رئاسة مجلس النواب
كانت رئاسة مظلوم باشا لمجلس النواب الأول مشهورة بضرب الجرس لحفظ النظام؛ بحيث يصح أن يقال إنَّ الجلسات — ما لم يحضرها رئيس الوزارة، أو تحتدم فيها المناقشة لأمر يشغل النواب — كانت مقسومة بين لغط الرئيس بدق الجرس ولغط النواب بالكلام.
وأذكر أنَّ زميلنا الأستاذ محمود عزمي حرمه مجلس النواب تذكرته التي يحضر بها المجلس لِمَا كان يكتبه عنه من القوارص والغمزات؛ فانتقل إلى مجلس الشيوخ واستمر على نشر أخبار مجلس النواب، وهو يزعم أنه يتلقى تلك الأخبار من طريق المكاشفة والتنويم! فلقيته يومًا بمجلس الشيوخ وسألته أن يُريَنا معجزة من معجزاته على سبيل المداعبة … فيذكر لنا ما يجري الساعة في المجلس الآخر، فهام بنظره قليلًا كأنما يستطلع الغيب وقال: مظلوم باشا يدق الجرس! قلنا جميعًا: آمنا لك بالمكاشفة … ما في ذلك جدال!
ففي عهد رئاسة سعد للمجلس بطل دق الجرس أو كاد، ولاحظ المختلفون إلى المجلس في العهدين أنَّ الجرس قد أصبح من الأدوات النيابية الملغاة، وكان الأجانب والمصريون على السواء يقولون: ليس هنا مجلس ورئيس، ولكنه معلم محبوب بين تلاميذ مطيعين.
ولم يكن سعد يستعين في حفظ النظام بنصوص القانون ولا بحق الرئاسة في منع الكلام وفض المناقشات، إنما كان يستعين بسلطانٍ هو أشد رهبة من جميع النصوص والحقوق، وهو سلطان العارضة القوية والفكاهة الحاضرة؛ فكان العضو من الأعضاء يقول قولًا سديدًا أو يصمت؛ لأنه يخشى إذا أطلق لسانه بغير السداد أن يُستهدف على الأثر لجواب مفحم أو نكتة لاذعة من منصة الرئاسة.
حدث لما ذهب ثروت باشا إلى لندن لمصاحبة جلالة الملك والتماس الفرصة الملائمة لفتح باب المفاوضة في القضية المصرية؛ أنَّ عضوًا من الأعضاء الذين يخالفون مبدأ المفاوضة من أساسه وجَّه استجوابًا إلى نائب رئيس الوزارة، يستوضح فيه موقف ثروت باشا في لندن، ويحرج الوزارة إحراجًا لا تملك الجواب فيه؛ لأن المفاوضة لم تكن هي الغرض الرسمي لسفر ثروت باشا، وإنما كانت بغية متفقًا عليها بين ولاة الأمر يرجى أن تتاح لها الفرصة الملائمة بعد جس النبض واستطلاع الأحوال، فإذا قالت الوزارة — ردًّا على الاستجواب — إنها ستفاوض أو إنها لا تفاوض، فليس في ذلك تسهيل لما كانت تنويه.
وألح كثير من الأعضاء على صاحب الاستجواب أن يلغيَ استجوابه، فلم يفعل ولم يستمع وجنح إلى الإحراج والعناد، وأشار الوزراء بالمطاولة والمراوغة في عرض الاستجواب، فأبى عليهم سعد أن يخالف نظام المجلس، وقال لهم: بل يعرض الاستجواب، ونعالجه بما يستحقه الإحراج والعناد.
وجاء الموعد المحدد وتُليَ الاستجواب، وانتظر العضو المحترم جواب الوزارة، وهو موقن بأنه قد وضعها في الفخ الذي لا خلاص منه بغير إحباط المفاوضات، ولكنه لم يكد يتهيأ لسماع الجواب المأمول، حتى فاجأه وزير الحربية — باتفاق سابق مع سعد — قائلًا: «إنَّ هذا الاستجواب موجه إلى شخص غير موجود.»
