قانون الرجل
لعلك تسأل نفسك: ما باله لا يجد سبيلًا إلى مفارقة هذا الكاتب، والانتقال منه إلى غيره؟ فقد حللت له قصصًا ثلاثًا، وكنت أستطيع أن أكتفي بهذه القصص الثلاث، والحق أني لا أجد سبيلًا، أو لا أكاد أجد سبيلًا إلى مفارقة هذا الكاتب؛ لأن صحبته لذيذة، ولأن إعجابي به، واطمئناني إليه لا يكادان يحدان، صحبته لذيذة، وإعجابي به شديد؛ لأني لا أعرف تمثيلًا أخضب من تمثيله، ولأني لا أعرف قصصًا أغنى من قصصه، ولأني أجد في صحبته لذة العقل ولذة الشعور معًا، ولأني أجد في صحبته هذه اللذة التي يجدها من يسمع لفيلسوف وفني في وقت واحد، فهذا الكاتب الذي أوثره قد جمع بين الفلسفة والفن فأرضى العقل، وأرضى الشعور.
هو فيلسوف فلا تكاد تقرأ له قصة إلا رأيتها تدور حول فكرة فلسفية أو نظرية من نظريات الاجتماع، يدرسها درسًا متقنًا، ويحللها تحليلًا دقيقًا، فيردها إلى أصولها، ويصل بها إلى نتائجها المعقولة، وهو في الوقت نفسه فني؛ لأنه على إيثارة للمنطق وقواعد النظر العلمي في البحث والتحليل يتخذ الفن وسيلة إلى هذا البحث، والتحليل فيثير عواطفك، ويؤثر في شعورك بحيث لا تستطيع أن تقول إنك قرأت كتابًا علميًّا، وبحيث لا تستطيع أن تقول إنك قرأت آية من آيات الفن ليس غير، هو يضطرك أن تقول إنك قرأت علمًا وفنًّا، واستمتعت بالعلم والفن مجتمعين، ومن يدري؟ لعل هذا الفن هو الفن حقًّا، بل هو الفن من غير شك، فليس من الحق أن هناك تناقضًا بين الجمال وبين الحقيقة، وإنما الحق الذي لا شك فيه، والذي قاله الناس، وآمنوا به منذ سقراط أن الحق والجمال شيء واحد، فالكاتب الفني حقًّا هو الذي يستطيع أن يظهر للناس في غير تكلف ولا عنف أن الحق جميل، وعلى أن الجمال حق، وبهذا يمتاز هذا الكاتب الذي لا أجد إلى مفارقته سبيلًا، يمتاز بهذا وبشيء آخر لعله هو الذي يحببه إلي، ويجعل اتصالي به شديدًا، وهو أنه يمثل تلك الفكرة القديمة التي أوجدت فن التمثيل عند اليونان القدماء، والتي مهما يختلف فيها الشعراء من اليونان فهم جميعًا خاضعون لها، متأثرون بها، مترجمون عنها، وهذه الفكرة التي تجدها عند «إيسكيلوس» كما تجدها عند «سوفوكليس» وعند «أوروبيدس»، بل تجدها في الشعر القصصي نفسه في «الإلياذة»، وفي «الأودسا»، بل تجدها في الحياة القديمة كلها، هي أن هناك شيئًا فوق إرادة الفرد، وفوق إرادة الجماعات، فوق التشريع وفوق الشرائع، هناك شيء فوق الأشياء يدبر هذه الأشياء ويسخرها، ولا أريد أن أغلو مع القدماء، فأزعم كما كانوا يزعمون أن هذا الشيء الذي لا مرد له ولا فرار منه مسيطر بطبعه على كل إرادة فردية واجتماعية، بل مسيطر على إرادة الآلهة أنفسهم، هذا الشيء هو القضاء الذي تمثله لنا اليونان في صور مختلفة، ولكنه في جميع هذه الصور عابث بالأفراد والجماعات، عابث بعقول الناس وقواهم، عابث بسلطان الآلهة وإرادتهم، نعم! هذا الشيء هو القضاء الذي ننساه وننصرف عنه مغرورين مرة بذكائنا ومرة بشعورنا، وحينًا بثروتنا، وحينًا بقوتنا المادية، ننساه فنمضي كما تدفعنا الأهواء، ونسير حيث يوجهنا الغرور، حتى إذا خيل إلينا أنا قد بلغنا من حياتنا ما نريد، قال القضاء كلمته فأفسدت كل ما دبرنا، ونقضت كل ما أبرمنا، وألزمتنا أن نعترف أمام أنفسنا وأمام الناس وأمام القضاء نفسه بأن هذه الأشياء التي غرتنا وفتنتنا ليست إلا ضربًا من الباطل، ولونًا من الخيال، ولعبة في يد القضاء.
