أيسخولوس
حياته ومسرحياته
(١) شخصية أيسخولوس وعبقريته
ولم يُكتَب لأيسخولوس أن يكون واحدًا من عباقرة العالم كله في كتابة المآسي فقط، ولكن قُسِم له أن يخلد في أذهان الناس بوصفه مبتكرًا لا يقل في ابتكاره عن سلفه ثيسبيس.
كان أيسخولوس جليلَ النظرة، فمسرحياته تحلِّق في السماء، ولَكَم خلَقَ خيالُه من صور رائعة، وكم اتَّصف أسلوبه بالفخامة التي تبلغ أحيانًا حدَّ المبالَغة، وتشير على الدوام إلى المقدرة الواضحة على التفكير التي كانت تتمتع بها شخصيته.
•••
كان أيسخولوس ينحدر من أسرة أرستقراطية كريمةِ المَحتِد تُعتبر من أشهر الأسر الأتيكية العريقة النبيلة.
ونكاد لا نعلم شيئًا كثيرًا عن حياة أيسخولوس، ولقد أجمع المؤرخون على أنهم لا يعرفون عن طفولته أو شبابه شيئًا يستحق الذكر، أو يمكن الاعتماد عليه. هذا وإن كانت هناك أسطورة تروي قصةً خرافية عن أيسخولوس وهو في طليعة شبابه، فتقول إنه بينما كان نائمًا يومًا تحت كَرْمة في بساتين أبيه، حلم أنه رأى ديونيسوس إله الخمر، مُقبِلًا عليه محدِّثًا إياه، متنبِّئًا له بأنه سيصبح شاعرًا فحلًا من أعظم شعراء عصره.
اتصف أيسخولوس بالأَنَفة والكبرياء والإباء في مراحل حياته الخاصة والعامة، فنجده قد عزف عن المناصب الحكومية، وجميع وظائف الدولة، واكتفى بأن يكون شاعرًا، واجدًا في ذلك شرفًا لا يجاريه شرف. ولعله قد ورث هذا الشَّمَم وهذا الإباء من أسرته العريقة الأرستقراطية كما سلف ذكره.
ومع ذلك فمما لا شك فيه أن الحروب الميدية التي اشترك فيها أيسخولوس قد لعبت دورها في صقل فنه وتجويده وتهذيبه، كما أن هذه الحروب قد أفادته إفادة كبيرة؛ إذ اقتبس منها بعض تراجيدياته التمثيلية كتراجيدية «الفرس» مثلًا.
أما تواريخ مسرحياته الأخرى، فلا يمكن معرفتها إلا بالتخمين وبالتقريب. وعلى العموم يبدو أنه كرَّس حياته كلها لفنه؛ فقضى الجزءَ الأكبر من حياته، كممثل وكشاعر، في تأليف المسرحيات التي مثَّلها هو بنفسه في المباريات الدرامية، أو مثَّلها غيرُه نيابةً عنه.
وإذا حكمنا عليه من واقع مؤلفاته والمذكرات القليلة المبعثرة هنا وهناك، نقول إنه كان عزيز النفس، سامي الروح، ذا عقيدة دينية عميقة. والدراما كما تصوَّرَها أيسخولوس مليئة بالميول الدينية. وأهم مواهب خياله الخصب أنه ابتكر كثيرًا من الصور البيانية والتعبيرات الجديدة التي لا يباريه فيها إلا القليل من الشعراء. وكان خياله يتجه دائمًا إلى العظمة والأبهة، وإظهار قوته في عنف، ولا يتأثر بالرشاقة والحلاوة والرقة إلى درجةٍ عالية. أما قوة تفكيره فكانت عنيفة، ومقدرته على إبداء الأسباب فائقة. كان يجمع العلاقات التي بين الأفكار، ثم يرى أوجه الانسجام أو التناقض بينهما. كما كان ذا عبقريةٍ حقيقيةٍ للتنظيم، قادرًا على الإلمام بالكليات العظمى دون أن يفقد النظر في جميع التفاصيل. إذن فمثل هذا الرجل الذي يهب كل تفكيره واهتمامه لنوعٍ من التأليف الأدبي كان لا يزال في مهده، لن يعجز قط عن النهوض بهذا النوع أو تحويله. وكان ذا مقدرة على الصور الجريئة، ولم يفتقر إلى أية صفة أساسية تلزم لتصوُّرها.
(٢) علاقات أيسخولوس بشعر الأبطال
لو قارنَّا بين الأدلة، متغاضين عن الاختلافات التي تُعزى إلى حسن النية، لَقادَتنا إلى الاعتقاد بأنه ألَّف سبعين تراجيدية وعشرين دراما ساتورية، ولكن لم يصلنا من هذا العدد الضخم سوى سبع تراجيديات مع قائمة بالعناوين وعدد كبير من الشذرات. كذلك نُسِبت إليه بعض الإليجيات والأناشيد.
جُمع عددٌ معين من مسرحيات أيسخولوس في مجموعات رباعية، أي في سلاسل تتألف كل سلسلةٍ منها من ثلاث تراجيديات ودراما ساتورية واحدة. هذه حقيقة ممتعة ينشأ عنها عدد من القضايا التي تكاد تتحدى الحل.
إذا كانت الأرقام التي ذكرناها صحيحة، فإنها دليل قاطع على عدم وجود عدد صحيح من المجموعات الرباعية، وتدل على أن أيسخولوس ربما يكون ألَّف عشرين تراجيدية مستقلة على الأقل لتُمثَّل خارج أثينا، أو يكون وضَعَها في فترةٍ من حياته لم تَسْرِ فيها هذه القاعدةُ التي نحن بصددها. ومن جهةٍ أخرى، فإن عددًا كبيرًا من هذه المسرحيات قد وُضِع في مجموعات ثلاثية، ولكن هل كانت هذه المجموعات ذات موضوع واحد؟ يبدو من المؤكد أنها لم تكن كذلك؛ لأننا نعرف مجموعة واحدة على الأقل لا تتناول موضوعًا واحدًا، وهذه هي المجموعة التي تضم مسرحية «الفرس». ومع هذا، فقد تكون هذه حالة شاذة. ومعظم المسرحيات في مجموعات مشابهة لمجموعة «الأوريستيا». وقد تأكد لنا هذا في عددٍ معينٍ من المسرحيات، ويحق لنا أن نعتبره منطبقًا على كثيرٍ من المسرحيات الأخرى؛ لأن المسرحيات نفسها تدعو إلى مثل هذا الجمع. وسواءٌ أكانت هذه القاعدة من عصرٍ سابقٍ لعصر أيسخولوس أو غير هذا، وسواءٌ أكان هو الذي ابتكرها بنفسه، أو ابتكرها غيره وتناولها هو بالتحسين وجعلها قاعدة عامة، فإن بوسعنا بناءً على مدى استخدامه لها أن نعتبرها من بنات أفكاره. وتنطبق ضخامةُ المجموعات الثلاثية على طبيعةِ عظمةِ أفكاره، وميل خياله إلى تكوين أفكار منتظمة مرتبة تمام الترتيب، وعلى فلسفته عن البشر وعن الآلهة، كما سنرى فيما بعد. وفضلًا عن هذا، فقد أَضْفَت على التراجيديا شيئًا من عظمةِ شِعر البطولة؛ ولذا ناسَبَت طموحَه السامي مناسَبةً تدعو إلى الإعجاب.
(٣) عدد مسرحيات أيسخولوس
- (١) المتضرِّعات The Suppliants، وتاريخها غير مؤكَّد، وإن كانت تُعتبر مثالًا صارخًا لأقدمِ مسرحية وصلتْ إلينا.
- (٢) الفرس The Persians مُثِّلت عام ٤٧٢ق.م. وقد وُضعت للكوروس، وكان موضوعها هو نفس موضوع تمثيلية فرونيخوس التي عنوانها «الفينيقيات Phoenissae»؛ هزيمة إكسركسيس في سلاميس، ولكنها عُولِجت بطريقةٍ مخالِفةٍ لتلك. وهي مَثَل صارِخ لمسرحية كُتِبت لتُعالِج موقعةً لم يمضِ على وقوعها زمانٌ طويل.
- (٣) السبعة ضد طيبة The Seven Against Thebes مُثِّلت سنة ٤٦٧ كقصة مملوءة بروح آريس Ares، إله الحرب، وكجزء من مجموعة تمثيليات أربع تتضمن دائرة أسطورة طيبة، فتكوِّن لايوس Laius وأوديبوس الجزأين الأولين منها، والتمثيلية الساتورية «سفنكس Sphinx» الخاتمة.
- (٤) «بروميثيوس المقيَّد» أو «مغلولًا» Prometheus Bound، وهي مسرحية لا شك في أنها وُضِعت بعد السابقتَين كجزء من المجموعة الثلاثية المسماة «البروميثايا Prometheia»، التي ربما كان أول أجزائها وآخرها هما «بروميثيوس حامل النار» و«فك قيود بروميثيوس». وتعتبر قصة بروميثيوس هذه من أروع الأمثلة للثورة على ظلم زوس، رب الأرباب والبشر.
وأخيرًا:
مجموعة الأوريستيا في سنة ٤٥٨، وهي الثلاثية الوحيدة الباقية التي وصلت إلينا من العالم القديم كله، وتتكون من ثلاث تراجيديات هي:
- (٥)
«أجاممنون» وتعالج مقتل ذلك البطل وهو عائد إلى وطنه.
- (٦) «حاملات القرابين» أو «الخويفوراي Choephorae» المسماة باسم «كوروس النساء» الطرواديات الأسيرات وهن يقدِّمن القرابين على قبر أجاممنون، الذي يثأر من أوريستيس Orestes من أيجيسثوس Aegisthus وكلوتايمنسترا Clytaemnestra.
- (٧) «اليومينيديس Eumenides» التي يطارد فيها أوريستيس بواسطة الفوريات Furies، ثم يطلق الأريوباجوس Areopagus سراحه في أثينا.
وربما كانت هذه الثلاثية آخر ما عرضه أيسخولوس في أثينا، وتعطينا فكرة عن النظرة الفنية إلى ذلك الشاعر. ويجب أن يُنظَر إليها كإحدى عُظميَات القطع الفنية التي أُلِّفت. ويتميز أسلوبها بالسمو والعظمة، وهما صفتان تُنسَبان إلى الطابع الجريء الجدِّي لذلك العصر، ولا سيما بنات أفكار فردية ذلك الشاعر الذي كان يميل إلى كل ما هو عظيم وكبير، ويجب أن يعبِّر عن أفكاره بألفاظٍ قويةٍ طنَّانة، وبتراكم الكنايات والمجازات الجريئة والتشبيهات. وتُبدي نظرته إلى العالم عقلية فلسفية متعمقة حتى أطلق عليه الأقدمون اسم «تلميذ فيثاغورث»، وفي نفس الوقت يتخلق بالتقوى المتغلغلة في القلب، التي تنظر إلى الآلهة كقُوى تعمل لصالح الأخلاق. ومهما كانت خطة تمثيلياته بسيطة، فإنها تدل على فن أُكمل بأدق التفاصيل. ومجموعاته الثلاثية إما أن تتضمن دائرة كاملة من الأساطير، أو تُوحِّد بين أساطير متفرقة تبعًا لقرابتها الخلقية أو الأسطورية، وحتى الدراميات الانتقادية المتصلة بالتراجيديات، تتصل بها اتصالًا وثيقًا. إن أيسخولوس هو مُبدع التراجيديات الحقيقي، في كونه أضاف ممثلًا ثانيًا إلى الممثل الأول، فخلق بهذا الحوارَ الدرامي الأصلي، الذي جعله أهم عنصر فني في التمثيلية، وذلك بأن يخفض تدريجيًّا الأجزاء الغنائية أو أجزاء الكوروس. وقد ابتكر بعض أجهزة المناظر، وأتمَّ بعضَها الآخَر. وهو الذي ابتكر الأقنعة للممثلين، ومنحهم منظرًا فخمًا مبجلًا، بواسطة الأثواب الموشاة بالخيوط الثمينة، وذوات الأذيال الطويلة، وقبعات عالية من الفراء، وغير ذلك من الوسائل التي أمدتهم بمظهرٍ رهيبٍ يفوق مظاهر الرجال العاديين، وجهَّز المسرح بالطلاءات الزخرفية والآلات. وتبعًا لعادات ذلك العصر، كان يمثل في مسرحياته، ويدرب الكوروس على أغانيه ورقصاته، وابتكر هو نفسه شخصيات رقص جديدة.
أما الآن فسوف نتناول في شيءٍ من الإيجاز بعض مسرحيات أيسخولوس، مُستعرِضين فكرتها العامة، وشيئًا عن فحواها ومضمونها بقدر ما نستطيع إلى ذلك سبيلًا.
(٤) مسرحية المتضرِّعات
إن المتضرِّعات تراجيدية بسيطة بدائية التركيب تمامًا من أدران التعقيد، وتكثر فيها الفقرات الغنائية، ومعظمها في التوسل والاستعطاف والمديح على الجود والشهامة، وعيبها أنها تفتقر إلى الفعل المسرحي، وأكثر من نصفها مخصَّص للكوروس، وشخصياتها بصفةٍ عامةٍ تقوم بسرد الأحداث دون القيام بأي فعل أو تمثيل. هذا فضلًا عن أن المسرحية لا تعالج غير حادثة واحدة لا سلسلة من الحوادث لها أسبابها ونتائجها. وتُعتبر هذه الدراما الجزءَ الأول من مجموعة ثلاثية مفقودة تتعلَّق بتاريخ أرجوس الأسطوري.
فالمسرحية إذن تتناول العلاقة بين أسرتَي داناوس وشقيقِه أيجوبتوس، ومحورُها قائمٌ على أسطورة قديمة لا ضيرَ من الإلمام بها.
هذا هو مجمل الأسطورة الذي استمد منه أيسخولوس المادة اللازمة لكتابة قصة «الضارعات»، التي يعتقد بعض النقاد أنها كانت أولى ثلاثية من ثلاثياته أولاها «المصريون» تبدأ بخطبة أبناء أيجوبتوس لبنات داناوس، وتنتهي بوصول داناوس وبناته أرض أرجوس هاربين من مصر. ويظهر أنه لم يصلنا من هذه الثلاثية غير اسمها. وثانيتها «المتضرعات» التي نعالجها الآن، وتبدأ من حيث انتهت القصة الأولى، وتنتهي بوصول رسول مصري إلى بلاد أرجوس في محاولة منه لإعادة الدانايديس إلى مصر. وثالثها «الدانايديس» التي لا نعرف منها إلا عنوانها. ومفروض أن موضوعها كان يتناول البقية الباقية من الأسطورة.