وقال سعد: «ما قول حضرة العضو المحترم في ذلك؟ في الواقع أنه لا نائب لجلالة الملك ولا لرئيس مجلس الوزراء!»، فسأله صاحب الاستجواب: «أيؤخذ من ذلك أنَّ الحكومة لا تريد أن تجيب؟» فقال سعد: «ليست المسألة مسألة إرادة أو عدم إرادة، وإني أَلْفِتُ حضرة العضو — فضلًا عما ذكرته — إلى أنَّ الاستجواب يحتاج إلى ثمانية أيام حتى لو كان مستوفيًا جميع الشروط، والدورة البرلمانية على وشك الانتهاء، فهل لا يرى العضو المحترم أنَّ تأجيله أولى؟»
أما سر الغلطة في شكل الاستجواب، فهو — كما رأى القارئ — أنه كان موجهًا إلى «نائب رئيس الوزراء»، ولم يصدر عند سفر ثروت باشا أمر رسمي بإنابة أحد عنه في رئاسة الوزارة اكتفاءً بأن يؤديَ عمله في وزارة الداخلية أقدم الوزراء الموجودين عهدًا بالمناصب الوزارية.
قال صاحبنا: «كيف؟! أليس هنا فلان باشا؟»
فقال سعد: «نعم، ولكنه ليس بنائب رئيس الوزراء!»
فتردد صاحبنا وصاح مذهولًا: «إذنْ من نسأل؟»
قال سعد: «اسأل محاميًا!»
وقعد الرجل بين القهقهة والضجيج، وتأجل الاستجواب إلى موعد غير مسمًّى بموافقة العضو المحترم!
وتناقش المجلس في قانون خلط الأقطان، وفيه عقوبة مفروضة على من يخلطون صنفًا منها بصنف، فنهض أحد الأعضاء وقال: «ولكنْ، ألا يتفق أن يسهوَ أحد فيحصل الخلط على غير قصد منه؟»
فضحك سعد ضحكته المعروفة وقال: «نعم يا حضرة العضو المحترم، يتفق! ولكن أتقدر حضرتك أن تقول لنا كم كيسًا من القطن تملؤه وأنت ساهٍ عن نفسك؟!»
وطلب بعض الأعضاء إنارة طريق مقفل وعزز طلبه بأن القتيل يُقتل هناك في وضح النهار.
فعاجله سعد سائلًا: «ولماذا تطلب أن يُنار؟!»
وبهذه الأجوبة الحاسمة وهذه الفكاهة السريعة، كان يحفظ النظام في المجلس، ويحفظ الألسنة في الأفواه.
واستطاع من ثَمَّ أن يقف في ميدان الفصل بين جميع السلطات وجميع الهيئات، فيفصل بين الأعضاء من أنصاره ومعارضيه، ويفصل بين المجلس والوزارة، ويفصل بين الوزارة والإنجليز، ويمشي بالوئام بين القصر والنواب والوزراء، ويأخذ من كلٍّ لكلٍّ حسبما تتجه الحوادث، وتتبدل الأحوال.
ومن أخطر الأزمات التي وقعت في أثناء رئاسته لمجلس النواب وعالجها بما له من النفوذ والحنكة أزمة الوزارة العدلية، وأزمة ميزانية الأزهر، والمخصصات الملكية، وأزمة الجيش التي أثارها اللورد جورج لويد عقب الحملة التي حملها عليه مجلس النواب.
فأما أزمة الوزارة العدلية فقد نجمت من اقتراح اقترحه بعض النواب لشكر الوزارة على مساعدتها بنك مصر، ثم قيل في الرد على هذا الاقتراح إنَّ الشكر غير لازم؛ لأنه من قبيل تحصيل الحاصل. فاغتنم عدلي باشا هذه المناسبة واستقال؛ لأنه كان على ضجر وامتعاض من مطالب اللورد جورج لويد التي لا تجري على قانون ولا اتفاق.
وبذل سعد باشا زغلول جهده في إقامة وزارة أخرى — هي الوزارة الثروتية — قبل أن يتسع الأفق للدسائس والمناورات التي لا تنقطع في السياسة المصرية.
والذي نعتقده نحن أنَّ أزمة الوزارة العدلية وافقت رِضًى من سعد في تلك الآونة؛ لأنه لم يستحسن من عدلي تهديده بالاستقالة إذا تعرض المجلس لتصرفه في مسألة كتاب «الشعر الجاهلي» للدكتور طه حسين، ولم يكل إليه الرأي كله في هذا التصرف. وقد كان علي الشمسي باشا وزير المعارف من قِبل الوفد، وكان رأيه كرأي عدلي باشا في هذه المسألة على خلاف المظنون والمقدور، فكان نصيبه أيضًا من المجلس تجريح قوانينه التي عرضها لتعديل برامج الدراسة، وإفهامه من ثَمَّ أنَّ اضطرار وزير إلى الاستقالة أمر غير عسير، ولو دخل في حماية رئيس الوزراء وحسب له حسابًا قبل حسابه لزعيمه.
