ظهر حديثًا
بهذه الجملة تعنون الإعلانات التي تنبئ الناس بظهور الكتب في فرنسا، وقد اتخذها الكاتب الفرنسي أدوار بورديه عنوانًا لقصة تمثيلية، دُهش لها الباريسيون أشد دهشة، ثم أعجبوا بها أعظم الإعجاب، وكان الأدباء أشد الباريسيين دهشًا لهذه القصة، وأكثرهم بها إعجابًا؛ ذلك لأنهم رأوا فيها أنفسهم، فمنهم من أعجبته صورته فرضي، ومنهم من لم تعجبه صورته فسخط، ولكنه لم يستطع أن ينكرها ولا أن يخفي ما بينها وبينه من المطابقة فاضطر إلى الإعجاب في شيء من التحفظ قليل أو كثير.
أما جمهور النظارة، فقد دهش لهذه القصة؛ لأنه لم يتعود أن يرى أمثالها في الملاعب، وإنما تعود أن يشهد طائفة من القصص تعرض عليه ألوانًا من الناس يراهم في كل يوم، ويتصل بهم في كل حين من أحيان الحياة العملية. فأما الأدباء والكتاب فهو لا يكاد يراهم أو يتصل بهم إلا من طريق الكتب التي تذيعها المطبعة في كل يوم، وفي كل أسبوع بالعشرات والمئات، وقلما يتصل جمهور النظارة بكاتب أو أديب كما يتصل عادة بالصانع أو التاجر أو المهندس أو صاحب المال، فليس غريبًا أن يدهش هذا الجمهور حين يرى الأدباء قد عرضوا أمامه في الملعب عرضًا صريحًا لا يخلو من قسوة، كما أنه ظريف لا يخلو من خفة وحيلة ودهاء، ثم ليس غريبًا أن يدهش الجمهور؛ لأن الذي يعرض عليه هؤلاء الأدباء هذا العرض القاسي الظريف هو أحد هؤلاء الأدباء، فعمله هذا لا يخلو من شجاعة تُسر وتُرضي، وتبعث على الدهش، ثم على الإعجاب.
وقد انقسم النقاد والأدباء في أمر هذه القصة، فمنهم من رأى أن الكاتب إنما أراد تمثيل طائفة بعينها من الكتاب والأدباء، هي هذه الطائفة التي تتنافس وتختصم، لا تحفل في تنافسها وخصومتها بشيء، والتي تتخذ الأدب والفن وسيلة إلى الثروة والشهرة، لا إلى الجمال الفني من حيث هو، ويجب أن نعترف بأن هؤلاء النقاد هم كثرة الذين تناولوا هذه القصة بالنقد، وذلك يدل دلالة واضحة على أن هؤلاء النقاد جميعًا قد سخطوا فيما بينهم وبين أنفسهم على هذه القصة، وأبوا أن يروا فيها صورًا صحيحة للأدباء، فكانوا كالنعامة التي تخفي رأسها حتى لا ترى الصائد.
ونقاد آخرون — ولكنهم قليلون — رأوا أن هذه القصة تمثل ما في الأدباء من ضعف، ولكنهم مروا بذلك مرًّا سريعًا، وأظهروا إعجابهم بلفظ القصة وأسلوبها، وما فيها من حركة خفيفة لبقة، وفي هؤلاء النقاد شجاعة، ولكنها شجاعة إضافية، فقد أبوا أن يخفوا رءوسهم، ولكنهم لم يستطيعوا أن يمدوا أبصارهم مدًّا طويلًا.
وأولئك وهؤلاء — فيما أظن — لم يقدِّروا القصة قدرها، ولم يضعوها حيث أراد الكاتب أن يضعها، ولو قد فعلوا لرأوا أن ما في القصة من عبث بالأدباء، وتمثيل لما فيهم من عيب ونقص يمس ما يقع بينهم من التنافس والخصومة ليس شيئًا بالقياس إلى الفكرة الأساسية التي أراد الكاتب أن يمثلها، والتي هي شيء آخر غير هذه الحياة المادية التي يقع فيها التنافس والاختصام بين الأدباء.
شيء آخر يمس طبيعة الأديب من حيث هو أديب ويعرفه تعريفًا منطقيًّا صادقًا ما نظن أنه يقبل نقضًا أو اعتراضًا، فالأدباء جميعًا يختصمون ويتنافسون، ويكيد بعضهم لبعض، ويغري بعضهم ببعض. وليس هذا العيب مقصورًا على الأدباء، ولكنه يتناول أصحاب المهنة الواحدة في كل فن وفي كل صناعة تناولًا يختلف قوة وضعفًا باختلاف المتنافسين، وتفاوتهم في حدة الأمزجة واعتدالها.
ولو لم يقصد الكاتب في قصته إلا إلى تمثيل هذا النحو من عيوب الأدباء لما كان لقصته خطر، ولما استحقت قصته هذا الفوز الذي ظفرت به، إنما الفكرة الأساسية التي تدور عليها القصة، والتي قصد إليها الكاتب معروضة عرضًا واضحًا في الفصل الرابع من فصول هذه القصة حين يظهر في جلاء وبداهة أن الأديب يمتاز بأنه لا يستطيع أن يحس شيئًا أو يرى شيئًا حتى يستحيل هذا الشيء في نفسه فنًّا يجب أن يكتبه، وينشر على الناس مهما تكن النتيجة التي تنشأ عن هذه الكتابة وهذا النشر، ومهما يكن في هذه الكتابة والنشر من خروج على المألوف، وتجافٍ عن العادات والأخلاق، وما يصل بين الناس عادة من صلات المجاملة وحسن العشرة، بل من صلات المودة والصداقة، بل من صلات الحب والإخاء.
