القيد
لعلك تذكر قصة التيه، وتذكر موقف تلك المرأة بين زوجها القديم والجديد وبين ابنها، وما نشأ عن هذا الموقف من مصاعب وعقاب لم يكن إلى تذليلها من سبيل، في تلك القصة طُلب الطلاق فظفرت به المرأة التي طلبته، ولكنها لم تسعد بالطلاق، بل كان كل مصدر شقائها، ولم يسعد بالطلاق زوجها القديم، ولم يسعد به زوجها الجديد، وإنما لقيا منه ضروبًا من المحن والآلام انتهت بهما إلى الموت، ولم يسعد الطفل بهذا الطلاق، وإنما شقي الشقاء كله، تنازعه رجلان ثم أصبح يتيمًا. أبيح الطلاق إذن ولكنه لم يستطع أن يضمن الخير للزوجين اللذين ساءت بينهما العشرة فاضطرا أن يفترقا.
وفي هذه القصة التي نعرض لها اليوم نظرية أخرى تناقض هذه النظرية مناقضة تامة، ولكنها مع ذلك صحيحة صادقة. نظرية تثبت أن حظر الطلاق أو عسره لا يضمنان الخير، ولا يوصلان إلى السعادة أيضًا، وإنما قد يستلزمان من الشقاء والآلام مثل ما تستلزمه إباحة الطلاق أو يسره، وإذن فالطلاق لا يضمن الخير، وحظر الطلاق لا يضمن الخير، والإنسانية مضطرة إلى أن تحمل الحياة على ما فيها من خير وشر دون أن تجد السبيل الواضحة إلى اتقاء الشر أو الاستزادة من الخير، هي مضطرة إلى أن تحتمل الحياة كما هي، وإلى أن تؤمن بأن في هذه الحياة قوة قاهرة ليست هناك سبيل إلى أن تحملها على ما تريد، فتجعلها خيِّرة أبدًا أو تمنعها أن تكون شريرة أبدًا، ومهما نشرع من قانون، ومهما نبتدع من حيلة فلن نصل إلى اتقاء الشر، ولن نجعل الحياة خيرًا خالصًا، وهذه القوة القاهرة ليست شيئًا مستقلًا بنفسه، منفصلًا عن أنفسنا، مباينًا لطبيعتنا، وإنما هي طبيعتنا نفسها، هي هذه الطبيعة التي تجهل نفسها أو تنكر نفسها فيضطرها هذا الجهل إلى أن تقدم على ما لا تعلم، ويضطرها الإنكار إلى أن تتورط فيما لا ينبغي أن تتورط فيه، ستظل هذه الطبيعة على ما هي عليه من تورط في جهل نفسها حينًا، وفي إنكار نفسها حينًا، وفي تضليل نفسها حينًا آخر، ستظل كذلك فتسعد مرة وتشقى مرة أخرى، ستظل كذلك لأنها ضعيفة بفطرتها ليست معصومة من الجهل، ولا من الخطأ، ولا من الضلال.