تجد هذه الفكرة في شعر القدماء من الممثلين اليونانيين، وتجدها في قصص هذا الكاتب، ألم تجدها في قصة «التيه»؟ ألم تجدها في غيرها من القصص التي حللتها فيما مضى؟ ألم تشعر حين قرأت هذا التحليل أن الكاتب يسخر من قوة الإنسان وعقله ورقيه وحضارته، وتشريعه وشرائعه، ويزعم أن هذه الأشياء كلها عاجزة كل العجز عن أن تضمن له السعادة، وتحميه من الشقاء؟
تجد هذه الفكرة نفسها في هذه القصة التي أريد أن أحللها اليوم، ومع ذلك فيظهر من عنوان هذه القصة أن الكاتب يريد أن يلقي على شيء معين من الأشياء تبعة ما يلقاه قسم من أقسام الإنسانية من ضروب التعس والشقاء، يظهر من العنوان ومن القصة نفسها أن الكاتب يريد أن يرد ما تلقاه المرأة من ظلم وجور، ومن شقاء وسوء حال إلى التشريع الذي يقوم به الرجال وحدهم دون النساء، فيستأثرون لأنفسهم بالخير، ويتخذون لمنافعهم وشهواتهم من هذا التشريع معاقل وحصونًا، ولو قد اشترك النساء في التشريع، ووضع القوانين لاستطعن أن يحمين منافعهن وحقوقهن، وأن يكبحن من جماح الرجال ولو قليلًا، وأن يضعن أنفسهن بمأمن من ضروب الظلم المختلفة التي يخضعن لها دون أن يجدن لهن نصيرا، يدل عنوان القصة، وتدل القصة نفسها على أن مصدر الظلم الذي تلقاه المرأة هو أن المرأة محرومة من حقوقها السياسية، فلو أن لها هذه الحقوق، لو أنها تنتخب وتنتخب وتأخذ بنصيبها من حقوقها الاجتماعية كما تقوم بنصيبها من الواجبات الاجتماعية لاستطاعت أن تتقي هذا الظلم، وأن تقف من الرجل موقف الخصم الكفء، فالكاتب إذن من أنصار المرأة، بل من الغلاة في نصر المرأة، من الذين يطالبون بالمساواة السياسية المطلقة بين الرجل والمرأة.
وأعترف بأن هذه القصة لو لم يكن فيها إلا هذه الفكرة لما حفلت بها كثيرًا، لا لأني أخاصم النساء، ولا لأني أكره أن يكون لهن مثل ما لي من الحقوق السياسية والاجتماعية، فلو كان الأمر بيدي لما اكتفيت بإقرار المساواة بين الرجال والنساء في هذه الحقوق، بل لنزلت للنساء عن كثير من هذه الحقوق التي أجد في الاستمتاع بها من الشر والعناء أكثر مما أجد فيه من الخير والراحة، ولكني مع ذلك لم أكن لأحفل بهذه القصة لو لم تُعْنَ إلا بهذه القضية الخاصة؛ ذلك لأن هذه القضية في نفسها قابلة لضروب من الجدال والمناقشة لا حد لها، ومن الذي يستطيع أن يقول إن مصدر ظلم المرأة هو حرمانها حقوقها السياسية؟ ولم لا يكون مصدر ظلمها أنها أضعف من الرجل، وأقل حظًا منه في هذه القوة المادية التي تقوم عليها الحقوق والواجبات في كل حياة إنسانية اجتماعية؟ ولمَ لا يكون مصدر ظلم المرأة أنها كانت إلى الآن أقل ذكاء من الرجل، وأضيق حيلة، وأضعف عقلًا؟ ولم لا يكون مصدر ظلم المرأة أنها كانت إلى الآن أرقى من الرجل شعورًا، وأرق منه عاطفة، وأصدق منه ذوقًا، وأميل منه إلى الجمال، فكلفت بالخيال، وكلف هو بالحقيقة الواقعة؛ فربح الرجل وخسرت المرأة؟ ولم لا يكون مصدر ظلم المرأة هذه الأشياء كلها مجتمعة، وأشياء أخرى لم أذكرها، أو لم أصل إليها؟
القضية إذن في نفسها قابلة للبحث والمناقشة، ولكن في القصة شيئًا آخر غير هذه القضية، غير منافع الرجل والمرأة، غير حقوق الرجل والمرأة، غير الجور والعدل، غير الظلم والمساواة، فيها أن سلطان القضاء فوق كل سلطان، ولهذا عُنِيت بهذه القصة، وأرجو أن يُعْنى بها القراء.
