الثورة
سرى نبأ الاعتقال بطيئًا متناقضًا في اليوم الأول؛ لأن القيادة العسكرية حظرت على الصحف نشره والتلميح إليه، فعلم به أعضاء الوفد وأصدقاؤه وموظفوه في يومه، وعلم به طلبة المدارس العليا في اليوم التالي؛ لأنهم يجتمعون في أمكنة متقاربة، وينتمي بعضهم إلى أعضاء الوفد وأصدقائه بصلة القرابة أو المعرفة، وتسامعت به أحياء القاهرة شيئًا فشيئًا، وانتقل منها إلى الأقاليم بمثل ذلك البطء والتناقض، فلم يسر إلى القطر كله إلا بعد يومين أو ثلاثة.
أضرب طلاب المدارس العليا في صباح اليوم العاشر من شهر مارس عن تلقِّي الدروس، وخرجوا من مدارسهم في مظاهرة كبيرة طافت بدور المعتمدين السياسيين للاحتجاج على اعتقال الزعماء، وعلى كبت شعور الأمة وحرمانها الحق في إبداء مشيئتها، وهي تسمع كل يوم دعوة الأمم كافة إلى بيان حقها وتقرير مصيرها.
وأضرب عمال الترام بعد الظهر، ثم أضرب الحوذية في اليوم الحادي عشر، وأصبحت الدكاكين مغلقة في معظم أنحاء المدينة إلا الدكاكين الأوروبية، وتجددت المظاهرات من طلاب المدارس وطلاب الأزهر وطوائف شتى من الجمهور، فقابلها الجنود البريطانيون بإطلاق المدافع الرشاشة غير مفرقين بين كبير وصغير، ولا بين مشترك أو غير مشترك في المظاهرة.
وكانت نقابة المحامين قد أعلنت الإضراب؛ فانقطع المحامون عن المحاكم إلا من كان يوفدهم المجلس إليها لطلب تأجيل القضايا، واستثارت القسوة في قمع المظاهرات غضب الناس وحنقهم؛ فكثرت المظاهرات بدلًا من أن تقل، واضطرمت وقدتها بدلًا من أن تخمد، وطاش صواب الحراس العسكريين من جراء هذه المفاجأة؛ فأصبحوا لا يميزون بين جمع وجمع، ولا يطيقون النظر إلى حشد من الناس. ففي يوم الجمعة الرابع عشر من شهر مارس أطلقت السيارات المدرعة نيرانها على حشد كبير بجوار المسجد الحسيني؛ فقتلت منهم بضعة عشر وجرحت خلقًا كثيرين، ولم يكونوا في مظاهرة ولا قصدوا إلى التظاهر، ولكنهم كانوا خارجين من المسجد بعد أداء الصلاة، وضابط الفرقة يجهل كل شيء إلا أنهم قوم متجمعون، وعنده أمر صريح بإطلاق النار على كل قوم متجمعين!
وتعددت المظاهرات في مدن القطر، فقوبلت بمثل ما قوبلت به في القاهرة، وسرت أخبار القتل وإطلاق الرصاص إلى أنحاء الأقاليم؛ فانفجر كمين السخط الذي طال كظمه في الصدور، وانفجرت الثورة في كل مكان.
من الخطأ أن يقال: إنَّ المظاهرات كانت هي سبب الثورة الوحيد، أو إنَّ الثورة ما كانت لتنفجر في القطر لولا مظاهرات العاصمة. فإنما كانت المظاهرات كالشرر الأول يتطاير من فوهة بركان يغلي وهو يهم بالانفجار، فمن شهد تلك الثورة الجارفة التي اندفعت في حينها اندفاعًا يدل على عمق مكامنها وتأجج وقودها، أيقن أنها قوة لا تحبس طويلًا، وأنها هي سبب المظاهرات وليست نتيجة المظاهرات.