ليُحظر الطلاق أو ليُبَح، فليس الطلاق مصدر سعادة ولا مصدر شقاء، وإنما النفس الإنسانية وحدها هي مصدر السعادة ومصدر الشقاء. إلى هذه النظرية يرمي الكاتب في قصته هذه، وإلى تلك النظرية رمى الكاتب في قصته تلك، وكلتا النظريتين صحيحة، وإذن فالكاتب من المتشائمين أو قل إنه من الشاكين، والشك والتشاؤم قد يحدثان في النفس الإنسانية أثرًا واحدًا، وهو سوء الظن بالحياة، وقلة الأمل في السعادة، غير أن الشك أهون احتمالًا من التشاؤم، فهو لا يخلو من ابتسامة قد تكون مرَّة، ولكنها ابتسامة على كل حال، ولا يخلو من سخرية قد تكون مؤلمة، ولكنها تؤلمك وتضحكك في وقت واحد، وقد يكون من الخير أن تألم ضاحكًا لا أن تألم باكيًا، وفي الحق أن هذا الكاتب النابغة يؤثر الشك على اليقين، وهو يسخر من الحياة الاجتماعية وما استحدث فيها من نظم وشرائع، هو شاكٌّ وهو مستهزئ، ولكن شكه واستهزاءه لا يتناولان كل شيء، وإنما يتناولان غرور الإنسان وثقته بنفسه، وإيمانه بالرقي، وبأن هذا الرقي قادر على أن يصلح من حاله، ويخفف من آلامه. يشك الكاتب في هذا كله، ويسخر الكاتب من هذا كله، ويضع هذه القصص التمثيلية المختلفة يبين بها هذا الشك، ويؤيد بها هذه السخرية، ويثبت للإنسان في طائفة من أطواره المختلفة أنه يجهل نفسه جهلًا تامًّا، وهو يجهلها أشد الجهل، حين يعتقد أنه يعلمها أحسن العلم، ولكن! ما غاية الكاتب من هذه القصص؟ وما الذي يريد أن يصل إليه حين يضع يد الإنسان على شقاء الإنسان، ويبين للإنسان أنه عاجز مهما يفعل، ومهما يبالغ في الحيلة عن أن يحقق السعادة ويظفر بها كما يحب ويرضى؟ ليس للكاتب حظ من هذه القسوة الشيطانية التي تبتهج وتلتذ حين ترى الناس يشقون ويشعرون بأنهم أشقياء، ويؤمنون بأن ليس لهم من هذا الشقاء مخرج، ليس للكاتب حظ من هذه القسوة الشيطانية التي تبتهج وتلتذ حين ترى الناس بائسين، وأكبر ظني أن الكاتب إنما يرمي بهذه القصص كلها إلى شيئين اثنين كلاهما خير؛ الأول: أن يشعر الإنسان بأنه مغرور، وبأنه مسرف في الإيمان بقوته وعقله وشرائعه، وقدرته على إصلاح أمره، وإذا شعر الإنسان بأنه مغرور مسرف فقد يكون من الخير أن يخفف من هذا الغرور، ويقصد بعد إسراف. الثاني: أن هذا الغرور وهذا الإسراف يغرسان في نفس الإنسان آراء شديدة قاسية خطرة يتخذها مقياسًا للحياة؛ فتنغص عليه الحياة، ويؤمن بأن الطلاق مباح، وبأن في إباحته الخير فيسرف في الطلاق، ويبالغ في الاستمتاع بحقه منه، فلا يجرُّ ذلك عليه إلا شقاءً وألمًا، ولو أنه فكر وروى واقتصد لاستطاع أن ينفي هذا الألم وهذا الشقاء، ويؤمن بأن الطلاق محظور، وأن الخير في حظر الطلاق؛ فيتشدد في ذلك، ويأبى الطلاق على نفسه وعلى الناس، فلا يجرُّ عليه هذا الإباء إلا شقاءً وبؤسًا، ولو أنه اقتصد ولم يسرف لاستطاع أن يتقي الشقاء والبؤس، وأن يعصم منهما نفسه وغيره أيضًا. إلى هذين الشيئين يرمي الكاتب فيما أظن. وإذن فهو ليس متشائمًا كل التشاؤم، ليس يائسًا من الخير ما دام يرى هناك سبيلًا إلى الخير، هي التواضع والاقتصاد، وهو ليس شاكًّا أو ليس مسرفًا في الشك ما دام يرى أن هناك خيرًا ممكنًا، وأن هناك شرًّا واقعًا، وأن هناك سبيلًا إلى اتقاء هذا الشر الواقع، وتحقيق هذا الخير الممكن. هو إذن لا يتخذ الشك المطلق، ولا التشاؤم المطلق مذهبًا ولا عقيدة، وإنما يتخذهما منهجًا من مناهج البحث، ووسيلة من وسائل التحليل النفسي والاجتماعي، وقد رأينا وسنرى أن هذا المنهج قد يؤدي إلى النتائج الصحيحة المعقولة، على أن الكاتب حين ينهج في بحثه وتحليله منهج الشك وسوء الظن لا يجاوز العصر الذي كان يعيش فيه، بل هو لا يعدو الروح العلمي الذي انتصر في هذا العصر الحديث، والذي يعتمد قبل كل شيء على أن الحق ليس مطلقًا، وإنما هو إضافي، وعلى أن الشك هو الوسيلة المعقولة إلى اليقين الإضافي، وعلى أن التواضع العقلي وحده هو الخلة التي تليق بالعلماء.
