من سفر الوفد إلى لجنة ملنر
استدعت الحكومة البريطانية السير «ريجنالد ونجت» توطئةً لإقالته من منصبه في دار الحماية، وهو الرجل الذي أحسن لها النصيحة، وأشار عليها بقبول سفر الوزيرين المصريين إلى العاصمة البريطانية، وعادت هي إلى رأيه بعد فوات الأوان.
واستبدلت به المارشال اللنبي فاتح القدس؛ لأنها حسبت أنها تروع المصريين بهيبته العسكرية، وهو خطأ غريب في تقدير الحالة وجمود على أساليب التخويف الدارجة بغير معنًى؛ لأن مظاهر الهيبة العسكرية والسطوة الحربية كانت كثيرة على مسمع ومبصر من المصريين أثناء الحرب العظمى، لا يرون في بلادهم من الحكم الإنجليزي إلا المدافع والدبابات والجنود تغدو وتروح في الحواضر والقرى بعشرات الألوف، فإذا كانوا قد ثاروا وهم على هذه الحالة، وجاءت ثورتهم على أعقاب انتصار الدولة البريطانية في الحرب العظمى، فما كانت الثورة إذنْ لأنهم كانوا في حاجة إلى مذكرة بالهيبة العسكرية والسطوة الحربية، وما كان اسم المارشال اللنبي عندهم إلا كاسم كل قائد في الميادين البعيدة أو القريبة؛ بل هم كانوا يسمعون بغيره من قيادة الميادين البعيدة سنوات قبل أن يسمعوا به في غزوة فلسطين.
جاء المارشال اللنبي إلى مصر وهو يقدر أن الرهبة من اسمه فوق كل كلام وتفكير، وأنه لا خوف إذنْ من اتهامه بالضعف إذا هو تواضع إلى سماع الشكايات ومخاطبة الشعب بلسان رجاله؛ فخاطب المصريين باسم الشيوخ ورجال الدين، كما خاطبهم باسم الوزراء والكبراء، وصدرت النصيحة المطلوبة من هؤلاء وهؤلاء يحضونهم على السكينة والاستقرار وانتظار ما يقضي به ولاة الأمور، فلم يكن لهم من أثر كبير ولا صغير؛ لأن الشعب لم يفهم من نصائحهم إلا أنهم مضطرون، أو أنهم متهمون في إخلاصهم إن لم يكونوا مضطرين.
وقد وقفنا بالقارئ من حوادث الثورة المصرية وأحوال الحكومة في مصر على استقالة الوزارة الرشدية لرفض الحكومة البريطانية سفر الدولة إلى أوروبا.
فلما سافر الوفد عادت الوزارة الرشدية في التاسع من أبريل، ولكنها لم تلبث قليلًا حتى استقالت؛ لأنها شعرت بالحرج من مطالب الضباط والموظفين، وهي معبرة عن مطالب المصريين أجمعين. فطلب الضباط الوطنيون أن تسند الحراسة إليهم؛ لأن إسناد الحراسة في الميادين العامة إلى أناس لا يفقهون لغة البلاد ولا يعرفون عاداتها كثيرًا ما جَرَّ إلى إزهاق الأرواح بغير موجب حتى من وجهة النظر البريطانية، كما حدث حين أُطْلِقَ الرصاص على المصلين الخارجين من المسجد، أو على المتظاهرين ابتهاجًا بالإفراج عن الزعماء.
وأَلَّفَ الموظفون لجنة من اثنين وثلاثين عضوًا لمخاطبة الوزارة في المطالب السياسية التي لا يتعرض لها الضباط، وهي التصريح بصفة الوفد الرسمية، وأنَّ قبول الوزارة الحكم لا يفيد الاعتراف بالحماية، والإفراج عن المعتقلين مع إبطال الأحكام العرفية.
وجاءت الوفود تترى إلى ديوان الوزارة تعزز هذه المطالب وتلح في قبولها، وعمَّ إضراب الموظفين وأصحاب الأعمال الحرة انتظارًا لتحقيقها؛ فاستقالت الوزارة ولما ينقضِ عليها أسبوعان؛ لتعذر التوفيق بين مطالب الشعب والموظفين وإرادة السلطة العسكرية.
وقد أنذر القائد العام الموظفين بالفصل إن لم يعودوا إلى دواوينهم، وتوعدهم بالمحاكمة العسكرية إن حرَّضوا على الإضراب، فعاد منهم فريق وقبضت السلطة العسكرية على زعمائهم الذين لم يعودوا في الموعد المحدد.
وفي الحادي والعشرين من أبريل أَلَّفَ محمد سعيد باشا الوزارة، وصرح لمندوبي الصحف يومَ تأليفها «أنها وزارة إدارية» لا تبت في شيء له مساس بمركز مصر السياسي … وليست لها صبغة سياسية؛ لأن المسألة المصرية لم يبت فيها بعدُ في مؤتمر الصلح، وأنها ستجتهد في استدعاء الجمعية التشريعية وإلغاء الأحكام الاستثنائية، ومنها قانون المطبوعات.
