مسرحية السبعة ضد طيبة
مقدمة
وفي مسرحية «السبعة ضد طيبة»، يكون إتيوكليس عالمًا بتلك اللعنة التي نزلت بأسرته، حقَّ العلم، ولا سيما لعنة أوديب التي كانت تطارده في أحلامه. وإذ شغله الاستعداد للقتال والتفكير فيه، نسي مصيرَه الحالك، وأبدى تواضُعًا واعترافًا بالآلهة في سلوكه إزاء تهديداتِ عدوِّه، فأرسل أبطالَه المحاربين الذائعي الصيت، واحدًا واحدًا، ليُواجِهوا هجومَ الملوك عند ستة أبواب من أبواب طيبة السبعة.
وعندما لم يَبْقَ غيره، أخبره الرسول بأن شقيقه بولونيكيس يقود الهجومَ بنفسه على الباب السابع. وينصح كلٌّ من الرسول والكوروس إتيوكليس بأن يتحاشى سفْكَ دماء أخيه بأن يرسل في طلبِ مُحارِبٍ آخَر، أو بأن يغيِّر الخطةَ التي صمَّم عليها من قبلُ. وليس رفضه أن يفعل هذا راجعًا فقط إلى خشيته الظهورَ بالخوف من أخيه، ولا إلى خجله من مواجَهة شقيقه وتنفيذ ما اعتزم عليه، وإنما يرجع أيضًا إلى الإحساس الإغريقي بالمأساة، الذي شعر به، وإلى اعتقاده بأنه لا مفرَّ من القضاء المحتوم. فعندما سمع أن أخاه قد وصل إلى الباب السابع، أدرَكَ من فوره أن اللعنة قد أحكمَت قبضتَها عليه، فقال في نفسه إنه يستطيع أن يتحاشاها بتغيير خطته في هذه الفرصة، بيْدَ أنها سوف تُمسِك به مرةً أخرى في مظهرٍ ربما كان أشد هولًا وأعظم إيلامًا. إذن، فهي نازلةٌ به لا مَحالةَ، ولا سبيلَ إلى الإفلات منها.
أشخاص المسرحية
- إتيوكليس Eteocles: ملك طيبة.
- جندي.
- كوروس من النساء الطيبيات.
- أنتيجوني Antigone، إسميني Ismene: شقيقتا إتيوكليس.
- رسول.
- ستة أبطالٍ طِيبيِّين مسلَّحين، وجنود آخَرون، ومُواطِنون وخَدَم.
- المنظر: ميدان فسيح في مدينة طيبة. بعض التماثيل البدائية للآلهة، قائمة فوق قواعدها. يمتد المنظر في الخلفية فوق سور المدينة إلى الوادي الطِّيبي، حيث يعسكر الجيش المحاصِر. الوقتُ قُبَيْل الفجر.
***
(يدخل عدد من المواطنين وهم يتكلَّمون بحِدة، ثم يسكتون فجأةً عندما يصل إتيوكليس. يتبع إتيوكليس بعض الجنود، وقد ارتدى ثياب ملك، ولكنه غير متوَّج.)
عسى زوس الحافظ، أن يحفظ منه المدينةَ التي أسَّسها كادموس! ولكنكم كذلك، يجب أن تقوموا بدوركم.
الشاب الذي لا يزال تنقصه الرجولة، والرجل العجوز المُسِن،
الذي مضى خيرُ جزءٍ من حياته، ليستخدم كلٌّ منهما قوتَه الحيوية إلى أقصى ما بوسعه، وليُراقِب كلَّ طريق كما يتطلَّب الواجب، احرسوا مدينتَكم خير حراسة، واحرسوا مذابحَ آلهتها، حتى لا يَبيد مَجْدُها اللائق، واحرسوا أولادَكم، وهذه الأرضَ العزيزة، أُمَّكم ومربيتَكم؛ لأنها عندما كنتم أطفالًا تَحْبُون، غذَّتكم بتُرْبتها الحَنُون التي ترحِّب بكل آتٍ جديد، وتحمَّلَتْ عبءَ تربيتكم وتنميتكم، وجعلتكم رجالًا جديرين بتأسيسِ البيوت، وحمْلِ التروس، والنمو في القوة والقيمة، والقدرة على تلبيةِ طلبِ هذا اليوم.
إن كفَّة الحظ راجحة في جانبنا حتى الآن، فشكرًا للآلهة التي أعطتنا خلال مدة الحصار الطويلة هذه،
الميزةَ في الحرب. أمَّا الآن، فإن عرَّافَنا،٦ الذي يحتفظ بطيور العِرَافة، وبغير مساعَدة النار يخبر بمجرد السماع والتأمُّل، بطريقةٍ لا تخطئ، عما تدل عليه الأَفْؤُل. فلما فسَّرَ مثلَ هذه العلامات، قال إن هجومًا ضخمًا بين الآخيين، يُدَبَّر الآن في هذه الليلة لاقتحام مدينتنا.