•••
«الكونت دي رجيه» رجل من الأشراف عظيم الثروة، قوي الجاه، محافظ كل المحافظة على ما ورث من العادات والآداب سواء منها الحسن والقبيح، قوي الإرادة إلى حد العناد، محتفظ بحقوقه من حيث هو رجل، وقد اكتسب هذه الحقوق بما له من قوة الرجولة ومن السلطان على الحياة الاجتماعية، وهو يحرص كل الحرص على ألا يفرط في شيء من حقوقه، ولا من عاداته، ولا من آدابه، وعلى ألا ينزل عن جزء ولو قليل من حريته، وقد تزوج من فتاة جميلة غنية، ولكنها يتيمة، فلم تجد حين تزوجت من يحسن الدفاع عنها، ولا الاحتياط لمستقبلها، وهي تحب زوجها حبًّا شديدًا، وتثق به ثقة لا حد لها، وتعتمد عليه في كل شيء الاعتماد كله، تصدقه إذا قال، وتؤيده إذا فعل، حتى إنها لتصدقه وهي تعلم أنه كاذب، وحتى إنها لتذعن له وهي تعلم أنه ظالم؛ ذلك لأنها تحبه إلى حيث تنمحي إرادتها أمام إرادته، اسمها «لور» وقد عاشت مع زوجها عصرًا، ورزقت منه فتاة في الثانية عشرة من عمرها، واسمها «إيزابيل»، ولكن أخذت «لور» في هذا العصر الأخير ترتاب، وتشك في أمانة زوجها، وفي أن بينه وبين امرأة أخرى صلة، فكانت كلما قوي في نفسها هذا الشك أفضت به إلى زوجها، فيمحوه في الحال بلطفه وظرفه ورقته، وحسن حيلته، فتعود المرأة إلى الثقة والاطمئنان.
ثم لا تلبث الحوادث أن تعيد إلى نفسها الشك، فتشكو إلى زوجها، وتبكي وتظهر بائسة تعسة، ويعطف عليها هذا الزوج ويترضاها، حتى أصبح من أخلاقها هي أن تشك وتشكو، ومن أخلاقه هو أن يعطف ويترضى، ولكن الحق الواقع أن هذا الرجل يخون امرأته، ويخونها مع امرأة متزوجة هي صديقتها، وهي مدام «دورسيو»، يقوى الشك في نفس «لور» فلا تشكو إلى زوجها في هذه المرة، وإنما تريد أن تتبين حقيقة الأمر، فتخفي ما بها من ريب، وتكلف إدارة من هذه الإدارات السرية المنبئة في باريس مراقبة زوجها، فما أسرع ما ينبئها الرقيب بجلية الأمر، ويعين لها المكان والزمان اللذين يلتقي فيهما الآثمان، فتكلف نفسها مراقبتهما، ولا تشك بعد أن رأت بعينها أن زوجها يخونها ويخونها مع هذه المرأة، ولكنها لا تتحادث إلى زوجها بشيء فقد كرهته، أو خيل إليها أنها كرهته، فهي لا تريد أن يترضاها، أو يعطف عليها، وإنما تريد أن تخلص منه ومن عشرته، تريد الطلاق، ولكن ليس إلى هذا الطلاق من سبيل إذا لم تقم أمام القضاة برهانًا قاطعًا على أن زوجها قد حنث في يمين الزواج، فهي تبحث الآن عن هذا البرهان القاطع، تبحث عنه فتفتح مكتب زوجها خلسة، وتفتش فيه لعلها تجد رسائل حب قد تبودلت بينه وبين هذه المرأة، ولكنها لا تظفر بشيء، ولا تصل إلا إلى نتيجة واحدة وهي أن زوجها قد شعر بأن مكتبه قد فتح في غيبته فاتهم الخدم، وذهب يشكو إلى الشرطة …
•••