وسلك سعد في مسألة ميزانية الأزهر ومسألة المخصصات الملكية مسلك المجاملة للقصر مع المحافظة على نص الدستور؛ فقد كان كثير من النواب يلحون في وجوب عرض الميزانية الأزهرية على المجلس، وكان المجلس يكاد أن يتخذ قرارًا بتأييد هذا الطلب؛ فذكر لهم سعد أنَّ الدستور ينص على أنَّ المعاهد الدينية تنظَّم بقانون؛ فالاقتراح سابق لأوانه قبل وضع ذلك القانون.
وفي مسألة المخصصات الملكية، كان بعض الأعضاء ينسى الدستور، ويطالب الحكومة بنقصها في الميزانية، وهو ما لا يجوز؛ لأنه مخالف للمادة المائة والحادية والستين من الدستور، فكان سعد يسمح للأعضاء بالمناقشة في هذه المسألة ويمنع الشطط فيها، ويكتفي بتوجيه المجلس إلى التماس تعديل المخصصات من جلالة الملك رعايةً للاقتصاد، ويصبغ احترام النصوص التي لا محيص عنها بصبغة المجاملة على هذا المنوال.
أما أزمة الجيش، فهي أعجب الأزمات وأدلها على العنت الذي يلقاه السَّاسة المصريون من ألاعيب السياسة البريطانية؛ حيث تعمد إلى خلق الأزمات؛ فكل ما حدث من أسباب هذه الأزمة أنَّ لجنة الحربية في مجلس النواب اقترحت زيادة عدد الجيش وتحسين سلاحه، وهو اقتراح قديم عرضه سبنكس باشا نفسه في عطلة الدستور، وليس فيه خروج على حدود النيابة ولا سوابق الاتفاق بين الحكومتين المصرية والبريطانية.
إلا أنَّ المندوب السامي كان موتورًا من المجلس ومن الشعب؛ لأنهم استنكروا منه أن يباشر عمله دون أن يقدم أوراقه كسائر السفراء والوزراء المفوضين، كما استنكروا رحلاته إلى الأقاليم واستقباله الأعيان والوجهاء كأنه ملك يستقبل رعاياه. وليس للمجلس بد من هذا الاستنكار؛ لأن سكوته عنه أمر غير مفهوم إلا على معنى الإقرار والتفريط في أمانته الوطنية وأمانته الدستورية، ولكن اللورد جورج لويد لا يعرف عذرًا لأحد في معارضة أهوائه وبدواته، ولا يرى للمصريين — حكومة ونوابًا وشعبًا ومتطرفين ومعتدلين — إلا أن يذعنوا لتلك الأهواء والبدوات … فكظمها في صدره حتى سنحت مناسبة كأنها لا مناسبة على الإطلاق … وراح يمطر الحكومة المصرية باحتجاجاته الشفوية والكتابية، ويطلب منها ما لا طاقة لحكومة في الدنيا بقبوله، وهو مد خدمة سبنكس باشا ثلاث سنوات ومنحه رتبة الفريق، وتخويله السيطرة على الضباط في الترقية والتعيين، واتصاله المباشر بجلالة الملك، وتعيين وكيل له ووكيل للوكيل من الإنجليز! وغير ذلك من المطالب التي أقلقت الحكومة والمجلس، وأضاعت عليهما الوقت في غير طائل … فإن خضعت الحكومة لهذا، وإلا فالبوارج البريطانية على شاطئ الإسكندرية، وأرواح الأجانب في خطر داهم! وإن قالوا هم ونادى بعض سفرائهم بأنهم في أمان يعيشون بين المصريين معيشة الإخوان!
وقام وزير الخارجية البريطانية السير أوستن شامبرلن بمجلس النواب البريطاني فقال في بيان أسباب الأزمة: «إنَّ أنظار فريق من رجال السياسة في مصر اتجهت إلى الجيش منذ زمن، وهم يرمون «أولًا» إلى زيادة الجيش الحالي، و«ثانيًا» إلى اتخاذه سلاحًا في يد حزب سياسي، ولا ريب أنَّ هذه المساعي من المسائل التي تهم الحكومة البريطانية مباشرة؛ لأن الدفاع عن القناة من المصالح الجوهرية، وحماية الأجانب من العهود التي قطعناها على أنفسنا.»
إلى أن قال: «والحكومة البريطانية على استعداد للشروع توًّا في فتح باب المفاوضات للوصول إلى هذه الغاية، وهي الاتفاق على المسائل المختلف عليها، ولكن علينا إلى أن يتم ذلك الاتفاق أن نُصِرَّ على بقاء الضمانات التي دلت الخبرة الماضية على أنها فعالة!» نعم … وعلى المصريين طبعًا أن يفهموا أنه لا سلامة من هذه الأزمات حتى يساقوا سوقًا إلى المفاوضات!