فقد صبر الناس زمنًا على مظالم الحرب ومضانكها، ثم انتظروا الفرج بعد الهدنة، فإذا بهم يعالجون مرارة الخيبة ويوجسون من مخاوف المستقبل فوق ما أوجسوا من مخاوف السنوات الماضية، وزاد في نكايتهم أنهم يعانون هذا الكظم كله في الوقت الذي تعلو فيه دعوة الإنصاف وتتجاوب فيه الأصداء بالظفر والرجاء، وأنهم يطلبون أمرًا يسيرًا هو حق الشكوى والاحتجاج فيجابون بالتهديد والإقصاء عن البلاد، ثم يستنكرون هذا العنت الغاشم فيعاقَبون بإطلاق الرصاص، ولا يراد منهم إلا أن يختنقوا وهم صامتون.
فلما شاع خبر إطلاق الرصاص على المتظاهرين، وشاعت أخبار الموتى والمعتقلين من الطلاب والشبان العُزَّل المسالمين، طغى الغضب بعد أن طم، وظهر بعد أن عم، وكان ظهوره على نمط واحد في جميع البلاد بغير تدبير ولا سبق اتفاق، فبدأ انقطاع السكك الحديدية ما بين طنطا وتلا في اليوم الثالث عشر من الشهر، ثم انقطعت في جهات كثيرة دفعة واحدة، وتناول التحطيم والتخريب أسلاك التلغراف والتليفون وقضبان السكة الحديد حيثما وصلت إليها أيدي الثائرين.
ولم يخل هذا التحطيم من غرض تعمده الثائرون بتدبير مقصود، وهو تعويق القاطرات المسلحة والفرق الجوالة عن الطواف بالمدن والقرى لجمع السلاح، وتفتيش المنازل العسكرية في جمع السلاح من بداءة الحرب، حتى جمعت المُدَى الكبيرة والعِصيَّ الغليظة وكل ما يصلح للتسلح به في عراك أو مشاجرة، ثم لمحت بوادر الثورة بعد اعتقال الزعماء، فعادت إلى حملة أخرى من حملات التفتيش، وأوجس الناس من عواقب هذه الحملة شرًّا، فخطر لبعضهم أن يعوقوها بقطع المواصلات.
إلا أنَّ الباعث الأكبر إلى التحطيم والتخريب كان اندفاعًا جامحًا بغير قصد مرسوم: اندفاع الساخط يحار فيما يصنع وهو ساخط، كأنما هو في هذه الفورة الجامحة صريع مكموم محبوس في بيت مغلق، يريد أن تسمعه الدنيا ولو بتدمير أثاثه وإحراق داره. فجاءت عوارض الثورة متفقة في كل مكان؛ لأن هذه العوارض هي كل ما يستطاع في تلك الحالة. ولو كان باعث التحطيم العدوان على الملك والنفس، ولم يكن مجرد الاحتجاج وإبلاغ الصوت إلى العالم لاتجه الثائرون إلى نهب خزائن الحكومة وأموال الأغنياء والمصارف، وهو ما لم يحدث قط في بلد من البلدان.
وظل الإنجليز مضلَّلين عن فهم شعور هذه الأمة، يفسرون أعمالها بأسباب المصالح، ولا ينظرون إلى بواعثها النفسية، كأنما البواعث النفسية عامل لا يُحسب له حساب في حركات الجماهير. فظنوا أنَّ أعمال الثائرين لا تتفق هذا الاتفاق إلا بتدبير مصطنع ودسيسة أجنبية. وربما طاب لرؤسائهم أن يفهموا ذلك؛ لأنهم أبلغوا حكومتهم في لندن أنَّ الأمة هادئة فاترة، وأنها ضعيفة لا يُخاف منها انتفاض.
وأنَّ أناسًا كثيرين — ومنهم بعض المصريين — لَيَعجبون إذا عرفوا الآن أنَّ هذه الثورة المفاجئة لم يقع فيها تنظيم ولم تكن فيها رئاسة مدبِّرة على الإطلاق، وأنَّ مظاهرة الطلبة الأولى وقعت على غير علم سابق من الوفد، بل على خلاف النصيحة التي سمعها الطلبة من بعض أعضائه الذين بقوا في القاهرة بعد اعتقال سعد وأصحابه الثلاثة.