ولقد كان محمد سعيد باشا رئيس هذه الوزارة رجلًا داهيًا يحب — بما استطاع من دهائه — أن يجمع بين قضاء أغراضه واستبقاء سمعة سياسية يلبس لها لبوسها في كل مجال وعند كل فرصة. وكانت العلاقة بينه وبين سعد باشا علاقة فتور وجفاء منذ كانا في الوزارة معًا، ثم وقع بينهما ما وقع من الخلاف الشديد في الجمعية التشريعية، ولهذا حاول سعيد باشا أن يجمع وفدًا ثانيًا إلى جانب الوفد السعدي؛ لينازعه قيادة الأمة والدفاع عن القضية، معتمدًا في أول الأمر على الأمير عمر طوسون وأفراد من بقايا الحزب الوطني، ثم أحس نفور الأمة من هذا المسعى وصدود الأمير عمر عن متابعته؛ فتراجع وظل يرقب الأحوال إلى أن عُرِضَت عليه الوزارة فقبلها، واخترع صيغة الوزارة الإدارية، وحيلة تأجيل الوزارات السياسية إلى ما بعد عقد الصلح، وأبرم معاهداته مع الدول المحاربة ومع الدولة التركية على الخصوص؛ لأنه رأى في ذلك مخلصًا من جميع الجوانب.
فهو — بهذه الحيلة — يريح نفسه من المطالب السياسية، ولا يصادم الأمة في أمل من آمالها، ثم هو يستبقي دعوة الحزب الوطني إلى وقت الحاجة؛ لأنه الحزب الذي يعتمد على حقوق السيادة التركية في دعوته الوطنية، ثم هو يدفع لجنة التحقيق البريطانية بهذه الحجة إلى أقصى أمد ميسور حتى إذا جاءت بعد اعتراف الدولة التركية بالحماية البريطانية — كما كان منظورًا بين جميع العارفين — استطاع أن يسوس الأمر بغير مشقة مع أمة أشرفت على اليأس ونفضت يديها من جميع الدول، ووفد بدا فشله للأمة … وحزب وطني لم يبقَ له ما يتعلل به من السيادة التركية، ولكن بقى له من المنافسة للوفد ما يحفزه لحربه، ويُطمعه في الغلبة عليه، وقد ظهرت للأمة هزيمته وإخفاقه.
وأقبل سعيد — بمثل هذا الدهاء — على علاج المشكلات التي خلفتها الحماية والثورة لوزارته، فاجتهد في إقناع الإنجليز بتحويل قضايا الوطنيين من المحاكم العسكرية إلى المحاكم الأهلية؛ فاقتنعوا لأنهم يضمنون من صداقته لهم وإخلاصه في النصح أنه على الأقل عدو الوفد المصري ورئيسه.
وتشفَّع في تخفيف بعض الأحكام الصارمة فقُبلت شفاعته، ورفع شيئًا من الضغط على الصحافة والخطابة، واستمال إليه الموظفين بإغداق العلاوات عليهم، وزيادة مرتباتهم حتى بلغت مثيلها.
غير أنَّ الناس كانوا يستريبون بنياته، وينظرون إلى هذه الأعمال كأنها مخدرات ترمي إلى تهدئة النفوس وإضعاف الحركة الوطنية؛ فأوغرت من صدور الناس عليه أكثر مما جذبتهم إليه، ونقم الغلاة منه قبول الوزارة وتهيئة الخواطر للرِّضَى بالحالة القائمة، فثار بعضهم عليه ورماه أحدهم بقنبلة لم تصبه، وبلغ من كياسة الرجل أنه ذهب إلى المحكمة يؤدي شهادته، فطلب الرحمة بالمعتدي عليه؛ لأنه إنما اجترح فعلته بدافع من عقيدة خاطئة غلبته على صوابه.
واستمرت العلاقات بينه وبين المارشال اللنبي على وفاق إلى أن اختلفا على مسألة لجنة ملنر، ذلك الاختلاف النموذجي لكل اختلاف بين تفكير العسكري وتفكير الوزير المحنك من المدرسة التركية؛ فاللورد اللنبي يرى أنَّ امتعاض المصريين من قدوم اللجنة إلى بلادهم سبب كافٍ لتعجيل قدومها! وأنَّ إقناع المصريين بأن عواطفهم ومطالبهم لا حساب لها ولا اكتراث بها هو المقدمة الصالحة لمجيء اللجنة التي كانت مهمتها الأولى إرضاء تلك العواطف والبحث عن تلك المطالب! فإكراه الناس على قبول الأوامر هو المهم في السياسة العسكرية سواءٌ نجحت اللجنة أو لم تنجح، وعلى اللجنة وعلى المصريين بعد ذلك العفاء.
ورئيس الوزارة يرى — كما علمنا مما سلف — ألا تحضر اللجنة قبل الفراغ من حل القضية المصرية بين الدولة العثمانية — صاحبة السيادة — والدولة البريطانية؛ وهو رأي له قيمته من الدهاء والحصافة، ولكن لا قيمة له إلى جانب الأوامر العسكرية! وقد اختلف القائد والوزير، فلا محيص إذنْ من أن يستقيل الوزير.
استقال سعيد باشا وخلفه يوسف وهبة باشا في الحادي والعشرين من نوفمبر، فجرى على «السُّنة الإدارية» التي استنها سلفه، والتزم الحيدة مع اللجنة المقبلة، فلم يتخذ له موقفًا معها أو عليها. ولكنه لم يستطع أن يمنع بعض الرؤساء الإنجليز من تكوين حزب مصطنع من المنبوذين وطلاب المنافع الذين لا خلاق لهم، أسماه «الحزب المستقل الحر»، وأعده للقاء اللجنة ومداراة المقاطعة الإجماعية التي ستلقاها، ولم يفلح في هذه المحاولة على الرغم مما بذل فيها من المصروفات السرية والغوايات المختلفة.