فالأديب أداة ناطقة لا تستطيع الصمت، وهي تنطق بكل شيء وفي كل ظرف، لا يحول بينها وبين النطق إلا هذه القوى القاهرة التي تضطرها إلى الصمت أحيانًا، فتصمت ولكن على كره منها ورَغم، والأديب أداة تصوير تصور أبدًا، ولا تستطيع أن تكف عن التصوير إلا حين لا تجد ما تصوره أو حين يعرض لها الفساد في مزاجها وتكوينها، وهي تصور دون أن تحسب حسابًا بالنتائج هذا التصوير، وما قد يستتبعه من الأحداث في التصوير، وأكثر ما تصور هذه الأداة، وأحسن ما تصور حين تضطر إلى تصوير نفسها، وما يعرض لها من ألوان التأثر والانفعال، ولو قد خليت وتُركت لها الحرية المطلقة لأظهرت للناس من دخائلها أسرارًا لا تخلو من بشاعة فظيعة، ولكنها لا تخلو في الوقت نفسه من جمال رائع، فالأديب إذن بطبيعته مرن الضمير، لا يكاد يحفل بما يحفل به الناس في سبيل القول والتصوير إلا لأنه يضطر إلى ذلك اضطرارًا.
هذه الفكرة هي التي قصد إليها الكاتب وأراد تصويرها، وهو في طريقه إلى تصوير هذه الفكرة قد ألم بطائفة من عيوب الأدباء ونقائصهم لم يكن له بد من الإلمام بها؛ لأنه يصور تصويرًا صحيحًا فلم يكن يستطيع أن يخفي شيئًا مما يتألف منه شخص الأديب حقًّا.
ومع أن موضوع هذه القصة طريف، فقد وُفِّق الكاتب إلى أن يتقن تمثيله كما لو كان من هذه الموضوعات التي تُطرق في كل يوم، والتي سهل أمرها على الناس، فهم يتناولونها ويتصرفون فيها دون أن يجدوا في ذلك مشقة أو عسرًا.
•••
وفي الفصل الأول من هذه القصة بنوع خاص حركة خفيفة شديدة الخفة، سريعة قويَّة السرعة، تدفعك معها؛ فإذا أنت مسرع في القراءة، مسرع في التفكير، مسرع في تحقيق ما تقرأ وما تفكر فيه، وإذا أنت تحيا حياة كلها سرعة، وكلها لذة ورضًا، وفكاهة واشمئزاز مضحك، حتى إذا فرغت من هذا الفصل احتجت إلى أن تستريح، وإلى أن تطيل الراحة بعض الشيء؛ لأنك قد جريت فأكثرت الجري، حتى إذا كانت الفصول الأخرى سرت سيرًا هادئًا مطمئنًّا، ولكنه ممتع مفيد، لا تكاد تخطو خطوة حتى تضحك أو تعجب، أو تستكشف من أمر الأديب شيئًا لم تكن تقدِّره، وما تزال كذلك حتى تنتهي مع القصة إلى الأديب المنتج فتراه كما أراد الله أن يكون ممليًا ما أنتجه من الآثار الأدبيَّة بعد ما شاء الله أن يقتحم في سبيله ما اقتحم من هول يبعث في نفسك الإشفاق والازدراء معًا.
•••
نحن في دار من دور النشر في باريس، يشرف عليها رجل ماهر في صناعته، قوي الإرادة، حديد الفؤاد، مرن الضمير، فصيح اللسان، غريب الجُمل، لا يفكر إلا في صناعته، ولا يعنيه إلا أن يفوز ويتفوق على خصومه الناشرين، هذا الرجل هو جوليان موسكا، ونحن نرى في أول الفصل رجلين يعملان، يملي أحدهما على صاحبه أسماء الكتب التي طلبتها المكاتب، ومقادير هذه الكتب، وهو يمضي في ذلك بطريقة مضحكة قد لا يكون من اليسير أداؤها في لغتنا العربية؛ لأنه يقرن بأسماء الكتب المختلفة باختلاف موضوعاتها الفنية والعلمية موازين هذه الكتب بالكيلوجرام. وبينما هما في عملهما هذا تختلف عليهما طائفة من الناس اختلافًا سريعًا، يعرض علينا أكثر أشخاص القصة، فهذا أديب يقال له بريجايون قد أقبل مسرعًا يسأل عن صاحب الدار، فلما لم يجده أنكر تأخره في هذا اليوم، وأنبأ بأن لديه شيئًا هامًّا يريد أن يُفضي به إليه، وأنه سيعود بعد لحظة، وتفهم من حديثه أن لهذا اليوم في حياة الدار خطرًا؛ لأن هناك جائزة أدبية كبرى هي جائزة زولا، يتنافس حولها الكتاب، وقد رشح لها صاحب الدار أديبًا وجدَّ في ترشيحه، وظفر بوعد الكثرة المطلقة من المحكمين أن يعطوه أصواتهم.
