زعامة سعد وأثرها
يقول لنا علماء التوحيد: إنَّ المعجزة الكبرى لنبي من الأنبياء هي المعجزة التي تطابق خلائق الأمة المبعوث فيها؛ فموسى بعث بالعصا الساحرة في أمة السحر والكهانة، وعيسى بعث بآية الشفاء في أمة المصابين والضعفاء، ومحمد بعث بالقرآن في أمة الفصاحة والبيان، فلكلٍّ منهم معجزة تطابق أحوال قومه وتستمد الإقناع من معدنه وأصله.
فما أصدق ما يقول العلماء فيما رأيناه في عصرنا من سير الزعماء! فغاندي كان خير زعيم على أهل الهند؛ لأنه ناسك من أمة الناسك، ومصطفى كمال باشا كان خير زعيم بين الترك؛ لأنه جندي من أمة الجنود، وسعد كان خير زعيم في مصر؛ لأنه فلاح من أمة الفلاحين. وحسبك أن تعمد إلى نموذج الفلاح المصري فتضاعف ما فيه من خلائقه وعاداته وخصائص بيئته لترى أمامه سعدًا ماثلًا في عظمته المصرية، قائمًا على مرتقى المثل الأعلى لتلك الخصائص القومية، وليست آية أفصح من هذه الآية على صدق النهضة السعدية وجريانها مع طبائع الأمور.
وقد اجتمعت لسعد من مزاياه الشخصية ومن توفيقات العصر في حياته صفة الزعامة الواجبة على المصريين، أو الزعامة الملائمة لأطوار النهضة الأخيرة في هذه الأمة.
فهو — لأنه كان فلاحًا من أصحاب المراتب العالية — قد استطاع أن يجمع حوله السواد والعلية من أبناء الفلاحين، وهو قوام الأمة المصرية.
ولأنه كان صديقًا لقاسم أمين على رأيه في تهذيب المرأة، قد استطاع أن يقود النهضة الأولى التي اشترك فيها الرجال والنساء، وشملت الأمة كلها؛ لأنها شملت البيت كله.
ولأنه كان يطلب الاستقلال من الترك كما يطلبه من الإنجليز، فقد استطاع أن يمحوَ الفوارق الدينية والعصبية المذهبية في الحركة الوطنية؛ لأن المسيحيين والإسرائيليين قد علموا أنهم شركاء في دعوة واحدة، وليسوا مسوقين مع حركة دينية يطلب دعاتها سيادة الترك لأنهم مسلمون، وإنما الحق أن يطلبوا السيادة المستقلة لأنهم مصريون.
ولأنه كان حاضر الفتوة، وافر الحماسة في الشباب والكهولة والشيخوخة، قد استطاع أن يقود الشبان المتلهبين كما يقود الشيوخ المحنكين، أو استطاع أن يجمع الجيلين في ثورة واحدة، وقلما يجتمعان.
مما عُهد في الزعماء الشرقيين أنهم يعتزلون العمل قبل زملائهم الغربيين، إلا زغلولًا؛ فإنه احتفظ بنشاطه الغزير إلى النهاية، وليس بين الثائرين المتطرفين في التاريخ إلا عدد قليل بقيت له عقيدته السياسية على شدتها وعنفوانها بعد الخمسين، ولكنه هو بلغ أقوى ما بلغ من السلطان على الجماهير عندما ناهز الستين، وكأنما كان تقدمه في السن يزيد من حماسة الشباب ونزواته! على أنَّ مفاجآت طبيعته وأطوار حياته وتقلبه في تحصيل العلم بين الفقهاء العرب والأساتذة الفرنسيين، ومضاء عزيمته وفصاحته، وما كان من الأثر على تربية ذهنه لأناس بينهم من الاختلاف مثل ما بين جمال الدين داعية الجامعة الإسلامية واللورد كرومر؛ كل هذا لا يكفي لتفسير قبضته الغربية على شعب كثير التحول. فإن وراء كل هذا، وفوق كل هذه العوامل المؤهلة للنجاح قدرة خاصة قيضت له ذلك النفوذ على أبناء وطنه، ومغناطيسية شخصية تجذب إليه الألوف من التابعين.