فإذا كان الفصل الأول رأيت «لور» تتحدث إلى صديقة لها اسمها «هنريت» بكل ما قصصت عليك، وتنبئها بعزمها على أن تطلب الطلاق، وهما في هذا الحديث إذ يقبل زوج هذه الصديقة واسمه «كربل»، فيشيران عليها بالروية، وإيثار الصلح، ولكنها تأبى … ويأتي صاحب الشرطة ليتحقق آثار الجريمة في مكتب «الكونت»، فإذا أنبأته «لور» بأنها هي التي فتحت المكتب، أعلن أنه لم يبقَ له عمل، فإن لكل من الزوجين أن يفعل مثل هذا مع صاحبه دون أن يجد القانون وسيلة للتدخل بينهما، ويرد الرجل أن ينصرف فتستبقيه المرأة، وتسأله هل من سبيل أن يعينها على أخذ زوجها متلبسًا بجريمة الخيانة؟ فيجيبها: نعم، ولكنها لا تكاد تظهره على جلية الأمر، حتى يعتذر بأن القانون لا يبيح أن يتدخل إلا إذا كان الإثم مقترفًا في بيت الزوجة أو في بيت هو ملك الزوج، فأما إذا كان يقترف في بيت لا يملكه أحد الزوجين فليس للقانون أن يتداخل! هذا إذا كان الرجل هو المتهم بالخيانة، فأما إذا كانت المرأة هي المتهمة فللشرطة أن تتعقبها إذا طلب الزوج في أي مكان، فهذا أول ظلم ينزله القانون بالمرأة، مع أن هذا القانون قد عدل، ويقال إنه قد عدل لمنفعة المرأة، إذن فليس لصاحب الشرطة أن يعين هذه المرأة على أخذ زوجها مقترفًا للإثم حتى تستطيع أن تطلب الطلاق، وليس بيد هذه المرأة برهان قاطع آخر، ولكن صاحب الشرطة يشير عليها بأن تجد شهودًا متطوعين يرافقونها إلى حيث يقترف الإثم، فإذا رأوا وشهدوا بما رأوا حكمت المحكمة بالطلاق، وينصرف الرجل فتلجأ «لور» إلى صديقتها، فأما صديقتها فتقبل هذه المهمة؛ لأنها امرأة مثل صاحبتها، ولأنها تعطف على هذه الصديقة التعسة، وأما الرجل فيأبى لأنه رجل، ولأنه صديق الزوج الخائن، ولأن بينهما من الصلات والمودة ما يحرم عليه مثل هذا العمل، فإذا طلبت «لور» إلى صديقتها أن تتطوع بهذه الشهادة وحدها؛ أبى الزوج، وأعلن إليها أن امرأتة لا تستطيع أن تشهد في مثل هذا الأمر إلا إذا إذن لها بالشهادة، فهذا ظلم آخر ينزله القانون بالمرأة، فيمنعها حتى من الشهادة دون أن يأذن لها الزوج.
تفكر «لور» في شيء آخر وهو أن تذهب فتقص الأمر على زوج المرأة الخائنة، وهي واثقة بالفوز؛ لأن هذا الزوج سيتعقب امرأته، فإذا أخذها وهي تقترف الإثم فقد ظفرت هي من زوجها بما تريد، ولكن زوج هذه المرأة الخائنة رجل عنيف، معروف بالحدة وسفك الدم، فهو لا يلجأ إلى القوانين، ولا إلى القضاء، وإنما يلجأ إلى الانتقام، والقانون نفسه يبيح له مبارزة خصمه، بل يبيح له أن يقتل خصمه، وأن يقتل امرأته، فهل تستطيع أن تعرض للموت شخصين تحب أحدهما مهما تقل، ومهما تفعل؟ كلا! فهي إذن لا تستطيع أن تلجأ إلى هذه الحيلة الأخيرة، ولكنها مع ذلك معتزمة أن تطلب الفرقة.