ثم ينصرف هذا الأديب ويقبل رجل آخر مهمل الزيِّ، تقتحمه العين، يُقال له مارك فورنييه، يسأل عن صاحب الدار، فلا يكاد يحفل به أحد، بل نحس من أهل الدار تبرُّمًا به، ورغبةً في دفعه عنها وعن صاحبها، ونفهم أنه قد عرف صاحب الدار حين كانا يؤديان معًا خدمتهما العسكرية، والرجل يلح في السؤال وأهل الدار يذودونه، ويُمنُّونه بلقاء صاحبه بعد أيام، ولكن هذا أديب آخر قد أقبل متعاظمًا مشغول البال، فيستقبله أهل الدار في شيء من الإجلال والتكريم، وهو ماريشال مرشح الدار للجائزة، وهو يسأل عن صاحب الدار فينكر تأخره، ويسأل عن كتابه، فنفهم أنه قد طُبع منه خمسة وعشرون ألفًا، وأُعدت النسخ لترسل إلى مكاتب باريس والأقاليم بُعَيْدَ ظهور النتيجة، وقد كُتبت العنوانات، وحُملت العربات، وأُعدت صور الكاتب الفتوغرافية، ولم يبق إلا أن ينسخ الكاتب اسمه عليها بخطه لتعرضها المكاتب بعد الظهر، والكاتب ينظر إلى هذه الصور فلا تعجبه؛ لأنها تمثله متقدمًا في السن كأنه قد بلغ الأربعين، ولكن صاحب الدار قد طلب أن تُعرض هذه الصور؛ لأنها هي التي ينتظر أن تعجب السيدات، فيأخذ الكاتب في التوقيع، ثم يبدو له فينصرف على أن يعود بعد قليل.
وهذا صاحب الدار مقبلًا ومعه كاتب مشهور فيلسوف أديب من المحكمين هو بورجين، فإذا دخلا تعرَّض مارك فورنييه لصاحب الدار، فينصرف عنه مُزورا، ويمضي مع صاحبه إلى غرفته، ويقبل العمال يعرضون عليه أمور الدار في سرعة غريبة، فينجزها مسرعًا، ناطقًا بألفاظ قصار متقطعة، حتى إذا فرغ من ذلك في لحظة التفت إلى الفيلسوف الأديب وتحدثا في الجائزة، فنفهم أن كثرة المحكمين قد انقادت لهذا الناشر بفضل هذا الفيلسوف، ولكن من المحكمين من يتردد، فيقول الناشر لصاحبه: أفهمه أني أَعتمد عليه في كتابة النقد التمثيلي لصحيفة كذا، فيغضب الفيلسوف؛ لأنه كان يرجو لنفسه هذا العمل، ويرضيه الناشر ويتفقان، وينصرف الفيلسوف على أن يرسل معه الناشر عاملًا يأخذ منه أخبار المداولة ليوصلها إليه كأسرع ما يمكن.
وهذا بريجايون قد أقبل فأدخل على الناشر فيدور بينهما حديث موجز سريع يغير كل شيء، ذلك أن هذا الأديب يخبر الناشر بأن مرشحه قد خانه، وأنه اتفق مع ناشر آخر على أن يعطيه كتبه المقبلة، وقد أُمضي العقد بينهما أمس، فإذا سئل عن البرهان قال عرفت ذلك من كاتبة ذلك الناشر التي كانت تحب ماريشال فخانها، فهي تنتقم لنفسها، ثم يخرج ويعود ومعه الكاتبة التي تظهر العقد للناشر فينظر فيه ويرده إليها، ويمنحها مكافأة مالية، ويعدها بكتمان السر، ويصرفها فتُصرف، والناشر مغضب مضطرب؛ لأن صاحبه قد خانه وعبث به، ولأنه بذل جهدًا عنيفًا حتى ظفر بأصوات المحكمين، وأنفق ستين ألف فرنك في الإعلان عن هذا الكتاب، وكانت نتيجة هذا كله الخيانة.
ولكنه رجل لا يعرف الهزيمة، ولا يطمئن إليها، ولا تؤلمه الخسارة المادية، فإذا هو يسرع إلى التليفون فيدعو فيلسوفه الأديب، ويعلن إليه في حزم أنه لا يريد بوجه من الوجوه أن يفوز ماريشال، ثم ينتظر، وهذا ماريشال قد أقبل، فيتلقاه مبتسمًا مبتهجًا، ويطلب إليه في هدوء أن ينظما أمرهما، وأن يمضيا هذا العقد الذي يضمن له نشر كتب الأديب المقبلة، ويضمن للأديب موردًا ضخمًا، فيتردد الأديب، ويلح الناشر.
ويشتد تردد الأديب فيشتد إلحاح الناشر؛ فيأبى الأديب، وهذا التليفون يدعو فيصغي إليه الناشر، فيكتب أرقامًا على ورقة أمامه، حتى إذا فرغ أعلن إلى الأديب في هدوء أنه قد انتهى التصويت الأول، وأنه لم يفز فيه. فيسخط الأديب ويضطرب ويصيح، ويتهم بالخيانة فلانًا وفلانًا من المحكمين. ولكن التليفون يدعو مرة أخرى، ويصغي إليه الناشر، ثم ينبئ الكاتب بأن فشله في التصويت الثاني أعظم من فشله في التصويت الأول، فيشتد سخط الكاتب، وهنا ينبئه الناشر في سخرية بأنه لم يحسن حين اتفق مع خصمه، فيفهم الأديب، وإذا هو يبرق ويرعد، وينذر ويوعد، ولكن التليفون يدعو للمرة الثالثة، فيصغي الناشر، ثم يعلن بعد ذلك أن قد انتهى التصويت وفاز بالجائزة رجل مجهول لا يعرفه أحد، ولم يسمع به أحد، رجل من الأقاليم يقال له إيفنوس.