غير أن هناك من يعتقد أن الضارعات كانت أول تراجيدية في الثلاثية أعقبتها القصتان المفقودتان المكملتان لها، ومع ذلك فليس عندنا من شذرات القصتين المفقودتين ما يسمح لنا بالحكم القاطع في هذا الصدد.
ولكنه قبل أن يُجاهِر بموافَقته لبقائهن خاف أن تُسفِر حمايته لهن عن قيام الحرب بينه وبين شعب مصر؛ ولذا رأى من الأفضل ألا يجيبهن إلى دعائهن إلا بعد أخذ رأي ممثلي شعبه في هذا الأمر الجلل، فيتركهن ويصطحب معه والِدَهُن. فانتهزَت البناتُ وحدتَهن وانخرطْنَ في الدعاء والتضرع إلى زوس، رب الأرباب، وحامي حمى البشر والضعفاء، وفي هذه الأثناء تَصِلهن موافَقةُ مجلس الشورى على إقامتهن في بطاحهم مع التكفُّل بحمايتهن، ولكن فرحتهن لم تكن لتتم؛ إذ سمعن صوت أبيهن قادمًا من فوق هضبة عالية يخبرهن بأنه يرى سفينة مصرية ترسو على الميناء القريبة منهن تحمل جنودًا مُدجَّجين بالسلاح، ثم اتجه من فوره إلى المدينة يستنجد بأهلها كما قطعوا على أنفسهم بحماية بناته متى تعرَّضْنَ لأي خطرٍ من قريبٍ أو من بعيد.
وفي هذه الأثناء يقدم رسول مصري على عملٍ محرَّم؛ إذ ينتهك حرمة المكان المقدس النازلات فيه بنات داناوس، ويحاول سحبهن من شعورهن إلى حيث ترسو سفينته بغية إعادتهن إلى مصر، وفي هذه اللحظة يُقبِل الملك بيلاسجوس ويَنشب جدالٌ عنيف بينه وبين الرسول المصري يهدِّد فيه الرسول الملك بالويلات وعظائم الأمور إن لم يسلِّم البنات إليه، ولكن الملك يَسخر من تهديدات الرسول، ويرد التهديد بمثله مما يدفع الرسول بالعودة إلى ملك مصر يجر أذيال الخيبة والفشل.
ويُنهي أيسخولوس المأساة بدعاءٍ حارٍّ تنادي به الفتيات المتضرعات الآلهة، وخصوصًا زوس كي تحافظ عليهن، وتكتب لجيوش بيلاسجوس بالظفر إذا ما التحمت جيوشه بجيوش مصر.
•••
إن كل ما في مأساة الضارعات من محاسن وجمال ينحصر إلى حدٍّ كبيرٍ في أجزائها العديدة من الشعر الغنائي الذي تترنَّم به الجوقة، والذي بدونه لَمَا صحَّ لنا أن نقول إن بالأمر مسرحية بالمرة. هذا عدا ما اشتملت عليه القصة من شعرٍ بليغٍ رصين. أما الذي جعل للضارعات مكانة خاصة في عصرها أن أيسخولوس ألَّف هذه المأساة عقب حادث تاريخي يتفق مع حوادثها، وذلك أن أثينا كانت فعلًا تناصب أرجوس العداء، وإذ ظهر للدولتين عَدوَّةٌ مشتركةٌ هي مصر، تحالفت أثينا مع أرجوس ودفنتا أحقادهما. وهذا هو الهدف الذي كان يرمي إليه أيسخولوس من تأليف هذه المسرحية بالذات. ولهذا السبب سحرت القصة لب الأثينيين وقت تمثيلها، وحازت إعجابهم الشديد، ولاقت رواجًا هائلًا، فانتشرت في شتى أنحاء بلاد الإغريق، كما نال مؤلفها صيتًا عريضًا يُحسَد عليه.
أمَّا متى تم تمثيل مأساة الضارعات، فهذا التاريخ غير معروف على وجه الدقة. هذا وإن كان البعض يرى أنها أقدم تراجيدية لأيسخولوس، بل وأقدم مسرحية وصلت إلينا من الأدب اليوناني القديم، إلا أن بردية عُثِر عليها حديثًا بمحافظة المنيا قتلت الرأي الأول الذي ظل قائمًا مدة طويلة؛ إذ ثبت من هذه البردية أن أيسخولوس لم يكتب قصة الضارعات إلا قبل موته بخمس عشرة سنة فقط.
والضارعات كقصة يمكننا أن نقول بلا تردد أنها عديمة الأشخاص عديمة الموضوع التراجيدي بالمعنى الذي نفهمه في عصرنا الحديث؛ إذ لا يتجاوز موضوعها فكرة قبول بيلاسجوس إقامة الدانايديس في بلاده وتعهده بحمايتهن. أما أبطال القصة فشخصان لا أكثر ولا أقل: أحدهما هو الممثل الأصلي، وقام بأداء دور الملك داناوس ودور الرسول المصري، والثاني هو الممثل الإضافي الذي لعب دور الملك بيلاسجوس.
وبالإضافة إلى هذين البطلين كانت هناك جوقة مؤلفة من عذارى خمسين وقعن في مأزق خطير، وكان عليهن القيام بأدوار غنائية بحتة ذات قيمة عظيمة، وعناصر ميكنة تلعب دورًا رئيسيًّا في إقامة بنيان المأساة، كما أنها تبرز تارةً ما غمض من أقوال تفوَّهَ بها الممثلان، وقد تُلقِي تارةً أخرى الضوءَ على فكرة أو مغزى معين قصد بهما المؤلف إثارة ألباب النظارة وعواطف المشاهدين.
(٥) مسرحية «الفرس»
ولا تدور حوادث هذه التراجيدية في أحضان أثينا أو بلاد الإغريق نفسها، بل كانت فارس هي ميدانها، وبالأدق في سوسا عاصمة البلاد.
وهكذا حرص أيسخولوس على أن يُعِد أذهانَ الفرس للهزيمة التي ستلحق بهم وبجيوشهم، حتى لا تنزل عليهم أنباؤها نزول الكارثة المفاجئة. وبينما تتبادل أتوسا الحوار مع الجوقة، إذا برسول من لدن إكسركسيس يُقبِل ويبلغهم تفاصيلَ أسوأ هزيمة حربية مُنِيت بها فارس منذ أن اشتبكت مع الأغارقة في كلٍّ من سلاميس وبلاتايا. فتحزن الملكة حزنًا بالغًا، وتنخرط في البكاء والعويل والولولة. وقبل أن تعود مكسورة الجناح سيرًا على قدميها بلا موكب، وبلا عربة ملكية، إذا بشبح دارا يظهر، ويوضح لها وللجوقة أسباب نكبة الفرس وهزيمتهم، وينصح بعدم شَنِّ الحرب مستقبلًا على بلاد الإغريق مهما قويت شكيمة بلاد فارس. وما إن تصل الملكة إلى أبواب قصرها، حتى يعود إكسركسيس في حالةٍ يُرثى لها من ملابس رثَّة ممزَّقة وحيدًا، فتسوقه الجوقة إلى قصر أمه.
ثم تنتهي القصة بفجيعة الملك وعويل الجوقة.
استعان أيسخولوس في كتابته لهذه القصة أشخاصًا أربعة: أتوسا والرسول الفارسي وشبح دارا وإكسركسيس. وقام بأداء أدوار هؤلاء الأشخاص الأربعة اثنان فقط؛ الممثل الأصلي الذي قام بدورَي أتوسا وإكسركسيس، ولذا توخى أيسخولوس إخفاء أتوسا من المسرح بمجرد ظهور ابنها. وثانيهما الممثل الإضافي الذي قام بدورَي الرسول الفارسي ودارا.
وعلى غرار الضارعات اهتم أيسخولوس بجوقة الغناء المؤلَّفة من الأمناء الذين وكَّل إليهم إكسركسيس إدارةَ ملكه إبَّان غيبته في الحروب.
تشبعت روح هذه المسرحية بالطابع الديني المختلط بالنزعة الوطنية، والأولى هي التي أوحت إلى الشاعر بموضوع القصة، وحددت له مغزاها، أمَّا الروح الوطنية فقد أبرزها الكاتب لمَّا تعرَّضَ لتفاصيل موقعة سلاميس وخبر هزيمة الفرس.
ومما هو جديرٌ بالذكر أن هذه المسرحية قد لاقت نجاحًا خارقًا في عصرها، وساعد على نجاحها ما يزخر به حوارُها من عباراتٍ بليغةٍ ومفاجآتٍ أظهرت ما تتسم به بلاد الإغريق من عظمة، وما جُبِلت عليه من بسالةٍ خارقة في ميادين الوغى وساحات القتال.
ومما يستوجب ملاحظته على هذه المسرحية خلوها من اسم أي قائد إغريقي، وازدحامها بأسماء فارسية عديدة، كما أن مؤلِّفها راح يشيد بالمحاربين الفرس، ويصفهم بالأبطال الصناديد في الوقت الذي يتمرغون هم فيه من أدران الهزيمة النكراء، ولعل هذا الأسلوب الذي اتبعه أيسخولوس في معالجة هذه المسرحية أثار إعجاب المشاهدين في عصره؛ لما في هذا من خروج على الأوضاع الطبيعية التقليدية، ويفسر النقاد هذا التقليد الشاذ الذي اتخذه أيسخولوس في كتابة هذه المسرحية أنه أراد أن يسجل عن طريقه مبدأ عامًّا؛ أَلَا وهو أن الهزيمة نتيجة حتمية للطغيان والتهور، بينما النصر حليف التواضع والرزانة.
(٦) مسرحية «السبعة ضد طيبة»
مُثِّلت هذه المأساة في سنة ٤٦٧ق.م. وتروي قصة الصراع الهائل الذي دب بين وَلَدي «أوديبوس» بعد أن فقأ الأخير عينيه بيديه، وخرج منفيًا من البلاد بلا رجعة.
ولا تختلف روح هذه المأساة عنها في قصة الفرس، إذ تسودها روح دينية بحتة. وتُعتبَر هذه المأساة ضمن رباعية مكونة من «لايوس»، ثم «أوديبوس»، ثم «السبعة ضد طيبة»، وأخيرًا «أبو الهول الهليني».
وهناك مَن يقول إن أيسخولوس قد فاز بالجائزة الأولى على هذه المأساة، ومفهوم أنها مستمدة من أساطير طيبة كما سردتها أسطورة أوديبوس الطيبي.
ويُقصَد بالسبعة خلفاء بولينيكيس الذي يهاجم طيبة، ولكن يبرز لهم سبعة أبطال آخرون من طيبة من أنصار إتيوكليس. أما الجوقة التي تضمنها أيسخولوس في هذه المسرحية فمؤلَّفة من نساء طِيبة.
ويلعب الممثل الأول دور إتيوكليس وأنتيجوني، بينما الممثل الثاني يقوم بدور الرسول والمنادي العام. أمَّا إسميني فيلعب دورَها أحدُ أفراد الجوقة.
وهناك مِن النقاد مَن يعتقد بأن هذه المأساة بسيطة كسالفاتها، ومع كلٍّ فلا ضير من أن أمضي الآن في سرد التفاصيل الرئيسية لمأساة «السبعة ضد طيبة»، وبهذا أرسم صورة واضحة المعالم لهؤلاء الأبطال الذين لم يَنْسَ أيسخولوس في مأساته أن يسجِّل أعمالهم البطولية.
(٦-١) الأبطال السبعة ضد طيبة
بولونيكيس وتوديوس كضيفي أدراستوس
سارت الحملة صوب طيبة، فظن الناس أن الجبال تسير فيها، وعلا الغُبار ومثار النقع إلى عَنان السماء، فحجب ضوء الشمس. بيد أن أمفياراوس صِهر الملك كان عرَّافًا، وكانت بينه وبين الملك عداوة قديمة، تنبأ للحملة بخاتمة مشئومة. فحاول بادئ ذي بدء أن يثني أدراستوس وبقية الأبطال عن عزمهم، ولكنه رأى عدم جدوى النصح، فقد ظن الملك أنه يغشه ويحقد عليه، لما كان بينهما من عداء مستحكم قديم. فلما علم أمفياراوس بتصميم الملك على شن الحرب رغم نبوءته، هرب واختبأ في مكانٍ لا يعلمه غير أريفيلي زوجته وشقيقه أدراستوس. فظلوا يبحثون عنه مدة طويلة، وتوقَّفت الحملة عن السير؛ لأن الملك كان لا يستطيع التقدم بدون الشخص الذي كان يسمِّيه عينَ جيوشه.
هكذا لم يجد العرَّاف مفرًّا من الانضمام إلى زملائه، ولا سيما أنه عندما اصطلح مع الملك وزوَّجَه هذا الأخيرُ شقيقتَه، أقسمَ العرَّاف أن يجعل أريفيلي الحَكَم في أيِّ شقاقٍ قد يحدث بينهما في المستقبل، فارتدى أمفياراوس حلته الحربية وجمع جنوده، وأخذ عليه أوثق العهود، وجعله يقسم بأغلظ الأيمان، أنه إذا سمع بموت أبيه، لينتقمنَّ من الزوجة التي خانَت الأمانة، وأفشَت السرَّ الذي استودعته.