أما اللجنة التي تفاقم حولها هذا الخلاف، فقد وصلت في السابع من ديسمبر وهي محوطة بسوء الطالع من كل مطلع. وكانت ممثِّلة لجميع الأحزاب الإنجليزية، ومؤلَّفة من رجال قديرين مشهود لهم بمعرفة الشئون المصرية والمسائل السياسية عامة، وهم: اللورد ملنر وزير المستعمرات، والسير رنل رود سفير إنجلترا السابق في روما، والقائد السير جون مكسويل الذي كان بمصر في أوائل الحرب العظمى، والسير أوين توماس الخبير بمسائل الري، والمستر سبندر الكاتب الصحفي المعروف، والسير سسل هرست الحجة في القانون الدولي، ومعظمهم ممن عرفوا مصر بالخبرة والاطلاع.
لكنهم حضروا والفشل يسبقهم، والصدور موغرة بما توالى على الناس من دواعي الكراهية والنفور، ووظيفة رئيسهم توحي إلى الناس أنه سيجعل مصر إحدى المستعمرات البريطانية.
وقبل أن ينقضيَ على اللجنة أسبوعان أو نحو أسبوعين، سرى في مصر نبأ الفرار الذي اعتمده نواب الولايات المتحدة، وهو رفض المعاهدة التي وقَّعها الرئيس ويلسون، فبدلًا من أن تجيء اللجنة وتركيا معترفة بالمعاهدات — كما كان يريد محمد سعيد — جاءت الولايات المتحدة — وهي قبلة أنظار العالم في ذلك العهد — تنقضها وتفتح الرجاء لإبطالها وتحقيق آمال الشعوب المخذولة فيها.
يحاول الأقوياء بجميع الوسائل أن يأخذوا منكم رضاه بحمايتهم؛ ليزدادوا قوة ويزيدوكم ضعفًا، فلا تنخدعوا إذا وعدوكم، ولا تخافوا إذا هددوكم، واثبتوا على التمسك بحقكم في الاستقلال التام؛ فهو أمضى سلاح في أيديكم وأقوى حجة لكم، فإن لم تفعلوا — وليس في قوة إيمانكم الوطني ما يجعل احتمالًا لذلك — خذلتم نصراءكم، وأهنتم شهداءكم، وحقرتم ماضيَكم، وأنكرتم حاضركم، ومددتم للرِّق أعناقكم، وحنيتم للذل ظهوركم، وأنزلتم بأمتكم ذلًّا لا يُرفع منه عز، وإن تفعلوا — كما هو أكبر ظني في عظم إخلاصكم ومتين اتحادكم وقوة وطنيتكم — فقد استبقيتم لأنفسكم قوة الحق، وأعددتم لنصرتكم قوة العدل، فلا تذلوا وإن قُهرتم، ولا تخشوا وإن ظُلمتم، ولا بد من يوم يعلو فيه حقكم على باطل غيركم، وينتصر فيه عدل الله على ظلم خصومكم، وتتحقق بإذن الله الإله القدير آمالي وآمالكم في الاستقلال التام.
وصل هذا البلاغ إلى مصر، ونُشر في صُحفها عند منتصف يناير، وكانت لجنة الوفد المركزية قد أعلنت بلاغًا في معناه عقيب صدور البيان المتقدم من لجنة ملنر، وتعاقب على أثره صدور البلاغات في هذا المعنى من ذوي الشأن والرأي في مقدمتهم الأمراء والعلماء، وأيقنت اللجنة — لجنة ملنر — أن لا رجاء في الاتصال بينها وبين الأمة المصرية على قاعدة البيان الجديد؛ لأن هذا البيان لم يغيِّر من الأمر شيئًا، ولأن الأمة لا ترى لها مصلحة في تجاهل وفدها النائب عنها في قضيتها، كما ترى السياسة الإنجليزية المصلحة في هذا التجاهل أو هذا التفريق بين الأمة ودعاتها؛ فلم يعد للجنة مناص من السفر أو من القناعة بما عندهم من وسيلة لاستطلاع الآراء هنا وهناك، وزيارة بعض أعضائها لبعض أصحابهم الذين كانوا يعرفونهم من سراة المصريين في القاهرة أو الريف، وشاع بين أبناء الريف أنَّ أعضاء اللجنة الملنرية يطوفون البلاد خفية؛ فأصبحوا يستريبون بكل سؤال يلقيه عليهم أجنبي غير معروف، ورُويت في ذلك أحاديث شتى تدخل في باب المُلَح والطرائف، ولكنها تدل في الوقت نفسه على الجد في كراهة الحماية وحب الاستقلال والوفاء لزعيم الوفد والحذر من حيل الاستعمار؛ فكان الفلَّاح الساذج إذا سأله أجنبي لا يعرفه: أين الطريق؟ بدر إلى ذهنه أنه عضو من أعضاء اللجنة يتخفَّى لاختلاس الآراء والأجوبة بغير علم الوفد، فأجابه على الفور: عليك بسعد في باريس يخبرك أين الطريق، وإذا سأله: هل لك أولاد؟ أو سأله: كم أجرك في اليوم؟ لم يزد على أن يحيله إلى سعد في باريس فهو أعلم بالجواب! ولا يبعد أن يكون أعضاء اللجنة الذين اختلفوا إلى الأقاليم قد صادفوا شيئًا من هذه الأجوبة، وعرفوا من دلالتها السياسية ما هو أدل وأجلى مما كانوا يقصدونه بالتحقيق والسؤال.