يتركها صاحباها ويقدم زوجها، فلا تلبث أن تنبئه بكل شيء ويسرع هو في أن يتلطف لها، ويأخذها باللين والرفق منكرًا ما تتهمه به، متهمًا إياها بالغيرة والإسراف في الغيرة، فيكاد يخدعها ويكاد يرضيها، ويأخذها بين ذراعيه، فتوشك إرادتها أن تنمحي، ولكنها واثقة بما رأت، فهي لا تصدق زوجها، وهي تريد أن تعفو عنه، ولا تطلب منه ثمنًا لهذا العفو إلا شيئًا واحدًا وهو أن ينبئها بأنه لا يحب هذه المرأة، وأنه إذا كانت بينه وبينها صلة فقد تورط في هذه الصلة، ورطه فيها الضعف، أو ورطه فيها الغرور، تريد منه أن يعترف بذلك، فيأبى هو لأنه لا يريد أن يعترف فيسيء إلى شريكته في الإثم، فإذا عرف أن امرأته قد رأت أن ليس إلى الشك في ذلك من سبيل تغير في نفسه كل شيء، فعدل عن الخداع والمكر إلى الصراحة والاعتراف، ولكنه لا يلوم نفسه، ولا يرى نفسه آثمًا، وإنما يرى أنه إن كان قد فعل شيئًا تنكره القوانين فهو نفسه لا ينكر هذا الشيء؛ لأنه بطبيعته عاجز عن الوفاء لزوجه محب للذة، والتنقل بهواه، ولن ينزل من هذا عن شيء، ولن يسمح بالطلاق؛ لأن الطلاق لا يليق بجماعة الأشراف المحافظة التي تنكر كل هذا التشريع الجديد، وإنما يسمح بشيء واحد مألوف في طبقته، وهي أن تنقطع الصلة بينه وبين زوجه بالفعل، على ألا يعلم الناس عن ذلك شيئًا، أو على أن يعلم الناس ذلك دون أن يجهر به بعضهم لبعض؛ أي إنه يريد أن يحتفظا بمظاهر الزوجية أمام الناس ليس غير، تأبى «لور»، وتعلن إلى زوجها أنها مضطرة إلى أن تذيع إثمه وخيانته بين الناس، وعلى مرأى ومسمع منه ومن صاحبته إذا لم يسمح بالفرقة بينهما، هو إذن مضطر إلى هذه الفرقة، فيسمح بها، ولكن فيما بينه وبين زوجته وبين المحامي دون أن يصدر حكم بالطلاق، ودون أن يرفع الأمر إلى القضاء، على أن يخصص لزوجه وابنته ما يحتاجان إليه من نفقة، ذلك مع أن زوجه غنية، ولكنها لا تستطيع أن تتصرف في ثروتها بحكم الزواج نفسه، وهذا ظلم آخر ينزله القانون بالمرأة.
•••
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضى على هذا خمس سنين، وأقبلت «لور» تزور صديقيها في مصطاف على البحر، فيتحدثون في أمر هذا الزوج، فإذا هو ماضٍ في إثمه، ويتحدثون في أمر الفتاة فإذا هي في السابعة عشرة، وإذا هي قد بلغت سن الزواج، وإذا أنت تشعر بأن شيئًا من الخلاف لا بد أن يظهر بين الأبوين حين يأتي لهذه الفتاة أن تتزوج، وإذا أنت تشعر بأن الفتاة الآن عند أبيها، وبأنها ستعود إلى أمها بعد ثلاثة أيام، وبأن رسائلها تدل على أن مزاجها غير معتدل، وبأن أباها ليس بعيدًا من هذا المصطاف، وهم في هذا الحديث إذ تسمع جلبة قوم قادمين، فلا يكادون يتبينون هؤلاء الناس حتى تعلم أن القادمين هم الزوج وابنته، وشريكته في الخيانة، وزوجها، وابنهما، تستخفي «لور» بعد أن تكلف صاحبيها أن يجدا لها وسيلة للقاء ابنتها، ولا يكاد القوم يقبلون حتى تعلم بأن شيئًا جديدًا قد طرأ، وهنا تشعر بأن