وقد أدى البحث في أصل سعد إلى اختلاف الأقاويل بين قائل يزعم أنه من البدو، وقائل يزعم أنه من المغاربة، وقائل يزعم أنه ليس من هؤلاء ولا هؤلاء، ولكنه يشبه الترك في بعض الملامح والأخلاق، فليختلفوا ما شاءوا، وليعزز كلٌّ منهم أقاويله بما شاء؛ فإن الحقيقة التي لا تقبل الجدل الكثير أنَّ صفات سعد التي لا شك فيها هي أصلح الصفات لزعامة المصريين، وأنَّ مزاياه الشخصية وتوفيقات زمانه السياسية والاجتماعية قد جعلته الزعيم المصري الذي ليس بين معاصريه أحد أجدر منه وأولى بالزعامة، وذلك وحده كفيل بتقرير مكانه كما قرره لنفسه وقررته الأحداث والتوفيقات.
فهو في طبيعته العملية، وفصاحته المقنعة، وفكاهته المرتجلة، وعزيمته الماضية، وسماته المهيبة، ومنزلته الرفيعة، خير من ترشحه مصر لزعامتها من صميم تكوينها، وإنه لأصل في زعامة الشعوب ليس بعده رسوخ ولا عمق في الأصول.
كان ساحرًا للفلاح الساذج وابن البلد الظريف؛ سمعه فلاح من قنا في الاحتفال بعيد النيروز فبكى، ثم أفاق لنفسه وهو شيخ لم يتعود أن يبكيَ إلا لحادث يصيبه في آله أو ماله؛ فطفق يعجب لنفسه ويسأل من حوله: ما بالي أبكي؟! أمات أبي؟! أماتت أمي؟! أغرقت مراكبي؟! أأجدب زرعي؟! وما لهذا الرجل يُبكيني؟! أساحر هو؟! أفاتن هو؟! والله لا أدري! ولكن الفلاح الساذج الحائر في بكائه قد بيَّن لنا أوجز البيان أنَّ سلطان سعد على النفوس المصرية حادث كحوادث القضاء والقدر، أو هو من قبيل الحوادث التي تحرك تلك النفوس وتهزها في أعماقها، أو هو من قبيل تلك العوامل التي ظن الفلاح الساذج أنها هي وحدها خليقة أن تسيل الدموع من عينيه.
وسمعه مصري من أبناء البلد يخطب في نادي «سيروس» ويضحك ضحكته العالية من خصومه؛ فما تمالك أن صاح: «يا سلام يا باشا! ضحكتك حلوة، حلوة جدًّا الله! الله!» فما ترك سعد هذا التعقيب «البلدي» على ضحكته الساخرة أو الساحرة دون أن يشفعه بتعقيب من جنسه، وهتف بالحاضرين في طلب السكوت كما يناسب المقام: «سمع، سمع هس!»
فمواقف الخطابة أو مواقف الزعامة لم تكن عند هذا الزعيم إلا تيارًا جارفًا ينبعث من قرارة وجدانه، فيحتوي الحاضرين في غمراته ويردهم إلى عنصرهم الأصيل؛ فيشعرون على البديهة أنهم وهذا الزعيم من موطن واحد في الشعور وموطن واحد في الإرادة وموطن واحد في الجد والفكاهة، غير أنه يقدر من حيث لا يقدرون، أو يقدر وهم من ورائه تابعون.
والزعامة إذا بلغت هذا المبلغ من الأصالة كانت قوة مطبوعة — بل فرصة إلهية — لا تفرط فيها أمة رشيدة، ولا تقدر على التفريط فيها أمة ولو كان ديدنها التفريط؛ لأن الأمر في هذه الزعامات من وراء المشيئة والتدبير.
وقد يكون في الأمة عشرات أو مئات يقاربون ذلك الزعيم في جملة الصفات، أو يفوقونه في بعض الصفات، لكنهم لا يغنون ولا يعوضونه وهو واحد وهم عشرات أو مئات؛ لأن الفضل في الزعامة للدرجة والنوع لا للعدد والكثرة، والشأن هنا كالشأن في درجات الجمال؛ لو اجتمع ألف وجه على اعتدال في المحاسن لَمَا بلغت كلها من الأثر والفتنة ما يبلغه الوجه الواحد الفائق في حسنه، ولا لوم على القلوب إذا هي آثرت أن تفتتن بذلك الوجه الواحد أضعاف ما تفتنها تلك الوجوه الشتى؛ لأن الطبيعة لا تُحس إلا هكذا، ولا يحسن بها ولا ينفعها أن تنحرف عن سوائها، وكل إحساس مطبوع فهو قوة مطبوعة نافعة في إيقاظ قوى الأفراد وقوى الشعوب، ومتى كان سبب التأثير طبيعيًّا، فالتأثير لا جرم طبيعي لا اصطناع فيه، وإنما الآفة الكبرى أن تكون الزعامة من توليد الاصطناع والمواربة والتمويه والتواطؤ على الغش والمغالطة والانتفاع؛ فإنها تكون حينئذٍ كالصحة التي تصنعها المخدرات ليست من الصحة وليست من الشفاء، ولكنها من السقام.