لكنها هي الحقيقة التي نؤكدها بعد استقرائها من مصادر عديدة. فإن الطلبة أصبحوا مضرِبين في مدارسهم يوم المظاهرة، وهم مختلفون في الخروج أو البقاء، ثم خطر لفريق منهم أنَّ الخروج ربما خالف مشيئة الوفد، وأفسد عليه رأيًا يفكر فيه أو خطة يتوخاها، فبعثوا إلى «بيت الأمة» أفرادًا منهم يستفسرون، ويعودون إليهم بما يقر عليه رأي الأعضاء، وهناك التقوا بالأستاذ «عبد العزيز فهمي بك»، فأفضوا إليه بقصدهم، وأبلغوه هياج الطلبة وتحفزهم للخروج والتظاهر في أحياء العاصمة؛ فثار بهم الأستاذ وانتهرهم انتهارًا شديدًا وهو يقول لهم ما معناه: «إنَّ المسألة ليست لعب أطفال … دعونا نعمل في هدوء، ولا تزيدوا نار الغضب اشتعالًا عند القوم.»
فتركوه وهموا بالانصراف متذمرين مغتمين، وإذا بالأستاذين محمود أبي النصر وعبد اللطيف المكباتي يلحقان بهم ليخفِّفا عنهم أثر الكدر الذي خامرهم من تأنيب عبد العزيز بك، فتلطفا في التسرية عنهم والنصح لهم بالتزام السكون واجتناب المظاهرات، وانصرف رسل الطلبة على أن يبلغوا زملاءهم ما سمعوه وهم مترددون بين الإغضاء عنه أو الإصغاء إليه، ولكنَّ زملاءهم كانوا قد استَبطَئُوهم، وتهايجوا بما سمعوا من كلام خطبائهم واستثارة دعاتهم، فخرجوا قبل أن يعود إليهم رسلهم بنتيجة سؤالهم، وتمت المظاهرة الأولى على هذا المنوال.
أما حوادث الأقاليم، فقد تمت بغير إيحاء ولا تدبير؛ إذ لم يكن للوفد في ذلك الحين لجان يجوز أن يقال إنها اتفقت على تنفيذ خطة مرسومة في جميع الأقاليم، ولم يكن خبر السكة التي قُطعت بين طنطا وتلا قد شاع في القطر حتى يقال إنه جاء في طليعة الحوادث بمثابة الإيحاء والقدرة على عمد أو على غير عمد. وإنما نجمت الثورة من بديهة الأمة كلها؛ لأنها كانت كلها على اتفاق في الغضب المكظوم والتأفف الذي بلغ مداه.
ولقد أخطأت السلطة العسكرية في كل تدبير؛ فكانت تستفز الناس بكل عمل تقصد به إلى البطش والإرهاب، وتدفعهم إلى نقيض ما تريد من الخوف والطاعة، وتثير النفوس إلى التحدي والمعاندة بدلًا من الإذعان والسكينة.
بالغت في قمع المظاهرات فزادت المظاهرات، وأنذرت كل من يقطع المواصلات «بالإعدام رميًا بالرصاص بمقتضى الأحكام العرفية»، فكان جواب هذا الإنذار إضراب عمال السكة الحديدية في اليوم التالي وخروجهم من مصانعهم متظاهرين، ثم اندفع الناس إلى قطع القضبان وأسلاك التلغراف والتليفون غير مكترثين للعاقبة، فانعزلت القاهرة والمدن الكبرى من جميع الجوانب، واضطُرت السلطة إلى استخدام الجنود الإنجليز لتسيير القطر وتنظيم المواصلات. وبعد أن كانت تتوعد القرى التي تنقطع السكة على مقربة منها بالغرامة عادت إلى نشر إنذار تقول فيه: إنَّ كل حادث جديد من حوادث التدمير «يعاقَب عليه بإحراق القرية التي هي أقرب من سواها من مكان التدمير» … واستدعى القائد العام بعض الوزراء والسروات في اليوم العشرين، وحذرهم من دفع السلطة إلى «تدمير العمائر وتخريب القصور»، وطلب إليهم أن يبذلوا جهدهم في النصح للشعب بالهدوء والإقلاع عن «المشاغبات».