بدء حملة الأبطال
انتصب أدراستوس واقفًا، وصرخ مناديًا رجاله وأتباعه، وسرعان ما سار الجيش كله في الممر الضيق وسط الغابة وراء هوبسيبولي، مخترقًا أَجَمات كثيفة، وشجيرات متشابكة، حتى وصلوا إلى مضيقٍ لا يكاد يتسع لقدم، يؤدي إلى نبع منحوت في الصخر، يتدفق منه الماء رذاذًا، فيسيل على جوانبه، فتسارع الرجال يستقبلون الرذاذ البارد في وجوههم الساخنة فتطفئ رطوبتُه لهيبَ جلودهم، وكانوا قد سبقوا قائدَهم وهو يسير مع السيدة التي قادتهم إلى ذلك المكان، ولما سمع بقية الجيش صوت المياه وهي تتدفَّق بين الصخور، ويرتفع خريرها شيئًا فشيئًا، طاروا فرحًا وصرخوا قائلين: «الماء! الماء!» ثم قفزوا نحو المضيق يزاحم بعضهم بعضًا، ووقفوا على الصخور التي يجري من تحتها الماء في قنوات ضيقة. يملئون خوذاتهم ويعبون منه عبًّا. ويقذفون به على من وراءهم، فيصرخ أولئك: «الماء! الماء!» وكانت أصواتهم تعلو على صخب المياه المتدفقة، فتردد الصخور صداها في كل مكان، لقد ألقوا بأنفسهم على طول الحافة الخضراء لجدول الماء القَرَاح، وأخذوا يجرعون المياهَ العَذْبة الباردة في جرعات طويلة مروية. ووجدوا ممرًّا أفسح للعربات، فلم يقف السائقون لفك السروج عن الجياد التي كان العطش يستعر في جوفها، والتي كانت تصهل صهيلًا عاليًا، وتهم بالاندفاع نحو الماء. بل دخلوا بعرباتهم في وسط مجرى الماء الذي اتسع حتى أصبح نهرًا، وتركوا خيولهم تنزل إلى الماء لتلطِّف من لظى جسومها المبتلة بالعرق، وتطفئ نار الظمأ الذي ألهب أحشاءها، وتغمس رءوسَها في المياه فَرِحةً مبتهجة، فيزول عنها غبار الطريق وعناء السفر.
شرب كل إنسان وكل حيوان حتى ارتوى واستعاد نشاطه، وبعد أن أخذوا كفايتهم من الماء للطريق، قادت هوبسيبولي أدراستوس ورجاله إلى الطريق من جديد، وهي تقص على مسامعهم ما تعمله نساء لمنوس وما يقاسينه من عناءٍ ومتاعب، بينما الجيش يتبعها على مسافةٍ معقولة، وقبل أن يصلوا إلى المكان الذي رأوا فيه هوبسيبولي بادئ ذي بدء تحت أغصان الأشجار، أرهفت السيدة سمعها، وأخذت تعدو على حين فجأة، فقد طرق سمعَها عويلُ الطفل وهو يصرخ صراخًا يدل على الخوف والفزع، بينما كان الآخرون لا يسمعونه إلا بصعوبة. لقد كانت هوبسيبولي نفسُها أمَّ أطفال، وتعرف كيف تتسمَّع أصوات الأطفال عن بُعد، وكيف تميِّز بين الأصوات المختلفة، وتعرف سبب كل نوع من الصراخ، فقد تركت أطفالها في لمنوس عندما خطفها القراصنة، وفرَّقوا بينها وبين فلذات أكبادها، والآن أصبح كل حبها منصبًّا على أوفيلتيس الصغير.
توجست هوبسيبولي شرًّا عظيمًا عندما سمعت صراخ الطفل، وازدادت ضربات قلبها، فأخذت تعدو كالمجنونة نحو المكان الذي تركت فيه الصبي، فلما وصلت إليه وهي تلهث كان الصوت قد اختفى، كما قد اختفى الطفل ولم يَبْقَ له أثر، فجُنَّ جنونُها، وأخذت تبحث عنه ذات اليمين وذات الشمال، عسى أن يكون قد تدحرج إلى مسافةٍ قصيرة، وصارت تتطلع حول الشجرة ببصرٍ زائغ، وأخيرًا تسمرت في مكانها، وصرخت صرخة مدوية جعلت الرجال يسرعون إلى نجدتها، فقد أدركت على الفور المصير المؤلم الذي لحق بالطفل، وهي تقوم بخدمة إلى الجيش الأرجيفي. لقد قبع بعيدًا عن جذع الشجرة ثعبان ضخم مخيف، وقد التف حول نفسه في كسلٍ وتراخٍ، متخمًا بالطعام الذي تناوله من فوره.
وصول الأبطال إلى طيبة
عندما اكتُشِفت عظام أوفيلتيس، صاح أمفياراوس العرَّاف في غضب: «هذه نبوءة عن خاتمة هذه الحملة.» ولكن أحدًا لم يُعِرْه بالًا؛ إذ كان كل اهتمامهم موجهًا إلى قتل الثعبان والخلاص منه، فعَدُّوه علامةَ الحظ السعيد، لا سيما وقد نجا الجيش كله من الموت عطشًا، وأصبحت روحهم المعنوية قوية، فلم يهتموا بنبوءة العرَّاف، ثم ساروا في طريقهم إلى طيبة، فوصلوها بعد أيامٍ قلائل، وعسكروا خارج أسوارها.
أعد إتيوكليس وخاله كريون، عدتهم للدفاع عن المدينة مدة طويلة، فقام ابن أوديبوس في شعبه خطيبًا، وقال لهم: «أيها المواطنون، يَذكر كل منكم ما هو مدين به للمدينة التي كانت لكم أمًّا رَءُومًا، فتحتَ سمائها تعيشون، ومن هوائها تستنشقون، ومن خيراتها تأكلون، وبمائها ترتوون، وترعرعتم في كنفها، واتخذتم أبناءها أصدقاء لكم، وساحاتها ميدانًا تتدربون فيه على الفروسية والقتال، حتى صرتم محاربين أشداء … إنني أطلب إليكم جميعًا، صغارًا وكبارًا، شبانًا وشيوخًا، أن تدافعوا عن مذابح آلهتكم، وعن آبائكم وزوجاتكم وأطفالكم، والأرض الحرة التي تُؤْويكم، وتقفون عليها الآن، فقد تنبَّأ لي رجلٌ يَعرف لغةَ الطير، بأنه في الليلة المقبلة، سيحشد أهل أرجوس جيوشهم، ويهجمون على طيبة بلدكم … فهيَّا إلى الأسوار، إلى الأبواب، إلى السلاح، أقيموا المتاريس والحواجز، دعِّموا القِلاع! احرسوا كل مدخل من مداخل المدينة، ولا يَدْخلنَّ الرعبُ إلى نفوسكم، ولا تَخْشوا عددَ عدوكم … لقد بثَثتُ عيوني في كل مكان لاكتشاف خطط العدو وحركاته، حتى أرسم خططي تبعًا لما يأتونني به من الأنباء.»
بعد أن مات أوديبوس، تركت ابنتاه أنتيجوني وإسميني قصر ثيسيوس، ورحلتا إلى طيبة تلهفًا إلى موطنهما العزيز، يحدوهما الأمل في مساعدة شقيقهما بولونيكيس، وإن كانتا لم توافقاه على فكرة الحصار الذي أزمع ضربه حول المدينة، وعقدتا النية على المساهمة في الدفاع عن مسقط رأسهما. فلما أقبلتا إلى طيبة، استقبل كريون وإتيوكليس أنتيجوني بالبِشْر والتَّرْحاب؛ لأنهما اعتبراها كأسيرة متطوعة.
فسألته الفتاة: «ومَن يكون ذلك البطل الصغير، الذي يبدو حديثَ السن رغم أن له لحيةَ رجل، والذي يتطلَّع فيما حوله بنظراتٍ صارمة؟ إنه يمر الآن بالقرب من أَكَمة استحكامية، ورجاله يتبعونه على مهل.»
فقالت أنتيجوني في عصبية: «إنني لا أستطيع أن أرى غير كتفَيه وهيكل جسمه، ومع ذلك فإنني أرى فيه شقيقي بولونيكيس. آه، لو كان في مقدوري أن أطير كالسحاب، وأسبح هابطة إليه، وأطوِّق عنقَه بذراعَيَّ! انظر كيف أنه يتألَّق في عُدَّته الحربية الذهبية، كشمس الصباح! ولكن مَن ذا الذي يَسُوق العربة، الذي يمسك اللجام بيدٍ قوية، ويقود عربة بيضاء، مستعملًا منخسه بكل رَوِيَّة وتُؤَدة، وهو ساكن النفس، هادئ الأعصاب؟»
«ومَن يكون ذلك الرجل الذي يسير بطول الحوائط، يفحصها ويبحث عن أضعف الأماكن ليبدأ الهجوم منه؟»
فشحب وجه أنتيجوني، وطلبت أن تبرح ذلك المكان، فمدَّ لها العجوز يده، وساعَدها على هبوط دَرَج السُّلَّم وظل معها حتى أوصلها إلى حجرتها.
مينويكيوس
كان كريون وإتيوكليس يعقدان مجلس الحرب، وقررا إرسال قائد واحد إلى كل من أبواب طيبة السبعة، وهكذا كانت المقاومة ستصبح بين سبعة من أمراء طيبة، وبين بولونيكيس وحلفائه الستة، ولكن قبل أن تستعر نار الحرب، يجب أن يعرف كريون ما ستَئُول إليه الحرب، وماذا ستكون نتيجتها، وما الذي يمكن استنتاجه من طيران الطيور كي يدلي إليهم بفكرة عن عاقبة القتال.
فأجاب كريون: «ها هو واقف إلى جوارك.»
«إذن، دَعْه يهرب إلى أبعد ما تستطيع أن تذهب به قدماه، قبل أن أُدلِي إليك بمشيئةِ الآلهة!»
فسأل كريون: «ولكن لماذا؟ إن مينويكيوس هو ابن أبيه الحقيقي! إنه يستطيع أن يلزم الصمت إذا لزم الأمر، أو إذا كان الخير في صمته، إنه لمما يفرحه ويسره أن يعرف سبيل نجاتنا كلنا.»
فقال تايريسياس: «إذن فَلْتسمعن ما علمته من الطير؛ إن ربة الحظ ستزورك مرةً أخرى، ولكن العتبة التي ستجتازها، ستكون عتبة أحزان وحداد. إن أصغر النسل المولود من حبة الأفعوان سيموت، وبموته فقط يمكنك أن تخرج من هذه الحرب ظافرًا منتصرًا.»
فصاح كريون: «ما هذا؟ ماذا تعني بقولك هذا أيها العجوز؟! أتعني أنه يجب أن يموت أصغر نسل كادموس، لو أردنا إنقاذ المدينة؟! أتطلب موت أعز أولادي؟! أتريد أن يموت ابني مينويكيوس كفَّارة عن المدينة؟!» ثم نهض كريون، وانتصب في كبرياء وأَنَفة وصاح في العرَّاف قائلًا: «كلا، لن يكون ذلك أبدًا! إليك عني أيها العجوز! اخرج من مدينتي، فليست بي حاجة إليك، إنني في غنى عن نبوءتك هذه المملوءة بالشؤم.» فأجابه تايريسياس، بلهجةٍ حاسمة: «هل الحقيقة عقيمة في نظرك لأنها تحزن قلبك؟» عندئذٍ ألقى كريون بنفسه عند قدميه، وتعلق بركبتيه، وتوسل إلى العرَّاف أن ينقض أقواله، ولكن العرَّاف كان صارمًا، فقال: «لا مَناص من التقدمة، لا بد من أن يُراقَ دمُ الصبي عند ينبوع دركي؛ حيث كان يرقد الأفعوان فيما مضى، لن تصبح التربةُ صديقةً لك إلا إذا ارتَوَت من دمِ أحدِ أقرباء كادموس، في مقابل الدم الذي سكَبته منذ القِدَم بواسطة أسنان الأفعوان، فإذا رضِي مينويكيوس أن يضحِّي بنفسه من أجل مدينته، كان في ذلك خلاص الجميع، وإنقاذ طيبة من الدمار، وعودة أدراستوس إلى وطنه مع جيشه مخذولًا يجر أذيال الهزيمة. لا تسألني شيئًا بعد الآن، أمامك سبيلان، فاسْلُكْ أيهما شئت، فهكذا تقول الطير، إما التضحية بالمدينة، وإما التضحية بمينويكيوس.»
فأجاب مينويكيوس وعيناه تشعان بريقًا خاطفًا: «سمعًا وطاعةً يا أبتاه، أعْطِني كلَّ ما أحتاج إليه في رحلتي، وثق بأنني سأعرف الطريق.» فلما رأى كريون ثبات ابنه هدأ روعه، عندئذ ألقى الصبي نفسه على الأرض، وأخذ يتضرع إلى الآلهة في حرارة قائلًا: «أيها الخالدون، اغفروا لي لو كنت قد كذبت. اغفروا لي لو كنت قد خلَّصت أبي المسكين من مخاوف لا يتحمَّلها، فلن يحطَّ من كرامته أن يخاف؛ لأنه رجل قد تقدمت به السن. ليس كذبي على والدي خيانة؛ فهي إشفاق على شيخوخته، إنما الخيانة كل الخيانة أن أخون وطني الذي أدين إليه بحياتي، فلتتقبَّلوا وعدي بحنانٍ ورَأْفة، فإن في موتي إنقاذًا لبلدي، وفي هروبي عارًا ما بعده عار! سأصعد إلى الأكمة العالية، وأقذف بنفسي إلى مضيق الأفعوان السحيق المظلم، فقد تنبأ العرَّاف أنه بذلك فقط يمكن إنقاذ البلاد، بذلك فقط يُهزَم الأعداء، وتنجو أرض طيبة!»
بعدئذٍ نهض مينويكيوس وأسرع إلى أعلى نقطةٍ في الأسوار، وتطلَّع إلى جيوش الأعداء، وصبَّ عليهم لعنةً صامتة، ثم استلَّ خنجرًا كان يخفيه في ثنايا عباءته وغيَّبَه في حَلْقه، فسقط من على الأسوار العالية يتردَّى في الهُوَّة السحيقة على حافة ينبوع دركي.
هكذا تحقَّقت النبوءة، فكظم كريون حزنَه العميق، وكبح عاطفتَه الثائرة، وأبعد عن نفسه اليأس والقنوط، وتذرَّع بالصبر ريثما ينتهي القتال. وفي الوقت نفسه وزَّع إتيوكليس جيشَه، فعيَّن سبعَ فِرَق لحراسة الأبواب، كما عيَّن فرقًا احتياطية تحلُّ مكانَ هؤلاء إذا قتلهم الأعداء، ثم وضع كتائب من المشاة خلف حَمَلة الدروع، وبذا حصَّن كل موقع يحتمل أن يقوم العدو بالهجوم عليه.
أخذ جيش أرجوس يتحرك عبر السهل، ثم بدأ الهجوم عنيفًا على الأسوار، وتعالَت صيحات الجنود بالأناشيد الحماسية، كما أخذت الأبواق تدوِّي في الفضاء حول استحكامات طيبة، فكثر اللغط واللجب، وارتفع الصهيل والصليل، حتى خُيِّل أن الجحيم قد انطلقت من عِقالها، فبدأ بارثينوبيوس بن أتالانتا المولعة بالصيد والقنص، وقاد جيوشه نحو أحد الأبواب، فكانت دروع رجاله يصطكُّ بعضها ببعض مُحدِثًا قرقعة يردِّد الفضاء صداها. وكان قد نقش على درعه صورةَ أمه تقتل الخنزير الإيتولي بسهمها النافذ. ثم تقدَّم أمفياراوس العرَّاف بعربته إلى بابٍ آخر، وقد حمَّل عربتَه ذبائحَ من الحيوانات ليقدِّمها إلى الآلهة. ولم تكن أسلحته مزخرفة ولا تحمل أي نقش، بل راعى فيها البساطة والمتانة، وكان درعه يتلألأ من غير برقشة. وهجم هيبوميدون على بابٍ ثالث، وكان شعاره «أرجوس» ذا المائة عين، وهو يُراقِب إيو التي مسختها هيرا إلى عِجْلة. بينما قاد توديوس فرقتَه صوْبَ بابٍ رابع، وقد رسم على درعه رأسَ أسد غضنفر بلبدته المشعة، فاغرًا فاه فظهرت نيوبُه بارزة، وكان يحمل في يده اليمنى مشْعَلًا يلوِّح به من جانبٍ إلى آخر في حنقٍ وغضب.
أما أدراستوس ملِك أرجوس، فقد توجَّه بجيشه إلى الباب الأخير، يحمل درعًا جعل شعارَه مائةَ أفعوان تخطف في أفواهها أطفالَ طيبة.
عندما اقترب القوَّاد السبعة من الأبواب، بدأ القتال بالنبال والقِسِيِّ والرماح، وكان الهجوم على أشدِّه، والقتال عنيفًا، حتى ظن القوم أن الأسوار تقوَّضَت، والأبواب انفتحت على مصاريعها، ولكن أهل طيبة الأقوياء قابَلوا الهجوم بمثله، واستماتوا في الدفاع عن مدينتهم، فصدوا الهجوم الأول، واضطروا أهلَ أرجوس إلى التقهقر والانسحاب. بيْدَ أن توديوس وبولونيكيس لم يستصوبا هذا التراجُع، فصرخا في الرجال بحماسةٍ فائقة: «أيها الرفاق الأبطال والفرسان المغاوير، لماذا تنتظرون حتى نخرَّ صَرْعى تحت سيل قذائفهم الحادة ومزاريقهم المتتابِعة؟ هيا بنا الآن، وفي هذه اللحظة بالذات، نكرُّ عليهم برَجْلنا وخَيْلنا وعرباتنا، فنقتحم الأبواب جميعها دفعةً واحدة في هجومٍ واحد متكتل! هيا نحمل على الطِّيبيِّين فنفرِّقهم شماطيط!»
في تلك اللحظة ظهر إتيوكليس، فجمع رجاله كما يجمع الراعي القطيعَ بعد تشتيت، وعاد بهم ثانية إلى الأسوار، وأصلى العدوَّ نارًا حامية من السهام والحِرَاب والمزاريق، وكان يُسرِع من باب إلى آخر يحثُّ رجاله ويشجِّعهم، فرأى كابانيوس يحمل سُلَّمًا طويلًا، ويعلن على الملأ أن زوس نفسَه لن يستطيع أن يمنعه من هدم المدينة وتدميرها، وبينما كان يملأ شِدقَيْه فخرًا بتلك العبارات القَذِرة، أسند السُّلَّم إلى الحائط، ثم احتمى بدرعه، وتسلَّق درجاته الزَّلِقة غيرَ مُبالٍ بما يتساقط عليه من وابل الصخور والسهام، غير أنه لم يكن أهلُ طيبة هم الذين عاقَبوه على كبريائه، وتصعير خدِّه، بل كان زوس نفسُه يتربَّص له، فسلَّط عليه إحدى صواعقه، فأهلكته وهو يقفز من السُّلَّم إلى الحائط، وتناثرت أشلاؤه في مسافاتٍ بعيدة، واشتعلت النيران في شَعْر رأسه، وانبعث منها لهيبٌ بلغ إلى عَنان السماء، ولوَّثت دماؤه عوارضَ السُّلَّم.
رأى ذلك أدراستوس، فسَرَت الرجفةُ في أحنائه، وأيقن أن ربَّ الآلهة كان مُعاديًا لمشروعه، فلامَ نفسَه على إقدامه عليه رغم تحذير أمفياراوس العرَّاف له، ولاتَ ساعةَ مَنْدم! فأصدر في الحال أمرًا إلى جميع جيوشه بالانسحاب والتقهقر، فابتعدوا عن الخندق المحيط بالمدينة. فلما رأى أهلُ طيبة هذا البشير، علموا أن زوس نفسَه يعضِّدهم، فتهلَّلوا وتشجَّعوا، واندفعوا خارج أبواب المدينة على الأقدام، وفي العربات، يُشِيعون الفوضى في جموع أهل أرجوس، فاصطدمت العَرَبات بالعَرَبات، وهوت الأجسام على الأرض جثثًا هامدة، ونكَّلوا بأعدائهم، ومزَّقوا جيوشهم شرَّ ممزَّق، ولم يعودوا إلى طيبة إلا بعد أن أقصَوا المهاجمين المخذولين إلى مسافاتٍ سحيقة.
الشقيقان يتقاتلان
هكذا كانت خاتمة الهجوم على طيبة، بيْدَ أنه لما عاد كريون وإتيوكليس إلى أسوار مدينتهما، احتشد جيش أرجوس المغلوب على أمره مرةً ثانية، واستعدَّ لشنِّ هجومٍ آخر، ولم يكن ذلك على غَفلةٍ من أهل طيبة، فقد فطنوا للأمر. وكان أملهم في استئناف المقاوَمة ضئيلًا، بعد أن قلَّ عددهم، ووهَت عزيمتُهم، ووهنت قوتهم عن ذي قبل. وأخيرًا وصل الملك إتيوكليس إلى قرارٍ حاسم؛ فأوفَدَ رسولًا إلى جيش أرجوس الذي كان قد اقترب من جديد، وعسكر بالقرب من الخندق المحيط بالمدينة، يطلب من الجميع أن يلزم الصمت والسكون، ويستمع إلى ما سيقوله إتيوكليس حَقْنًا للدماء.
عندئذٍ قفز بولونيكيس من بين صفوف جيش أرجوس، وأعلن استعدادَه للنِّزال كما أشار شقيقه إتيوكليس. لقد كان الطرفان منهوكَي القوى، مُتعَبَين من تلك الحرب الطاحنة التي لن تعود بالفائدة إلا لواحدٍ منهما فقط. وقد ارتاح الجيشان المتحارِبان إلى قول إتيوكليس، فصفَّقا له، إعلانًا عن استحسانهما لرأيه، وإظهارًا لتقديرهما لخُلُقه السامي، وبعد أن اتفقا على نصٍّ معين، وأقسما بالأيمان المقدَّسة، تسلَّح كلٌّ منهما بكامل عُدته، من قمة الرأس إلى أخمَصِ القدَم، وكان أشراف طيبة يشجِّعون ملِكَهم، ويقوُّون روحه المعنوية، بينما وقف أبطال أرجوس يشدُّون أزرَ حليفهم الذي لفظَته دولتُه. تقدَّم الشقيقان مدجَّجَين بالسلاح، ومتحصِّنين بالبرونز، وكان كل منهما يَحْذر أخاه، ويحملق فيه بعيونٍ جاحظة، ونظراتٍ صارمة، فصاح أصدقاء بولونيكيس قائلين: «تذكَّر، تذكَّر أن زوس ينتظر منك أن تشيد له هيكلًا في أرجوس، شكرًا على ما سيَهِبه لك من نصرٍ مبين!»
وكان أهل طيبة يشجِّعون إتيوكليس بقولهم: «إن قضيتك عادلة؛ لأنك تدافع من أجل مدينتك وعرشك. دَعِ التفكير في هذه المكافأة المضاعفة يحفِّزك على القتال بعزيمةٍ وإقدام، حتى تحرز النصر الذي يتوِّج رأسك بإكليلٍ من المجد والفَخَار.»
وقبل أن يبدأ النِّزال، اجتمع عرَّافو الطرفَين، وقدَّموا الذبائح ليتبيَّنوا من هيئة النيران ما ستُسفِر عنه الموقعة، ولكن العلاقات لم تكن قاطعة، فكان يمكن تفسيرها بأنها بشيرُ نصرٍ أو نذيرُ انهزام، تارةً لهذا الجانب، وطورًا للجانب الآخر. فلما قُدِّمت الذبائح، ووقف الشقيقان على أُهْبة الاستعداد، رفع بولونيكيس يدَيه متضرعًا، وأدار رأسَه نحو بلاد أرجوس، وصلى إلى الآلهة فقال: «أي هيرا، هيا سيدة أرجوس! من بلدتكِ اخترتُ شريكةَ حياتي، وفي بلدتكِ أعيش، امنحي أحدَ مُواطنيك الظفر الموفق، دَعِيني أنتصر على عدوي، وأصبغ يدي اليمنى من دمه!» وفي الوقت نفسه رفع إتيوكليس بصرَه نحو السماء، متجهًا صوْبَ معبد أثينا في طيبة، وتوسَّل قائلًا: «ابنة زوس، سيِّري رمحي نحو الهدف مباشَرةً، سدِّديه إلى صدر مَن قدِمَ ليهدم بلاد آبائي ويدمرها!»
ما كادت شفاه إتيوكليس تنتهي من تلك العبارات، حتى أعلنت الأبواق ابتداء النِّزال، فانقضَّ كلٌّ من الشقيقَين على الآخَر، وهجم عليه بكل ما أُوتِي من حَوْل وطَوْل، كأنهما خنزيران متوحشان قد شحذا أنيابهما للقتال، فقطعت رماحهما عُرْضَ الفضاء، وارتدَّت عن درعَيهما. فأخذ كلٌّ منهما يصوِّب رمحه نحو وجه عدوه وعينيه، ولكنَّ درعَيهما تلقَّيا الضربات فلم تُصِب حامِلَيهما. رأى القوم ذلك، فتصبَّب العرق من أجسامهم في قطراتٍ كبيرةٍ من شدة الهول وعظيم الفزع. عندئذٍ أخرج إتيوكليس قدمَه اليمنى، ليُبعِد صخرةً كانت تعترض طريقه، وبذلك جعل رجلَه اليسرى بدون وقايةِ درعه البرنزي، فانتهز بولونيكيس هذه الفرصة، وصوَّبَ رمحه نحو رِجل عدوه فأصابها؛ عندئذٍ أخذ جيش أرجوس يصيح فرحًا وطربًا كما لو كان هذا الجرح وحده هو النصر الفاصل بين الفريقَين.
أحسَّ إتيوكليس بطرف الرمح يخترق لحمه، ولكنه رغم ذلك، ورغم شدة الألم لم يسمح لأعصابه بأن يتملَّكها الذعر أو الألم، ثم أخذ يراقب منافسَه مراقبةً شديدة، ليجد مَنفذًا إلى جسمه، فرأى كتفه مكشوفة، فألقى رمحَه بسرعة البرق الخاطف، فأصاب الهدف، ولو أن الجرح لم يكن عميقًا، فصاح الطِّيبيون فرحًا، ولكنهم لم يُحدِثوا ضجةً كالتي أحدَثَها أهلُ أرجوس. ثم تراجَع إتيوكليس قليلًا، وخطف قطعةً من المرمر حادةَ الطرف، وقذف بها أخاه فشقَّت رمحه شطرَين؛ فتعادَل الشقيقان إذ كان طرف رمح إتيوكليس قد انكسر في كتف أخيه، فألقيا رمحَيهما المبتورَين وأمسكا بسيفَيهما وشرعا يتقاتلان، فكانت درعاهما تصطكَّان والهواء يهتز من شدة الالتحام والتصادم، عندئذٍ تذكَّر إتيوكليس حِيلةً كان قد تعلَّمها في تساليا. وفجأةً انتقل من مكانه وتقهقر مُلقيًا ثِقَله على قدمه اليسرى، وغطى نصفَه الأسفل بالدرع بمهارةٍ فائقة، ثم قفز إلى الأمام بقدمه اليمنى، وطعن أخاه على حين غِرَّة، إذ لم يكن يتوقَّع مثل هذا التغيير المفاجئ في الوضع، وكانت الطعنة في الأمعاء أعلى الحرقفة. فمال بولونيكيس على أحد جنبَيه، ثم سقط على الأرض يتخبَّط في بركةٍ من الدماء.
أيقَن إتيوكليس أنه قد قضى على منافِسه، وأحرز النصر الذي كان ينشده، فانحنى فوق جثة أخيه ليجرِّده من عُدَّته الحربية، وكان هذا هو عين الخطأ؛ لأن بولونيكيس عندما سقط لم يتخلَّ عن سيفه، وعلى ذلك عندما رأى عدوَّه وقاتِلَه ينحني فوقه، وكان لا يزال فيه قوة رغم كونه يلفظ أنفاسَه الأخيرة، سحب حسامه، وأضلل نصله في كَبِد أخيه، فخرَّ بجانبه جثةً هامدة.
لما رأى القوم موت ملِكهم، فتحوا أبواب طيبة على مصاريعها، وتدفَّقت منها جموع النساء والعبيد يبكينَ ويولولْنَ حاكِمَهن، وانحنت أنتيجوني على أخيها بولونيكيس الذي كانت تحبه كثيرًا، لتحظى منه بآخِر كلماته. وكان إتيوكليس قد مات على الفور، أما الآخر فكان ما يزال فيه عِرق ينبض، فحوَّل عينيه اللتين خبا نورهما، نحو شقيقته، وقال: «والْهَفي على حظكِ العاثر يا أختاه، وحظ أخي الذي قتلتُه بيدي، وما كنتُ أعرف مقدار ما أكنُّه له من الحب إلا الآن فقط! إنني أتوسَّل إليكِ يا شقيقتي العزيزة، أن تواري جثتي في ثَرى وطني ومسقط رأسي، لا تَدَعي مدينة طيبة تحرمني حتى من هذا الرجاء، والآن أغلِقي جَفْني لأني أرى شبح الموت جاثمًا على جبيني.»
