الوفد في أوروبا
عندما طلع الرئيس ويلسون على العالم ببشارة السلام ومبادئ الحرية والإنصاف صدَّقه كثيرون ورحب به كثيرون؛ لأنهم استبعدوا أن يخرج بنو الإنسان من تلك الأهوال والمآثم بغير عِبرة، وأن يقدِموا على تكرار المأساة الجهنمية، وهم لا يزالون يكتوون بنارها ويتلوَّون من آلامها.
ولم يهزأ بدعوة ويلسون من أساسها إلا طائفة من ثلاث طوائف، وهم المستعمرون الرجعيون؛ لأن الدعوة لا توافق سياستهم، ولا تحقق لهم مطامع القهر والاستغلال.
واليائسون من أخلاق بني الإنسان؛ لأنهم يهزءون بجميع المبادئ ولا يحسبون الإنسان صادقًا في شيء غير المصالح القريبة والشهوات الحيوانية.
والاشتراكيون؛ لأنهم يرَون أنَّ العوامل الاقتصادية هي علة الدعوات الاجتماعية والمذاهب الأخلاقية؛ فلا فائدة من أحاديث المروءة والرحمة وتقرير المصير ما دام نظام رأس المال هو النظام القائم في المعاملات، وهو الحافز إلى الغارات والحروب والمنافسة بين المستغلين والمستعمرين.
ولم يكن سعد مستعمرًا رجعيًّا ولا يائسًا من بني الإنسان ولا اشتراكيًّا ولا قارئًا متبعًا لآراء الاشتراكيين، ولكنه كان رجلًا مطبوعًا على نجدة الضعيف وإغاثة المظلوم، فلا غرابة عنده في هذه العاطفة، وكان قانونيًّا يقدس القوانين والشرائع فلا غرابة لديه في التوسل بالتشريع وحقوق المعاهدات لفض المشاكل وإصلاح الآفات.
من الناس من يرَون هذا المذهب السياسي الجديد أجمل من أن يُتبع في هذه الحياة الدنيا: حياة المزاحمة على البقاء والمغالبة على المنافع … نعم، مذهب جميل! ولكن تطبيقه ممكن متى جد الدكتور ويلسون في تطبيقه بحزمه المعروف. وإنه لجاد، بل أرتقي إلى أن أقول إنَّ تطبيقه سهل متى صحَّت نِيَّات أكثرية الدول التي أقرته بالإجماع؛ ذلك لأن هذا المذهب غير مخالف لِمَا أَلِفَ الإنسان في الوصايا الدينية وقواعد الفلسفة الأخلاقية، ثم هو متفق مع الأفق الذي وصلت إليه الإنسانية في تطورها الجديد …
وعلى هذه العقيدة كان يرجو الخيرَ الكثيرَ من الدعوة الولسنية، وأقل ما يحق له أن يرجوَه أن لا تنقلب هذه الدعوة في إبان الصلح عونًا للأقوياء على الضعفاء وعقبة في وجه المطالبين بالحقوق، فكان أول ما فكر فيه ساعة وصول الباخرة «كاليدونيا» إلى مارسيليا أن أرسل إلى الرئيس ويلسون يطلب منه الإذن في مقابلة خاصة للوفد المصري المطالب بحقوق الأمة المصرية، فلم يجئه الرد المنتظَر من رسول السلام، وإنما جاءه رد لم يكن يخطر على بال متفائل ولا متشائم؛ فإن الولايات المتحدة اعترفت بالحماية البريطانية على مصر في اليوم التاسع عشر من شهر أبريل؛ أي بعد وصول الوفد المصري إلى مرسيليا بيوم واحد!
يحار الإنسان ولا يدري كيف استطاعت السياسة البريطانية أن تَحمل ذلك الرسول المبشر بحقوق الضعفاء على نقض مبادئه رأسًا على عقب، واستباحة الفصل في قضية لم تُعرض عليه من جوانبها المختلفة، ولكن ساسة الإنجليز — على ما نظن — قد أدخلوا في روعه أنَّ المصريين أساءوا فهم دعوته وتشجعوا بها على الثورة وتهديد الحضارة والمصالح الأجنبية، وأنَّ كلمةً منه تحقن الدماء وتعيد الأمن إلى قراره، وتصون أرواح الأوروبيين ومرافق العمران، وأنَّ ترْك مصر عرضة للتنازع عليها بين الدول قد يجر العالم إلى حرب كالحروب التي كان يتقيها ويبشر باجتنابها؛ فبقاؤها في ظل الحماية أصون للسلام وأنفى للحروب، وربما وعدوه أن ينصفوا المصريين متى ثابوا إلى السكينة واستعدوا للإصغاء إلى صوت الحكمة والنظام.