ولا ينبغي أن ننسى أناسًا من الداعين إلى مقاطعة اللجنة قد تشعبت بواعثهم ونياتهم، فلم يكونوا جميعًا على نية الأمة في تأييد الوفد ورعاية حق نيابته، أو صون كرامته على مهانة التجاهل الذي قصدته الحكومة البريطانية، فكان ممن اتخذوا المقاطعة أناس اتخذوها إحباطًا لكل مفاوضة يجريها الوفد في الحاضر والمستقبل، ومنهم خصوم له كانوا يرضون باليسير في حل القضية المصرية، ولا يطمعون في استقلال تام ولا ناقص، ولكنهم يصطنعون الغلو ويُؤْثرون التصعيب وتوسيع المسافة بين طرفَي الاتفاق؛ لاعتقادهم أن كل شرط يوضع للمفاوضة المقبلة إنما هو عقبة في طريق الوفد دون غيره من الرجال الرسميين، فإن هؤلاء الرجال الرسميين لا يلقون أكثر اعتمادهم على قوة الحكومة، ومن ورائها قوة الاحتلال.
أما الوزراء الذين كانوا معروفين يومئذٍ باسم أصدقاء الوفد — وهم رشدي وعدلي وثروت — فقد أخذوا بالحيطة فلم يُغضبوا الوفد ولم يُغضبوا اللجنة، وكتبوا في السابع من يناير خطابًا إلى سعد يقترحون فيه عليه أن يعود هو وأصحابه إلى القاهرة لمفاوضة ملنر بعد الوعود التي أفضى بها إليهم، ولا تخرج عن معنى البيان المتقدم، فلما أجاب الوفد بامتناع ذلك لأن بيان ملنر يحصر الغرض من المفاوضة في الحكم الذاتي، أجابوه بما أسلفنا من تفسير كلمة «الحكم الذاتي»، كما جاءت في الصيغة الإنجليزية، وقالوا: إنَّ اللورد ملنر لا يرى مانعًا من دخول الوفد المفاوضة على أساس الاستقلال التام، وإن كان هو لا يستطيع الجهر بهذا الأساس، ولا يزال يرجو بعد تمام المفاوضة أن يُحسِّن «للرأي العام الإنجليزي» قبول ما ليس يقبله الآن.
… إننا لم نجد في بلاغ ملنر شيئًا يخالف التصريحات السابقة عليه إلا خلوه من لفظ الحماية وحسن أسلوبه. أما في الجوهر فقد وجدناه متفقًا معها تمام الاتفاق؛ إذ هو مثلها يَعتبر مصر تابعة لإنجلترا، ولجنة ملنر لجنة تحقيق، موقف المصريين معها موقف المجيب من المستجوِب، وغاية أبحاثها الوصول إلى وضع نظام حكومي في دائرة الحكم الذاتي، ونحن لا نعترف بشيء من ذلك؛ فلا تبعية لإنجلترا علينا، ولا نعرف لهذه اللجنة سلطة التحقيق في بلادنا، والغاية التي نسعى إليها هي التمتع بجميع حقنا في الاستقلال التام، نعم! إنَّ هذا البلاغ وسَّع مجال المناقشة، ولكنه ضيَّق الغاية منها؛ فجعلها وضع نظام حكومي في حدود الحكم الذاتي؛ وبذلك هدم بيدٍ ما بناه باليد الأخرى، وزاد أن اشترط لنفسه حرية العمل، وهو تحديد الغاية الذي لا ينقل المسألة من مركزها، فلا ترتفع به حماية بل تتأكد، ولا يتم به استقلال بل يقل، ولا يفيد إلا شيئًا واحدًا هو تسهيل مأمورية التحقيق على اللجنة، وما كان للمصريين أن يعرفوا لها هذه الصفة وألا يسهلوا لها هذه المأمورية. وأكبر ما تعطيه أو تشير بإعطائه أقل من حقهم بكثير. زِدْ على ذلك أنها جاءتهم رغم أنوفهم وضد إجماعهم بأن استعملت كل وسائل الشدة معهم تمهيدًا لوصولها، وشكَّلت وزارة لم يرضَ الرأي العام بها.
إنَّ عودة الوفد أو بعض أعضائه على أثر هذا البلاغ لم يخطر ببالنا للاعتبارات السالف ذكرها، ولأن الإنجليز لا يتأخرون أن يتخذوا منها حجة على فوز سياستهم، ويبنون عليها كثيرًا من الأقوال التي ينشرونها لتضليل الرأي العام في أوروبا عمومًا وإنجلترا خصوصًا. ربما كان يسهل علينا أن نتعرض لمثل هذا الخطر، ونعجِّل لهم ذلك الفوز لو أنهم وعدونا بشيء في مقابلته وعدًا صريحًا يصح الاعتماد عليه. ولكنهم لم يفعلوا، وليس لنا أن نتوهم أنهم سيفعلونه بعد عودتنا على غير وعدٍ سابق. لو أنهم مع توسيع مجال المناقشة أطلقوا الغاية منها لَصح لنا أن نتعشم أن نقنعهم بالبرهان الصادق والحجة الدامغة بصحة مطالبنا، ولكنهم حددوها بما دون ما نطلب حتى في ذلك البلاغ الذي نشروه بقصد استرضائنا؛ فكان مثلهم في ذلك مثل بعض القوانين الألمانية القديمة التي كانت تقضي بسماع الشهود بعد الحكم في الدعوى؛ ولهذا رأينا أنَّ العودة ارتكانًا على البلاغ المذكور لا تكون إلا عبثًا مقرونًا بالخفة والمخاطرة. ويصح للإنجليز وغيرهم أن يقولوا إنه كفى أن يغيَّر شكل التصريح، وأن يؤتَى ببعض العبارات الطلية في أن تغيُّر الأمة المصرية بتمامها خطتها نحو اللجنة، فتخرج من مقاطعتها إلى المفاوضة معها. كلا! إننا لم نبلغ هذا الحد من البساطة والسذاجة؛ إنَّ المسألة أكبر بكثير من أن يكون لاختلاف الصور والأشكال تأثير فيها.
