتوقى مثل هذه المسائل، والذي أفهمه أنَّ مكتب المجلس كان يجدر به أن يخطر الحكومة من باب المجاملة ….
ليست المسألة مسألة مجاملة. إني لا أقبل المجاملة في هذا! ومحل ذلك في المسائل الشخصية، ولكني أعرض المسألة الآن رسميًّا، وليس هذا حق الحكومة فقط، بل حق كل عضو علم بجدول الأعمال ولم يحضر الجلسة ثم عُدل جدول الأعمال فله أن يعترض، وأولى بالحكومة أن تعترض على ذلك باعتبارها الطرف الآخر «طرفًا مهمًّا» … وأنَّ مصلحة المجلس تقضي بإعلانها؛ لأنها إذا كانت لا تقبل قرارًا صدر في غيبتها، فلها أن ترده للمجلس لا من باب المجاملة بل من باب الإلزام.
واحتدت المناقشة طويلًا، ثم أصرت الحكومة على رأيها وأصر المجلس على رأيه، وغاية ما سمح به أن تنتظر الحكومة الفرصة التي تسنح عند إعادة القانون في مجلس الشيوخ إذا أعاده إلى مجلس النواب، أو تتقدم إلى مجلس النواب بقانون اجتماعات جديد، أما الإلغاء فلا رجوع فيه.
وعُرض القانون على مجلس الشيوخ فعدل بعض أحكامه ولا سيما في العقوبات، وعلم وكيل الداخلية أنَّ الحكومة ستنهزم في المناقشة، فاستنجد بوزير الداخلية محمد توفيق نسيم باشا، ودارت المناقشة بعد حضوره كأشد ما تكون بين خصمين متناجزين، ثم سأل رئيس المجلس: ما هو رأي الحكومة النهائي في هذه التعديلات؟
فقال سعد باشا: «إنَّ الحكومة لا تزال عند رأيها.»
وأُخذت الأصوات فإذا المجلس يؤيد التعديلات ويخذل الحكومة، ولم يكن سعد يتوقع هذا، ولكنه اغتبط به بعد ذهاب سَوْرة المناقشة، وحمد الله «أنَّ في مصر نوابًا وشيوخًا لا يقولون نعم نعم ولا لا كلما قالها الحاكم أو الزعيم».
هذه الصعوبات البرلمانية كانت تُتعب الوزارة في بعض الأحايين، فاصطلحت فيها الوزارة والبرلمان على حدٍّ سواء بين الفريقين؛ فأما المسائل التي يتأزم بها مركز الوزارة والبرلمان معًا، فقد كان سعد يعتصم فيها بالثقة، وكان البرلمان يجاريه فيها؛ لأنه يعلم أن ليس وراء قدرة الوزارة فيها قدرة قصرت في استخدامها. كذلك حدث في مسألة خطبة العرش وتفسير الأماني القومية، وكذلك حدث في مسألة الجزية التركية التي رأى سعد أن يبطل التزام مصر بها ويودعها في الوقت نفسه أحد المصارف انتظارًا للفصل فيها محافظة على سمعة البلاد المالية، ورأى المجلس غير ذلك ثم ثاب إلى رأي سعد في ختام المناقشة، وإن لم يعرض سعد مسألة الثقة في هذه الجلسة.
وأما المسائل الأخرى فقد كان موقف سعد فيها كموقفه في قانون الاجتماعات؛ يدلي برأيه ويصغي إلى رأي النواب والشيوخ، ويعمل بما يقررون.
وبعد هذه الشواغل جميعها، لا عجب إذا كان وقت الوزارة لم يتسع لإنجاز أعمال الإصلاح التي كانت في نيتها وفي مقدروها. وهي لم تلبث في الحكم إلا تسعة أشهر تحسب منها أيام البطالة وأيام السفر وأيام الاستشفاء والعلاج. فحسبها مع هذا جميعه أنها استطاعت أن تحقق معنى الحكومة الأول وهو إطلاق الحرية للمحكومين في أوسع الحدود؛ فقد كان المصري يستمتع في عهد الوزارة السعدية بحرية واسعة لا يستمتع الإنجليزي ولا الفرنسي بأوسع منها، وكان الأنصار والمعارضون في هذه الحرية على حدٍّ سواء. فمن قرأ ما كانت تكتبه صحف المعارضين عن سعد وآل سعد ووزارة سعد، علم أنَّ الحرية المنشودة لا تتسع في بلد من البلدان لأكبر من هذه الحقوق في النقد والمعارضة، بل في المهاجمة والتجريح.