وقد خرج الأديب مغضبًا موعدًا، ولكن الناشر عنه في شغل، فما أسرع ما يستفسر أمر هذا الفائز بالجائزة، فهو رجل من مدينة أورليان، طبع كتابه «استيقاظ الفؤاد» في مطبعة من مطابع المدينة، فما أسرع ما يتصل الناشر بصاحب هذه المطبعة من طريق التليفون، فينبئه بالخبر، ويشتري منه حقوق الطبع، وما بقي عنده من نسخ الكتاب، ويأخذ منه عنوان المؤلف في باريس، ويرسل إليه جماعة من العمال في سيارة يؤدون إليه الثمن، ويأخذون منه نسخ الكتاب على أن يعودوا مع الليل، ثم يدعو أحد عماله فيعطيه عنوان المؤلف، ويأمره أن يمضي مسرعًا، ولا يعود إلا ومعه المؤلف مهما يكلفه ذلك من مشقة وحيلة، كل ذلك في سرعة ولباقة لا حدَّ لهما.
وما هي إلا لحظة حتى يعود العامل ومعه سيدة فينبئ صاحب الدار بأنه لم يجد المؤلف فجاء بامرأته، وتدخل جاكلين فتتحدث إلى الناشر، فنفهم من حديثها أنها لا تقدِّر فوز زوجها، ولا تفكر فيه، وأنها تعرف أن زوجها قد ألف كتابًا وعرضه على هذا الناشر، وهي تظن أن هذا الكتاب قد أعجب الناشر وهي سعيدة بهذا، والناشر لا يفهمها، ثم ينتهي بهما الأمر إلى أن يفهم كل منهما صاحبه، فيعلن إليها الناشر أن زوجها قد ظفر بالجائزة، فإذا هي مغتبطة سعيدة، وإذا هي تنبئ الناشر بأنها هي التي قدمت الكتاب إلى المحكمين؛ لأن زوجها رفض ذلك لثقته بأنه لن يظفر بشيء، وهو موظف في إحدى الوزارات، وهو رجل من أورليان يقال له مارك فورنييه، فإذا سمع الناشر هذا الاسم ذكره وذكر صاحبه، وذكر أنه هو هذا الذي يتردد منذ أيام فلا يقبل، وطلب إلى زوجه أن تكتب إليه كلمة يحملها إليه بعض العمال ليأتي به، وبينما هي تكتب يقبل مارك فورنييه، فيتلقاه العمال في تبرم وازدراء، ويذودونه عن الدار ذودًا، فينصرف وقد دعا الناشر أحد العمال وطلب إليه أن يمضي بهذه الكلمة، وأن يأتيه بمارك فورنييه، فإذا أدخله على الناشر تلقاه هذا في مودة لا حدَّ لها، فهو يضمه إليه ويقبله، ثم ينظر الرجل فإذا امرأته وإذا هو يعلم بفوزه، وإذا هو دهش قد أذهله النبأ، وانظر إلى الناشر يفتح أمامه أبوابًا من الأمل، فسيقبض الجائزة خمسة عشر ألف فرنك، وسيقبض منه هو عشرة آلاف مقدمًا، ثم يستقيل من الوزارة وينصرف إلى الأدب، وإذا هو من الأغنياء، وإذا هو من أصحاب الصوت الذائع، وهم في ذلك إذ أقبل صحفي يستنبئ عن هذا الكاتب الذي فاز، فإذا رآه رغب في أن يأخذ منه حديثًا، وفي أن يأخذ صورته، وما أسرع ما تؤخذ الصورة فيها المؤلف وامرأته والناشر، ولكن المؤلف قد أخذ يشعر بقيمته، وأخذت تظهر فيه الصفة الأولى من صفات الأديب، فهو يسأل مبتسمًا: أليس يحسن أن أُصوَّر منفردًا؟
•••
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضى على ما قصصنا عليك عام ونصف عام، وانصرف كاتبنا مارك فورنييه الذي اتخذ لنفسه اسم إفنوس إلى صناعة الأدب، واستقال من عمله في الوزارة، وأخذ من الشهرة الأدبية بحظٍّ موفور، وكان قد اتفق مع الناشر على أن يتعجل إصدار كتاب آخر، وعلى أن يكون هذا الكتاب استمرارًا لكتابه الأول الذي نال الجائزة، وهو منذ ثمانية عشر شهرًا يعمل في هذا الكتاب الثاني، فلا تؤاتيه القريحة، ولا يكاد يظفر بشيء.