لما نهض سعد بالدعوة الوطنية، لم تكن مصر خالية بطبيعة الحال من أولئك «المُحكِّمين» الأزليين، أو أولئك المتحذلقين أحلاس القهوات الذين يُخطِّئون كل عمل، ويُخطِّئون كل رجل، ويُخطِّئون كل رأي، ولا يحسبون الأمور في الدنيا تجري أبدًا إلا على خلاف ما يحكمون ويستحسنون … ثم لا يعرفون بعد ذلك أنهم هم المخطئون.
كان هؤلاء المُحكِّمون الأزليون يرون كل إنسان في مصر صالحًا للزعامة إلا الزعيم القائم بها في حينها؛ لأن أصول الصناعة تقضي بذاك، وإلا لم تكن هناك صناعة ولم تكن هناك قهوات … ولم يكن هناك مُحكِّمون.
أفما كان زيد أولى بحل القضية المصرية لأنه مقرب من الإنجليز؟ أفما كان فلان أولى منهم جميعًا لأنه خليفة فلان؟ ولعلهم لو طولبوا بالاتفاق فيما بينهم لما انتهوا إلى اتفاق؛ لأن الثرثرة لم تكن قط وسيلة الاتفاق، وإنما كانت وتكون أبدًا وسيلة المحال والشقاق.
وأوجز ما يوصف به هؤلاء — على أحسن الظنون بهم — أنهم كسماسرة الزواج؛ كل خطيب عندهم غير أهل لخطيبته، وكل خطيبة عندهم غير أهل لخطيبها، إلا أن يكون لهم نصيب في الوساطة والمهر والوليمة؛ وعندئذ يكون كل خطيب وخطيبة في الدنيا على ما يرام.
وإذا حاورتهم باصطلاح سماسرة الزواج، فليس بالنادر أن يصيبوا من حيث يخطئ الأزواج والأصهار؛ فهذا الفتى الممقوت خير من جميع الفتيان؛ لأنه يملك المستقبل وينتظر الميراث، وهذه الفتاة الدميمة السقيمة خير من جميع الفتيات؛ لأنها تدخل إلى بيت قرينها والوظيفة معها بجاه أبيها أو ذويها، وهذا الشيخ خير من جميع الشبان؛ لأنه غدًا يموت، وهذه المرأة النصف لا تضارع في بيت القرين؛ لأنها تغنيه ولا تحاسبه على ما يبقيه ويفنيه … نصائح نافعة من حيث ينظر السمسار وأشباه السمسار، ولكن النصائح التي هي أنفع منها وأغلى هي النصائح التي يستمع إليها الناشئ الصغير بإلهامه والناشئة الصغيرة بإلهامها؛ لأنها هي النصائح التي توحي بها الفطرة الخالدة وتنوط بها بقاء الحياة وتقدم الأحياء.
وهذا الإلهام هو الذي استمعت إليه الأمة المصرية، ولم تستمع إلى حكمة السماسرة وأحلاس القهوات؛ فما كانت تلبية سعد إلى ندائه سبيلًا إلى المنافع، أو سبيلًا إلى الوظائف، أو سبيلًا إلى الراحة والاطمئنان، ولكنها كانت على نقيض ذلك: مضيعة للمنفعة والوظيفة، مجلبة للمحنة والبلاء؛ فطاعتها هي من قبيل الطاعة التي يلهمها الناشئ والناشئة لصوت الفطرة ودعاء السريرة. يخطئ من يسمعها في بعض الأحايين من الوجهة الدنيوية، ويخطئ ألف مرة من يصم عنها أذنيه من وجهة الحياة الباقية والحكمة الخالدة، وإن كان خطؤه لا يظهر له ولا للآخرين؛ لأن الذي يفقد الكمال لا يشعر بفقد الكمال، أو لا يعترف بخسارته كما يعترف فاقد الخبز والحطام.