إننا نقبل العودة للمفاوضة على شرط أن تكون بين متعادلين في حقوق المناقشة وطرفين كلٌّ منهما يمثل أمة، وأن يكون الغرض منها الوصول إلى عقد معاهدة تضمن لمصر استقلالها التام ولإنجلترا مصالحها التي لا تتعارض مع هذا الاستقلال التام، وأن تعترف الدول بهذه المعاهدة وتسجَّل في عصبة الأمم. فإذا صرح الإنجليز بذلك رسميًّا هنالك لا نتأخر عن العودة لمباشرة المفاوضة متى أُلغيت الأحكام العرفية، وضُمنت لنا العودة لمباشرة أعمالنا عندما نريد. أما المفاوضة في أوروبا فنحن مستعدون لها مع لجنة ملنر أو غيرها ما دامت المناقشة لا يترتب على الدخول فيها الالتزام بشيءٍ ما. وما دام أنَّ العبرة بما يتم عليه الاتفاق في حدود التفويض لنا، فإذا كان الإنجليز يرغبون حقيقةً في ودِّنا وفي بناء علاقاتهم على الاتفاق معنا، فلا شيء أسهل عليهم من اتباع إحدى هاتين الطريقتين للوصول إلى الغاية. وهم لا بد أن يفهموا أنَّ الأمة المصرية وصلت من اليقظة والانتباه ومعرفة حقوقها إلى درجة لا تركن معها إلى الأقوال، ولا تعتمد فيها إلا على الأعمال، ولا ترضى عن استقلالها التام بديلًا. نعم! إنَّ في قوتهم إرغامها على النظام الذي يريدون وضعه فيها، وقد لا يبعد عليهم أن يحملوا كل الدول على الاعتراف بحمايتهم علينا، ولكن حقنا لا يضيع بهذا الإرغام ولا بهذا الاعتراف، بل يبقى ثابتًا، ونبقى مستمرين على المطالبة به والسعي للحصول عليه، وإذا لم يكن في الحكومات الأجنبية الآن من يمد يد المساعدة إلينا، ففي شعوبها كثير من الأحرار يعطفون علينا وينتصرون لقضيتنا بأقلامهم وخطبهم، وما يدرينا أن يظهر غدًا المساعد لنا؟! وللزمان تقلبات تجعل الحليف عدوًّا والعدو حليفًا.
ولا يصح أن نُسقط من حسابنا اتساع ملك بريطانيا وتباعد أطرافه، واضطراب الأحوال في ممتلكاتها وجوارها، وانتشار المبادئ الديمقراطية في العالم عمومًا وفيها خصوصًا، وتهديد حزب العمال لحكوماتها بالاستيلاء عليها وقربه من هذه الغاية يومًا فيومًا، كما تؤيده الانتخابات الجزئية والاعتصابات التي كثر تواليها في هذه الأيام. كل هذا يجعلنا ألا نغامر بحقنا، وأن نبقى متشددين في التمسك به ومقاطعين للجنة التي حضرت رغم أنوفنا لحملنا على الرضاء بإنقاصه حتى تعود خائبة؛ فيعلم الإنجليز وتعلم الأمة والعالم معها أنَّ مصر متحدة تمام الاتحاد على الوصول إلى استقلالها التام، وأنَّ إرادتها على ما تكره مخالف لشرف الوعود التي بذلتها إنجلترا، ومناقض للعهود التي سجلتها، وغير منطبق على المبادئ التي قبلتها، ومكدر على الدوام لسلمها ومقلق لراحتها، وأنَّ خير سياسة تتبعها هي أن تبر بوعدها، وتتخذ من مصر حليفة صادقة لها لا تابعة نافرة منها تترقب الفرص دائمًا للخروج عليها، وتفضل الموت على الاستسلام لها …
هذا بيان مفصل برأي سعد في احتمالات الحالة من جميع أطرافها، ومنه نعلم لماذا كان على خلاف رأي الوزراء «الأصدقاء» في العودة إلى القاهرة لمفاوضة ملنر، ونعلم أنه لم يكن يرفض المفاوضة إذا جرت في أوروبا؛ لأنها لا تكون هناك بمثابة تحقيق تجريه الدولة المتبوعة في بلاد رعاياها فضلًا عما فيها من اعتراف اللجنة بوكالة الوفد عن الشعب المصري، وهي لا تجهل نصوص ذلك التوكيل ولا مطالب الشعب المحدودة فيه.