كل ذلك والثورة تتفاقم، والجماهير تقدم وتقدم، ومنهم من أغاروا في بعض البلدان على مراكز الشرطة، فانتزعوا ما فيها من السلاح؛ فاستخدمت السلطة الطيارات والبواخر النيلية لإيصال المدد إلى الجهات المعزولة، وحدثت أثناء ذلك مناوشات قُتل فيها خلق كثير.
على أنَّ الثورة لم تكن فورة غضب بغير معنًى، كما أراد أعداؤها والناقمون منها أن يتخيلوها، فلو كانت كذلك لَمَا ظهر فيها ما قد ظهر من نفحات النخوة القومية والأريحية الإنسانية التي ترتفع إليها الشعوب كما يرتفع إليها الأفراد في ساعات السمو والإشراق والفداء. فإن هذه النفحات لا تظهر في سورات الغضب الحيواني حين ينطلق على غير هدًى وفي غير مطلب، ولكنها تظهر حين تكون الثورة إعرابًا عن شعور مكتوم ونزعة مشبوبة إلى الكمال، وقد كانت الثورة المصرية كذلك، فغلب فيها الروح القومي على كل عصبية وكل علاقة وكل فارق، مشى فيها علماء الأزهر يحملون بساط الرحمة في تشييع جنازات الشهداء، ويرفعون الأعلام وعليها شارة الهلال والصليب، وقام القساوسة في المساجد يخطبون المسلمين، ويؤدون ما يؤدى لها من الشعائر الدينية، وخرج العقائل والأوانس من الخدور يسابقن الرجال والشبان إلى المهالك والأخطار ويُستهدفن لجند مسلحين متأهبين كأنهم في ميدان قتال، وغلبت فرائض الحمية الوطنية على كل فريضة وكل تقليد؛ فكان الضباط يسيرون إلى جانب القضاة والمحامين، وطلاب المدرسة الحربية يسيرون إلى جانب الطلاب في كل مدرسة، وكانوا جميعًا ينادون باسم مصر، ولا يذكرون إلا أنهم مصريون.
وتجلت بسالة التضحية على مثال رائع نبيل كأنبل ما سطرت تواريخ الجهاد والفداء في وثبات الأمم. فمات أناس يحملون العلم أنفًا من الفرار أمام نيران المدافع وهم عزل من السلاح، ويرى إخوانهم مصرعهم، فيبادرون إلى رفع العلم ليستقبلوا مصرعًا كمصرعهم طائعين متنافسين، في لحظة يطيقون فيها رؤية الجثث المطروحة لُقًى ولا يطيقون رؤية العلم مُلْقًى على التراب.
وقد أحاطت بالمصريين في تلك الأيام موغرات كثيرة من فتك وإرهاب وخشونة واستفزاز، وفي بعضها ما يشفع للناس لو طغت بهم مرارة النقمة وجمحت بهم لواعج الضغينة، لكنهم مع هذا لم يقترفوا سقطة واحدة تشين صاحبها في غضبه أو رضاه، ولم ينسوا أدب المروءة في أشد أوقات الهياج والاضطراب؛ فلم يعتدِ أحد قط على طفل أو على شيخ عاجز أو على امرأة، وشهد اللورد اللنبي للثورة المصرية بهذا الأدب في الكتاب الأبيض حيث قال بعد ثلاث سنوات: «كانت سيدة إنجليزية مستقلة مركبة مفتوحة، فهاجمها الرعاع وقذفوها بالحجارة يوم الجمعة في حي بولاق، وقد نجت من الأذى البليغ بأن اتخذت من مظلتها مخبأً فمزقت الأحجار المظلة، وهي أول مرة اعتُدِيَ فيها على امرأة في كل السنوات الثلاثة الماضية.» ولو ثبتت هذه الحادثة كل الثبوت لَمَا كانت شيئًا يذكر؛ لأنها لن تكون إلا الندرة التي تؤكد القاعدة ولا تنفيها، ولكن التحقيق لم يُثبت بوجه من الوجوه أنَّ السيدة كانت مقصودة بالاعتداء والإساءة … وإلا فما الذي كان يحمي سيدة منفردة لا تحمل معها إلا المظلة من عدوان العشرات والمئات الذين يقصدونها بالإيذاء؟! إنَّ انفراد هذا الحادث في جميع سنوات الثورة لَحقيق وحده بالجزم بنفيه لا بمجرد التشكيك فيه، وقد سبقته الحوادث الكثيرة المشهورة في أعنف أيام الهياج، فكان الثائرون يتورعون فيها جميعًا عن المساس بالسيدات والأطفال، ومنها حادثة «بهيج» المشهورة على الحدود الغربية، التي شهدت فيها صحف الاستعمار بترفُّع الثوار المصريين على هذه السقطات ثائرة على المستعمرين، وفي وسعها أن تلفق عليها التهم وتزور عليها العيوب.