•••
«إيرين فرجان» امرأة في الثامنة والعشرين من عمرها، بارعة الجمال، متوقدة الذكاء، حادة المزاج، عصبية تشعر بكل شيء شعورًا قويًّا، لا تعرف الهدوء في شيء، حياتها اضطراب متصل، هي جذوة ملتهبة ولكنها تأكل نفسها، غنية تزوجت من رجل كغيره من الناس، وربما كان مسرفا في الهدوء، وجمود الطبع، وفتور الشعور، وربما كان بليدًا، وهو على كل حال رجل كغيره من الناس، مؤمن إيمانًا قويًّا بنظام الجماعة التي يعيش فيها، يرى أن كل خروج على هذا النظام أو مجاوزة للمألوف منه إثم لا ينبغي أن يُغتفر، ولا ينبغي أن يتورط فيه الرجل الذي يريد أن يعيش عيشة سهلة محترمة، وهو ضيق العقل، محدود الذكاء، قد اتخذ من الحياة الاجتماعية التي حوله قيودًا تقيد عقله وتفكيره، هو نقيض امرأته إلا أنه غني مثلها. وقد تزوج امرأته هذه وهي في الثامنة عشرة من عمرها، لم يكن لها اختيار في هذا الزوج، وإنما تأثرت فيه بأختها «بولين» التي كانت لها عليها سلطة أمها، والتي كانت قد تزوجت من رجل يشبه هذا الرجل شبهًا قويًّا، فقبلت الحياة معه واطمأنت وقدَّرت أن أختها ستكون مثلها راضية مطمئنة، ولكن الحياة أظهرت أن الأختين لا تتفقان في المزاج، ولا في التصور، ولا في الحكم على الأشياء، وأن ما ترضاه «بولين» وتطمئن إليه قد تكرهه «إيرين»، وتنفر منه أشد النفور.
تزوجت «إيرين» من زوجها غير مختارة، ولو أن لها الخيار أو لو أن لها قدرة على أن تفكر وتقارن وتحكم لتزوجت من شاب آخر «مشيل دافرتييه» الذي كان جارها، وكان صديق طفولتها وصباها، ولكنها لم تكن تقدر الحب يومئذ، ولا تعرفه، فتزوجت من زوجها، وأتم الفتى دراسته ثم شعر بأنه لا يستطيع الحياة في باريس، فسافر إلى بلاد اليونان، والتحق بالمدرسة الفرنسية في أثينا، واشتغل هناك بالبحث عن الآثار زمنًا، ثم عاد إلى باريس وقد صلح أمره، وأصبح ذا مكانة في الجامعة وعادت الصلة بينه وبين «إيرين».
•••
فإذا كان الفصل الأول فقد مضى على هذا الزواج عشر سنين، وقد انتهى الأمر بين الزوجين إلى فساد ليس بعده فساد «فإيرين» تغاضب زوجها مغاضبة متصلة، لا تستطيع أن تحتمله، ولا أن تطمئن إلى جواره، بل يكفي أن تراه لتعبس، وأن تشعر بأنه منصرف لتفرح، وقد جلست إليها أختها في هذه الليلة بعد عشاء حضره صديق صباها، وأخذت أختها تتحدث إليها تريد أن تنصرف عما هي فيه من مغاضبة لزوجها، وتقنعها بأن ترضى ما قُسم لها من الحظ، ولكنها لا تجد منها إلا إباء ونفورًا؛ لأنها لا تستطيع أن تجد شيئًا ولو قليلًا يوجد بينها وبين زوجها صلة ما، هما مختلفان في الطبع، مختلفان في المزاج، مختلفان في العاطفة، بل قل إن «إيرين» ليست إلا عاطفة متوقدة، وإن زوجها يخلو من العاطفة خلوًّا تامًّا، هي تبغض زوجها، فإذا سُئلت عن مصدر هذا البغض أجابت: أبغضه لأنه لا يستطيع أن يجعلني أحبه، وأبغضه لأنه لا يستطيع أن يبعث في نفسي عاطفة ما حتى عاطفة الإشفاق عليه، وأبغضه لأن الصلة بيني وبينه ليست إلا هذه الصلة الممقوتة صلة السيد بالعبد، فهو يعتقد أنه مولاي، وهو مقتنع بأنه محقٌّ في كل شيء، يصبح وقد اعتقد بأنه سيكون محقًّا حتى يمسي، محقٌّ حين يخالف الخدم، محقٌّ حين يخالف الناس، محقٌّ حين يخالف امرأته، محقٌّ في كل شيء، ومع كل إنسان، ثم تنصرف لتصلح من أمرها، ويأتي الزوج فتتحدث إليه «بولين» فيما بينه وبين زوجه من خلاف فإذا هو يرى الخلاف ويشعر به، ولكنه لا يفهمه؛ لأنه مطمئن أمام ضميره، يعتقد أنه قد وفَّى بعقد الزواج، وضمن لامرأته حياة صالحة منظمة، فيجب عليها أن تضمن له حياة كحياة غيره من الناس، وهو لا يطلب شيئًا غير هذا؛ لأنه لا يفهم شيئًا غير هذا، وهو لم يتغير، وإنما امرأته هي التي تغيرت، فيجب عليها أن تعود كما كانت، وأن تشعر بواجب الزوجية، وتؤدي هذا الواجب كما ينبغي.
يظهر لك أن التناقض بين هاتين الطبيعتين شديد، وأن ليس لما بينهما من الخلاف حلٌّ إلا أن يفترقا، أو أن يكون أحدهما من القوة بحيث يستطيع أن يرغم الآخر على الخضوع لسلطانه، وعلى أن يكون له أسيرًا. ينصرف الزوج ويأتي «ميشيل» الصديق القديم ومعه زوج «بولين»، واسمه «فرنان فالانتون»، وهما يتحدثان في أمر الزواج، فيأبى ميشيل أن يتزوج؛ لأنه يعتقد أن الزواج شيء لا ينبغي أن يختاره الإنسان، وإنما ينبغي أن يخضع له، فالإنسان لا يولد لأنه أراد أن يولد، ولا يموت لأنه أراد أن يموت، وإنما يولد ويموت لأن الطبيعة أرادت ذلك، فيجب أن يتزوج لا لأنه أراد أن يتزوج، بل لأن الطبيعة أكرهته على أن يتزوج؛ لأنها ملأت قلبه حبًّا، وملأت قلبًا آخر حبًّا، فيضطر هذان القلبان إلى أن يقترنا. هذا وحده هو الزواج المعقول الذي تقره الطبيعة وترضاه، والناس قد يكرهون الطبيعة على ما لا تريد أحيانًا، فيتزوجون في غير حب، ولكن الطبيعة منتصرة أبدًا، فهي ترغم الناس على أن يحبوا، فإذا اقترن اثنان دون أن يحب أحدهما الآخر فإما أن تنتهي العشرة بهما إلى الحب فتنتصر الطبيعة، وإما أن تنتهي العشرة بهما إلى البغض فينصرف كل منهما إلى الشخص الذي كان ينبغي أن يحبه، وكان ينبغي أن يتزوج منه، وتنتصر الطبيعة أيضًا.
يبسط الفتى هذه النظرية فتطمئن إليها «إيرين»؛ لأنها راضية بحظها في الحياة، ولهذا تسأله في شيء من السخرية: أتعلمت هذا في المدرسة الفرنسية في أثينا؟ كلَّا يا سيدتي، وإنما تعلمته في الحياة.
ينصرف الزوجان وقد أعلن إليهما ميشيل أنه مستأنف سفره إلى آسيا الصغرى؛ لأنه كُلف البحث عن الآثار فيها، فإذا خلا إلى صاحبته سألته عن هذا السفر، فلا تلبث أن تتبين أن مصدره الحب، فهو يحبها ويعلم أن ليس له عليها سبيل، وأنه لا يستطيع الحياة في باريس مع هذا الحرمان، ولكنها أيضًا تحبه ولا تفهم أن يفترق المحبًّان مهما يحتملا من الخطوب، فكل شيء أهون من الفراق … وهي تلح عليه في أن يبقى ليكون لها أملًا وعونًا على احتمال الحياة، هو يريد ذلك، ولكنه لا يستطيعه؛ لأنه شديد الغيرة يؤذيه أن يرى زوجها، وأن يفكر فيما بينه وبينها من صلة الزواج، هنا تعده بما يهدئ غيرته، تعده بأنها لن تكون لزوجها أبدًا، وأنها ستستأنف حياة العذارى، تعد وتقسم، فيطمئن وينصرف وقد وعد بالبقاء.