مات بولونيكيس بين ذراعَي أخته، وفي الحال بدأ الطرفان يتشاحنان بصوتٍ مرتفع، واحتدم النقاش بينهما. فقد أراد أهل طيبة أن يخلعوا على إتيوكليس تاجَ النصر، بينما يخلعه أهل أرجوس على بولونيكيس. لقد اختلف كذلك أصدقاء القتيلَين، فبعضهم يقول: «كان بولونيكيس هو أول مَن ضرب بالرمح.» فيجيب البعض الآخر: «ولكنه كان أول مَن سقط على الأرض.» وطال النقاش حتى أدى في آخر الأمر إلى استخدام السلاح، وكان من حظ الطيبيين أنهم كانوا في صفوفٍ منتظمة على أُهْبة الاستعداد للقتال، بينما كان أهل أرجوس قد تركوا أسلحتهم؛ إذ من فرط ثقتهم بالنصر لم يَرَوا ما يدعو إلى حمل أسلحتهم الثقيلة.
انقضَّ أهل طيبة على المعتدين فجأةً دون أن يمكِّنوهم من التسليح، ففرَّقوهم أباديد، ولاذ كل فردٍ من أهل أرجوس بالفرار من الجهة التي تَسُوقه إليها قدماه، فانتشروا في غير نظامٍ يضطربون أمام مزاريق الطِّيبيين الذين لاحَقوهم دون رحمة ولا هوادة، فتردَّى منهم خلق كثير، يُعدُّون بالمئات.
وجد بريكليمينوس الفرصة سانحة أمامه، فاقتفى أثر أمفياراوس العرَّاف إلى نهر إسمينوس، وكان أمفياراوس يهرب في عربة، فلما وصل إلى النهر حَرَنت الجياد فزعًا من المياه المتدفقة بسرعة في مجرى النهر، فأمر سائق عربته أن يخوض في النهر، وقبل أن تخطو الجياد خطوة واحدة في الماء، كان مُلاحِقه قد أدركه، وكاد رمحه يلمس عنق العرَّاف، لولا أن زوس لم يَشَأ أن يموت شخص منحه هبةَ النبوءة، تلك المِيتةَ الدنيئة؛ فشق الأرض بصاعقة، فانفغرت عن كهفٍ مُظلِم، وابتلعت العربة والعرَّاف قبل أن يصيبه أذًى.
اندحر جيش أرجوس وعاد إلى وطنه مفكَّك الأوصال، يحمل خِزْي الهزيمة ومَثالب الفرار، وقد ترك أسلحته ومُعدَّاته مَغْنمًا للطيبيين الذين رجعوا بمئات الأسرى، يهلِّلون فرَحًا بالظفر.
قرار كريون
أُقيمت الزينات في كل ناحية وكل طريقٍ من طرق طيبة، وابتهج القوم ابتهاجًا عظيمًا بما أحرزوه من نصرٍ على أعدائهم المعتدين، وبعد أن انتهت مظاهر الفرح، فكَّروا في دفن موتاهم. ولما كان ابنا أوديبوس قد قتل كلٌّ منهما الآخَر، ولم يصبح هناك مَن يطالب بالعرش من نسل أوديبوس، فقد آلَ إلى خالهما كريون عرشُ البلاد، فنصب نفسه حاكمًا على المدينة، وملِكًا يَسُوس الرعية، ويرعى شعب طيبة، ومن ثَم أصبح من واجبه أن ينظر في موضوع دفن ابنَي أوديبوس؛ فأمر بإعداد جنازة مهيبة لإتيوكليس حامي طيبة، فحُمِل إلى مَثواه الأخير على أعناق الأشراف، يحفُّ به كل ما يليق بالملوك العظام من مظاهر التبجيل والاحترام؛ فسار جميع مُواطِني طيبة في موكبه الجنائزي، حتى ازدحمت بهم الطرقات على سَعَتها، وأُقيمت المباريات التي كان يتنافس فيها الأبطال والفرسان، ومُنحت الجوائز الثمينة للفائزين، ولكن جثة بولونيكيس بَقِيت من غير دفن؛ إذ حرَّم كريون على المواطنين دفْنَها؛ فقد بعث مناديًا يعلن في ربوع طيبة، أن بولونيكيس هذا كان عدوًّا لدودًا للبلاد، جاء ليدمِّر المدينة، ويحرقها بالنيران، ويشفي غُلَّتَه من دم شعبه ومُواطِنيه، وطرد الآلهة من طيبة، واستعبد مَن بقي من المواطنين بغير قتل، إذن يجب على أهل طيبة أن يعتبروه خائنًا لوطنه، جزاؤه الحرمان من الدفن، وأن تُترك جثته في خارج المدينة طُعْمةً للوحوش الكاسرة والطيور الجارحة. كما أنه أمر المواطنين بالعمل على إطاعة رغباته. ووضع على الجثة حرَّاسًا وحُفَّاظًا ثِقَات، حتى لا يتمكَّن أي فرد من سرقة الجثة أو دفنها. وجعل عقوبة الإقدام على أيهما الموتَ رجمًا في ميدان عام بالمدينة.
سمعت أنتيجوني تلك الأوامر، فهالها قسوةُ خالها وجَوْره، ولكتها تذكَّرت الوعدَ الذي أعطته لشقيقها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، فذهبت محزونةَ الفؤاد إلى شقيقتها إسميني، وحاوَلت أن تحثَّها على مساعدتها في نقل جثة بولونيكيس. بيْدَ أن إسميني تلقَّت الأمر ببرودٍ شديد، كأنْ لم يجرِ في عروقها قطرةٌ واحدة من دم الأبطال؛ فأجابت والدموع تترقرق في مقلتَيها: «أختاه، أنسيتِ موتَ أبينا وأمنا، وما لاقياه من خاتمةٍ شنيعة؟ هل غاب عن ذاكرتك هلاكُ شقيقَينا، كل بيد الآخر؟ لم يَبْقَ سوانا نحن الاثنتين! أتريدين أن تسوقينا إلى عاقبةٍ مماثِلة؟»
تركت أنتيجوني شقيقتها الرعديدة، وقالت: «لستُ في حاجةٍ إلى مساعَدتك، سأقوم وحدي بدفن جثة أخي مهما نالني من عقاب، وبعد ذلك أموت قريرةَ العين، وأرقد بجواره، أنا التي أحببتُه طوالَ حياتي.»
لم يمضِ وقتٌ طويل حتى هرع أحد الحرَّاس إلى الملك كريون، وهو شاحب الوجه مأخوذ النفس، وصاح قائلًا: «إن الجثة التي طلبتَ منا حراستَها قد دُفِنت، ولسنا نعرف مَن الذي دفنها، كما أن الفاعل قد فرَّ ونجا، لا نستطيع أن نفهم كيف حدث ذلك، فإن الحارس المكلَّف أخبرنا بما حدث، فصُعِقنا لذلك الأمر، ولا يغطي الجثةَ سوى طبقة رقيقة من الثَّرى تكفي لإرضاء آلهة العالم السفلي. والغريب في الأمر أنه ليست هناك أية علامة تدل على استخدام مجرفة، أو آثار لعجلات عربة. عندئذٍ بدأ كلٌّ منا يتهم الآخر، حتى انتهى بنا الأمر إلى استعمال اللكمات، وأخيرًا رأينا أن نُطلِع جلالتَكم على جليَّة الموضوع، فاختاروني لأقوم بمهمة الرسول المبلغ.»
اتَّقد كريون غضبًا، وتميَّز غيظًا وظل عابس الأسارير، ثم انفجر كالبركان الصاخب، وهدَّد بشنق جميع الحرَّاس أو يسلِّموا إليه الفاعل، كما أمرهم بإزاحة التراب عن الجثة وتشديد الرقابة؛ فظل الحرَّاس يجلسون في الشمس المُحرِقة من الصباح الباكر حتى الظهيرة، وبعدئذٍ هبَّت ريحٌ عاتية ملأت الفضاءَ غبارًا، فأخذ الحرَّاس يُؤَوِّلون في معنى تلك الظاهرة، وبينما هم كذلك إذ رأوا فتاة تقترب من الجثة، وهي تذرف الدموع السواجم، وكانت تمشي بخفةٍ كأنها طائر لا يُسمَع لأقدامه وَقْع، وكانت تحمل في إحدى يديها جرَّة من البرونز، ثم انحنت بسرعةٍ وملأت الجرَّة بالتراب، واقتربت من الجثة في حرصٍ وحذر، ولم تكن ترى الرجال المختفين وراء أَكَمة مجاوِرة هربًا من رائحة الجثة المتعفنة، فلما وصلت إلى جثة بولونيكيس، سكبت التراب عليها ثلاثَ مرات بدلًا من الدفن؛ عندئذٍ انقضَّ الحراس عليها، وأمسكوها بتلابيبها والجرَّة في يدها، ثم ساقوها إلى الملِك متلبِّسةً بالجريمة.
أنتيجوني وكريون
عرف كريون أنها ابنة أخته أنتيجوني، فصاح فيها قائلًا: «أيتها الفتاة الحمقاء، الآن تقفين برأسٍ منكَّس! أتعرفين أم تُنكِرين أنك فعلتِ ما يتهمونك به؟»
فقالت الفتاة وقد رفعت رأسَها عاليًا في كبرياءَ وعظمة: «أعترف.» فقال كريون: «وهل كنتِ تعرفين الأوامر؟ وإذا كنتِ تعرفينها، فلِمَ تجرَّأتِ على عصيانها بوقاحةٍ هكذا؟» فأجابت أنتيجوني في إصرار: «كنتُ أعرفها، ولكنها لم تَصْدر عن أحد الآلهة الخالدين، إنني أعرف أوامر أخرى ليست بنتَ اليوم أو الأمس، ولكنها قائمةٌ منذ الأزل، ولا يعرف أحد مَن الذي أصدرها، ولا يستطيع شخص أن يخالِفَها دون أن يصيبه غضب الآلهة؛ وعلى ذلك فإن أحد هذه الأوامر هو الذي منعني من أن أترك جثة أخي بدون دفن، فلو أن آمِرًا عدَّ عملي هذا حماقة، لَكان هو نفسه الأحمق!»
فاتَّقد كريون غضبًا وقال: «أتعتقدين أنكِ صلبة العود، فلا تُقهَر روحكِ العنيدة هذه؟ إن أصلب الأسلحة أسهلها مَكْسرًا، فيجب على كل مَن يقع في قبضة مَن هو أقوى منه، ألَّا يُظهِر سفاهتَه ووقاحته.»
لم يكلِّف كريون نفسَه عناءَ الإجابة على قولها، بل أمر خَدَمه أن يسوقوا ابنتَي أخته إلى الحجرات الداخلية في القصر.
هايمون وأنتيجوني
أسرَعَ هايمون، عندما بلغه الحُكْم القاسي الذي أصدره والِده ضد أنتيجوني حبيبته، بالذهاب إلى أبيه ثائرًا يعصف بقلبه الغضبُ والحقد، فلما رآه كريون على تلك الحال، علم ما جاء من أجله، فوجَّهَ إليه بعض الأسئلة وهايمون يجيب عليها بروحِ البُنُوَّة الصادقة، والكَمَد يقطع أحشاءه. وبعد أن أقنَعَ أباه بحبه المتأصِّل لابنة عمته، قال: «كفى عنادًا يا أبتاه! إنك لا تعلم ماذا يقول الناس عنك، ولن يبلغك ما يتقوَّلون به في مجتمعاتهم وأنديتهم، وما يتهامسون به في الطرق والبيوتات؛ لأن عيونك المستبدة تمنعهم من الجهر أمامك بما لا يَسرُّ أذنَيك. ولكنني أعرف ما يحدث، وأسمع كلَّ ما يقال. إن المدينة كلها تبكي حظَّ أنتيجوني، وكل مُواطِن يستحسن عملها، ويعتبره من أعمال البطولة التي تستحق التمجيدَ السرمدي. فلا أحدَ قط يعتقد، أو يُوافِقك على أن الشقيقة التي ترفض أن تنهشَ الكلابُ عظامَ أخيها، أو تأكل الطيورُ لحمَه، يكون جزاؤها الموت، أو تستحق العقاب بأي حالٍ من الأحوال؛ ومن ثَم أرجو يا والدي العزيز أن ترضخ لصوت ومشيئة الشعب، فما أنت ملِك إلا بالشعب، فإن لسان حال الملوك الظالمين دائمًا يقول:
كن كأشجار الغابة الكثيفة، القائمة على مجاري المياه، إنها تنحني أمام قوة الماء، ثم تنتصب دون أن يَلْحقها أذًى أو ضرر، أمَّا تلك التي تُقاوِم فإن التيار الجارف يَقْتلعها من جذورها دون رحمةٍ ولا شفقة.»
فقال كريون بتهكُّم وسخرية: «أتقترح أيها الصبي الغِر، أن تُلقِّنَني درسًا في سياسة الملك؟ يبدو أنك تقاتل في صالح امرأة!»
فأجاب هايمون بسرعةٍ ولهفة: «نعم! إذا كنتَ أنت امرأة، فما نطقت بحديثي ذلك إلَّا لأجل مساعَدتك فقط.»
فأجاب أبوه بازدراءٍ واحتقار: «إنني ألمس جيدًا أن حبك الأعمى لتلك الآثِمة يَأْسر روحَك، ولكني أقسم أنك لن تغازلها وهي حية؛ لأن هذا هو قراري، فلسوف تُسجَن في مكانٍ منعزل، ناءٍ عن العمران، داخلَ قبرٍ من الصخر الجلمود، وسيُعطى لها من الطعام ما يَسدُّ رَمَقها فقط أو ما يكاد، وبذلك أنقذ المدينة من عار القتل، هناك يمكنها أن تطلب الحرية من آلهة العالم السفلي، وستعلم أيضًا بعد فوات الأوان، أنه كان خيرًا لها أن تطيع الأحياءَ بدلًا من الأموات.» ثم أشاح بوجهه عن ابنه، وأمر بإعداد كل شيءٍ لتنفيذ أمره، فسِيقَت أنتيجوني علانيةً أمام جميع سكان طيبة، إلى القبر المُعَد لها، فوقفت بشجاعة، غير هيَّابة ولا وَجِلة، تنادي الآلهةَ الخالدين، وأعِزَّاءَها الذين كانت تأمل في أن تلتقي بهم مرةً أخرى، ثم دخلت المغارة التي خُصِّصت لها.