لقد حدث أنَّ أفرادًا من الأرمن أطلقوا الرصاص على المتظاهرين من نوافذ المنازل فلم يكن جزاء الثائرين لهم إلا بمقدار ما يقتضيه دفع العدوان ومنع تكراره، وحدث أنَّ الغوغاء في أثناء المظاهرات قذفوا زجاج الدكاكين بالحجارة، فحسب بعض الأجانب أنهم مقصودون بالسخط والعداوة، والحقيقة أنَّ إلقاء الحجارة على تلك الدكاكين لم يكن عن شعور العصبية أو العداوة للأمم الأجنبية، وإنما كان استنكارًا لفتحها في أيام الإضراب، وإحساسًا من الغوغاء بأن أصحابها يجبهون شعور الأمة ويستخفون بمطالبها ويترفعون عن مجاملتها. فأصابوا دكاكين المصريين التي اتفق فتحها في تلك الآونة كما أصابوا دكاكين الأجانب، ورجحت كفة الأجانب في الخسارة؛ لأن متاجرهم أكثر عددًا في الأحياء الإفرنجية التي تطوف فيها المظاهرات، ومع هذا لم ينسَ الطلبة أن يعتذروا إلى «الضيوف» من عمل الغوغاء في بيان نشروه في الصحف العربية والإفرنجية، وعلقوه على وجهات الدكاكين ووعدوا باتقاء تكراره في المستقبل.
ولم يجد المستعمرون في الواقع حادثًا يستغلونه للتشهير والتشويه غير حادث ديروط أو ديرمواس الذي قُتل فيه ثلاثة من الضباط وخمسة من صف الضباط الإنجليز، وهو حادث على جسامته لا يُذكر إلى جانب الفظائع التي نزلت بالمصريين أثناء حملات التأديب والتفتيش … ومنها فظائع العزيزية والبدرشين والشبانات التي نترك تفصيلها إلى غير هذا المقام، وسنضرب عنها صفحًا في هذا الكتاب، ولا نذكر من فظائع قمع الثورة إلا مثلًا صغيرًا يُغني بالدلالة عن الشرح والإسهاب، وهذه خلاصته بعد التجاوز والتلطيف.
في أول سبتمبر سنة ١٩٣٤ نقلت إلينا الأنباء البرقية من لندن أنَّ جنديًّا إنجليزيًّا سيق إلى المحكمة لاتهامه بمقتل عشيقته، فكان من المحاسن التي تشفع بها إلى المحكمة واعتقد أنه يستحق بها العفو والرحمة أن قال بغير سؤال ولا مناسبة إنه كان صولًا بالجيش البريطاني بمصر سنة الثورة فقتل ثلاثة من المصريين، وإنه بعد بضعة أسابيع كاد صديق له أن يقتل فقتل هو مصريًّا آخر، ثم عمل في شركة للسيارات رئيسًا للمهندسين، وعمل في خدمة أمير مصري أربع سنوات، وقد لخص القاضي الدعوى فقال: «إنه مهما يكن ما فعل تافني — اسم الرجل — فإن رؤساءه يومئذٍ لم يعدوا ما فعله جريمة.»