وإذا ظفرت الأمة بالزعيم الذي تكون طاعته من قبيل هذا الإلهام، فتلك هي الزعامة التي تنتظرها الأجيال بعد الأجيال، وتلك هي الفرصة التي يُخشى عليها الضياع؛ لأن الزعامة التي تكون طاعتها من قبيل الاهتداء بحكمة السماسرة وأحلاس القهوات هي فرصة لن تضيع؛ إذ هي فرصة موجودة كوجود المنافع وعلم الحساب في كل مكان.
هذا الإلهام الفطري هو الأثر الأكبر لزعامة سعد زغلول، وهو شيء لا يدخل في الإحصاء والأرقام، ولكنه مع هذا شيء لا غنى عنه لكل منفعة أو مصلحة يدركها الإحصاء وتحصرها الأرقام.
والزعيم لا يحاسَب في التاريخ بحساب الدفتر الذي يحمله الأجير؛ فلا يُعطَى فيه درهمًا إلا بما يقابله من عمل في ساعات النهار. إنَّ الرجل الذي لا تظهر مآثره إلا بهذا الحساب لهو أنقص الناس من صفات الزعامة وقيادة الشعوب؛ لأنه إذنْ يعمل بيديه كما يعمل الآخرون، ويتلقى جزاءه كما يتلقاه سائر الناس، ويحاسب بمفرده بما يدعو الناس إليه؛ وإنما يحاسب الزعيم حساب الشمس التي تشرق على الحقول، أو حساب النهر الذي يجري بين الأعشاب والأشجار؛ لا يضرب كلاهما فأسًا ولا يغرس جذرًا ولا يخط سطرًا بهندسة، ولا يبني جدارًا على حوض أو خزان، ولكن الضاربين بالفئوس جميعًا والغارسين للجذور جميعًا والعاملين في الهندسة والبناء جميعًا لا ينبتون سنبلة واحدة بغير الشمس والماء.
فإذا استطاع هذا الزعيم أن يبث هذا الروح أو يوقظه أو يجمعه حواليه، فكل ما تنشئه الأمة — وهي مأخوذة بهذا الروح — فهو من عمله وصنع يديه. أما إذا كان عمله كله هو ما يعمله بنفسه ويرسم عليه طابع يديه، فما هو بزعيم.
وسعد زغلول قد بث في مصر هذا الروح، أو هو قد أيقظه، أو هو قد جمعه حواليه؛ فكل ما نهضت به الأمة من اشتغال بالصناعات، أو مصارف الأموال، أو شركات التجارة، أو معاهد التعليم، أو مجامع السياسة مما لم يكن فيها قبل تلك النهضة، ففيه سهم لا ينكَر لزعامة سعد زغلول.
هذه الزعامة هي التي التقى حولها المصريون فعلموا أنهم أمة، وعلموا أنهم مسلمون ومسيحيون ولكنهم أمة، وأنهم رجال ونساء ولكنهم أمة، وأنهم شيب وشبان ولكنهم أمة، وأنهم حضريون وريفيون ولكنهم أمة؛ فانبعثت للأمة حياة ماثلة إلى جانب حياة كل فرد وكل طبقة وكل طائفة وكل جنس وكل دين، ورأينا الأيام التي نسي فيها اللص أنه سارق ولم يذكر إلا أنه مصري من المصريين، ونسيت فيها البائسة الموصومة أنها متاع مهين ولم تذكر إلا أنها مصرية تطالب بقضية، وفهم حتى هؤلاء أنَّ هنالك معنًى من معاني الرفعة الإنسانية يسمى الشرف ويسمى الحياء، بل رأينا السنين التي لبث فيها المئات والألوف يسامون الخسار، فيقبلون الخسار ولا يقبلون المراء في العقيدة، ويُخيَّرون بين منفعة النفس ومنفعة الأمة التي يدينون بها، فيختارون منفعة الأمة ولا يحفلون بمنفعة النفس ولا بمنافع الآل والبنين. وتلك غنيمة قومية لا تدخل في حساب الأرقام، ولكن الأمة التي تهملها وتبخس قدرها لا تدخل هي نفسها في حساب.