تلبث وحدها حينًا، ثم يعود زوجها فيدخل دون أن تشعر بعودته، ولكنه قد عاد لطيفًا ظريفًا فهو يتملقها، ويتحبب إليها، ويريد أن يخاصرها، وأن يرافقها إلى غرفتها، فتدفعه دفعًا شديدًا، ثم تفلت منه إلى حيث تستخفي، وتوصد من ورائها الباب، فينطلق لسانه مغضبًا بهذه الجملة: «ستدفعين ثمن هذا.»
•••
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضت أشهر على هذا الموقف، وازداد الأمر فسادًا بين الزوجين، انقطعت بينهما كل صلة حتى استيأس الرجل، وظن بامرأته المرض أو الجنون، فأزمع أن ينقلها من باريس إلى الريف، وأقبل يعلن إليها ذلك على أنه أمر لا يقبل المناقشة ولا الجدال، ثم يتركها لتفكر، ولكنها لا تريد أن تفكر، ولا تريد أن تأتمر، وإنما تريد أن تفارق زوجها، تفارقه بالطلاق إن رضي بالطلاق، وبالموت إن رفض الطلاق.
وتأتي أختها فلا تبلغ من تهدئتها شيئًا، وإنما تقتنع بوجوب الطلاق، وتأخذ نفسها بالسعي فيه، تذهب لتلقى الزوج، وتتحدث إليه في الطلاق، ويأتي ميشيل فإذا هو لا يطيق صبرًا على هذه الحال، وإذا هو قد اعتزم السفر من جديد، فتضرع إليه أن يبقى، وتنبئه بأنها جادة في الطلاق، وأنها ستظفر به وستكون له زوجًا، وإن ذلك قد يتقرر الآن، فلينتظر ولينتظر في مكان قريب لتستطيع أن تنبئه النبأ بعد حين.
ينصرف الفتى وقد تمت بينهما الخطبة، وتأتي أختها فتنبئها بأن زوجها يرفض الطلاق، ويأتي الزوج نفسه فيعلن إليها في عنف وشدة أنه لن يطلقها مهما تفعل، وأن القانون يؤيده في ذلك، فهو لم يقترف إثمًا، ولم يسئ إلى زوجه، وإنما أدى واجبه كما ينبغي، وإذ كان قد أدى واجبه فهو يحتفظ بحقه، وبحقه كاملًا، لا يريد أن يطلق، ولن يطلق مهما تتكلف زوجه من حيلة أو نذير.
وفي الحق أن زوجه تتكلف الحيلة فتضرع وتستعطف، ثم تنذر باقتراف الآثام، ثم تضرع وتستعطف فلا تجد منه إلا إباء ورفضًا، يتركها وقد أعلن إليها إصراره على أن ينقلها من باريس، يتركها وقد ملكها الغيظ، ثم الهلع، ثم شيء يشبه الذهول، فتسرع إلى الباب وتدعو صاحبها، فإذا أقبل تلقته بهذه الجملة: «أما أنت فافعل بي ما تريد.»
•••
فإذا كان الفصل الثالث فقد مضى على هذا الموقف عشر سنين، ونحن في قصر من قصور الريف يعيش فيه الزوجان، وقد عاد إلى حياتهما شيء من الهدوء والدعة، ويعيش بينهما غلام في العاشرة، فأما الزوج فسعيد مغتبط، يعلم أن زوجه لا تحبه، ولكنه يعلم أنها قد عادت إلى الطاعة، وهذا يكفيه، وأما امرأته فكئيبة، كاسفة البال، لا تبسم لشيء، ولا تحفل بشيء، ولا تحيا إلا لابنها.