وفي الوقت نفسه، كانت جثة بولونيكيس لا تزال بغير دفن، وقد نال منها التعفُّن والعطب، وكانت الكلاب والطيور تأكل من الجثة، وتدنِّس المدينة بنقلها قطعًا من لحمه إلى هذا المكان أو ذاك؛ عندئذٍ ظهر تايريسياس العرَّاف العجوز، الذي مَثُل ذاتَ مرة أمام الملك أوديبوس، وتنبَّأ إلى كريون بكارثةٍ وشيكة الحدوث، كما دلَّته أسراب الطيور، ورائحة دخان الذبيحة التي احترقت فوق المذبح، وأصوات طيور شريرة جائعة، ثم قال: «من الجَلِي الذي لا ينكره أحد، أن الآلهة غاضبة علينا، وذلك بسبب معامَلتكَ لابن أوديبوس المقتول. فلا تتشبَّث بأمرك أيها الملك. استسلِم للميت وكُفَّ عن القتل، فأي مجد هناك في قتل المقتول؟ أبعِدْ عنك هذه الفكرة، إنني أنصحك لمصلحتك.»
ولكن كريون ظنَّ أن النصح غِش، ورفض الاستماع إليه كما فعل أوديبوس من قبلُ، واتهمه بالكذب والطمع في المال. فاستشاط الرجل العجوز غضبًا، ودون أن تأخذه شفقةٌ ورحمة، كشف الستار عما سيتمخَّض عنه المستقبل، فقال بصوتٍ مهيب: «فَلْتعلمن إذن أن الشمس لن تغيب إلا وتكون قد ضحَّيتَ من دمك بفردٍ مقابل روح. إنك تقترف جريمة مزدوجة بحرمانك العالم السفلي من حقوقه، وحرمانك العالم العلوي من الروح التي يجب أن تحيا في ضوء النهاء. أيها الصبي، قُدْني بسرعة من هذا المكان، دَعْنا نترك هذا الرجل لما ينتظره من مصيرٍ مرير.» ثم توكَّأ على عصاه، وغادَر المكان ممسكًا بيد الغلام.
معاقبة كريون
استولى على الملِك كريون صمتٌ رهيب، وسكون مهيب، فيهما الكثير من الذعر والخوف، فتتبَّع العرَّافَ بنظراته، وهو يرتعد فَرَقًا، وينتفض هلعًا، وتوغَّل في تصوُّراته وتخميناته، وساوَرته شتى المخاوف والظنون، وحدَّثته نفسُه أن يتراجع في قراره، ولكن كبرياءه وغطرسته لم تعرفا إلَّا الاسترسال في الجَوْر، وأين كرامته كملِك إذا هو نقض ما سبق أن قرَّره؟ وأخيرًا دعا شيوخ المدينة إلى اجتماع للتشاوُر فيما يجب عليه أن يفعله. فأجمعوا كلهم على هذا القرار: «أطلِقْ سراحَ أنتيجوني من قبرها الصخري، وادفنْ رُفَات بولونيكيس، أو على الأصح ما بقِي من جثته.»
لم يكن من السهل على كريون أن يَرْضخ لمَشُورة أولئك الرجال الذين عرَكَهم الدهرُ وعَرَكوه، وكيف يستمع إلى نُصْحهم وهو الملك الحاكم بأمره، بل كيف يجرؤ هؤلاء على أن يُصدِروا قرارًا ضد رغباته. ولما كان أمامه طريقان، وكان قد فقد كلَّ عطف وكلَّ حنان، حتى على فلذة أكباده وأعز الناس لديه، فقد اختار الطريقَ الذي قال عنه العرَّاف تايريسياس، ما دام قد بدا له أنه السبيل الوحيد لمنع الهلاك عن بيته؛ فذهب هو شخصيًّا في مقدمة حاشيته إلى الحقل الذي كانت فيه بقايا جثة بولونيكيس، ومن ثَم إلى القبر الذي سُجِنت فيه أنتيجوني، تاركًا زوجته يوروديكي وحدها في القصر، وقد اعتزلت مُقابَلة أحد، وظلت بمفردها في حجرتها.
بينما كانت يوروديكي مستسلِمة إلى أفكارها وتصوُّراتها، إذ سمعت صراخًا وبكاءً في الطريق، ولما ازداد النحيب شدةً، تركت حجرتها وذهبت إلى ساحة القصر لترى ما الخبر، فوجدت نفسَ الرسول الذي قاد زوجَها إلى مكان جثة بولونيكيس، فسألته عن خَطْبه فقال: «أي مَلِكتي وسيدتي المبجَّلة، لقد صلَّينا إلى آلهة العالم السفلي عندما غسلت الجثة المتعفنة في الحمام المقدس، ثم أحرقنا تلك الأشلاء الباقية من ذلك المسكين، وأخذنا من ثَرى مسقط رأسه، وكوَّنَّا أَكَمة جنائزية، وبعد أن انتهينا من إهالة الثَّرى على الرُّفات، توجَّهنا إلى القبر الصخري الذي سُجِنت فيه الفتاة لتموتَ جوعًا بعيدًا عن البشر، وكان قد سبقنا إليه أحد الخَدَم، ولكنه قبل أن يصل إليه سمع صَيْحات تنمُّ عن ألمٍ مُمِض، منبعِثة من القبر، فاستدار على عقبَيْه، وأسرع إلينا ليخبر الملك بالصوت المنبعِث من داخل الرَّمْس. فلما رآه الملك شاحب الوجه مرتاعًا، عرف كل شيء بنفسه، وإنما بصورة غير واضحة، مُدرِكًا أنه يتعلَّق بابنه. فأمرنا بالعَدْو، واستراق النظر إلى داخل القبر من شِقٍّ في الصخور؛ فرأينا ما يَشِيب له الطفلُ في وقت الرِّضَاع، رأينا أنتيجوني متدلِّية في مؤخر الكهف، وقد شنَقَت نفسَها في أنشوطة صنعَتها من خِمارها، وتحت قدمَيْها قد رقد ابنُك هايمون متعلقًا بركبتَيها، يبكي حبيبته، ويلعن الأب الذي سلَبه زوجته. عندئذٍ كان الملك قد بلغ الصخرةَ مكتئبًا، واجتاز مدخل الرَّمْس مناديًا هايمون بقوله: «أيها الصبي التَّعِس، ماذا تَبْغي، وما هو هدفك؟ ما هذا التفكير الجنوني الذي يبدو في عيونك الجاحظة؟ تعالَ إليَّ! إلى ركبتَي، إنني أتوسَّل إليك!» غير أن الصبي لم يُجِبه بشيء، ولم يُعِر كلماته أيَّ اهتمام، بل اكتفى بالنظر إليه وقد خدره اليأس، ثم استلَّ سيفه ذا الحدين من غِمْده، فأسرع أبوه إلى خارج الكهف قبل أن تصيبه الطعنة؛ عندئذٍ اتَّكأ هايمون بجسمه على طرف السيف، فاخترق جنبه ونفذ من الجانب الآخر. فلما سقط طوَّقَ أنتيجوني بذراعَيه، وجذبها إليه، وأخيرًا رقد كلاهما ميتًا في عِناقٍ أخير.»
كانت يوروديكي تُصغِي باهتمامٍ إلى كلام الرسول، فلما انتهى من حديثه ظلت صامتة لا تنطق ببنت شَفَة، ثم هرعت إلى داخل القصر. فلما عاد الملك إلى القصر، وخدَّامه يحملون ابنَه الوحيد على خشبة الموتى، علم أن يوروديكي قد طعنت نفسَها بسيف، وأنها ترقد في بركةٍ من الدماء داخل القصر.
دفن أبطال طيبة
لم يَبْقَ من أسرة أوديبوس غير إسميني، فقد قُتِل الابنان، كلٌّ بيدِ الآخَر، وانتحرت أنتيجوني داخل القبر الصخري. ولا تروي الأساطير شيئًا عن إسميني، ولا كيف ماتت، وكلُّ ما نعلمه عنها هو أنها ماتت بلا أبناء، فختَم موتُها قصةَ تلك العائلة المنكودة الحظ، التي كُتِب عليها الشقاء في الحياة، ووقت الممات.
(٧) مسرحية «بروميثيوس مُوثَقًا»
ومع ذلك فلا يظفر من كل هؤلاء على خشبة المسرح غيرُ بروميثيوس بصفته البطلَ الرئيسي للتمثيلية، وعددٍ محدود من القوى التي يستعين بها زوس في معاقَبة البشر والآلهة، أو إنزال الأذى بهم.
أما الجوقة الغنائية فتتألَّف من حوريات البحار والمحيطات.
والآن ما هي أسطورة بروميثيوس التي استمدَّ منها أيسخولوس مادتَه لصياغة مسرحيته المسماة «بروميثيوس مغلولًا» أو «مُوثَقًا» أو «مُقيَّدًا» كما يحلو للبعض تسميتها.
كان بروميثيوس إذن شقيقَ إبيميثيوس، يميِّزه الاسم بروميثيوس كرجلٍ ذي بصيرة، بينما الاسم إبيميثيوس يشير إلى رجلٍ قصيرِ البصر. كان يُعتبر بروميثيوس أعظمَ مُحسِن عرفه البشر، وبطل الأموات ضد دكتاتورية زوس. أتى إليهم بهدية النار فمهَّد بذلك الطريقَ لتقدُّم مدنيتهم وعلومهم وفنونهم. كان يُنظَر إليه أيضًا كخالق للإنسان، صنعه من الطين في هيئة الآلهة ومنحه بعض صفات الحيوان.
•••
وتبتدئ قصةُ أيسخولوس هذه إذن بمشهدِ صلْبِ بروميثيوس على جبال القوقاز في أقاصي المعمورة على يد هيفايستوس، إله النار، تساعده «القوة» و«البطش». وهناك على إحدى الصخور يُشَد وَثَاق بروميثيوس بالسلاسل والأصفاد. وبالرغم من أن بروميثيوس يعلم تمام العلم بأنه مُذنِب لعصيانه أوامرَ رب الأرباب والبشر، ومع ذلك فلا يندم على مساعَدته البشر أو سرقته النارَ في سبيل خدمتهم.
وبينما يعاني بروميثيوس آلامَ الصَّلْب يُترَك وحده على المسرح، ويمضي في سرد أوجاعه يحدِّث بها الهواء والجبال والشمس والبحار والأنهار والعيون والأرض، لتشهد على ما أنزله به ربُّ الأرباب ظلمًا وعدوانًا، وبعدئذٍ تزوره حورياتُ البحار والمحيطات اللواتي يؤلِّفن الجوقة، ويسألن بروميثيوس عن جريمته التي اقترفها، والتي عُوقِب من أجلها مثل هذا العقاب الصارم، فيعيد على أسماعهن سابقَ خدماته لزوس في حروبه، حتى مكَّنَه من عرش السماء، ويعدِّد لهن سابقَ خدماته التي أسداها للبشر، والتي لولاه لما عرفوا النارَ أو الأملَ والفصول والزراعة والكتابة والحساب والتعبير أو الطب والمعادن وطُرُق استعمالها.
بعد ذلك يظهر المحيط نفْسُه ويَعرض على بروميثيوس استعدادَه للقيام بدور الشفيع الوسيط لدى زوس، فيرفض بروميثيوس شفاعته خوفًا عليه من غَدْر زوس وبَطْشه، فيَعْدِل المحيط عن رأيه، ويقتنع برأي بروميثيوس.
وإذ يكرِّر بروميثيوس على مسامع الجوقة كلامَه عما تخبِّئه الأيام لزوس وعرشه، حتى يرسل زوس هيفايستوس إلى بروميثيوس يسأله عما يقصد بنبوءته، وعن اسم الذي سيَخلع زوس عن العرش، ولكن بروميثيوس يرفض أن يُفصِح عن اسمه رغم ما وعده به هيفايستوس من فكٍّ للأغلال وإطلاق سراحه.
وبعد الرفض تَهْوي الصواعق على بروميثيوس، وتُحطَّم الصخرة المثبت عليها بروميثيوس، وإذا به يختفي تحت أنقاضها، وتنتهي التمثيلية عند هذا القَدْر ويُسدَل سِتار الختام.
وهناك من الأدلة ما يشير إلى أن هذه المسرحية قد مُثِّلت عقِبَ قصة «السبعة ضد طيبة»؛ أيْ في تاريخٍ لاحق لسنة ٤٧٥ق.م.
لقد قام بتمثيل هذه الدراما ثلاثةُ ممثلين عاملين وممثلٌ واحد صامت. وهناك مَن يرى أن أيسخولوس لم يستخدم غير ممثلَين اثنين عامِلَين فقط. أمَّا الممثل الأصلي فقام بدور بروميثيوس الذي لم يغادر المسرح من بداية المسرحية إلى نهايتها. أما هيفايستوس والقوة وإيو والمحيط فقد قام بأدوارهم ممثِّلون إضافيون، وهذه أول مرة يستعين فيها أيسخولوس بهذا العدد الكبير من الممثلين الإضافيين الذين يلعبون أدوارًا ذات أهميةٍ واضحة.
تختلف هذه القصة عن سابقاتها على أن أشخاصها ليسوا أبطالًا، بل آلهة من عالم السماء.
كان أيسخولوس يهدف إذن إلى عدة أفكار هامة، إحداها اجتماعية تتجلى أولًا في محاوَلته التجديدَ في عواطف الآلهة والتقليل من قوتهم، وثانيًا في ضرورة تحمُّل المرء للآلام في سبيل الرقي والتقدُّم، وبعضها أفكار خُلقية تنحصر في تضحية بروميثيوس براحته وسعادته مقابل تعليم الإنسان الفنَّ الذي به يتقدَّمون وينهضون.
(٨) مسرحية «الأوريستيا»
إن مجموعة الأوريستيا تُعتبر آخِر مؤلَّفات أيسخولوس، وهي الدليل على بلوغه الذروة في الفن والنبوغ، وتتناول المسرحيات الثلاث مقتلَ أجاممنون.
إن مسرحية «أجاممنون» هي الأولى في المجموعة الثلاثية. وهناك مَن يعتقد أن هذه المسرحية ليست فقط أعظمَ ما كتبه أيسخولوس، بل وأروع مسرحية مُفجِعة في المسرح الإغريقي كله، لِمَا تزخر به من روعةٍ وجلال في كلٍّ من التصميم والفعل، فضلًا عما تتمتع به من فن مسرحي وعَقْدة مكتملة ومستوًى رفيع من حيث التأليف المسرحي المتقن.