وبديه أنَّ الوزراء «الأصدقاء» لم يكونوا لينتظروا لهم «دورًا» يقومون به قبل تمام المفاوضة بين الوفد ولجنة ملنر وانتهائها إلى صيغة محدودة يتفق عليها الطرفان، أو يظهر منها على الأقل مبلغ استعداد الإنجليز لإجابة المطالب الوطنية، فأما قبل ذلك فليس في وسع الوزراء أن يفاوضوا اللجنة في تفصيلات الاتفاق بمعزل عن إجماع الأمة وموقف الوفد بباريس ولجنته المركزية بالقاهرة في وقت واحد، ولو أنهم أقدموا على هذه المفاوضة العقيمة لخسروا الجانبين معًا وأخفقوا في تقرير الاتفاق المطلوب لا محالة، ورجعوا وحدهم بتبعة الفشل أمام الأمة. وأما الإنجليز، فهُم لم يخطئوا في تقديرهم أنَّ المفاوضة بين الوفد ولجنة ملنر لا بد أن تسبق كل «دور» يقومون به في هذه المرحلة؛ ومن ثَمَّ اجتهدوا في إقناع سعد بالحضور إلى مصر أو إيفاد من ينوب عنه لمفاوضة اللجنة، وكانوا متعجلين — ولا شك — فيما اقترحوه؛ لأنه اقتراح أقل ما فيه أن يدل اللجنة الملنرية على تهافت المصريين وتراميهم على هذه الفرصة المدخولة تراميَ المناضل الذي استنفد موارده الأخيرة وقنع بالتعلل والمغالطة، وليس في شيء من هذا ما يغري اللجنة بالتوسع في إجابة المطالب المصرية، أو يرجح عندها أن تتوقع رفضًا لما تعرضه أيًّا كان الحل المعروض، فلما تريث سعد ولم يقنعه تفسير العبارة الإنجليزية ذلك التفسير الذي أسرع الوزراء إلى قبوله، دار الكلام في إيفاد رسول من قِبل اللجنة إلى باريس لتمهيد المقابلة بينها وبين الوفد بعد عودتها من القاهرة.
ومن هذا الخطاب نفهم أن سعدًا لم يأخذ بالتفسير كما جاء في حديث ملنر مع الوزراء، ولكنه أراد أن يستفيد من ملنر والوزراء على تفسيرهم بأن يمهد به لإنشاء الحياة النيابية وقيام الحكومة الدستورية، ويجس النبض لاستطلاع ما هنالك من النيات والخطط المرسومة، فإن جاء الدستور فذاك، وإن لم يجئ لسبب من الأسباب، فظهور ذلك السبب خير من كتمانه والمواربة فيه.
ولا أخفي عليكم أنَّ فكرة هذا النظام خطرت أول الأمر ببالنا على أنها الوسيلة القانونية لحل المسألة؛ لذلك نحن نوافق كل الموافقة عليها بل نحبذها، والطريقة المثلى للوصول إلى هذه الغاية في رأينا هي أن يُبدأ بتأليف وزارة من غير أعضاء الوفد موثوق بها، ويكون البروجرام الذي تعلنه هذه الوزارة هو وضع ذلك النظام، ثم المفاوضة مع الحكومة الإنجليزية بغرض الوصول إلى وضع اتفاق يضمن استقلال مصر التام ومصالح إنجلترا الخصوصية، ثم عرض ما تنتهي المفاوضة إليه على الهيئة النيابية التي تتألف بموجب ذلك النظام للتصديق. ومتى تم تشكيل الوزارة على هذا النحو، وأعلنت بروجرامها على هذه الصيغة أو بما في معناها، لا نتردد نحن وزملاؤنا في العودة إلى مصر لمساعدتكم على القيام بمهمتكم لدى الأمة، والسعي في أن تنتخب أعضاء لهذه الهيئة. إذا تم لكم أن تفعلوا ذلك خدمتم بلادكم أجَلَّ خدمة، وخلدتم لكم في التاريخ أحسن الذكرى.
إنَّ الطريقة التي عرضناها فيما كتبناه لكم هي في اعتبارنا أمثل طريقة لحل العقدة الحاضرة؛ لأنه من الطبيعي أن تُجرى مفاوضة مع هيئة رسمية موثوق بها خصوصًا من الأمة، وأن يصدق على ما تنتهي المفاوضة إليه من النواب الذين تختارهم لهذه الغاية، وهي تقرب في ظننا من التي يظهر أنَّ اللورد ملنر يُدلي بها في محادثاته معكم، وفيما أكد لكم من المقصود بالعبارة الإنجليزية السابقة التي أوردها في بلاغه، إن لم تكن هي بذاتها؛ ولهذا يغلب على ظننا أنه يهش لها ويعمل على تنفيذها، ولا يصعب عليه أن يتضمن بروجرامكم عبارة الاستقلال التي أوضحناها فيما كتبناه لكم؛ لأنها لا تربط غيركم، وهي فوق ذلك ضرورية جدًّا حتى لا تقابلكم الأمة بالنفور الذي تلاقي به كل وزارة، لا يكون السعي إلى هذه الغاية أول قصدها وأكبر همِّها، نعم! إنَّ فيها مشقة عظيمة لكم ومسئولية كبرى عليكم، ولكنها ليست فوق همَّتكم، وأنتم أهلٌ لتحمل كل هذه المسئولية في خدمة بلادكم، والوفد مستعد لأنْ يعمل ما في وسعه لتسهيلها عليكم؛ ولهذا يرى أن يكون أعضاؤه خارجين عن هيئتكم حتى لا يُساء الظن في نزاهتكم، وتبقى الثقة فيهم يستعينون بها في تأييدكم وتمهيد الطريق أمامكم. وبعد أن تتألف الهيئة الجديدة تحت رئاستكم وتعلن بروجرامها، لا يترددون في العودة ليكونوا قريبين منكم يعملون في تنوير الأفهام وصيانة الرأي العام من خطرات الأوهام، التي لا يقصد ذوو الأغراض الفاسدة من بثها فيه وتسليطها عليه إلا ترويجًا لمقاصدهم الفاسدة وتحصيلًا لمصالحهم الباطلة، ولا يهمنا فيمن تختارونهم لمعاونتكم إلا أن يكونوا محلًّا لثقتكم وأهلًا لأن يتضامنوا معكم في تحمل تلك المسئولية الكبرى.