أتشرف بأن أقول: إنَّ حكومتي أمرتني أن أبلغكم أنَّ رئيس الجمهورية يعترف بالحماية البريطانية على القطر المصري، وهي الحماية التي بسطتها حكومة جلالة الملك في ١٨ ديسمبر سنة ١٩١٤. هذا وإنَّ الرئيس باعترافه هذا يحفظ بالضرورة لنفسه حق البحث فيما بعدُ في تفاصيل هذا الاعتراف، مع مسألة تعديل حقوق الولايات المتحدة التعديل الذي يقتضيه هذا الأمر. وقد كُلفت بهذا الصدد أن أقول: إنَّ رئيس الجمهورية والشعب الأمريكي يعطفان كل العطف على أماني الشعب المصري المشروعة؛ للحصول على قسط آخر من الحكم الذاتي، ولكنهما ينظران بعين الأسف إلى كل مسعًى لتحقيق هذه الأماني بالتجاء إلى العنف.
وإنَّ صيغة هذا التبليغ لتشف عن الغرض منه وعن المسعى الذي سعته الحكومة البريطانية عند الرئيس ويلسون لإقناعه بوجوبه … فباسم الأمن وكراهة العنف، وبعد الوعد بمنح المصريين قسطًا آخر من الاستقلال الداخلي، ظفرت الحكومة البريطانية بذلك الاعتراف وبادرت إلى إذاعته في مصر وأوروبا، وتعمدت أن تصدم به الوفد ساعة وصوله إلى أوروبا ليفت الخبر في عضده، ويزعزع ما عنده من ثقة وأمل، ويُريَه خيبة المسعى في معارضة القوة البريطانية حيث ذهب … فكان تدبيرها في الإفراج عن الوفد ولقائه بتلك الصدمة كتدبير السجان الذي يطلق أسيره ويرصد له على أبواب السجن من يدهمه ويغتاله؛ ليحيق به الكيد في ساعة الفرح والاستبشار.
ولم تبالغ السياسة البريطانية كثيرًا في وقع الصدمة المفاجئة على الوفد ساعة نزوله بالأرض الفرنسية واقترابه من محكمة العدل والحرية؛ فقد بدا لسعد أول وهلة أنَّ العمل في أوروبا لا يجدي، وأنَّ تركيز العمل في مصر أجدى وألزم. ولم يكن هذا ضعفًا ولا نكوصًا عن الكفاح؛ لأن مقاومة الإنجليز في مصر تحت الأحكام العسكرية بعد الاعتراف بالحماية البريطانية أخطر وأعضل من مقاومتهم في أوروبا على العاملين الجادين في المقاومة … ولكنه كان رأيًا رآه فيما هو أصلح للقضية المصرية على حسب ما تبيَّن من خطواته الأولى بالبلاد الأوروبية.
وقد لمس وقع الصدمة في نفوس فريق من زملائه فإذا هو أفدح وأقدح؛ فمنهم من كان قد دخل الوفد على تردد وريب في سلامة العاقبة، ومنهم من كان يؤْثر اللجوء إلى الحكومة الإنجليزية ويؤمن في قرارة نفسه باستحالة الغلبة عليها، وقصارى ما طمعوا فيه من هوادتها أن تخشى بعض المعارضة أو بعض المنافسة من الدول الأخرى في مؤتمر الصلح، فتغلق هذا الباب باستجابة بعض المطالب المصرية. فإذا بمؤتمر الصلح في قبضة يديها وعلى رأسه أكبر الدعاة إلى الحرية وأكبر القائلين بمشاورة الأمم المغصوبة في تقرير مصيرها … فمن البيِّن إذنْ في رأيهم أنَّ «مهمة الوفد» انتهت لم يبقَ له ما يرجوه من المؤتمر ولا من الحكومات المشتركة فيه. وقد صرحوا برأيهم هذا وهموا بالعودة وأشاروا بها على زملائهم الآخرين.