واستطاعت الوزارة السعدية أن تشرع في إصلاح ميناء السويس، وفي مد السكك الحديدية بالوجه البحري والتمهيد لتوسيعها بين الأقصر وأسوان، وفي إنشاء الطرق الهامة بالقاهرة كطريق الأزهر وطريق الأمير فاروق، وما شابه ذلك من أعمال العمران، وأن تشرع في تعميم التعليم الإجباري حسبما تتهيأ له موارد الدولة، ولم تُحجم عن تشييد الجامعة المصرية إلا لأنها كانت تفهم من معنى الجامعة أن تجعلها شيئًا غير اجتماع المدارس العليا في صعيد واحد، كما قال سعد في حديثه مع كاتب هذه السطور عندما كان ناظرًا للمعارف العمومية، أو كما قال وهو رئيس للوزارة: «إنَّ الذي أفهمه أنَّ الجامعة — بمعنى اجتماع المدارس العليا — موجودة الآن، وهي وزارة المعارف!» وهو يعني أنَّ الجامعة التي يريد إنشاءها — وقد وضع حجرها الأول يوم كان قاضيًا بمحكمة الاستئناف — هي الجامعة التي تُعلم الطلاب الاستقلال بالبحث والتوسع في الإحصاء، ولا تكتفي بالبرامج المعهودة في المدارس العالية قبل إنشائها.
تُرى ماذا كان شعور سعد بسلطان الحكم الذي جلب عليه جميع هذه المتاعب وحمَّله جميع هذه الأعباء وأحاطه بجميع هذه الدسائس والنكايات؟ أسرور؟ نعم! لا شك أنه تقبل سلطان الحكم في بادئ الأمر بشيء غير قليل من السرور والرجاء، ولكنه سرور غير سرور الضعيف المزهو بمرتبة رفعته، أو ارتفع هو لها بين سائليها والمتطلعين إليها، وإنما هو سرور الانتصار على الذين حسبوا أنهم حائلون بينه وبين هذا المكان عنوة وقهرًا، فإذا هو يدركه بحوله وقدرته ولا يحتاج فيه إلى شفاعة شافع أو معونة معين؛ فهو شعور الظافر في الميدان والرابح في الرهان، لا شعور الكسب أو المتعة بالعطاء!
ولكنه سرعان ما فقد حتى هذا السرور قبل أن يستقيل ببضعة أيام؛ ففي الليلة التي استرد فيها استقالته كنت أتناول العشاء على مائدته مع بعض المدعُوِّين، وكانت الطرقات حول «بيت الأمة» تموج بالهاتفين والمهنئين، وهو في موقف خليق أن يحسبه انتصارًا على الخصوم، ونجاحًا فيما طلب وفاتحة لعهد جديد. فتحولنا بالحديث إلى الحكم ومتاعب الحكام الدستوريين والمستبدين على السواء … فقال رحمه الله وهو يزم شفتيه في امتعاض وأسف: «إن أردتم الحقيقة … أنا غير ملذوذ!» وهكذا حوافز الحياة، أقوى ما فيها من عزاء للأقوياء العاملين أنهم قادرون على النهوض بها وقادرون على احتمال صدماتها وعقابيلها، ولولا ذلك لما ثابروا على رجائها ولا ثابروا على عنائها والعودة إليها، أما سرورها فهباء لا فرق فيه بين الأقوياء العاملين والضعفاء الحالمين.
ويلي هذا الفصل فصل عن العلاقات بين الملك فؤاد وسعد، يليه تلخيص الحوادث التي جرت في مصر بعد استقالة الوزارة السعدية إلى عودة الحياة النيابية كما يأتي.