نعم، إننا على رأيكم من أنَّ وجود هيئة وزارة تعمل على تحقيق الأماني القومية وتثق بها الأمة في ذلك من أهم الأمور، وربما كانت الوسيلة القانونية الوحيدة للحصول على الغاية التي ننشدها، ولكننا نرى أيضًا أنه لا يصح أن تستأثر هذه الهيئة بالمفاوضة وحدها وبوضع النظام الدستوري للبلاد، بل يجب أن يكون هذا بالاشتراك مع الوفد، وطريقة العمل في ذلك أن تعلن الوزارة حين تشكيلها أن برنامجها هو السعي للوصول إلى اتفاق يوفِّق بين استقلال مصر والمصالح الإنجليزية والأجنبية، ووضع مشروع نظام دستوري للبلاد، ثم تعهد المفوضة لهيئة تضم بعضًا من أعضاء الوزارة، وبعضًا من أعضاء الوفد.
بعد هذه الرسائل المتبادلة بين سعد وعدلي انجلت سياسة سعد وسياسة الوزارة «الأصدقاء» مع لجنة ملنر، بل انجلت سياسة كلٍّ من الفريقين مع الفريق الآخر، وأصبح في وسع الناظر إلى ما وراء الظواهر أن يلمس النيَّات التي توحي إلى كل فريق بسياسته ومقترحاته.
فسعد يريد حلًّا للقضية المصرية لا مغالطة فيه، ويريد أن يترك للوزارة «الأصدقاء» ما هو للوزراء ويُبقي للزعامة ما هو للزعامة؛ فليس عنده ما يمنع أن تفاوض الوزارة الصديقة الإنجليز متى ضمن سلامة المفاوضة وعرض النتيجة على الأمة. وهو لا يريد أن تسيطر الحكومة على الرأي العام وتُعرِّض الوفد للانقسام؛ لأنها إذا أدت عملها مستقلة به بقي للوفد عمل آخر عند عرض النتيجة على الهيئة النيابية المماثلة للأمة، ولا بأس في أن يقوم به يومئذٍ متفقًا مع الوزارة؛ لأن المرجع في جميع ذلك إلى ميدان الانتخاب الذي يجوز لأعضاء الوزارة كما يجوز لأعضاء الوفد أن ينزلوا إليه.
أما سياسة عدلي فهي قبول الوزارة مع التزام الخطة التي جرى عليها هو وزملاؤه من مبدأ الحركة الوطنية، وهي خط الانتفاع بنفوذ سعد والاحتراس منه في وقت واحد، أو هي إشراك الوفد في التبعة حذرًا من رقابته وتعقيبه إذا استقل الوزراء بالمفاوضة والاتفاق على القضية العامة! وهذه سياسة هي أدنى إلى العداوة منها إلى الصداقة وخلوص النية؛ فهم لا يريدون أن يَدَعُوا سعدًا حرًّا في عمل واحد، ولا يعنيهم إلا أن يُشركوه معهم في التبعة، ويسوقوه حيث انساقوا، ويقطعوا عليه سبيل التعقيب والملاحظة، ويقدِّموه أمامهم خطوة خطوة ليحموا ظهورهم ويحفظوا لأنفسهم طريق الرجعة. وكلما استطاعوا أن يُهوِّنوا عليه قبول ما قبلوه أسرعوا إلى محاولة إقناعه؛ لأنهم لا يخسرون شيئًا وإنما هو الخاسر عند الجمهور إن قَبِل! بل لعلهم يكسبون أن يقنعوا الناس كما أقنعوا أنفسهم بأنهم كانوا على صواب في قبول الحماية، وأنَّ الأمة لن تنال بالثورة أو بغير الثورة وبالزعامة أو بغير الزعامة أكثر مما قبلوه.
فحسنوا لسعد أن يعود إلى مصر ويرضى بمغالطة نفسه ومغالطة الأمة في الألفاظ التي لا تسمح بالمغالطة، ثم حسنوا له أن يشترك بفريق من أعضاء الوفد في هيئة المفاوضة ليدخلوه في التبعة وهم قابضون على زمام الحكومة، ومن قبل ذلك رحبوا في أيام الحرب العظمى بدخوله معهم في الوزارة ليعترف بالحماية كما اعترفوا بها، ونظروا في ذلك إلى أنفسهم غير ناظرين إلى البلد الذي كان يجوز أن يهيب بسعد أو يهيب سعد به إلى بلوغ ما لم يبلغوا من استقلال وحرية، وأبوا بعد الهدنة أن يسافروا إلا إذا سافر هو يوم جاءهم الإذن بالسفر إلى العاصمة البريطانية، وكل ما صنعوه بعد ذلك في مفاوضات ملنر وكرزون مطَّرد مع هذه الغاية ومنبعث من هذه النية، وهي أن يقاسموا سعدًا في كل ما يدركه، وأن يشركوه معهم في كل ما وقعوا فيه، وألا يتركوه حرًّا في فرصة من الفرص ليطلب فوق ما طلبوه، وينال فوق ما عسى أن ينالوه.