ولقد مُثِّلت مأساة أجاممنون في سنة ٤٥٨ق.م. ويستهلُّها أيسخولوس بأن يصعد أحد الحرَّاس فوق سطح القصر، ليرى النيران التي تُعلِن هزيمةَ الطرواديين وفوز الأغارقة في حرب طروادة، وما إن يراها حتى يهرع إلى ربَّة القصر كلوتايمنسترا ليُنبِئها بالأخبار المفرحة، وفي هذه اللحظة تترنَّم الجوقة المؤلَّفة من شيوخ أرجوس بقصة الحرب الطروادية، وبالنبوءة التي تردَّدت كثيرًا على أن أجاممنون رئيس الجيش الأثيني مهدَّد بانتقامٍ غامض عقِبَ عودته، وتمضي الجوقة في تذكير النظَّارة بالكيفية التي ماتت بها إيفيجينيا، ابنة ربَّة القصر، وزوجة أجاممنون.
فتتظاهر كلوتايمنسترا باستقبال زوجها بالبشاشة والسرور، بينما قلبُها مشحونٌ بالنفاق والرياء، وإمعانًا في خداع زوجها تأمر بأن تُفرش أمام أجاممنون القائد الظافر بُسطٌ حُمر نفيسة كي يمشي عليها إلى أن يدخل القصر، فيجتاز أجاممنون البُسطَ الحمراء في لون الدم، ويدخل قصره، حيث كان الموت ينتظره بلا رحمة على يد زوجته، تاركًا أسيرتَه على خشبة المسرح. وتحاوِل كلوتمسنترا إدخالها لتقتلها مع أجاممنون فلا تنجح في أول الأمر. وما إن تهم كاساندرا بدخول القصر، حتى تسمع بعد لحظاتٍ قصيرة صَيْحاتٍ عاليةً يتبيَّن الجميع أنها صيحاتُ أجاممنون مختلطة بصرخات كاساندرا، وتظهر في الحال كلوتايمنسترا أمام المشاهدين حاملةً السلاح الذي استعملته في اقتراف جريمتها، ثم لا تتورَّع أن تتفوَّه بكلمات سماتها القحة والعجرفة، ولا تلبث أن تجاهِر الجوقة بسخطها على الملِكة المجرِمة، ويزداد الموقف توترًا وخطورةً بظهور عشيق الملِكة وشريكها في الجريمة، وتنشب بينه وبين الجوقة معركة عنيفة لا يفصلهما إلا تدخُّل كلوتايمنسترا.
وقبل أن ينسدل الستار تعلن جوقة الشيوخ أمام المشاهِدين أن أوريستيس بن أجاممنون المقتول، لن يهدأ بالًا إلا بعد أن ينتقم لأبيه من قاتِليه.
وإلى هنا تنتهي مسرحية أجاممنون. أما المسرحيتان الأخريان فهما «خويفوري» و«يومينيديس»، وهما تتمِّمان اللعنة.
كان لا بد لأوريستيس إذن أن يفرَّ من الفورياي، أولئك الربَّات المتوحِّشات المَقِيتات، اللواتي يُعاقِبْنَ على قتل الأم، ولكنهن يُصِبْنَه بالجنون ويضطر أوريستيس أن يتجوَّل من مكانٍ إلى آخَر طلبًا للنجاة منهن.
•••
وهكذا تنتهي المسرحية الثالثة التي تصوِّر المثلث الدموي المزعِج من مسرحيات أيسخولوس المأسوية.
وكانت كلٌّ من هذه التراجيديات الثلاث تتطلَّب ثلاثة ممثلين، وعلى الرغم من تعادُل هذه المسرحيات في قوة أفكارها وعاطفتها مع المسرحيات السابقة، فإنها تتفوَّق عليها في التنفيذ الدرامي.
(٩) مبتكرات أيسخولوس وعقيدته الدينية
لم يكن كل هذا منظرًا خاويًا، فإن العظمة الخارجية لَتُعبِّر عن عظمة الفكرة. لم يقنع أيسخولوس كما قنع مَن سبقوه بوضع أساطير البطولة في قالب درامي، بل أرادها أن تبدو مظهرًا لإرادة الآلهة. وإذ جُبِل على التأمُّل العميق، كان يبحث بغريزته عن الأسباب الداعية للأحداث. كان يؤلِّف مسرحياته بحيث إن تركيبها إذا لم يفسِّر هذه الأسباب، وهو الأمر الذي كثيرًا ما يقلِّل من غموضها، فلا أقل من أن يُشعِر بوجوده ويوحي بالخوف المطلوب. وربما كان هذا أهم مبتكَراته الحديثة. لم يفتقر سابقوه إلى العاطفة الدينية، فلم يفتقر أي نشيد غنائي منها، وأقل هذه جميعًا أنشودة ديونيسوس، غير أنه جمع النادر والمبعثَر، وضم بعضه إلى بعض في وَحْدة قوية في تراجيدياته، وجعله بارزًا بقوة عبقريته. كانت كل مجموعة ثلاثية، وكل تراجيديا عملًا دراميًّا ناشئًا عن العمل العظيم لقضاء الآلهة أو للمصير. وهكذا أيقَظَ أفكارَ الناس كما أيقَظَ عواطفَهم.
لم يكن أيسخولوس فيلسوفًا بالمعنى الصحيح، كما قيل أحيانًا في شيءٍ من المبالغة، ولم يكن حتى من علماء اللاهوت، وإنما كان قبل كل شيء شاعرًا وكاتبًا مسرحيًّا، ودائمًا ما رأى الأسبابَ مستترةً وراء الصور الحية، ولم يفصل تلك الأسبابَ عن آثارها من الآلام البشرية وأحداث الحياة. لم يدركها في صور مجرَّدة تَقْبل الوحدة المنطقية، وإنتاج نظرية كاملة عن الكون من اتحادها معًا، بل على العكس أدركها بوجدانه وعاطفته العميقة. ولم يَسْعَ قطُّ إلى إزالة غموضها؛ فهذا الغموضُ الغريب عنصرٌ ضروري للفكرة الإلهية التي فرضت نفسها عليه، والتي جعل جمهورَه يُلِمُّون بها. ولكي يبيِّن لهم أنه يوجد وراء المرئيات أسبابٌ بعيدةُ قوةِ التأثير، لا تُرى في الحال، وأن أعمال البشر لا تشتمل على كل ما يبررها، ولا على كل تفسيرٍ لها، وأنها تخضع، دون وعي، لقوةٍ عليا مجهولة، وأن الروح البشرية بعد أن تتأثَّر بها وتتخيَّل شتى الخيالات، غالبًا ما تصل إلى الغرض الذي لم تعثر عليه من قبلُ؛ هذا هو ما يهدف أيسخولوس إلى الإيحاء به، ويَعتبره وظيفةَ الفن الدرامي.
إذن فإلى أي شيءٍ يهدف في تلك المملكة الإلهية؟ أهو المصير، أم هو الرغبة الخيِّرة؟ من المشكوك فيه أن يستطيع أيسخولوس نفسُه الإجابةَ على هذا السؤال إجابةً محدَّدة. وربما كانت معتقداته هي نفس معتقدات مُعاصِريه؛ خليط من آراء يأتي بعضها وراء بعض بالتدريج، ولكنها ليست قادرة دائمًا على الإقناع. يبدو أننا نرى وراء كل ذلك قوةً مضطربة غاشمة لا يُمكِن مقاوَمتُها، هي ضرورةٌ تتحكَّم في كل الأشياء، ولكن من المؤكد أيضًا أنه إذا كانت هذه فكرته، فإنها قابعة في أقصى الخلفية وراء جميع الآراء الأخرى. وأهم ما تبدو فيه هو بعض قوانين معيَّنة غير قابلة للتغيير، كالوراثة، وانتقال اللغات، وقوة الانقياد للنميمة، ودور الإيرينويس.
حقيقةً، أننا نرى زوس نفسَه في مسرحية بروميثيوس، يُوضَع في مرتبةٍ ثانوية خَطِرة لا يستطيع منها فكاكًا. بيْدَ أن هذه حالةٌ شاذة. وعلى العموم، ما يهدف أيسخولوس إلى بيانه هو إرادة الآلهة الصادرة بعد رَوِيَّةٍ وسدادِ رأي، والمعقولة، والواضحة الأغراض، والتي بالاختصار تهدف إلى الخير، ولكن هذا ليس سوى اتجاهٍ أو ميل فحسب، وليس هدفًا محددًا تجب المبالغة فيه أو إهماله، وما يجب علينا أن نقوله قبل كل شيء، هو أن الشاعر في مثل هذه القضايا، لا يهتم بالرد اهتمامَه بإثارة القضية نفسها. وهذه القضية الأخيرة جزءٌ أساسي من الدراما، والردُّ عليها خارجٌ عن نطاق الدراما، ولا يَظهر إلا عن طريق الرغبة المُلِحة في معرفة ما يثيره.
(١٠) مبتكرات أيسخولوس الأخرى
أضفى أيسخولوس على التراجيديا صفةً جديدة تمام الجدة بتضمينها مثل هذه الآراء الدينية. كما أنه جدَّد تركيبها في الوقت ذاته، بتطوير العنصر الدرامي. ويُمكِن تلخيصُ تجديداته في هذا المضمار بقولنا إنه حدَّ من دور الكوروس في الفعل الدرامي، وأوجَدَ الممثلَ الثاني، ولهذين الأمرَين نتائجُ هامة.
يقوم الكوروس بدور البطل في مسرحية المتضرِّعين التي يُحتمَل أن تكون أقدم تراجيدياته الباقية. وإرادة الكوروس هي الدافع الأساسي للفعل الدرامي، وتتبع متعتنا آلامه ومخاوفه ورغباته. ومن ثَم كانت أناشيده طويلة طولًا يحدِّد دور الحوار. وإذا أطَلْنا التأمُّل مدةً أطولَ تكوَّنت لدينا بغير شك فكرةٌ عما كانت عليه التراجيديا قبل عصره. وإذا نظرنا إلى الكوروس — هذه الشخصية الجماعية — على أنه ليست له نفس الأهمية الدرامية التي للفرد، وبذا تقلُّ أهميته من أجل زيادة أهمية الأفراد، فإننا في الحقيقة نفصل بذلك الدراما عن الشعر الغنائي. وكان لأيسخولوس الفضلُ في حدوث هذا الشيء، وحدث التغيُّر فعلًا في عصر تراجيدية المتضرِّعات، وانتقل هذا التغيير في جميع المسرحيات الأخرى. حقًّا ظلت الأدوار الغنائية طويلةً جدًّا، ولكنها ليست طويلة كما كانت من قبلُ، والأهم من هذا هو أن أهمية الكوروس غَدَت ضئيلة. فاستُعِيض عن الجماعة بشخصياتٍ فردية تسهم خصائصُ كلٍّ منهم في الفعل الدرامي. إذن تتركَّز متعتنا في شخصيات أكثر ميزة، كانت ضحيةَ القدرِ المحتوم.
لا يزال هؤلاء الأشخاص الدراميون عديدين في كل مسرحية، ومع ذلك عددهم يزيد دائمًا، وهذا يعطي فرصةَ النشاط الحيوي للمسرحية. ويتطلَّب تمثيلُ كلٍّ من تراجيديات أيسخولوس الباقية، بما فيها المتضرِّعات، ممثلَين اثنين على الأقل. أمَّا بروميثيوس المقيَّد والأوريستيا فتتطلَّب ثلاثة ممثِّلين. إذن فقد أوجد أيسخولوس الممثلَ الثاني في أوليات حياته، ثم استخدم بعد ذلك الممثل الثالث الذي استخدمه سوفوكليس في حوالي سنة ٤٦٨.
تدور مسرحيات أيسخولوس دائمًا حول حادث واحد، وتسمح بقدر ضئيل من المتناقضات، وبقليلٍ من المفاجآت أو لا تحتوي على مفاجآت، ولا يُضَمِّنها أيَّ تلاعُب مسرحي، بل يحتفظ منذ البداية بموقفٍ دراميٍ واحد، وهذا يجعلنا نتوقَّع حادثًا معينًا. ثم تتقدَّم المسرحية نحو هدفها في طريقٍ مستقيم مستمر. وأخيرًا يأتي دور الحل فيصنع خاتمةً للفعل الدرامي. إذن فما من شيء يكون أقل تعقيدًا من هذه المسرحية، ولا شيء خيرًا من هذه الطريقة يمكن أن يؤكد الاسم الذي أطلقه عليها أرسطو «تراجيديا بسيطة»، فتتألَّف المسرحية على هذا النحو من أناشيد وسرد وأوصاف، وبذا تضم العنصر الغنائي وعنصر البطولة اللذين لا يزالان عظيمَي الأهمية. وأحيانًا تُضفِي المناظر الحلقية على الموضوع الرئيس صفةَ السرد، مثل حلقة إيو في مسرحية بروميثيوس المقيَّد، ولكننا لا ننكر سيادةَ العنصر الدرامي في مسرحيات أيسخولوس التي نعرفها. وتتجلى هذه السيادة حتى في آخِر مسرحياته. والعناصر الجديدة هي: أولًا: الحوار الذي يُظهِر بوضوحٍ مراحلَ الموقف الأصلي وعواطف الأشخاص. ثانيًا: بعض الابتكارات في المناظر، التي تبعًا لإمكانيات المسرح، كانت ذات أثرٍ بالغ على المتفرجين. ومراحل الفعل الدرامي محددة تمامًا، كل مرحلة بدورها في مسرحية أجاممنون؛ فدخول الملِك إلى قصره وسَيْره فوق بِسَاط أرجواني فرَشَته كلوتايمنسترا على الأرض، وهذيان كاساندرا، والصراخ خلف المنظر، وظهور القَتَلة فجأةً ملوَّثين بالدماء، وظهور الجثث غير المتوقَّع؛ كل هذه وقائع رائعة تعطي سلسلة من التأثُّرات الحادة العميقة. ولا تخص أمثالُ هذه الآثار الشعرَ الغنائي ولا شِعرَ البطولة، ولكنها تخص المسرحَ وحده. وتراجيدية أوريستيا كلها مليئة بالآثار، قلَّما تخلو منها أية مسرحية من المسرحيات الأولى مهما قلَّت هذه الآثار.