القصة قد انتقلت من طورها الأول إلى طور جديد، فليست دفاعًا عن حق المرأة، وليست اتهامًا للرجل، وليست سخطًا على القانون، وليست إنكارًا للتشريع، وإنما هي شيء آخر فوق هذا كله، فوق إرادة الزوجين، فوق إرادة الأبوين، فوق إرادة النظم الاجتماعية كلها، تشعر بهذا وتحس أن الكاتب قد تأثر بما كان يتأثر به شعراء اليونان، فأدخل القضاء في قصته، أو قل إن القضاء قد دخل في القصة رغم الكاتب ورغم أبطال القصة، ذلك أن «إيزابيل» هذه الفتاة الناشئة قد أحبت «أندريه» ابن تلك المرأة التي خانت أمها «لور»، وفرقت بين أبويها، أحبت الفتى وهي تجهل كل شيء، وأحبها الفتى وهو يجهل من أمر أمه كل شيء، وتحدث الفتيان بحبهما، وتعاهدا على الزواج، وأفضى الفتيان بهذا الحب وهذا العهد إلى أهلهما، فأما أبو الفتى فهو يجهل كل شيء كابنه، وهو يرى هذا الحب خيرًا فيشجعه ويؤيده، ويعد المحبين بالمعونة على الزواج، وأما أبو الفتاة وأم الفتى فهما يعلمان كل شيء، ويمانعان في هذا الحب، ولكن أين السبيل إلى ممانعة الحب وهما لا يملكان من أمره شيئًا! وهل يعرف الفتيان كيف أحب كل منهما صاحبه؟ وأين السبيل إلى منع هذا الزواج؟ وهل يستطيع الرجل أن يقول لابنته إنه خان أمها مع حماتها؟ وهل تستطيع المرأة أن تقول لابنها إنها خانت أباه مع أب الفتاة؟ ليس إلى ذلك من سبيل. فحجة المحبين قائمة، ويؤيدها أبو الفتى، وليس ما يمنع هذا الزواج إلا أن ترفض أم الفتاة؟ أتستطيع أن تجهر بالأمر؟ ذلك شيء ستعلمه. أرأيت كيف دخل القضاء المحتوم في هذه القصة فغيرها التغيير كله، وجعلها فوق طور الإنسان؟ لم يصبح الأمر الآن مقصورًا على زوجين يختصمان، وإنما هناك شخصان بريئان يجهلان كل شيء، ويريد كل منهما أن يقترن بصاحبه، وليس لأحد أن يحملهما إثم آبائهما.
تعاهد الفتيان على الزواج، وأخذت الفتاة نفسها بأن تقنع أمها بقبوله، فإذا خلت إلى أمها، وقصت عليها القصص جزعت هذه جزعًا شديدًا، وأسرفت في اتهام زوجها لا بأنه يخونها فحسب، بل بأنه يخون ابنته أيضًا، وهل تستطيع هذه المرأة أن تقدر أن هذا الحب قد جاء عفوًا؟ أليس هذان الخائنان قد تَواطآ عليه حتى إذا ما تم بينهما لم يكن هناك سبيل إلى قطع ما بينهما من صلة؟ وهل تستطيع أن تفكر على نحو غير هذا النحو؟ أليست سيئة الظن بزوجها؟ أليست سيئة الظن بعدوتها؟ أليست تعتقد أن ابنتها دون أن تحب أو تقدر الحب كما ينبغي؟ هي جزعة ولكنها لا تجهر بهذا الجزع، ولا تنبئ ابنتها بشيء، وإنما تريد أن تستنبئها، وبم تنبئها الفتاة؟ أنها تحب هذا الفتى؛ لأنهما تجاورا في المصيف، تجاورا فتعارفا فتحابا، فتعاهدا على الزواج، وهي لم تكتب إلى أمها بشيء من ذلك؛ لأن الخصومة بين أبويها عودتها أن تحتاط حين تكتب إلى أحدهما وهي عند الآخر، والفتاة لا تفهم جزع أمها، ولا تفهم بغضها للفتى وأبويه، وهما في ذلك إذ يقبل الخادم فيعلن أن الأب يريد ابنته: فتقول الأم: ليأت إن كان يريدها!