وقد أرادت الحكومة البريطانية أن تتبع هذه الضربة بضربة أخرى، تعجل بعمل التفكك والانخذال في صفوف الوفد والأمة المصرية؛ فنشرت التيمس «إشاعة» تشير فيها إلى إرسال لجنة مستقلة إلى القطر المصري للبحث عن أسباب الهياج، واقتراح الإصلاحات الدستورية التي يتسع بها نطاق الحكومة الذاتية، وتوقعت أن يصيب الخبر الوفد في سُمعته وعزيمته إن لم يصبه في تكوينه ووحدة رأيه، فإذا عاد بعض رجاله إلى مصر وبقي بعضهم في أوروبا فقد وقع الخلاف، وهو بدء الانحلال. وإذا عاد الوفد جميعه فقد ملكته الحكومة البريطانية ورجعت به إلى قبضة يديها وعرَّضته لسخرية أبناء وطنه، وإذا بقي الوفد كله في أوروبا فعندهم فسحة من الوقت لإرسال اللجنة إلى مصر وسؤال المصريين عن مطالبهم وشكاياتهم بمعزل عن وفدهم الذي يدعي الوكالة عنهم … فتلغي وكالته وتلقي درسها الصادع على الوكيل ومن أوكلوه، وأي درس تشتهيه السياسة الاستعمارية وتلقيه على الدعاة الوطنيين أنجع وأوجع من أن تضرب الوفد المصري وتعاقبه هذه العقوبة القاصمة بيد الأمة المصرية؟!
ومهما يكن من حساب الحكومة البريطانية، فالشيء الذي لم تحسب حسابه — كما ينبغي — هو أثر السخرية في الطبيعة المصرية؛ فإن المصري ليتقي السخرية أشد من اتقائه الضرر والخسارة، وقد يستسلم للفجيعة، ولكنه لا يستسلم للغفلة؛ ولهذا كانت ضربتها للوفد المصري باعتراف ويلسون ضربةً قويَّةً بارعةً، ولكنها كانت خليقة أن تفشل بعد الصدمة الأولى؛ لأنها سخرية تعرِّضه لسخرية أخرى. ولو أنها أبطأت برهة، ولم يكن فيها معنى الكمين المدبَّر والهزء المرتَّب في لحظة الانتصار والتفاؤل، لكان رجاء الحكومة البريطانية في نجاحها أصدق وأسرع، ولكنها كانت بمثابة الاستدراج إلى كمين مضحك أو «مقلب» مهين … فجمعت لها الطبيعة المصرية كل ما عندها من الكراهة للسخرية ومقاومة الشماتة المضحكة؛ وهما في الطبيعة المصرية قوة تعتصم بها في أحرج الأوقات.
ولم يلبث سعد وأصحابه بعد الخاطر الأول أن أعادوا النظر في الأمر كله، فوجدوا أنَّ العمل في مصر قد يكون أولى وأصوب، ولكن العودة إلى مصر بعد كل هذه القيامة التي أقامتها الأمة لتمكين الوفد من السفر، وهي خيبة أليمة لا تؤمَن عقباها، وقد تُيَئِّسُ الأمة من رجالها وتشككها في دعاتها، وتعجِّل بالتفرقة بين صفوفها.
ووجدوا كذلك أنَّ البقاء في أوروبا لا يمنع تركيز العمل في مصر والاعتماد عليه في الدعاية الأوروبية، وقد تنفع الدعاية الأوروبية في تنبيه عزيمة الأمة كلما احتاجت إلى تنبيه.
ومن مبدأ الأمر لم يكن رجاء سعد كله معقودًا على الحكومات والوسائل الحكومية: إذا جاء الرجاء من هذا الباب فذاك خير وأقرب سبيلًا، وإن لم يجئ فالشعوب من وراء الحكومات، والطريق إلى الشعوب مفتوح لمن يحسن وُلوجه ويقوى على صعابه، وهو القائل: إنَّ الشعب فوق الحكومة، وهو الذي أبى أن يسلم المطالب المصرية إلى المندوب البريطاني والوزراء البريطانيين احتفاظًا بالجانب الأهم منها «لاستنارة» الرأي العام البريطاني الذي يخضع له المندوب والوزارة. وهو الذي عرف أنَّ النائب في «الجمعية التشريعية» — التي لا حقوق لها ولا نفوذ لأحكامها — يملك من سلاح الحجة والبيان ما يكافح به الوزارة ويكافح به جبار قصر الدوبارة. فماذا حدث الآن؟ هل حبط الرجاء في مؤتمر الصلح وفي ويلسون وفي لويد جورج؟ حسن! إنَّ وراء هذه الأسماع أسماعًا، ووراء هذا المرجع مراجع: هناك الشعوب الأوروبية، وهناك شعب ويلسون وشعب لويد جورج … ومن يدري؟! فلعل شعب ويلسون وشعب ما قال وسامع غير ما سمع، وبالغ في إحراج السياسة البريطانية ما لم يبلغه رئيسه المخدوع بتلك السياسة.
كلُّ ما لم يقتلني يزيدني قوة.