وسرى قبس من روح الوحدة المصرية إلى كل أمة في الشرق تعلم أنَّ شأنها في طلب الحرية كشأن المصريين، وأنَّ حاجتها إلى الوحدة الوطنية كحاجة المصريين؛ فظهر الوفاق بين الطوائف في بلدان، لم تعرف قط وفاقًا ولا رغبة في وفاق، وأصبح سعد زغلول عَلَمًا للنهضة الشرقية بأسرها لا للنهضة المصرية وحدها، ورمزًا لدعوة الوحدة في كل بلد ممزق بين العصبيات الداخلية والمطامع الأجنبية.
روى موظف مصري أنه لقي المهاتما غاندي في لندن حين زارها لحضور المؤتمر الهندي فيها، فجرى الحديث بينهما عن القضية المصرية، واستطرد إلى ذكر سعد فقال المهاتما: «إنني تتبعت سيرة هذا الرجل القدير من سنة ١٩١٩ إلى الآن، ولا يزال له في نفسي أثر عظيم، وأنا أعده قدوة وأراه بمثابة أستاذ.»
قال الموظف المصري: «ذلك تواضع منك، ولا ريب أنَّ الأمة المصرية أربعة عشر مليونًا، وأنت قد شملت حركتك ثلاثمائة وخمسين مليونًا من الناس.»
قال المهاتما: «على هذا التقدير يكون سعد هو صاحب الفضل في السبق والابتداء. ثق أنَّ الحركة الهندية سارت على أعقاب الحركة المصرية، إني اقتديت بسعد في إعداد طبقة بعد طبقة من العاملين في القضية الهندية، فلا تُعتقل طبقة منهم إلا لَحِق بها خلفاؤها على الأثر، وعن سعد أخذت توحيد العنصرين، ولكني لم أنجح بعدُ كما نجح فيه … إنَّ سعدًا ليس لكم وحدكم ولكنه لنا أجمعين.»
وأيًّا كان نصيب هذه الرواية من الصحة، فالحقيقة التي لا تحتاج إلى إثبات ولا استشهاد هي أنَّ الوحدة المصرية سابقة لكل وحدة في دعوات الشرق الوطنية، وأنَّ الوحدة المصرية مدينة لسعد بمزاياه التي توافرت له أو توافرت حوله فجعلته — دون غيره — أصلح الزعماء للزعامة على جميع المصريين.
لقد كانت الزعامة بداهة فيه تقابلها التلبية البديهة من الجماهير. كان يدبر ويقدر ويأخذ الأمور بالروية والنظر البعيد، ولكنه لا يعول على التقدير والتدبير بعض تعويله على البداهة التي ترتجلها الشعوب في غير تكلُّف ولا استعصاء، وعنده أنَّ العناية الإلهية تعمل في هذه البداهات المرتجلة ما ليس يخطر على بال؛ ومن ثَمَّ كانت كلمته التي يرددها كلما اتجهت الحوادث إلى غير اتجاهها المنظور، أو انفرجت الأزمات من غير مظنة الفرج المقدور: «إنها العناية، إنها العناية!» ويرفع بصره إلى السماء ولا يزيد.
أذكر في الأيام التي أعقبت عودته من المفاوضات مع مستر مكدونالد أننا زرناه وعنده الأستاذ حامد جودة المحامي يقترح عليه بعض الآراء.
فقال سعد بدعابته المعهودة: «يا حامد، أنا ختمت العلم! فهاتوا العمل الناجع، فلا حاجة بي إلى اقتراح.»
ثم قال: «ماذا تروننا صانعين في مواجهة الإنجليز؟»
قال أحد الحاضرين: «الإضراب العام يشترك فيه الموظفون حتى تجاب مطالب البلاد.»
فسأل الباشا: «وهل يقع هذا الإضراب؟»
فقال بعض الحاضرين: «يقع عامًّا.» وقال غيرهم: «يقع في بعض الجهات.» وخالفهم آخرون فقالوا: «إنه لا ينتظم ولا يطول.»
ولتعويل سعد على هذه البداهة كان لا يكرب ذهنه كثيرًا بهموم المستقبل، ولا يزيد على أن يعطيَها حقها من التفكير والروية، ثم يدع البقية للمفاجأة أو للبداهة أو العناية كما يقول. واطمئنانه إلى المستقبل من هذه الناحية كاطمئنان التاجر الغني الوطيد المكان الذي يعمل عمل الرجاء، ولا يضيره أن تفاجئه السوق بالهبوط أو الكساد؛ لأنها كيفما تقلبت واضطربت لن تجده إلا على استعداد للصعود والهبوط، وغيره قد يطمئن إلى المستقبل مع هذا الاطمئنان فيضيع ويبور، أما هو فالثروة التي لديه ضمان لا يعتريه خذلان، فمن فضول الوهم أن يكرب نفسه طويلًا بالوساوس والهموم.