إذن، فإلى الأسوار! تجمَّعوا عند الأبراج والأبواب، إلى الأمام، في كامل أسلحتكم، سيطروا على قمة الأسوار،
واملئوا كلَّ موضعٍ في كل حصن،
واثبتوا في مدخل الباب
بشجاعة. ولا تخافوا قطُّ حشودَ الأجانب هذه!
فإن الربَّ سيعطي النصر.
(يصيح المواطنون ويهتفون.)
وقد أرسلتُ الكشَّافين ليستطلعوا جيشَ العدو، وأنا واثق من أنهم لن يضيِّعوا وقتًا، وسيقدِّمون تقريرَهم بسرعة، حتى أكون آمِنًا من كل مُباغَتة.(يدخل جندي.)
أخذ الأبطالُ السبعةُ، قوَّاد الجيوش، ثورًا وقطعوا رَقبتَه، وجمعوا الدمَ في تِرسٍ أسود، وغمسوا أصابعَهم في دم الثور، وأقسموا يمينًا باسم «القسوة» المرهوب، وباسم «الفزع» المتعطِّش للدماء، على أنهم إما أن يُبِيدوا مدينةَ الكادميين، ويجعلوا أرضَها يَبابًا، أو يموتوا.
ويختلط دمُهم بتربتنا. وجاءوا بتذكارات خاصة بهم لتُعلَّق على عربة أدراستوس Adrastus،٧ وتُؤخذ إلى والديهم في الوطن، وبكوا بالدموع، ولكن ما من واحدٍ منهم نطقَ بكلمةِ حُزن. كانت قلوبهم من الحديد، مُستَعِرَة بالشجاعة، كالشَّرر المنبعث من عينَي الأسد.
لم أتوانَ في المجيء بهذه الأخبار، رغم سوئها، وتركتهم يسحبون الأزلام، جاعِلين الحظَّ يقرِّر كيف يقود كلٌّ منهم جيشَه لاقتحام أبوابنا.
إذن، فانتقِ في الحال أقدرَ محارِبي المدينة وضَعْهم عند الأبواب المفتوحة؛ فإن كامل قوة أرجوس تزحف علينا الآن بأقصى سرعة، وإن البخار الأبيض لأنفاس خيولهم لَيملأ السَّهْلَ برمته. لذا، كُن رُبانًا حكيمًا للسفينة، وتأكَّد من مَناعة كل شيء قبل أن تنفجر عاصفةُ الحرب على أسوار مدينتنا.
فإن أمواج المحارِبين المسلَّحين تزمجر فوق اليابسة، ولكي تلاقيهم استخدِم
كلَّ وسيلة تبدو أتمَّ استعدادًا. سأراقِب بعينٍ يَقِظة، بالنهار، بما لا يقل عنك، وآتيك بالتقارير الحقيقية من ساحةِ الوغى مباشَرةً؛ فإنك إذا ما حُذِّرتَ من قبل، لم يُصِبْك الأذى.
(يخرج الجندي.)
لا تسلِّموها إلى أعدائها
مدمَّرةً، محطَّمة، وبيتها ومذابحها مهدَّمة وسطَ التراب! لا تسمحوا قطُّ باستعباد حرية هذه المدينة، مدينة كادموس، في السلاسل والأغلال القاسية. هبُّوا إلى مساعَدتنا، فإن قضيتنا المشتركة لَتنطقُ من أجلنا؛ لأن الأرض المزدهرة تمجِّد الآلهة.
انظروا! ها هم قادمون، يتدفَّقون قُدُمًا، يتقدَّمهم الفرسان،
أعرف ذلك من النَّقْع المُثار في الجو،
الذي رغم كونه عديمَ الصوت، فإنه يروي القصةَ الحقيقية في وضوح.
(يُسمَع ضجيج وصَخب من بعيد.)
إن وَقْع حوافر الخيل فوق الأرض قد أربَكَ حواسِّي.وإن الصوت ليقترب، إنه يطير،
إنه يقعقع برعد سيل الجبل غير المقاوَم!
اسمعونا، اسمعونا، اسمعونا، أيها الآلهة والربَّات!
إن الموت ينقضُّ علينا،
هلمُّوا إلى نجدة أسوارنا، واحمونا!
فالجيش ذو التروس البيضاء والأسلحة المشحوذة،
يهجم على مدينتنا.