•••
فإذا كان الفصل الثالث فقد أخفت الأم ابنتها في غرفة مجاورة، وتلقت زوجها، فتسأله عن هذا الأمر، فإذا أنبأها بحقيقته لم تصدق من نبئه شيئًا وتلقته بهذه التهم التي قدمتها لك في هذا الفصل الماضي، ثم أعلنت لزوجها أنها لا تسمح بهذا الزواج، يلح عليها زوجها، فإذا رأى منها الإباء أعلن إليها أن هذا الزواج قد يتم رغم إرادتها؛ لأن القانون يبيح ذلك، فهو يشترط لصحة الزواج أن يرضى الأبوان، لكنه ينص على أنهما إن اختلفا فرأي الأب مقدم، وهو الذي يعتد به، وهذا ظلم آخر ينزله القانون بالمرأة، ولكن أين نحن من القانون؟ هناك شيء فوق القانون، بل هناك شيئان فوق القانون، هناك عاشقان يريدان أن يتزوجا، وهناك أم تأبى على عدوتها أن تأخذ منها ابنتها بعد أن أخذت منها زوجها، وهذه الأم تريد أن تدفع عن حقها بكل وسيلة، وقد سلبها القانون وسائل الدفاع، فهي ستجد وسائل الدفاع في ناحية غير ناحية القانون، ستنبئ ابنتها بحقيقة الأمر، وهي إن تفعل فستحول بين ابنتها وبين هذا الزواج، تعلن ذلك إلى زوجها فيحذرها عاقبته، ولكنها لا تحفل، فيتركها الزوج منذرًا بأن للحرب حدودًا، ولكن المرأة لا تكاد تخلو إلى ابنتها حتى تحاول أن تصرفها عن هذا الزواج، فلا تنصرف الفتاة؛ لأنها تريد أن تعلم لماذا يطلب منها أن تضحي آمالها وحياتها دون أن تفهم لهذه التضيحة سببًا، ودون أن يطلب إليها أبوها هذه التضحية، تريد الفتاة أن تفهم، وتأبى الإذعان دون أن تفهم، فإذا أنبأتها أمها بجلية الأمر جزعت هي أيضًا، وناء بها الجزع، فتنبئ أمها بالعدول عن هذا الزواج، ولكن في الأمر شيئًا فوق إرادة الفتاة، وفوق إرادة الأم، في الأمر هذا الحب الذي لا بد من أن تتم كلمته.
وقد أقبل الفتى فرحًا مبتهجًا يريد أن يسأل صاحبته عما أجابت به أمها، وهو يعتقد مقدمًا أنها قبلت، فتنبئه الفتاة بأن أمها قد رفضت، فيحاول أن يتبين مصدر هذا الرفض، فلا يجد من الفتاة جوابًا، يسأل: أتنكر أمها من شخصه شيئًا؟ أتنكر من سيرته شيئًا؟ أتنكر من أبويه شيئًا؟ فتجيبه الفتاة بالنفي، ولكنها تنبئه بأنهما لن يتزوجا، يتهمها بأنها لم تحبه، فتعلن إليه أنها تحبه وتحبه حبًّا شديدًا، ولكنهما لن يتزوجا … يبلغ الجزع من الفتى إلى حيث ينبئ صاحبته بأنه قد يئس من الحياة، وبأنه وهو ضابط بالجيش سيطلب أن يرسل إلى إحدى المستعمرات حيث يلقى حتفه في ثورة من تلك الثورات المتصلة، ينصرف فتدعوه، ويجدد لها نذيره، فتلح، فيلح في النذير، فتعده أنها ستتزوجه رغم إرادة أمها، ينصرف الفتى مغتبطًا، وقد انتصر الحب على البنوَّة، وانتصر أمل البنوة على أمل الأمومة …
وعدنا إلى تلك القصة التي عللتها فيما مضى، والتي تثبت أن الإنسانية إنما هي ابنة عاقة وأم برة أبدًا، تقبل الأم فإذا علمت أن ابنتها لم ترفض الزواج أحست ثقل الكارثة، وعرفت أن ابنتها قد ضحت بالأم في سبيل الزوج، وهي بعد لم تعرفه إلا منذ شهر، أفيمكن أن يكون الشباب من الأثرة وحب النفس بحيث يضحي بالأم وجهودها وعشرتها الطويلة، وعواطفها الحادة الرقيقة في سبيل فتى أو فتاة، لم يطل بهما العهد؟! يقبل الأب وقد فقدت الأم سلاحها، فخرجت عليها ابنتها، فهي تزعم أن ابنتها لا تحبها، وفي الحق أن الفتاة تلقي بنفسها بين ذراعي أبيها، فإذا سمعت من أمها هذا عادت إليها، فالفتاة مترددة بين الأبوين يتنازعانها، وقد كره كل منها صاحبه، ثم تنصرف الفتاة وتعلن الأم إلى زوجها أنها قد فقدت هذا السلاح، ولكنها لم تفقد كل سلاح، فبيدها سلاح آخر قوي عنيف، ستعلن الأمر إلى الناس جميعًا، وهما في ذلك إذ تقبل أم الفتى في ذهول يشبه الجنون، فتنبئ بأن زوجها قادم ليخطب الفتاة إلى أمها، وتضرع إلى هذه الأم أن تكون رحيمة رفيقة، ويضرع إليها الأب أيضًا، ولكنها لا تريد أن تكون رحيمة ولا رفيقة، هي تدفع عن حقها، وتدفع عن ابنتها، لا تقبل في ذلك شيئًا، ولا ترضى في ذلك هوادة.