وهذه قولة تصدق على كل رجل كبير الهمة مطبوع على الكفاح. فضربة الاعتراف بالحماية كانت ضربة نافذة، ولكنها لم تكن مميتة؛ ومن ثَمَّ كانت ضربة حافزة للعناد، مثيرة للنخوة، نافعة في توطيد النفس على بُعد الشقة.
لم تنفع الصدمة إلا في إقناع زغلول إقناعًا جليًّا بأن العراك خليق أن يجري إلى مداه في الحومة المصرية. فوجه همَّه على الفور إلى تلك الحومة، وطفق يدير المعركة من مقامه بباريس، ويبعث إلى أتباعه بمشجعات مموهة، ولكنها أخاذة باهرة بما تحدثهم عن الأنصار الذي يستميلهم للقضية الوطنية، والنجاح الذي يصيبه رجاله.
وقد أدار سعد المعركة في باريس على أتم وجه يستطيعه وفد من الوفود الشعبية؛ فإن الوفد المصري — على اعتباره غريبًا عن الأجناس الأوروبية — قد استطاع غاية ما يُستطاع من نشر الدعوة إلى جانب مؤتمر الصلح. فكتب إلى المؤتمر يطلب استدعاءه لسماع أقواله؛ لأن «إلغاء السيادة التركية يقتضي حتمًا تغييرًا في حالة مصر السياسية التي قررتها معاهدة سنة ١٨٤٠، ولا يصح إجراء هذا التغيير في غيبة المصريين». واتصل الوفد بكل مَن تيسرت لهم مقابلته من رجال المؤتمر وأعضاء وفوده وكبار موظفيه، وأقام المآدب للسَّاسة والكُتَّابِ والصحفيين الأوروبيين والأمريكيين ليشرح لهم الحوادث التي كانت تهملها الصحف، ويُريَهم صور المظاهرات التي اشترك فيها السيدات ورجال الجيش، وظهرت فيها الأعلام وعليها الصليب إلى جانب الهلال، ويذكر لهم ما استفاده الحلفاء من أموال مصر ورجالها مما كانوا يجهلونه ولا يعرفون خبرًا عنه.
وأقنع الوفد بعض مشاهير الكُتَّاب بكتابة رأيهم في قضية مصر وحقوق أبنائها، ومنهم فكتور مرجريت، وأناتول فرانس؛ فأصدر الأول رسالة في موضوع القضية المصرية، وقدَّمها الثاني بكلمات وجيزة على سبيل التزكية.
واجتهد الوفد في اجتناب كل عمل يتيح للمستعمرين البريطانيين أن يتهموه — كما فعلوا من قبلُ — بمشايعة دول الوسط، أو النزوع إلى المذاهب الفوضوية والاشتراكية، فلم يتصل بالمغفور له محمد بك فريد حين تلقى خطابه من سويسرا، لِمَا كان معروفًا من مقام فريد بك في ألمانيا وتركيا أثناء الحرب وبعدها. ولكنه اتصل بجميع المصريين المقيمين بفرنسا، ولا سيما أعضاء الجمعية المصرية في باريس، وكان لفريقٍ من هؤلاء أثر نافع في بث الدعوة، وتعريف الفرنسيين من جميع المذاهب بالوفد ومطالبه وصعوباته.
ولا نسهب في تفصيل المقابلات والخطب والولائم واحدة واحدة؛ لأن التفصيل لا يزيد القارئ شيئًا على ما هو مفهوم بالإجمال، وحسبنا أن نقول: إنَّ الوفد لم يَدَعْ في باريس ولا في مراكز الدعوة السياسية أحدًا يؤبه له إلا أبلغه مظلمة مصر، وأوجز له الحالة التي مرت بالقارئ في صفحات هذا الكتاب.
وقد كان المصريون في لندن — ومعظمهم من الطلاب — يعاونون الوفد كما عاونه زملاؤهم في العاصمة الفرنسية؛ فطبعوا الألوف من الرسائل، وقابلوا النواب، واستعانوا بالكُتَّاب حتى ضاقت بهم الحكومة الإنجليزية ذرعًا، فدمر الشرطة مكان اجتماعهم وصادروا الأوراق التي فيه، وظنوا أنهم قضوا عليها، وكانوا سيقضون عليها فعلًا لولا أن الطلاب أخذوا بالحيطة، فأعادوا طبع الأوراق مما كان مدخرًا عندهم من المحفوظات في مكان أمين.