فهذا جندي من قامعي الثورة يفاخر بما جنى بعد الثورة بخمس عشرة سنة! وبعد أن أكل خبزه من خير أمير مصري أربع سنوات! وهو واحد من عشرات الألوف لا يسألون عمن قتلوا، ولا يحتاجون إذا سئلوا إلى عذر أكثر من ادعاء الخطر والدفاع عن الحياة، وكل من لديه ذرة من التصور وذرة من الإنصاف ليعلم بعد ذلك أنَّ الفظائع التي نزلت بالمصريين أثناء ثورتهم أكبر وأهول بما لا يُقاس من فظيعة الاعتداء على فئة من الضباط والجنود كلهم مسلحون، ولا يتكاثر عليهم الجمهور الأعزل من السلاح.
وندع فظائع الثورة جانبًا ونسأل: لِمَ كل هذا؟ أكانت هذه الزوبعة الدامية ضرورة لا محيد عنها؟ أكانت حادثًا لا يمكن اتقاؤه؟ كلا! لم تكن ضرورة ولا مصلحة. وكان ميسورًا أن تُجتنب اجتنابًا وأن يُحقن كل ما سال فيها من دماء، ويُصان كل ما خرب فيها من عمار وضاع فيها من أموال، لولا الأخطاء المتلاحقة التي ارتطمت فيها السياسة الاستعمارية لقلة اكتراثها للعواقب، وإلقاء اعتمادها كله على العدد الحربية، وأنها تضمن لها قمع الأمم الضعاف إذا ضاقت الصدور عن الاحتمال.
فهي أخطأت في البداءة بإعلان الحماية واغتصاب أرزاق المصريين وأدوات معيشتهم في إبان الحرب العظمى. وكان في مقدورها أن تتقي كل ذلك بأن ترد إلى المصريين استقلالهم، وتكل إليهم أن يدبروا بأنفسهم ما يعنيهم من أمر المعاونة في الحرب بما يطيقون. فإن لم يوافقها ذلك فماذا كان يمنعها أن تعلن الاستقلال، وترجئ النظر في تفصيل قواعده إلى ما بعد الفراغ من القتال؟!
ثم أخطأت بحرمان زعماء المصريين إبداء مطالبهم والبحث في مستقبلهم، مع أنهم لم يقصروا في المجاملة ولم يبدر منهم — وهم يخاطبون رجالها هنا أو في إنجلترا — أثر من التحدي والإعنات.
ثم وقعت الأزمة الوزارية التي لا بد من وقوعها، فألقت على الزعماء تبعتها، وألقى الزعماء التبعة عليها، ولم يكن رد الزعماء من قبيل التراشق بالتهم والمجاوبة على الادعاء بمثله، ولكنه كان هو الحقيقة بعينها في نظر المنصفين الواقفين على الحيدة لا في نظر الوفد المصري وحده؛ فالمسئول عن الأزمة الوزارية وعن صعوبة تأليف الوزارة المصرية هو السياسة الاستعمارية، أو هو كما قال الوفد: «أولئك الذين وضعوا من هم أهل للوزارة في مركز حرج أمام ضمائرهم وأمام مواطنيهم.»
وإلا فماذا يقول الوزير المصري لأبناء وطنه، إذا فرضنا أنه أراد فعلًا أن يخدم السياسة الاستعمارية ولا يحفل بمصير وطنه؟ أيقول لهم: إني خائن لا أبالي بغير الوصول إلى المنصب؟! أم يقول لهم: إنني أتولى المنصب لأَحُول بينكم وبين المطالبة بالاستقلال أو السفر إلى حيث تشتركون في تقرير مصيركم؟! وهل يستطيع أن يقول لهم ذلك في الوقت الذي ينادي فيه ساسة الإنجليز أنهم لا يمنعون أمة متقدمة أو متخلفة أن تشترك في تقرير مصيرها؟!