ويقبل الرجل فيخطب الفتاة، فترفض الأم، فيحاول أن يتبين مصدر الرفض، فيسأل عن أشياء ليس بينها وبين الحقيقة صلة، فإذا أجابته الأم بالنفي ألح في أن يتبين موضع الحق فتنبئه النبأ، ويزعم زوجها أنها قد جنت، ولكن الرجل لا يكاد يتبين القوم جميعًا حتى يثق بأنها عاقلة، وبأنها صادقة، وبأن امرأته قد خانته، وبأن هذا الصديق قد خانه في امرأته، يأخذه الغيظ، ويظهر عليه الميل إلى سفك الدم، ولكنه سمع من امرأته في ضراعتها واستعطافها ذكرى ابنه … فإذا كل شيء قد تغير، وإذا غيظه قد هدأ، وإذا هو ليس بالزوج الذي يريد أن ينتقم لشرفه، وإنما هو الأب الذي يريد أن يحمي ابنه من سوء السمعة، بل يريد أن يحمي ابنه من الموت، هو أب لا زوج، فلا يريد أن ينتقم، ولكنه يريد أن يزوج ابنه من هذه الفتاة، وقد ظل هذا الأمر مجهولًا فيجب أن يظل مجهولًا، وإذن فيجب على صديقه أن يرد زوجته إلى بيته رضي أم كره، رضيت هذه الزوج أم كرهت، يجب أن يشعر الناس بأن هذين الزوجين قد أصلحا ما كان بينهما من خلاف، وأن هذا الزواج الجديد يتحقق بين أسرتين شريفتين، لا تشوب شرفهما شائبة، فإذا قال الزوج: إن زوجي لن ترضى أن تعيش معي، أجاب هذا الرجل: يجب أن ترضى، وإذا قالت الزوجة: لا أستطيع أن أعيش مع هذا الخائن، أجاب: سأعيش أنا مع هذه الخائنة، وهما في ذلك إذ يظهر الفتيان من بعد، يظهران والرجل يحاول أن يقنع هذه الأم بإيثار الصلح حبًّا لابنتها، وبأن هذا الصلح قد لا يخلو من خير في الحياة، فتجيبه: إنها لا تأمل إلى فيما بقي لها من حظ في الآخرة، تجيب بذلك، ويظهر الفتيان، فيشير الرجل إليها قائلًا: حياتنا الآخرة! هذه هي!
أرأيت كيف ابتدأت القصة؟ أرأيت كيف انتهت؟ فكرة اجتماعية أراد الكاتب درسها وتحليلها، فأحسن الدرس والتحليل، وأثبت ما أراد أن يثبت من أن تشريع الرجال ظالم للنساء، ولكن عقل الإنسان مهما ينقد، ومهما يحلل فهو عاجز عن تدبير الحياة.
وإنما لهذه الحياة مدبر آخر فوق العقل، وفوق الإرادة، وفوق العاطفة والشعور، وإن كان قد يصدر عن العاطفة والشعور، للحياة مدبر آخر هو القضاء!