وعلى الرغم من اعتراف الدول بالحماية فقد بدأت الحكومة البريطانية تشعر بالقلق بعد أن اتجهت أنظار الوفد إلى نشر الدعوة في الولايات المتحدة، وظهرت دلائل الاهتمام بالقضية المصرية بين ذوي النفوذ من الشيوخ الأمريكيين ورجال الصحافة … حدث هذا دون أن يكون للرئيس ويلسون فضل فيه؛ بل ربما كانت صدمته للوفد في باريس من أسباب اتجاه الوفد إلى الأمة الأمريكية رأسًا؛ ليثير في هيئتها الرسمية بهذه الوسيلة بعض العناية التي فاتته من رئيس الجمهورية ومعاونيه في المؤتمر. فإن أقصى ما صادفه الوفد من النجاح عند رئيس الجمهورية الأمريكية أنه تلقى منه ردًّا على خطاب كتبه سعد يطلب فيه المقابلة مرة أخرى، فإذا هو يعتذر في رده لضيق الوقت ويرجو أن يتسع وقته في المستقبل للمقابلة المطلوبة! وكان الوفد قد فهم أنَّ استثارة «الرأي» في الولايات المتحدة لبحث القضية المصرية أمر مستطاع بعد ما أحسه من أثر الأخبار التي بعث بها المراسلون إلى صحف أمريكا، وزاده أملًا في المزيد من الاهتمام أنه كان قد استخدم بعض الأيرلنديات والأمريكيين في أعماله الكتابية، فالتقى هؤلاء بالسَّاسة الأمريكيين الذين حضروا إلى باريس للدفاع عن استقلال أيرلندا، وعرفوا منهم الرغبة في تشديد النكير على الاستعمار البريطاني بذكر المسألة المصرية إلى جانب المسألة الأيرلندية، ومن هؤلاء السَّاسة مستر «والش» رئيس الوفد، ومستر «ريان» ومستر «دن» مساعداه.
وقد جرى الوفد المصري من قبل على سنة إرسال البيانات والاحتجاجات إلى المجالس النيابية مع إرسالها إلى الوزراء وممثلي الحكومات، فوجدت بياناته واحتجاجاته في مجلس الشيوخ الأمريكي صدًى أقوى وأصرح مما وجدته في المجالس النيابية الأوروبية.
ففي جلسة الحادي والعشرين من شهر يونيو اقترح الشيخ «ماسون» الاعتراف بالجمهورية الأيرلندية، فتصدى زميله مستر «بوراه» لفتح باب المسألة المصرية، وقال: «إنَّ مصر تستحق الاستقلال كما تستحقه الأمم الشرقية والأوروبية التي اعترف مؤتمر السلام باستقلالها.» فجددت هذه الحملة رجاء الوفد في تحريك قضيته من جانب الأمة الأمريكية وشيوخها، وأرسل يشكر المستر «بوراه»، ويبلغه أنَّ المصريين لَيعتمدون اعتمادًا تامًّا على مساعدة الشعب الأمريكي محب الحرية في تحقيق الآمال القوية لشعب حُكِم عليه بالاستعباد من غير أن يُسْمَع دفاعه.
وعاد المجلس إلى ذكر مصر بعد أيام، فقام المستر «والش» واتهم الوفد الأمريكي في مؤتمر السلام بخيانة المبدأ الذي غامر الأمريكيون بدخول الحرب من أجله، وقال: إنَّ الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى إذا أرادتا أن تدلَّا على حسن النية، فيحب عليهما أن تتركا جزائر الفليبين لأهل الفليبين وأيرلندا للأيرلنديين. وهنا قام مستر «مكس كورك» وقال: إنَّ مصر أيضًا يجب أن تكون لأبنائها، وأيده مستر «بوراه» سائلًا: لماذا يعترف مؤتمر الصلح ببولونيا ورومانيا ويغض عن أيرلندا، ولا يصغي إلى كوريا ومصر كما أصغى لغيرها؟! فقال مستر «شرمان»: «إنَّ معاهدة الصلح إنما كُتِبَت لخدمة المطامع البريطانية.»
كانت هذه الأقوال من أشد ما قيل وقعًا في نفوس المستعمرين وفي نفوس المصريين على السواء. فأما المستعمرون فقد أوجسوا من عواقبها في الولايات المتحدة وفي مصر نفسها، وأما المصريون فقد شعروا بفضل الدعوة واستبشروا بما وراء ذلك من صدى الحملة في الدوائر السياسية الأمريكية والبريطانية، وتبيَّن الوفد أنَّ الدعوة في تلك البلاد تستحق منه أن يضاعف العناية بها ويتابع إشهارها وترويجها، ويتركها للمصادفة والمناسبات العارضة، فانتهى بوساطة مستر «والش» إلى توكيل مستر «جوزيف فولك» في نشر الدعوة هناك، وكان الاختيار موفقًا؛ لأن الرجل ممن سبقت لهم الوكالة في القضايا السياسية الكبرى، وسبقت لهم ولاية المناصب وعلاج المشكلات؛ فهو ذو منزلة مرعية بين النواب والرؤساء، وله علاقة منتظمة برجال الدولة وأصحاب الكلمة المسموعة.