ونحن نراه أول هذا الفصل جالسًا إلى مكتبه ينظر في صحيفة كئيبًا ضيق الصدر، ثم يسرع إلى هذه الصحيفة فيمزقها مغضبًا محرجًا، وما هي إلى أن تقبل امرأته فيتلقاها فاترًا، وتحدثه عمن لقيت في بعض زياراتها، ثم تسأله عن عمله، فينبئها بأنه لم يعمل شيئًا، وبأنه لم يُوفق إلى شيء، ويظهر لها ميله الشديد إلى الانصراف عن هذا الكتاب، بل عن الأدب كله؛ لأنه لا يحسن أن يكتب، وهي تلومه وتشجعه وتغريه، ولكنها لا تظفر منه بشيء، ونحس في هذا الحديث جهاد الرجل بين ما يشعر به من العجز، وما يشعر به من الاحتفاظ بمكانته الأدبية، وما يشعر به أيضًا من طمع امرأته، وحرصها على هذه الحياة الجديدة التي تجد فيها الدعة والثروة، وتجد فيها الشهرة والرفعة. ثم نشعر بشيء آخر هو هذه الموجدة التي يحسها الأديب على الأديب إذا قدر التوفيق والفوز، فصاحبنا واجد على ماريشال؛ لأن الناس يتحدثون عنه، والنساء يتهالكن عليه، وصاحبنا يرى أن هذا الرجل ليس شيئًا، وأنه من أصحاب الفن السهل الذي لا جدَّ فيه ولا غناء، وامرأته لا تدافعه في ذلك، ولكنها لا تجاريه، وهي تنبئه بأن ماريشال قد يأتي بعد قليل ليراه فيكره ذلك، ويتبرم به، وهذا التليفون يدعو فنفهم من الحديث أن الناشر مقبل، ونرى كاتبنا شديد الضجر، مترددًا بين الخروج؛ حتى لا يرى الناشر، وبين البقاء؛ حتى إذا رآه أخبره بعزمه على الانصراف عن الأدب، ولكن امرأته تستبقيه وتشجعه، وهذا الناشر قد أقبل فيلقاه وامرأته لقاء حسنًا، وما هي إلا أن يدور الحديث على الكتاب المنتظر، فيزعم الكاتب أن قد مضى فيه إلى أمد بعيد، ويتعجله الناشر ويطلب إليه الأصل بعد ثلاثة أسابيع، فيتعلل، فيمد له الأجل أسبوعًا، فيأبى، فيشتد إلحاح الناشر وإباء الكاتب، حتى يضيق الكاتب ذرعًا، فيعلن أنه لن يكتب هذا الكتاب؛ لأنه لا يستطيع أن يمضي فيه.
وتستطيع أن تتصور غضب الناشر وغيظه بعدما أنفق من الجهد والمال ما أنفق، فهو يترضَّى الكاتب، ويتوسل إليه، ثم ينذره ويخيفه، ولكن الكاتب مصرٌّ لن يعدل عن رأيه، وهنا يدور حديث نفهم منه طبيعة هذا الكاتب، ومقدرته الفنية، فهو لم يخترع كتابه الأول اختراعًا، وإنما صاغه من قصة وقعت بالفعل لامرأته حين كانت تعمل في المستشفيات في أثناء الحرب، فأحبت أحد الأطباء وأحبها هذا الطبيب، ولم ينتهِ حبهما إلى غايته، وكانت الفتاة تكتب مذكرات وخواطر وقعت للكاتب بعد أن اقترن منها، فصاغ منها قصته تلك.
وهنا تظهر مهارة الناشر، وحرصه على منفعته، فهو يسأل هذه المرأة: ألم يحبك أحد بعد هذا الرجل؟ ألم يحدث في حياتك ما يحملك على كتابة الخواطر والمذكرات؟ فتجيبه: لا، فيشتد غيظه، ويسوء الحديث بينه وبين الكاتب، ويعرض عليه الكاتب إلغاء ما بينهما من عقد، وما يزال الأمر بينهما في شدة حتى يفسد، فإذا الناشر يتهم الكاتب بالخيانة والاحتيال، وإذا الكاتب يطلب إلى الناشر أن يخرج من عنده، فيأبى، فينصرف الكاتب معلنًا أنه لن يعود من غرفته حتى يخرج هذا الرجل. ويخلو الناشر إلى جاكلين، فيكون بينهما حديث آية في المهارة والغرابة، والحرص على النفع، والتماسه من جميع الوجوه الممكنة. يعود الناشر فيسأل جاكلين: أليس بين الناس من يحبها أو يظهر لها المودة؟ فتجيبه: لا، فيلح عليها، ثم يعلن إليها أنه لو كان مكانها لالتمس لنفسه عاشقًا ومغازلًا، ولكتب خواطر ومذكرات تمكن صاحبنا من وضع قصته، فإذا أنكرت ذلك خيرها بين النعيم والبؤس، وبين السعة والضيق، وبين الشهرة والخمول، ثم فتح أمامها أبواب الأمل في ثروة لا حد لها، وشهرة تنتهي بزوجها إلى المجمع اللغويِّ.
وما يزال بها حتى تحس منها شيئًا من الضعف، ثم يسألها الرجل مفاجأة: ما بال ماريشال؟ أليس يحبك؟ فتجيبه: لا، فيلح فتجيبه: إن هذا الرجل يحب النساء جميعًا، ويتملقهن جميعًا، وهو يتملقني كما يتملق غيري من النساء، وهو مقبل بعد حين ليرى زوجي، فانظر إلى الناشر منتصرًا مبتهجًا؛ لأنه ظفر بحاجته، فلا بد من أن تتلطف جاكلين لماريشال وتطمعه، وتقبل تملقه وغزله، وتكتب خواطر ومذكرات، وهي تأبى الأمر في نفسه، وهو يلح، فتقبل ولكن مع غير ماريشال، فيلح ويسرف في الإلحاح، ونحس نحن أن في نفس هذه المرأة ميلًا خفيًّا إلى ماريشال، وأنها لا تحب أن تعبث به هذا العبث، وقد أقبل ماريشال فحيَّا تحية المحب، وما يزال الناشر بهما حتى يصل بينهما حديثًا يشبه أن يكون حديث حب، وقد أغرى كلًّا منهما بصاحبه، ثم يدعهما ليصلح ما فسد بينه وبين الكاتب، فإذا خلى أحدهما إلى صاحبه أسرع ماريشال فأعلن حبه وهيامه، وهمت المرأة أن تدفعه، ولكنها تذكر الناشر، وما تحدث به إليها من الثروة والشهرة، وتذكر في الوقت نفسه ميلها الخفي إلى هذا الرجل فلا تدنيه ولا تقصيه، وإنما تترك له أملًا مغريًا، ويأتي الكاتب والناشر وقد اصطلحا، وتم الاتفاق بينهما على أن يستريح الكاتب أشهرًا لا يكتب شيئًا، ولا يفكر في شيء، حتى إذا أخذ من الراحة بحظٍّ استأنف العمل فتنقاد له المعاني والألفاظ، وإذا الكتاب قد تهيأ للنشر في وقت قصير.