أيُّ آلهة، أو أية ربَّات، ستنقذنا أو تشدُّ أَزْرَنا؟
لماذا لا أَخِرُّ متوسِّلة في الحال
وأُمسِكُ بالتماثيل المقدَّسة؟
اسمعونا، يا مَن تجلسون على عروش المباركين!
هذا وقت التعلُّق بالتماثيل، لماذا ننتظر مُرتبِكات؟
أتسمعون صليلَ التروس، أو لا تسمعونها؟
فإذا كنتم لم تسمعوها، فلماذا نلجأ إلى الصلاة،
ونتوسَّل بهدايانا من الأثواب والأكاليل؟
إني لَأرهبُ ذلك الصليل، إن ذلك الصوت ناشئٌ عن عشرة آلاف رمح.
أي أريس، ماذا أنت فاعل؟
هل ستَهجر هذه الأرضَ التي هي أرضُك منذ البداية؟
أيها الربُّ ذو الخوذة الذهبية، تطلَّعْ وانظر إلى مدينتنا، التي أطلقْتَ عليها، فيما مضى، اسمَ «مدينتك المحبَّبة»، وإن أنفاس أريس لَتطردهم.
إذن، فيا زوس، أي أبتاه زوس، السيد الملك،
أرجِعْ أعداءَنا على أعقابهم، واسلبهم فريستَهم!
إن الأرجوسيين لَيُحاصِرون قلعةَ كادموس،
وقد رُوِّعنا بآلات الحرب.
إن قِطَعَ اللُّجُم التي بين أسنان الخيول، لَتُنشِد أغنيةً للقتل، هناك سبعة قوَّاد، وهم يُمسِكون رِماحَهم في أيديهم، وتتألَّق أسلحتُهم ويعلو بريقها على كل ما سِواها، يَسْحبون الأزلام ويتخذون مواقفَهم كلٌّ منهم عند الباب الذي يقع من نصيبه.
وأنتِ، أيتها المولودة من زوس،
أي إلاس١٠ القوية، المُمَجَّدة في القتال،
كُوني مخلِّصتنا!
وأنتَ، يا خالِق الخيول، يا ملك البحار،
يا برسايدون، اضرب برمحك الثلاثي الشعاب، رمح صيادي السمك،
اجلبْ علينا خَلاصًا من الفزع.
وأنت يا أريس، يا أريس،
احرس المدينة التي سمَّاها كادموس،
احمنا بحضورك البرَّاق.
وأنتِ أيضًا، أيتها الربَّة الكوبرية، أم عشيرتنا،
ساعِدينا، فرغم أننا مولودون من دَمِكِ،
فإننا بالصلوات التي نقدِّمها للآلهة،
نتقرَّب إليكِ وندعوكِ.
وأنتَ أيضًا يا أبولو، أيها الإله الذئب، تحَوَّلْ ذئبًا واهجم على قطيع رجال العدو، مُعْطيًا أنينًا نظير أنين.
وأنتِ أيضًا، أيتها العذراء، ابنة ليتو١١ أَحضِري قوسَكِ.
(فترة توقُّف، يُصغِي خلالها الجميع بانتباه، ثم يَقطعْنَ الهدوءَ بصرخةِ فَزَع.)
لقد سمعتُ قعقعةَ العربات!إنها تطوف حول المدينة، أيتها الملكة هيرا.
هذا الصوت ناشئ عن خشخشة محاور عجلات العربات الثقيلة الأحمال. أَشفِقي علينا يا أرتيميس!
إن الجو لَيَضطربُ من اهتزاز الرماح.
ماذا سيحدث لمدينتنا؟
ماذا سيتمخَّض عنه هذا الحادث؟
ما هو الغرض الذي يأمر به الرب؟
(يُسمَع صوتُ ارتطامٍ بالخارج، فتصرخ النسوةُ من جديد.)
صه! إن الأحجار لَتنهالُ على قمةِ أسوارنا! أي أبولو المحبوب!وتُصلصِل التروسُ ذوات الإطار البرنزي، عند الأبواب.
وأنتِ أيتها الملكة أثينا،١٢ المبارَكة في المعارك، التي أعطاكِ زوس السُّلطةَ المقدَّسة لتقرِّري مصير الحرب، قِفِي إلى جانبنا، وأَنقِذي وطننا؛ هذه المدينة ذات السبعة الأبواب.
اسمعونا، أيها الآلهة الكامِلو القوة،
اسمعونا، أيها الآلهة الملوك، والربَّات،
يا حافِظي حصون مملكتنا:
لا تخونوا مدينتَنا
من جهاد القتال هكذا
إلى أعداء ذوي عقول أجنبية.