وأوشكت الدعوة الخارجية لمصر أن تنحصر خلال تلك الفترة في الولايات المتحدة، فعَنَّ لسعد باشا أن يسافر إليها مع بعض الأعضاء، ثم استقر الرأي على إيفاد محمد محمود باشا في هذه المهمة لمعرفته الإنجليزية، وتردد الوفد هنيهة بين هذه الفكرة وفكرة أخرى كانت ترمي إلى سفر اثنين من الأعضاء إلى البلاد الإنجليزية، يدافعان عن مطالب المصريين ويبسطان ما أصابهم من المظالم إما بالخطب أو بالنشرات إذا أحجمت الصحافة عن إذاعة ما يكتبان، ويفعلان ذلك باسميهما لا باسم الوفد أو باسم رئيسه، ويعولان على الدعوة الشعبية دون الرجوع إلى الهيئات الرسمية، التي أعرضت عن الوفد وتجاهلت شأنه، وكان الوفد يحرص على اجتناب الهيئات الرسمية في إنجلترا حتى تجيء المفاتحة من جانبها بعد أن أقام هو بما يجب عليه من إيذانها بقصده، ويقال: إنَّ رجال الحكومة الإنجليزية وَسَّطوا أناسًا من سراة الأجانب المقيمين في مصر لتيسير مقابلة بين سعد ومستر «بلفور» الوزير الفيلسوف الإنجليزي المعروف، فلم تتم هذه المقابلة لرغبة الوفد عنها ما لم تكن الدعوة صريحة من جانب القوم، وتغلبت فكرة السفر إلى الولايات المتحدة على هذه الفكرة.
ولم يستطع محمد محمود باشا أن يصل إلى أمريكا إلا في منتصف أكتوبر بعد مشقة في الحصول على جواز السفر لم تذلَّل إلا بمساعدة مستر «فولك» وبعض الأصدقاء الأوروبيين.
وقد كان مستر «فولك» أثناء ذلك يوالي الكتابة في الصحف، ويبسط وجهة النظر المصرية بين يدي مجلس الشيوخ ولجانه المنوط بها بحث هذه الأمور، وأهم ما أثمرته جهوده تصريحٌ صرَّحت فيه لجنة الشئون الخارجية «أنَّ مصر تعد من الوجهة السياسية غير خاضعة لإنجلترا ولا لتركيا، وأنما يجب أن تكون مستقلة وزمامها بيدها»، وخطاب ضافٍ ألقاه مستر «بوراه» عن مركز مصر السياسي والأطوار التي مر بها قبل الاحتلال وبعده، والفظائع التي أصابت أهلها في أثناء الحرب وبعد الهدنة، على ما سلف من معونتهم للإنجليز خاصةً والحلفاء عامةً.
فاهتمت المراجع البريطانية بإخفاء ذلك جميعه عن المصريين وتهوين خطره عندهم، ولا سيما تصريح لجنة الشئون الخارجية؛ فإن خبره لم يصل إلى مصر إلا من رسالة برقية أرسلها سعد من باريس إلى لجنة الوفد المركزية في التاسع والعشرين من أغسطس، فكان له فيها ضجيج لم يفرح المصريين بمقدار ما أغضب الإنجليز، وقد سعت المراجع الإنجليزية سعيَها حتى حملت الوكالة الأمريكية بالقاهرة على إذاعة تكذيب مبهم تقول فيه: إنَّ الخبر خطأ. ولم تعقبه بتصحيح من جانبها!