وبعد محال وجدال استقر الرأي على إجابة بعض المطالب، وهي ترقية سبنكس باشا ومد خدمته وتعيين وكيل له، وانتهت أزمة من تلك الأزمات التي تُخلق من الهباء ويضاع فيها الوقت على ساسة المصريين، ثم لا يسلمون بعدها من اللوم والاتهام بالتقصير في أعمال الإنشاء والإصلاح! وقد بذل سعد من الجهد في تهدئة النواب والجمهور ما ليس يقدر على بذله سواه، وكان موضع الملاحظة عليه من بعض أنصاره — ومنهم كاتب هذه السطور — أنه يشتري الدستور بأغلى من ثمنه، ويطيل المسألة حيث لا يرجى أن تقابل بمثلها أو يكف عن العدوان.
ويلوحون لنا بعهد كرومر وإلغاء الدستور، وما عهد كرومر بشر من دستور كهذا لا ينال المصريون منه إلا التبعات الجسام، ولا يجنون منه إلا الأباطيل والأوهام. فإما أن نسلم للإنجليز بكل زعم يزعمونه وكل مطلب يدعونه، وإما أن ينسخوا الدستور ويعبثوا بالعلاقات بين الشعب والعرش والبرلمان. ثم ماذا نأخذ نحن من هذا الدستور الذي يسوموننا فيه هذا السوم الغشوم؟ لا شيء على الإطلاق. نعم! لا شيء إلا الضرر والمحال مشفوعًا بالفرقة والانقسام.
وإنما ذكرت هذه الملاحظات لأذكر رد سعد عليها وحجته في ردها، فقد كنت إذا حدثته فيما يلاحَظ من فرط الحرص على الدستور أمام التهديد والوعيد يقول لي: «ليذهب الدستور حيث يذهب … هذا حسن. ولكن يجب أن نذكر أنَّ الإنجليز قادرون على تضييع جهودنا كلها في طلب الدستور، وأنهم لولا رغبتهم فيه لضاع علينا ما سلف من جهود. يا فلان! إنَّ في صلب الدستور كلمات لا تزال مكتوبة بخط موظف إنجليزي في دار المندوب.»
وحجته في موقفه من أزمة الجيش خاصة، أن تضييع الدستور من أجلها عجلة لا تقضي بها الضرورة. ومتى كان القوم يشيرون إلى المفاوضة بلسان وزيرهم، فلا ضرر من إرجاء الخلاف كله بضعة أشهر إلى أن نتفق على قرار، أو يذهب الدستور إلى حيث يذهب كما تقول.
وعلى ضيق الوقت وغلبة الشواغل السياسية والأزمات المصطنعة، قد اتسع المال لأعمال شتى ومقترحات صالحة، كإلغاء السخرة وتعميم التعاون بين الفلاحين، وفتح الطرق ودرس مشكلة العمال، وما إلى ذلك من مطالب الإصلاح الاجتماعية.
غير أننا لا نريد هنا أن نسرد سجلًا للأعمال والمقترحات التي أشرف عليها سعد في أثناء رئاسته لمجلس النواب، فإن هذه الأعمال والمقترحات قد يشرف عليها كثيرون من رؤساء المجالس النيابية، ثم لا يمتازون بقدرة غير معهودة في الرؤساء عامة، إلا أنَّ الغاية التي ما بعدها غاية في هذه الصناعة أن يستويَ المرء فيها على مستوى الواجب كما يتخيله المتخيل ويصبو إليه المتأمل.
والمثل الأعلى في الرئاسة هو الرئيس الذي يملك القدرة على القصد في أوقات المجلس والقصد في جهوده، ويملك القدرة على حفظ نظامه بغير حاجة إلى زواجره وقوانينه، ويملك القدرة على تعليم أعضائه وهدايتهم إلى أكبر ما يستطيعون من صواب وأقل ما يتعرضون له من خطأ.
ويكون مع صيانته لحقوق مجلسه قائمًا بالقسط بينه وبين جوانب الحكومة الأخرى، مانعًا للصدام بينه وبين ما يحيط به من القوى والعراقيل؛ فبهذه القدرة استحقت رئاسة سعد أن تُحسب مزية من مزاياه وصفحة من صفحاته، لا أن يكون مبلغها من الذكر استقصاء جزء من تاريخه والإلمام بعام أو عامين من حياته.