فإحجام الساسة المصريين عن قبول الوزارة حتى لا حيلة لأحد فيه؛ إذ ليس يوجد في مصر ولا في غير مصر مرشح للوزارة يشتري المنصب بهذه الخيانة الصريحة ولو كان مدخول الضمير؛ لأنها خيانة سمجة مبتذلة لا تَسَتُّر فيها ولا مغالطة ولا عذر لمن يشاء أن ينتحل الأعذار، ما دامت الأمة تطلب حقها والوزارة التي أذعنت للحماية قد تحركت للبحث فيها، والعالم كله ينادي بحقوق الشعوب وتقرير المصير … ففي هذا العمل لو أقدم عليه المرشح للوزارة قضاء حياته السياسية إن لم يكن فيه قضاء على الحياة.
لكن القيادة العسكرية شاءت مع هذا أن تُلقيَ التبعة على الوفد في هذا الموقف الذي لا حيلة فيه للوفد ولا لأحد من المصريين؛ فأخطأت خطأها الغاشم، واعتقلت رؤساءه جزاءً على السيئة التي أساءتها هي ولم يسيئوها. ثم أخطأت بعد هذه السلسلة من الأخطاء في بطشها الدموي بمن غضبوا لذلك العسف المبين عزلًا من السلاح، ومن نادوا بما كان ينادي به أقطاب الحلفاء في مؤتمر السلام، ولعلها لو فسحت لهم جو بلادهم ينادون فيه بما يشاءون، لما خرجت الثورة من طور الدعوة إلى طور التخريب والتحطيم.
وأكبر أخطاء السياسة الاستعمارية جميعًا، بل هو الخطأ الذي يطوي فيه جميع الأخطاء؛ أنها أساءت تقدير الشعور الذي كان يسور ويثور في نفوس المصريين قاطبة على تفاوت الطبقات والمشارب، فليس في وسع إنسان سياسي أو غير سياسي أن يجهل هذه الأمور كلها كما يجهلها نائب المندوب البريطاني — السير ميلن شيتهام — قبل الثورة بأقل من ثلاثة أسابيع؛ فإنه كتب إلى حكومته في الرابع والعشرين من فبراير يقول: «إنَّ الوزيرين رشدي وعدلي فقدا الشهرة الموقوتة التي عادت عليهما من الاستقالة، وإنَّ زغلولًا لا يثق به أحد، وإنَّ هناك قلقًا يسيرًا بين أفراد الطبقة العليا الذين يطمعون في تعظيم مكانتهم ببلوغ مرتبة من مراتب الحكومة الذاتية، ولكن الحالة لا تختلف في لبابها عن الحالة التي طرأت في سنة ١٩١٤ عندما رفض الأمير حسين وكبار الوزراء طويلًا أن يقبلوا الحماية ما لم تكن مشفوعة ببعض المنح التي لم نكن على استعداد لإعطائها، وإنَّ الحركة الحاضرة على كل حال ليست بالتي تضارع حركة مصطفى كامل، أو بالتي يصح أن تؤثر في قرارات الحكومة البريطانية فيما يتعلق بالمسائل الدستورية والوضع الذي توضع فيه الحماية.»
ولما بدت طلائع الثورة لم يجد هذا السياسي النادر ما يداري به غفلته وعجزه عن سَبْرِ غَوْرِ الحرية الوطنية إلا أن يعزوَها إلى أسباب أجنبية غير وطنية؛ فأبرق في التاسع من مارس يقول: «إنَّ الحركة معادية لبريطانيا معادية للعرش معادية للأجانب، وفيها نزعات بلشفية نتيجة إلى تخريب الأسلاك والمواصلات، وهي منظمة مدبرة ولا بد أن تكون مأجورة.»