هذا في مصر. أما في الولايات المتحدة نفسها، فقد أزعج السفارة البريطانية فيها ما أبصرته من أثر الدعوة المصرية واتساع نطاقه واشتماله على الكثيرين من المستمعين والأشياع؛ فاضطُر مستر «رونالد لندسي» القائم بأعمال السفارة في واشنطن — وقد كان بمصر أثناء الحرب العظمى — إلى مقابلة تلك الدعوة بكثير من المساعي الخفية والعلنية، ومنها رد مفصل على سؤال مدير كتبه إلى إحدى الصحف يغض فيه من معونة المصريين ويقول منه: «إنَّ الحكومة البريطانية قد عُنيت بأن تتحاشى القضاء على السيادة المصرية، وإنَّ الجنود المصريين يعملون في ظل العلم المصري لا الإنجليزي، ولا تُرفع الراية البريطانية إلا على دور السلطة العسكرية البريطانية، وفيما عدا هذا تُرفع الراية المصرية الخاصة. ولو أني أردت أن أجيبك على سؤالك جوابًا لا يخرج على مدلول الألفاظ المحدودة لقلت إنه لم ينضوِ جندي مصري تحت الألوية البريطانية، ولكنه يكون بيانًا ناقصًا ولا مراء؛ إذ إنه في فبراير سنة ١٩١٥ عند هجوم الجيش التركي على مصر، اشتركت فرقة من المدفعية المصرية مع القوات البريطانية في الدفاع عن خط قناة السويس، وكان هجوم العدو قِبَل هذه الفرقة التي أدارت مدافعها بمهارة وكفاءة فساعدت على رد العدو. وفي اعتقادي أنَّ الخسائر كانت اثنين من القتلى وستة من الجرحى، ولم تشترك في العمل خلال الحرب أية قوة مصرية أخرى مسلحة، ولكن في الأدوار الأخيرة من الحرب قامت ثلاث فرق مصرية أو أربع بحراسة خطوط المواصلات في سيناء، بينما كان الجنرال اللنبي يغزو سوريا، وحدث كذلك أنَّ فصيلة مصرية كانت ببلاد الحجاز في وقتٍ من الأوقات، لكن هذه القوات جميعها لم تتعرض لنيران القتال. وفضلًا عن ذلك قد ضُمَّ عدد كبير من المصريين إلى فرقة العمال الملحقة بالقوات البريطانية، وكانوا يُسْتَخدمون لمدة قصيرة بين ثلاثة أشهر وستة، وقد قاموا لقوات الجنرال اللنبي بالأعمال اليدوية التي لا تستدعي خبرة فنيَّة، وبهذه الصفة كان ما أدَّوه من الخدمات عظيم القيمة؛ لأنهم أتاحوا لعدد من الجنود الإنجليز أن يكونوا في خط القتال، ولولا ذلك لاستُخْدِموا في ساقة الجيش، ولست أستطيع أن أذكر عدد هؤلاء الرجال الذين أُلحقوا بفرقة العمال، ولكنهم بلغوا في بعض الأوقات من ثمانين إلى تسعين ألفًا، وكان بعضهم يُستهدفون للنار، وهم يحفرون الخنادق وينقلون المؤن والذخائر بمقربة من خط القتال، فأصابهم بعض الخسائر. وليس في وسعي أن أقول كم تبلغ هذه الخسائر على وجه التحقيق، ولكني أعتقد أنها تبلغ في الجملة ألفًا وخمسمائة بين قتيل وجريح في خلال سنوات الحرب الأربع.»
إنَّ مليونًا ومائتَي ألف مصري جُندوا لفرقة العمال، وإنَّ الجيش المصري نفسه قاتل على قناة السويس وفي شبه جزيرة سيناء وفي الحجاز، وحارب عليُّ بن دينار في السودان، وإنَّ خسائر عظيمة نزلت بفرقة العمال وعلى الأخص من فتك الأمراض.
واستند مستر «فولك» إلى عبارة «السيادة المصرية»، فطلب توكيد الإخلاص في المقصود منها بتصريح رسمي من الحكومة البريطانية تعلن فيه موعد الجلاء، وتفوض إلى عصبة الأمم — بعد تأليفها — تقرير مركز مصر، وتتخلى عن كل معارضة في تمثيل الدولة المصرية عند الدول الأجنبية، وعن كل معارضة في سفر وكلاء الأمة المصرية إلى الولايات المتحدة.
ولم تزل المسألة المصرية تتردد على ألسنة الأعضاء بمجلس الشيوخ تارةً من حزب الحكومة، وتارةً من حزب المعارضة، حتى التفت إليها كثيرون ممن لا يسمعون بها، ووجدت الصحف مسوغًا لنشر الأخبار عنها وقبول المناقشة فيها، وأيقنت الحكومة البريطانية أنَّ اطراد الدعوة على هذا المنوال كافٍ لإقلاقها وتوقع المتاعب التي قد تضر بمصالحها كما تمس سُمعتها، وإن لم تعقبها نتيجة حاسمة في موقف الحكومة الأمريكية.