(١١) دور العواطف والأشخاص في مسرحيات أيسخولوس
قلَّما تعير المسرحيات المكونة بطريقة أيسخولوس، نفسها إلى تصويرِ عددٍ كبير من العواطف المتنوعة؛ فإن سيكولوجيا هذا الشاعر بسيطةٌ كالفعل الدرامي لمسرحياته، ولكنها تشبه هذا الفعل في قوتها وروعتها؛ فتحتاج الشخصية الأولى في معظم مسرحياته إرادةً عاطفية قوية تَظهر منذ البداية، وعلى العموم لا ينتج عن هذا إلا قليل من التعليل، وليس هناك احتمال داخلي كالذي تعبِّر عنه الأغاني الفردية، أو الذي يعبِّر عنه الحوار. وهذه الإرادة جزء من طبيعة الشخص، وتُبدِي موقفَه، وهي إحدى عواطفه العميقة، بل هي حقيقةُ نفسِه، ولذا كانت عديمةَ المرونة. هكذا كانت إرادة الدانايديس وإتيوكليس وبروميثيوس وكلوتايمنسترا وأوريستيس، وتشبه قوة لا يمكن مقاوَمتها، وتتضمَّن شيئًا خارجًا عن مقدور البشر من حيث الشدة والتهور، ولا تصطدم مع نفسها إطلاقًا. وكثيرًا ما يتألم الأشخاص من القوة العنيفة لهذه الإرادة، ويرون خطرَها ومَشاقَّها وفظائعَها، ولكن هذا كله لا يمنعهم هذه الإرادة. يجب على المرء أن يُمعِن النظر في هؤلاء الأشخاص ليرى ولو أثرًا ضئيلًا من التردد، وعلى العموم فإن البواعث التي تحثهم على الإحجام لا تقوم بشيءٍ إلا أن تثيرهم وتُلهِب عواطفَهم، ولا تُجدي فيهم التحذيرات ولا إسداء النصح المانع؛ لأنهم يَعتبرون آراءَهم ضروراتٍ حتمية لا يَسَعهم إلا الانسياق وراءها.
قلَّما تسمح لنا هذه الصرامة الشديدة، وأن نهجو النفسَ هجوًا تامًّا إلى عاطفة واحدة، بأن نعتبر أشخاص المسرحية كاملين، ولكنهم أشخاص بمعنًى مثالي؛ لأن لهم فردية، وما يشتركون فيه هو العاطفة القوية الفيَّاضة. وهنا يُبدِي العنصر الغنائي تشبُّثَه بالأشخاص الدراميين العظام. فلكل واحد منهم شخصية عميقة، زاخرة بالعواطف والانفعالات النفسية والأحزان والرغبات التي تفيض في أثناء الحديث، وتكشف عن نفسها في الصلاة، أو في البكاء، أو في الاحتجاجات، أو في الدفاع عن الكرامة، أو في التحدي. ويمكن خلق مبتكرات جديدة لا حدودَ لها في التشابه الأساسي لحياتهم الأخلاقية.
ما تلك القوة التي تدفعهم؟ أهي الرغبة الحُرة، أم هي قوة عليا تعمل فيهم وتستعيض عن نفسها بهم؟ كثيرًا ما طُرِح هذا السؤال، فكانت الإجابات عليه متبايِنة، وقد لا يمكن الإجابة عليه بجوابٍ مطلق. هناك أشخاص، مثل بروميثيوس الذي تتجلى فيه الحرية الشخصية بدرجةٍ لا يمكن نكرانها، حقيقيٌّ أن حرياتهم تصل في النهاية إلى نتائجَ تتفق وقرارَ قوةٍ إلهية عليا، ولكن إذا أردنا التوفيق في هذه المسائل من وجهة النظر هذه، وصلنا إلى نفس تعريف الرغبة الحُرة بأنها مسألة ميتافيزيقية عليا لا بد أن أيسخولوس لم يرغب في تفسيرها، أو ربما لم يدركها على الإطلاق. وما يمثِّله في بروميثيوس هو ما يسمِّيه العالم أجمع بالحرية الأخلاقية، ولا حاجةَ بنا إلى التوسُّع أكثر من هذا. وهذه المسألة غامضةٌ في حالة إكسيركسيس الذي دُفِع إلى الخراب بواسطة الدوار الذي سلَّطته عليه الآلهة، أو إتيوكليس الذي يستبدُّ به هَذَيان تتكشَّف فيه لعنةُ والده التي تنتهي بقتل أخيه، أو كلوتايمنسترا التي تنفِّذ في أبناء أتريوس لعنة أسرته الموروثة، أو أوريستيس الذي ترسله استجابة شكلية للوحي ضد أمه، فيُدفَع إلى القتل بواسطة المخاوف الإلهية. فهل كل هؤلاء الأشخاص أحرار؟ أهو منظرُ الرغبة البشرية ذلك الذي يصوِّره هذا الشاعر، أو أنه الرغبة فحسب؛ تلك الرغبة التي تسيطر عليها قوةٌ عليا؟ كذلك هنا، إذا أردنا الإجابةَ الصحيحة اضطررنا إلى أن نجيب في دقة غير بالغة، وبغير اهتمامٍ بتأنُّق العبارات المهذَّبة الغريبة، على هذا الشاعر وعلى مُعاصِريه. يطيع كل هؤلاء الأشخاص قوةً إلهية عليا تصل إلى هدفها يقينًا، بيْدَ أنه لا يوجد بينها اصطدام ولا نزاع، بل هناك اتفاق تام بين هذه القوة العليا ورغباتهم وآرائهم وعواطفهم، ولا تتعارض مع شخصياتهم أو تكتم حرياتهم، وإنما تسمح لهم بالعمل دون عائق؛ فبينما ينفِّذ جميع الأشخاص ما قضت به الآلهة والأقدار، ينقِّذون في الوقت ذاته رغباتِ نفوسِهم أيضًا، فيعملون بطريقتهم وبما تُملِيه عواطفُهم ورغباتهم الوقتية، ولا يمكنهم أن يفعلوا غيرَ هذا دون أذى أنفسهم. إذن فهم أحرارٌ بالمعنى المعروف في كل مكان؛ أحرارٌ كما نحن أحرار، ولو أننا نطيع قوانينَ الكون الأزلية؛ أحرارٌ واعون في إرادةِ عملٍ معيَّن وإنجازه تبعًا لأهوائهم. فإذا كان هناك غموضٌ في كل هذا، فهو لا يخصُّ التراجيديا، وإنما يخصُّ طرقَ الحياة الأساسية، ويقع فيما وراء الواقع نفسه.
بمجرد أن تصير هناك عدة شخصيات للتمثيل في المسرح الإغريقي، فإن طريقة موافَقتهم أو معارَضتهم، وإبراز صفات بعضهم بواسطة البعض الآخر، تصبح من الوظائف الدقيقة لفن الشاعر. فعندما قدَّم أيسخولوس الممثلَ الثاني مُضاعِفًا بذلك عددَ الأدوار، اضطرَّ إلى إبداء اهتمام زائد بهذه المسألة. وهنا أيضًا أسس سابقات مسيطرة.
(١٢) فقرات أيسخولوس الغنائية ولغته
يجب إضافة ابتكار آخَر نهائي إلى الابتكارات السابقة، لا يقل عنها أهمية، فيقول أرستوفانيس (في الضفادع، ١–١٠٠٤): إنه مبتكر الأسلوب التراجيدي.
الأصل في الأسلوب التراجيدي غنائي في خصائصه الأساسية، ولا يجب أن يغيب عن بالنا أن الفقرات الغنائية كثيرة ورائعة، ثم انمحت في أزمنةٍ لاحقة. إنها نظم على نطاق واسع أحيانًا، يكرس فيها هذا الشاعر نفسه إلى مزج الإيقاع بتماثيل التركيب في مقطوعاتٍ مدهشةِ الإنشاء. وإن لغته لَتَقْبل النموَّ الطويل، وأوضح خصائصها: الجرأة، والنقاء، والاتساع، والوقار. وهي مليئة بالألفاظ المركَّبة التي تلفت الأذن، بجرسها السمعي أو بصفاتها الرنينية، وتسترعي الانتباه بغزارة وتراكُم صورها البيانية وحِدَّة أفكارها، ورغم أنها متساوية في القوة وبراعة التكوين، فغالبًا ما نرى الأسلوب غامضًا إذا ما تناولناه بالتفصيل. هكذا نجده نحن، وهكذا وجده الأثينيون. بيْدَ أن براعة التكوين الكامل والدقيق ليست ضرورية. يشبه أسلوبُ الأناشيد هذا، صورةً كبيرة مرسومة يجب أن ينظر إليها المرء من مسافةٍ بعيدة. فعندما يغني الكوروس تلك الأناشيد، ويحافظ اللحن عليها، تسير سيرًا رائعًا، فكل شيءٍ فيها فخم أو مشعر بالحزن أو بالفظاعة، وتبدو الأفكار العظيمة مبهمة وراء المجازات والتشبيهات الرائعة العديدة، ويخلق الحماسُ عدةَ تعبيرات جديدة في غاية الروعة. لقد صِيغت هذه المقطوعات المتألقة العظيمة مبهمة وراء المجازات والتشبيهات الرائعة العديدة، ويخلق الحماس عدةَ تعبيرات جديدة في غاية الروعة. لقد صِيغت هذه المقطوعات المتألقة العظيمة لكي تبهر الجموع، وتُحدِث في عقولهم شيئًا من النشوة. وحتى اليوم، على الرغم من عدم مُصاحَبة الموسيقى والتلحين لها، ورغم قيام الصعوبات بسبب التغيرات التي لحقت بالنصوص، نجد من العسير أن نقرأ شعره دون أن نتأثر بانفعالٍ نفساني عميق. مثال ذلك عندما نقرأ أغنية الفزع التي تنشدها سيداتُ طيبة في تراجيدية «السبعة»، أو شِعر الجد الهزلي في «أجاممنون»، أو حوار كاسندرا الغنائي في نفس المسرحية، أو الحوار الغنائي لأوريستيس وإليكترا في «خويفوري»، أو أنشودة الإيرينيس يحرص على قتل الأب في «يومينيديس». لا شك في أن كثيرًا من التفاصيل في هذه الفقرات يفوتنا فَهْمها أو تحيِّرنا، غير أن أثرَ المجموع رائعٌ لا يُقاوم.
على الرغم من روعة أيسخولوس في هذه الفقرات الغنائية، فإن لغة هذه المسرحيات أقلُّ مناسبةً للأجزاء الدرامية حقًّا؛ فتماثُل العبارات لا يلائم تمثيلَ مختلِفِ أطوار الحياة، حتى ولو حاوَلَ هذا الشاعر ملاءمتَها. وقد رأينا أنه كان يستخدم الأسلوب الغنائي حتى في تصوير الأشخاص؛ فجميع الأشخاص ذوو عواطفَ سامية، والواقع أن لغته تبدو مناسِبة للتعبير عن الأبهة والعظمة. أمَّا فقرات السرد والحوار ففخمة مثل أناشيد الكوروس، ولكن إذا كانت لغته، في كل مكان، بنفس هذه الصفة الأساسية، فإن الأجزاء الغنائية تغدو ذاتَ جُرأةٍ وعظمةِ إنشاءٍ أكثر من سائر الأجزاء الأخرى. وميول هذا الشاعر متشابهة في كل موضع، ولكنها أكثر اعتدالًا، وأكثر مُطابَقة للشائع العام، وأكثر اهتمامًا بمَطالِب الوضوح. وإذا ما كانت المخيِّلة أكثر تحفُّظًا، صار المنطق وترابُط الأفكار أكثرَ وضوحًا، فعندما يحتاج الشاعر إلى سرد الوقائع، يمكنه تعديل الإنشاء ليلائم حركةَ السرد، بينما اللغة التي تحتفظ بوقارها لا تُدهِش جمهورًا يريد أن يفهم قبل كل شيء آخر. فإذا وجب عليه التعليل، فإن لهجته الحادة البارعة تحذف التشبيهات في المكان الذي يلزم وجودها فيه، وتضع مكانها الدليل. نرى ذلك بوضوح، ولا سيما في الحوارات، حيث يصير كلُّ سطرٍ سؤالًا أو جوابًا، وكلُّ توسُّلٍ أو رفضٍ هجومًا أو تهرُّبًا. في مثل هذه الأحوال نرى لغته موجزةً وجيدة وحادة، ولو أنها شكلية قليلًا. وتُبدِي لغتُه ملاءَمتَها الدرامية في هذه المواضع بنوعٍ خاص، وتدل على القَدْر الواجب تعديلها به لكي تناسب تمامًا الفعلَ الدرامي. وكذلك هنا تبرهن هذه اللغةُ على فضلِ السبق لأيسخولوس. وعلى العموم، لا نزال نعترف بأن أسلوبه غنائي أكثر منه درامي.
(١٣) ماذا ورثَت التراجيديا عن أيسخولوس؟
تلخيصًا لما تقدَّم، نقول إن أيسخولوس تعهَّد التراجيديا بالتربية منذ طفولتها، حتى جعلها نوعًا من الأدب لم يَفُقْه أو يضارعه نوعٌ آخر. لقد أضفى عليها تركيبًا أخيرًا، ولو في خصائصها على الأقل. والأحسن من هذا، أنه ارتقى بها حيث الخيال والعاطفة والأفكار والأسلوب إلى درجةٍ لم يخطر على بال سابقيه أنها تستطيع بلوغها. فصارت بفضله في النصف من القرن الخامس، عملًا أدبيًّا ثابتًا؛ إذ ضمَّت جمالَ المناظر وبساطة الفكرة وقوتها، وقوة العواطف المتعمقة الخاصة بالمصير. وزيادةً على ذلك، فلا توجد هذه الميزات فقط جنبًا إلى جنب في مؤلَّفاته، بل ومتحدة ومركَّزة أيضًا. ونظرًا للتركيز الخاص بالدراما، أحرزت هذه الميزات قوة جديدة عن طريق التعاون المتبادل بين كل ميزة وأخرى؛ فنتج عن هذا شيءٌ جديد تمامًا، امتزجت فيه جميع صور التراكيب المعروفة، وتناولها التحسين. وبهذا صارت التراجيديا عميقة التأثير على جمهور نظَّارته. وإن التراجيدية اليونانية التي هي حقيقة أدبية عظمى من حقائق القرن الخامس، لَتَدين بنشأتها إلى أيسخولوس.
لم يعوز التراجيديا كما تركها أيسخولوس — مدهشة وقوية وبسيطة — شيء آخَر من العظمة أو من القوة. ولكنها، والحق يقال، كانت تفتقر من حيث السيكولوجيا إلى تنوُّع العواطف والأفكار، وإلى مرونة الحركة، وإلى استخدام فن المتناقضات والمفاجآت. أمَّا أنها صارت، من ناحية، حيةً تمثِّل الحياةَ الواقعية، ومن ناحيةٍ أخرى أقوى في العواطف العميقة عن طريق تناول العمل الدرامي بمهارة، فهذا عمل تولاه سوفوكليس ويوريبيديس من بعده.
١٩٨٨