وللناشر بيت على ساحل البحر في جنوب فرنسا، فهو يدعو الكاتب وامرأته إلى أن يذهبا إلى هذا البيت ليستريحا فيه. وقد قبل الكاتب، ورضيت امرأته، وفهمنا نحن أن الناشر إنما دبر هذا كله ليترك الفرصة لحب ماريشال؛ لعله يظفر بما يحمل المرأة على أن تكتب الخواطر والمذكرات.
وقد أحس الناشر أن ذلك لن يكون إلا إذا أرسل ماريشال مع الزوجين إلى ساحل البحر، وقد مهد لذلك فوُفِّق فيه، وأصبح ثلاثة القوم مستعدين للرحلة إلى الجنوب، ورضي الناشر عن نفسه، وعن خطته، وعن فوزه، فهو يدعو ثلاثتهم للعشاء معه في مطعم من مطاعم الضواحي، وسيحملهم في سيارته، فأما الزوج فسيجلس في مؤخرها مع ماريشال، ولا خوف عليهم من البرد ولا من الهواء، ففي السيارة من أنواع الوقاية ما يحجب من البرد والهواء.
•••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن في أقصى الجنوب الفرنسي في بيت الناشر على ساحل البحر حيث يقيم أصحابنا منذ حين، ونحن نرى جاكلين تتحدث إلى الصحفي الذي رأيناه في الفصل الأول، وقد علم بمكان الكاتبين، فأقبل يطلب إليهما حديثين، فأما الزوج فقد تبرم بهذا الصحفي وخرج، والمرأة تعلل هذا الصحفي، وتطلب إليه أن ينتظر حينًا، وأما ماريشال فقد أعدَّ حديثه وكتبه، وها هو ذا قد أقبل يريد أن يقرأ على الصحفي هذا الحديث، وقد بدأ يقرؤه عليه، ثم خرجا يتمان هذه القراءة في الحديقة، ويقبل الزوج فإذا علم بمكان الصحفي أنكره، وسخط على ماريشال، فتدافع امرأته بعض الدفاع فيغضب، ونحس أنه يجد في نفسه شيئًا، ثم يخرج ويعلن إلى امرأته أنه لن يرى هذا الصحفي، ولن يتحدث إليه.
فإذا فرع ماريشال من قراءة حديثه على الصحفي عادا إلى حيث جاكلين، فيتعجل الصحفي، فتنبئه بأن زوجها قد يتأخر، فينصرف على أن يرسل إليه الكاتب حديثه مع البريد.
ويخلو العاشقان، فلا يلبث ماريشال أن يلوم صاحبته؛ لأنها ما زالت به تطمعه وتغريه حتى ترك عمله في باريس، وأعرض عن سياحة كان ينتظر منها نفعًا كثيرًا، وأقبل معها، ولكنه لم يظفر بشيء، وقد ضاق بهذا الانتظار، وكره أن يكون ضحكة لها، واعتزم أن يسافر منذ غد. وما يزال بينهما الحديث حتى تعلن إليه المرأة أنها تحبه حقَّا، وأنها لم تدعه إلى اللحاق بها، ولو قد استطاعت لطلبت إليه ألا يفعل، ثم تقصُّ عليه القصة كلها، فإذا هو ثائر مغضب؛ لأنه سيكون موضوعًا لعبث الناشر والكاتب، وهو محنق لأنه سيكون موضوع قصته، وهو محنق لأنه لم يظفر في سبيل ذلك بشيء ما، ومهما تتلطف له جاكلين فهو لا يرضى منها إلا أن تزوره في غرفته، وهي تمانع وتغلو في الممانعة، ولكنه مصرٌّ على هذه الزيارة، فإن لم تفعل فهو مرتحل غدًا، وقد أذعنت وقبلت هذه الزيارة، والتمسا لها علة، وهي أن تأخذ أداتها الكاتبة، وتذهب إليه كأنه يريد أن يملي عليها كتبًا هو في حاجة إلى حفظ أصولها.
وقد صعدت هي تبتغي آلتها الكاتبة، وانصرف هو إلى غرفته وهو يقول: إذن فسيكون بينها وبيني شيء لا تستطيع أن تُظهر زوجها عليه، ولكن الزوج قد أقبل، ولم يكد يستقر حتى يرى امرأته تهبط ومعها أداتها الكاتبة فيستوقفها، ويسألها فتخبره، فيحظر عليها الذهاب، فتأبى، فيلحُّ ويأخذها بشيء من العنف، ويرسل الخادم لتعلن إلى ماريشال أن السيدة معتذرة؛ لأن بعض الأمر قد طرأ لها، ثم يعلن إليها أنهما مرتحلان غدًا إلى باريس، فتأبى، فيعلن إليها أنه يريد ذلك وكفى.