أما الدعوة في باريس، فقد كانت تنقطع حينًا وتتصل حينًا، ويثابر الوفد أكثر الأحيان على خطة الدعوة الشعبية؛ لأنه علم أنَّ النجاح فيها أقرب من النجاح في مخاطبة الحكومات والوزراء، وطفق على الجملة يراسل المجالس النيابية وأقطاب السَّاسة وكبار الأدباء، ويكتب إلى الصحف، ويلقى من ذوي الكلمة المسموعة من تَيسَّر له لقاؤه، ويجدد الاحتجاج والبيان كلما تجددت لذلك مناسبة من توقيع اتفاق أو عرض معاهدة أو وصول وفد أو غير ذلك، فجرى ذكر الحماية البريطانية على مصر في أكثر من مجلس من المجالس الأوروبية على نحوٍ لا يبلغ في القوة والإفاضة ما جرى في الولايات المتحدة، ولكنه مع ضعفه واقتضابه أقلق الحكومة البريطانية، وزاد مخاوفها من التمادي فيه إلى أن يدرك المصريون شأن الدعاية ونفاذ سلاحها تمام الإدراك. ولعل أكبر ما حدث من دعوة الوفد خلال هذه الفترة وليمته في ثاني أغسطس في فندق كلاردج بباريس، وهي الوليمة التي خطب فيها وزير سابق للبحرية الفرنسية وحضرها الكاتب المشهور فكتور مرجريت، وتُليت فيها كلمة من أناتول فرانس، وأجاب الدعوة إليها عدا هؤلاء بعض الشيوخ والنواب والصحفيين من أمم كثيرة.
هذه الحركة التي كانت تؤذن بالاستفاضة والاتفاق على تعاقب الأيام قد أفهمت السَّاسة الإنجليز أنَّ «التجاهل» سياسة لا تفيد إلى زمن بعيد، وأنه لا بد من «شيء» تعمله في هذه الحالة غير الاستخفاف الظاهر وطول البال، ولكنها لم تقصد إلى إرضاء المصريين بمقدار ما قصدت إلى الخلاص من الوفد، وتفريق شمله بين الآراء المتضاربة والمذاهب المتعارضة؛ فعجَّلت بإيفاد لجنة التحقيق برَآسة اللورد ملنر إلى القطر المصري لسؤال المصريين عن مطالبهم وتقرير نظام الحكم الذي يُحكمون به في ظل الحماية، ودعاها إلى التعجيل بإرسالها غير ما تقدم سببان آخران: «أحدهما» أنَّ رؤساء الوفد في القاهرة أعلنوا العزم على مقاطعتها إذا هي حضرت في تلك الظروف؛ لأن اللجنة تريد المفاوضة على أساس الحماية، وتستفتي البلاد وهي في قبضة الأحكام العرفية، وتدعي لحكومتها الحق في نظر الشكايات المصرية كأنها صاحبة السيادة على البلاد.
وقد شعر محمد سعيد باشا — رئيس الوزارة يومئذٍ — بإجماع الأمة على مقاطعة اللجنة، فنصح للورد اللنبي بإرجاء إرسالها انتظارًا للفراغ من عقد معاهدة الصلح مع الحكومة التركية، ووضوح مركز مصر السياسي من حيث علاقتها بالدولة البريطانية، فلم يشأ اللورد اللنبي أن يصغيَ إلى هذه النصيحة مخافة أن يُتَّهَم بالضعف والتراجع أمام صيحة المقاطعة من اللجان الوفدية.
والسبب الآخر الذي دعا إلى تعجيل الحكومة البريطانية بإيفاد اللجنة في تلك الآونة أنها علمت ببوادر التفكك التي أصابت بعض أعضاء الوفد في باريس، وقد عاد فعلًا بعض هؤلاء الأعضاء إلى الإسكندرية في الثاني عشر من شهر أغسطس، وهم: إسماعيل صدقي باشا وحسين واصف باشا ومحمود أبو النصر بك، وأذاعت لجنة الوفد في السادس والعشرين منه أنَّ علي شعراوي باشا قادم لأعمال خاصة بإذن من رئيس الوفد وزملائه، وعاد قبل ذلك آخرون لأسباب من هذا القبيل؛ فحسبت الحكومة البريطانية أنَّ الفرصة سانحة للفصل بين الوفد والأمة أو لتمزيق شمل الوفد، وتشجيع المترددين من أعضائه على تركه، ورجَّح عندها هذا الحسبان أنها علمت بما شاع عن آراء الأعضاء العائدين، وأنهم يتشككون في نجاح مسعى الوفد لإشفاقهم من مهاجمة الحكومة البريطانية بالدعوة الأجنبية، وإيثارهم أن تكون الدعوة في إنجلترا، وعلى رِضًى من رجالها الرسميين؛ فطمعت في توسيع مسافة الخُلف وبث الغواية من طريق اللجنة الملنرية، وما عسى أن تشير به من تحويل النظم والمناصب، وتقريب الآمال والرغائب.