وقد نزل على الزوجين ضيفان، هما بولين وزوجها، فترى الرجلين يتحدثان فيذكران ما كان منذ عشر سنين، ولكنك تشعر بأن هناك خلافًا جديدًا قد نشأ بين الزوجين وهو شديد الخطر. أشرف الغلام على العاشرة فلا بد من أن يذهب إلى المدرسة، وأمه تأبى ذلك كل الإباء، وستفتح المدرسة غدًا، فلا بد من إرغام الأم على فراق ابنها، والأب مصرٌّ على أن يسلك في هذه المسألة مسلكه في غيرها من المسائل، على أن يحتفظ بسلطته الأبوية كما احتفظ قديمًا بسلطته الزوجية، ثم ينصرف صاحبه ويبقى هو، وتقبل الأختان فيتركهما حينًا لأمر ما، فتذكران الماضي، وتفهم من حديثهما أن ميشيل قد مات؛ لأنه كان مسلولًا قد ورث السل عن أبيه، فإذا ذُكر لفظ السل رأيت على وجه الأم وفي لفظها ألمًا ظاهرًا، ثم يقبل الصبي فإذا هو نحيف ضعيف، وإذا هو يذكر سفرًا قريبًا قد وعده به أبوه، فلا تحفل أمه بشيء من ذلك، وإنما تأخذ في مداعبته وتأنيبه؛ لأنه عاد إليها قذر الثياب، وقد كان نظيفًا، وهي في هذا إذ يقبل الزوج فينصرف الغلام مع خالته لتصلح من أمره، ويتحدث الزوجان في أمر الغلام والمدرسة، فتأبى الأم، وتلح في الإباء، ويريد الأب، ويلح في الإرادة، ثم يستحيل الأمر بينهما إلى العنف، فإذا أعلنت أن ابنها ضعيفٌ رد الأب بأنها مصدر ضعفه؛ لأنها تسرف في العناية به، وإذا أعلنت الأم أن الأطباء يلحون في حاجة الطفل إلى أمه رد الأب بأنها قد أفسدت الأطباء، ثم يعلن إليها آمرًا عنيفًا، أن الغلام يجب أن يسلك سبيل أبيه، وأن ينشأ كما نشأ، وأن يذهب إلى المدرسة، وأنه ذاهب إليها الليلة، وأن عليها أن تعد متاع الطفل أثناء يأمر هو بإعداد العربة.
هنا تثور الأم، وتعلن إليه في ثورتها أن الطفل ليس ابنه! لا يكاد الرجل يصدق، ولكن الحقائق البينة لا تزال تَفْجَؤُه واحدة بعد أخرى، حتى يتبين أن امرأته قد خانته، وأن الطفل ليس ابنه، وهو لا يعلم من أبو الطفل، ولكنك أنت قد علمت من أبوه.
فانظر إلى هذا الرجل العنيف القاسي الذي لم تكن تعرف الرحمة ولا الضعف إلى نفسه سبيلًا، هو الآن يبكي لأنه قد جُرح في كبريائه، هو يبكي وزوجه جامدة العين مرفوعة الرأس؛ لأنها الآن ليست زوجًا وليست امرأة خائنة، وإنما هي أم بائسة تدافع عن ابنها، ويُقبل الصبي فرحًا مبتهجًا فيسأل: متى السفر؟ فإذا رأى الرجل يبكي والمرأة تنتصر سأل: ما بال أبيه يبكي الآن ولم يكن يبكي قط؟ وما بال أمه لا تبكي وقد كانت حياتها بكاء؟ تجيبه أمه: لأني فقدت الدموع يا بني، ثم تصرفه، ويخلو الزوجان أو العدوان، فإذا الرجل يطلب الطلاق وإذا المرأة تأباه، يطلبه لأنه أهين، وتأباه لأنها تريد أن تحتفظ بمستقبل ابنها، وإذا الرجل مرغم بحكم القانون على أن يعترف ببنوة هذا الطفل الذي ليس له، وإذا هو مرغم بحكم الأوضاع الاجتماعية التي يقدسها على ألا يعلن إلى الناس أن امرأته خانته، وأنه عاش في الخيانة عشر سنين.