وهذا الناشر قد أقبل ومعه الفيلسوف الأديب الذي رأيناه في الفصل الأول، وكانا منتظرين، فإذا سلَّما وذهب الفيلسوف ليستريح سأل الناشر صاحبه الكاتب: كيف يجد نفسه، فيخبره بعزمه على السفر منذ غد ليفرق بين امرأته وبين ماريشال بعد أن أصبحت عشرتهما خطرة، فيضحك الناشر منه، ويهزأ به، وينبئه بأن هذه قصة مدبرة، وأنه اتفق عليها مع جاكلين، وأهدى إليها دفترًا تكتب فيه الخواطر والمذكرات، فأما الكاتب فلا يطمئن لهذا الحديث. وتُدعى جاكلين، وتُسأل فلا تجيب، فإذا ألحَّ عليها الرجلان أخرجت دفترًا ودفعته إلى زوجها، فينظر فيه فإذا هو نقيٌّ لم يُكتب فيه حرف واحد، وإذن! فقد كان الأمر بينها وبين الرجل جدًّا لا هزلًا، وقد احتفظت لنفسها بخواطرها ومذكراتها، فأما الكاتب فكئيب محزون، يائس، قد أثقله الهم. وأما الناشر فيغريه ويعتذر إليه، وأما المرأة فقد صعدت، ثم عادت وقد تهيأت للسفر تريد أن تعود إلى أهلها، فإذا سألها زوجها قالت: إنها تريد أن تخلو وتفكر لترى جلية ما يضطرب في نفسها، فيأبى إلا أن يصحبها، وما يزال بها مهتمًا وشاكًّا وجزعًا ومنذرًا حتى تقبل؛ ذلك أنها تحب زوجها كما يحبها، وإنما هي أزمة عرضت لها كما تعرض لغيرها من النساء والرجال.
سيسافران إذن، ولكنها تطلب إليه الإذن في أن ترى صاحبها، وتودعه لآخر مرة بعد أن تقسم له أن لم يكن بينها وبينه إثم، فيأذن على كره منه، ويمضي ليتهيأ للسفر، ويقبل ماريشال، فيكون بينه وبين صاحبته حديث قصير، ويتفقان على أن يلتقيا غدًا في أورليان، أما هو فنفهم أنه يريد أن يتم خطته، وأما هي فضعيفة لا تستطيع المقاومة في هذه الأزمة العنيفة.
وقد سافر الزوجان، وإذا نحن نرى الناشر والفيلسوف ومعهما ماريشال ينبئهما أنه سيتبع هذه المرأة إلى أورليان، فيأبى عليه الناشر ذلك، ويحاول أن ينصرف عنه فلا يفلح، حتى إذا أحسَّ منه الإصرار الذي ليس بعده رجع اتخذ أقرب الطرق إلى الإقناع، فأعلن إليه أن المجمع اللغوي سيمنحه الجائزة الكبرى، وأن المجمع اللغوي محافظ لا يمنح الجوائز لمن يعرف عنهم الإثم، فلا يكاد ينبئه بذلك حتى يتردد، ثم يعلن إيثاره للجائزة على الحب.
•••
فإذا كان الفصل الرابع فقد مضى حين من الدهر على ما حدثتك به، وقد عاد الزوجان إلى باريس، وانصرف الكاتب عن الأدب، واستأنف عمله في وزارته، وانقطعت الصلة بينه وبين الأدباء والأندية الأدبية، وأصبح كما كان من قبل موظفًا عاديا، ولم يبقَ من هذه القصة إلا ذكرى مؤلمة تنغص على الزوجين حياتهما، فهو واثق بأن امرأته لا تحبه، شاك فيما كان بينهما وبين ماريشال، وهي تكره منه هذا الشك، وتضيق به، وتعيش معه عيشه الممرضة مع المريض، وتحمل في نفسها آلامًا خاصة لا تتحدث بها إلى أحد إلا الفيلسوف الذي احتفظ بما بينه وبينها من صلة، فهو يزورها من حين إلى حين.
وقد ساءت حالهما الماليَّة سوءًا شديدًا، فكثر الدين، وألحف الدائنون، وأنذرت الخادم بترك العمل إن لم تُؤَدَّ إليها أجرها. وجاء النذير بأن التليفون سيُقطع، وهي تطلب إلى زوجها أن يقترض شيئًا على مرتبه من الوزارة، فيجيبها بأنه قد فعل ذلك مرة، وليس له أن يعود، فتطلب إليه أن يلتمس عند الناشر قرضًا، فيرفض في عزة وإباء، فتعلن إليه أنها ستبيع بعض حليها، وقد انصرف وبقيت وحدها، فتدعو الخادم وتأمرها إن جاء بعض الدائنين أن تنكر مكانها.
وقد دق الجرس وعادت الخادم تنبئ بأن ماريشال يستأذن، فتدهش جاكلين لمقدمه، وتهم أن ترفض استقباله، ثم يبدو لها فتأذن له، ويُقبل ماريشال، وقد لعب الخيال برأس هذه المرأة، فأحيا في نفسها كل شيء، وردَّ الأزمة إلى حدتها الأولى، وإذا هي تعاتبه لزيارته.
وتنكر هذه الزيارة، وتعتذر إليه؛ لأنها أبرقت إليه ألا يتبعها في أورليان وقد خُيل إليها أنه أقبل مستأنفًا للحب والمودة، ولكنه لم يُقبل لشيء من هذا، إنما أقبل يعرض عليها قصة صغيرة صوَّر فيها تصويرًا بديعًا ما كان بينهما من الأمر، ولم يرد أن تُنشر قبل أن تقرأها، بل قبل أن تكون أول من يقرؤها، فلا تسل عن وقع هذا النبأ على نفسها، فقد انهدم كل ما بناه الخيال، ونظرت فإذا قيمة حبها ومودتها وما احتملت في سبيلهما من ألم، وما تعرضت له من خطر، وهذه الحياة المنغصة، وهذا البؤس؛ قيمة هذا كله عند هذا الرجل أنه يصلح موضوعًا لكتاب!