كان لقومه مدد من عزمه، وكان لعزمه مدد من قومه، وكانا كالشحنتين الكهربائيتين كلتاهما بمفردها في سكون، ولكنهما لا يلتقيان حتى تندفع القوة الكامنة التي لا تندفع على انفراد.
ولم يكن أقدر منه على الاتجاه والتوجيه، إن لم يكن بوحي البداهة فبالكلام الذي يبلغ مبلغ البداهة من أخلاد سامعيه.
كان خصومه يدسون عليه في بيت الأمة أناسًا من المشاغبين الذين لا خلاق لهم ليلغطوا في مواقف التأثير والاحتدام، فيفسدوا الخطاب عليه وعلى السامعين، وكان الجمهور يحار في تأديب هؤلاء؛ لأنه لا يدري هل يتركهم فيفوته حظ السماع، أو يجاوبهم فينقطع الخطاب. وتمادى سليط من هؤلاء يومًا، فضاق الجمهور به ذرعًا وأخذوا بتلابيبه وبهم إشفاق من ضياع الخطبة، فهم يترددون ولا يدرون كيف يصنعون: هل يضربونه فيقع الاضطراب، أو يرسلونه فيعود ويجترئ أمثاله السلطاء على مثل عمله … وكخطف البرق تبدر الكلمة من سعد، فيكون فيها فصل الخطاب مع هذا السليط ومع من تحدثه نفسه من زملائه بركوب هذا المركب العسير، ويقول سعد: «لا يُضرب في بيتي!» ويترك مقام الخطابة! وكخطف البرق يفهم الجمهور ما يريد … وينقطع دابر هؤلاء السلطاء فلا يرجعون.
كتب سعد وهو في نحو العشرين من عمره في الوقائع المصرية — صحيفة الحكومة — يُشَهِّرُ بالاستبداد، ويحض الناس على دفعه، ويستشهد بقول النبي عليه السلام: «إنَّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده.» ويختم كتابته بقوله: «إنَّ شريعتنا شريعة سمحة، تأبى أن يتولى أمور ذويها من لا يراعون للشرع حرمة ولا يحفظون للسُّنة ذمة، وتُوجب الشورى على كلٍّ من الرعية والحاكم جميعًا؛ ذلك هو الحق، والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل.»
ويروى عن السيد جمال الدين الأفغاني أنه أمر تلاميذه بالكتابة في موضوع الحرية، فكان سعد — وهو أصغر التلاميذ سنًّا — أحسنهم كتابة في هذا الموضوع؛ فقال السيد: «إنَّ من علامة نشأة الحرية في هذه الأمة ألا يجيد الكتابة فيها إلا ناشئ كهذا الفتى!»
حضرته أثناء الحرب العظمى يسمع قصيدة حافظ العمرية، فما استعاد ولا صفق فيها لأبيات كما استعاد أبيات الشورى وصفق لها، حتى مال إليه محمد محمود باشا يداعبه قائلًا: «معلوم! وكيل الجمعية التشريعية.»
فكراهة الاستبداد في طبعه …
وقيادة الشعوب في طبعه …
ولو لم يكن حبه الحرية مصلحة عامة وعقيدة راسخة، لكان مصلحة خاصة تقوم عنده مقام العقيدة؛ فهو يذود عن كبريائه حين يقضي للفلاح بحق الحرية، ولا يرى فيه رأي الزملاء من حكام الترك الذي يقضون عليه بالخضوع، ويقضون لنفسهم بالسيادة. ومن اتفقت له كراهة الاستبداد والقدرة على دفعه، واستنهاض الشعب إلى صدع قيوده، والشعور مع الشعب بعزته وهوانه، فقد رشحته إرادة الغيب، ولم ترشحه إرادة الناس للزعامة والاضطلاع بهذه الأمانة، واصطلحت هداية الإلهام وهداية التفكير على تقديمه لهذا الأمير الكبير.
لقد وجدت الأمة المصرية نفسها على يدي سعد، ولم يكن لها قط وجود أكمل من وجودها إلى جانب هذا الزعيم، وهذا أثر لزعامته لا شك فيه! وهذا وحده في عالم السياسة أثر يعلو على جميع الآثار.