وأذاعت الحكومة البريطانية مذكرتها عن الثورة بعد ذلك بشهر فجاء فيها: «إنَّ هناك شواهد تثبت أنَّ الخطة مدبرة منظمة بإحكام … ومما يستحق الملاحظة أنَّ الخطة التي نُفذت تشابه البرنامج الذي رسمه الألمان والترك للغارة على مصر في خريف سنة ١٩١٤، وهو البرنامج الذي أفضى به إلى السلطات المصرية الجاسوس الألماني مورس المقبوض عليه في الإسكندرية، وإذا حسبنا كل حساب للحالة العقلية أو لدواعي التذمر الناشئة بين الفلاحين المشار إليها آنفًا، فكل هذا لا يكفي لتعليل هذا الانفجار الخطير المنظم الذي تلوح فيه إصبع تركيا الفتاة، كما قد تلوح فيه إصبع الألمان.»
إي والله! ثورة تشمل أربعة عشر مليونًا يدبرها الترك والألمان في الخارج أو في الداخل، ولا تعثر فيها السلطات الإنجليزية بدليل واحد على هذا التدبير غير التنجيم والتخمين! وإنَّ الإنسان لا يدري أيضحك أم يحزن من هذا التفكير العجيب الذي يعلل ثورة مصرية تنفجر في شهر مارس بأنها دسيسة أجنبية دبرتها حكومات منهارة مضى على هزيمة رؤسائها وتفرُّقهم في البلاد وانقطاع الصلة بينهم وبين أتباعهم عدة شهور … وأدعى من هذا إلى الحيرة بين الحزن والسخر أن تكون الثورة من صنع الطبقات العليا ومن صنع البلشفية في وقت واحد!
ولا نظن أنَّ الغفلة وحدها هي سر هذه التعديلات المضحكة المبكية التي تعلقت بها السياسة الاستعمارية في تلك الفترة، ولكنها رأت وكلاءها قد وقعوا في الجهل الذي لا رجعة فيه فاستغلت جهلهم أحسن استغلال في استطاعتها؛ لأنها وجدت لها فائدة من تشويه الحركة المصرية بنسبتها إلى جواسيس الترك والألمان، ووجدت أنها قد تَحُول بهذا التشويه بين الدعاة المصريين ومسامع الحلفاء والأمة الإنجليزية. فمزجت بين الغفلة والذكاء هذا المزيج الجدير بأساليب الاستعمار!
ولقد ظل القوم يتخبطون في فهم الحركة وسبر أغوارها حتى بعد عمومها وانتشارها، وطفقت الحوادث تتلقاهم مرة بعد مرة بتكذيب ظنونهم وتقديراتهم، فلا تنجاب الغشاوة عن أبصارهم. ومن ذاك اعتقادهم بعد شبوب الثورة في البلاد أنها ضرب من الشغب الذي يفرِّقون فيه بين طائفة من الأمة وطائفة أخرى، كما كانوا يصنعون في العهد السابق تارة بين الباشوات ولابسي الجلاليب الزرقاء، وتارة بين طلاب الوظائف وأصحاب المصالح الحقيقية، وتارة بين المسلمين والمسيحيين … فألقى اللورد كرزون بعد انفجار الثورة بنحو أسبوعين بيانًا يثني فيه على الموظفين المصريين؛ لأنهم ثابروا على أعمالهم في إبَّان الهياج الذي غمر البلاد، ويقول فيه: إنهم صفوة المتعلمين من المصريين «فمسلكهم هذا يدل على أنَّ عقلاء الأمة لم يشتركوا في الحركة الأخيرة». فكان جواب هذا الثناء المزري أن أجمع الموظفون في الدواوين كلها على الإضراب ثلاثة أيام إعلانًا للتآزر بينهم وبين طبقات الأمة في المطالب الوطنية، وكتبوا عرائضهم بهذا المعنى إلى صاحب العظمة السلطان، وأبلغوها الحكومة الإنجليزية.
لم تنقطع هذه الأخطاء ولا جرائرها، أيام الثورة ولا بعدها، ولم يقع منها الضرر على أحد غير المظلومين فيها، ومن ذا الذي يحاسب الأقوياء حين يخطئون مع الضعفاء؟!
وهكذا يليق الخطأ ويليق التمادي فيه بالأقوياء؛ لأنهم في غنًى عن حسبان العواقب، ويستأثر الضعفاء بسوء العاقبة وإن جهدوا في اجتناب الأخطاء؛ لأنهم ضعفاء!