وهي خطة حافظ الوزراء «الأصدقاء» عليها أدق محافظة، ولن يتأتَّى لهم أن يتبعوها على نمط واحد بغير تفاهم وممالأة، ولن يقع التفاهم عليها مع الصداقة وخلوص النية، وسواءٌ حسنت نتائجها أو ساءت فهذا الذي قصدوه بما بذلوا من مساعدة أو نصيحة، وعلى حسب هذا القصد يكال لهم العذر أو الملام.
وقفت مسألة الوزارة التي دار الكلام عليها في الرسائل السابقة؛ لأن اللورد ملنر لم يستحسنها عندما فاتحه عدلي فيها، وتعلل بقوله: «إنَّ الفكرة لا بأس بها، ولكني لا أرى من المصلحة تغيير الوزارة الآن؛ لأنه إذا شُكلت وزارة مهمتها المفاوضة فربما اعترض هذه صعوبات يكون من نتائجها سقوط الوزارة، على أنَّ أعضاءها — وهم الذين سيكون عليهم المعول في إدارة البلاد — يجب ألا يكونوا عرضة للتخلي عن خدمة البلاد بمجرد إشكال يمكن أن يُحلَّ فيما بعد.»
فقال عدلي: «لم يبقَ إذنْ سوى حل واحد، وهو أن تتفاوضوا مع الوفد.»
وحوالي هذا الوقت ختمت لجنة ملنر أعمالها في مصر، وأصدرت في السادس من شهر مارس بيانًا رسميًّا قالت فيه: إنها أنجزت بحوثها، وأجلت عملها الباقيَ إلى أن تجتمع بلندن بعد عيد الفصح لتحضير تقريرها. وذهب رئيسها في رحلة إلى فلسطين مكث فيها نحو أسبوعين، ثم عاد إلى الإسكندرية في السادس والعشرين، وقفل منها إلى بلاده. أما الحالة في الفترة التي قضتها اللجنة بمصر فخلاصتها أنها أسفرت عن إخفاق السياسة البريطانية في التفرقة بين الوفد والأمة، وعن نجاح الحركة الوطنية في زعزعة الحماية التي كان الضعفاء يحسبونها قضاءً مبرمًا لا يدفعه دافع، ولاح من كلام الصحف المشهورة بنزعتها الاستعمارية عقب رجوع لجنة ملنر من مصر أنَّ الحكومة البريطانية لم تجد بدًّا من التفكير في إلغاء الحماية، فصرح بعضها — ومنها الديلي ميل — بما يفيد تلك النية.
ولقد لمست الأمة المصرية قوة إجماعها بيديها في أيام اللجنة الملنرية، وشعرت باستقلالها حقيقة ماثلة في ضميرها وإن جحدته المظاهر الرسمية؛ فصمدت على التفاؤل والاطمئنان إلى المستقبل غير حافلة بما بدا من ضعف الأعضاء الوفديين الذين تراجعوا على أثر ما اصطدموا به من اعتراف الدول جميعًا بالحماية، وأعان المصريين على تحدي هذا الإجماع أنهم رأَوْا مؤتمرًا كالمؤتمر الأمريكي يرفض معاهدة فرساي؛ فشعروا بأن إجماع الدول على توقيعها ليس بالسد المنيع الذي يُستعصى اختراقه، ويحق عليهم اليأس من تداعيه يومًا بعد يوم، كلما تبدلت أطوار الشعوب وعلاقات الحكومات.
وظل النفور مستحكمًا بين الحكام العسكريين والأمة المصرية في إبان زيارة اللجنة الملنرية، وكأنما كان يهم هؤلاء الحكام العسكريين أن يوقِعوا في أخلاد المصريين أنَّ حضور اللجنة إلى هذا البلد لا يعني أن الدولة البريطانية تبالي بشعورهم، وتكترث لرفضهم أو قبولهم، فدأبوا على الغطرسة والعناد. ولولا قليل من الحرية في نشر بعض الآراء لظلت الحالة كما كانت عليه قبل حضور اللجنة بلا اختلاف.
وزاد الجو اكفهرارًا لجاج حكومة السودان في مشروعات الري والزراعة، وهي المشروعات التي ترمي إلى بناء خزان على النيل الأزرق وخزان آخر على النيل الأبيض، واستدراج الحكومة المصرية إلى القيام بتكاليف هذه المشروعات ليستفيد منها أصحاب الأموال في إنجلترا، ويستعينوا بها على إصلاح الأرضين الواسعة وزرع القطن الذي يزاحم قطن مصر، ولا ينتفع به أهل السودان؛ فبلغ الحنق من هذه المشروعات أقصاه، وساء تأويل كل ما يقال وكل ما يراد في هذا الباب، وتعرضت حياة وزيرين مصريين من رجال الهندسة والري — وهما إسماعيل سري باشا ومحمد شفيق باشا — للخطر من جراء البحث فيها؛ إذ ألقى بعض الشبان على كلٍّ منهما قنبلة في طريقه، واتفقت الحادثتان معًا في أثناء زيارة اللجنة الملنرية، فدلتا على اكفهرار الجو أثناء زيارتهما أيَّما اكفهرار.