وهي تدفع إليه قصته، وتعتذر من قراءتها، فيخرج مغضبًا محنقًا؛ لأن هذه القصة خير ما كتب.
وقد دق الجرس وأقبل الفيلسوف، فرآها كئيبة محزونة، فيسألها، فتنبئه، فيغضب، فيُخيل إليها أنه يغضب لما تغضب له، ولكن الفيلسوف لم يغضب لهذا إنما لأنه وضع من هذه الحادثة قصة تمثيلية ويسوءه أن يسبقه ماريشال إلى إذاعتها، فهو إذن كصاحبه! لم يكن صديقًا ولا معزيًا ولا وفيًّا، ولم يكن يتردد عليها، ويتصل بها إلا ليكوِّن أشخاصه ويقوِّمهم، وإذن فقد قُضي عليها وعلى زوجها أن يألما ويشقيا ويُحرما ليكتب ماريشال قصته، وليكتب بورجين تراجيديا أو كوميديا.
وقد أقبل الزوج فتدهش لِمَقدمه، فينبئ بأنه لم يذهب إلى الوزارة هذا اليوم، وينصرف الفيلسوف فإذا خلا الزوجان رأينا نفس المرأة قد تغيرت، فإذا هي ممتلئة حنانًا ومودة لزوجها، وإذا هي تثوب إليه راضية مطمئنة، أليس هو الذي احتمل ما احتمل من ألم صامتًا، فلم يستغل ولم يكتب، وهي تنبئه بنبأ ماريشال والفيلسوف؛ فيثور ويغضب وينذر، وهي تهدئه، وتهوِّن عليه، وقد دنت منه فوضعت رأسها على كتفه راضية مطمئنة، مستأنفة حبها الأول.
ولكن الزوج يرد رأسها عن كتفه، ويظهر على وجهه الاضطراب والاستخذاء، فإذا سألته أنبأها بأنه هو أيضًا قد كتب كتابًا … ثم فصَّل ذلك، فنفهم أنه كان يذهب إلى الوزارة فيتم عمله الرسمي في لحظات، ثم ينصرف إلى كتابه فيمضي فيه حتى كتب ما يبلغ مجلدين، فتسأله: أين ذلك؟ فيُظهرها عليه، ثم يصفه فإذا هو راضٍ به، بل معجب به أشد الإعجاب، واثق بأنه سيظفر برضا الجمهور وإعجابه، ولكنه لن ينشره؛ لأنه لم يكتبه للنشر إنما كتبه لنفسه، فإذا أظهرت الشك في ذلك أعلن إليها أنه سيمزقه ويحرقه.
وهذا الجرس يدق، وهذه الخادم تقبل وتعلن أن بعض الدائنين يأبى أن ينصرف، وينذر بالمحضر، وهذا الجرس يدق مرة أخرى، وهذا الناشر قد أقبل لأن الزوج كان قد مر به فلم يجده فترك بطاقته، فأقبل لعل صديقه في حاجة إليه، ولكنه يعلن إلى صديقه قبل كل شيء أنه مستعد لمعونته إلا فيما يمس المال، فهو لا يستطيع أن يقرضه الآن قليلًا ولا كثيرًا. هنا يظهر الصراع بين المؤلف والناشر قويًّا عنيفًا، ولكنه ممتع مضحك، ذلك أن الزوج يعلن إلى الناشر أنه لا يريد قرضًا وإنما يريد جزءًا من ثمن قصة أتمها ويوشك أن يقدمها إليه، فلا يصدقه الناشر، ولا يحفل به، بل يعلن إليه أن كتبه أصبحت لا تعنيه، ثم ينهض لينصرف، وإذا الكاتب قد أسرع إلى التليفون فدعا ناشرًا آخر وأنبأه بأن لديه كتابًا يريد أن ينشره، وأنه يحب أن ينشره عنده، وأن يلتقيا ليمضيا العقد، هنا تثور حفيظة الناشر فيذكر ما أنفق وما دبر وما كاد، ويكره أن تكون نتيجة هذا كله لخصمه، وإذا هو قد أسرع إلى التليفون فينتزعه من الكاتب انتزاعًا، ويأخذ في المفاوضة، فيعرض خمسة آلاف، وتطلب جاكلين عشرة، ويأبى الكاتب إلا عشرين ألفًا وإلا أن يرفض الناشر قصة ماريشال، فيذعن الناشر، وإذا الحياة قد عادت إلى جاكلين، وإذا الأمل قد ابتسم لها، وإذا الناشر قد استأنف الثقة بالكاتب، وهو يطلب إليه أن يستقيل فيأبى في شدة؛ لأن الوزارة أحسن مكان يصلح للتأليف.
وقد تم الاتفاق بين الرجلين، وانصرف الناشر وخلا الزوجان، فبينهما حديث فيه غبطة ومرارة، وفيه إذعان المرأة وطمعها، وفيه ألم الأديب وغروره، ولكنهما قد وعدا الناشر أن يقدِّما إليه الأصل بعد خمسة عشر يومًا، فلا بد من البدء في تهيئة هذا الأصل، وهذه جاكلين قد جلست إلى المائدة وهيأت الآلة الكاتبة، وهذا زوجها قد أخذ يملي عليها كتابه في بطء، بينما يسدل على ذلك الستار.