استمعوا إلينا، نحن الفتيات، كونوا عادِلين وأَنصِتوا
إلينا ونحن نبسط أيدينا إليكم بالصلاة.
اسمعونا، يا آلهتنا، وخلِّصونا،
قِفُوا بمُحاذاة مدينتنا، وأَظهِروا لها محبتَكم.
تذكَّروا تقدميات هذا الشعب،
وعندما تتذكَّرونها، خلِّصونا!
فَلْتتركَّزْ أفكارُكم على الطقوس المقدسة لمدينتنا
وضحاياها المخلصة.
(يدخل إتيوكليس.)
هل هذه هي طريقة إنقاذنا؟
هل هذا مما يشجِّع مُقاتِلينا الواقفين على الأسوار؛
أن ترتمين على تماثيلِ آلهتنا الحارسة
وتعوِّلْنَ وتَصرخن، الأمر الذي يمتعض منه كل ذي لُب؟
النساءَ! أرجو أن أُجَنَّبَ مئونة الحياة بينهن،
سواء في وقت الحرب، أو خلال نعمة السلام!
أعطِ النساءَ حريتَهن،
تجدهن جريئات فوق ما يُطاق، ولكن ما إن يشعرن بالخطر حتى يُضاعِفن
كلَّ صعوبة، في المدينة وفي البيت.
انظرْنَ الآن، إنكن بالاندفاع مذعورات هنا وهناك،
تغمرْنَ قلوبَ مواطنينا بالخوف والجبن؛
وبذا ينال العدو كلَّ ميزة يرغب فيها،
بينما نحن في داخل الأسوار، نقطع رقابنا بأنفسنا.
هذا ما يتأتَّى من الحياة وسطَ حشدٍ من النساء.
والآن، كل مَن لا يخضع لسلطتي،
سواء أكان رجلًا أو امرأة، أو أي شيءٍ بين هذا وتلك،
سيُحكَم عليه بحجر الموت.١٣ نعم، سيموت
دون استئناف الحكم، ستَرْجمه أيدي الشعب بالأحجار، حتى يموت.
الحرب من شئون الرجال، ولسنا بحاجةٍ إلى كلام النساء.
ليس لكُنَّ مكانٌ هنا، ادخلْنَ إلى بيوتكن حيث لا تُحدِثن ضررًا.
أسَمِعتُنَّ هذا، أو لم تَسْمعن؟ أو هل أنتُنَّ صُمُّ الآذان؟
إن ما خوَّفني هو صوت قعقعة وخشخشة العَرَبات،
صراخ المحاور والعجلات الدوَّارة،
ونغمة الدفَّة الخَشِنة
التي تُمسِك الخيول من أفوهها،
القِطَع الحديدية المشكَّلة بالنار، التي تضبطها.١٤
عجلةَ الدفة ويهرع إلى مُقدَّم السفينة؟
التماثيل العتيقة، مباشَرةً
عندما سمعتُ صوت ذلك الارتطام القاتل على أبوابنا.
نعم، ساقَني الفزعُ عندئذٍ
إلى الصلاة للآلهة المباركة
لتضع يدًا حامية فوق مدينتنا.
أليس هذا من صالح الآلهة؟ لأنهم يقولون
عندما يستولي العدوُّ على مدينة، ترحل عنها جميع آلهتها.
مجلسَ الآلهة الكامل هذا يهجرنا،
والجنود الأجانب تملأ الطُّرقات في مدينتنا،
يهدمون، ويحرقون، ويحطِّمون.
لماذا يقول المثل السائر يجب البحث عن الأمان؟
إن «الطاعة» هي أم «الأمان»، وهي كذلك زوجة «المخلص».
وغالبًا عندما يكون الناس عاجزين إزاء الكارثة،
عندما تغشى عيونَهم سحبٌ قاتمة.
حتى في أشد الأحزان عنادًا،
فإن عَوْن الآلهة يَدُلُّهم على الطريق.
من أجل الآلهة، هي كل ما يهتم به الرجال، عندما يجرِّبون قوتَهم مع العدو. أمَّا مهمتكن، فهي أن تَمكثْنَ في البيوت.
ليست الآلهة غاضبة؛ لأننا نصلِّي لهم.
على أن يكون هذا في هدوءٍ وعدمِ خوف،
إنكن تَنْشرنَ اليأس بين مواطنينا.
بيت الآلهة المقدَّس.
ها هم قد التفُّوا حولنا.
لا تتشبَّثْنَ بهذه التماثيل، وصَلِّين صلاةً أحسن من الأولى، أن تقاتل الآلهةُ من أجلنا، وأصْغِين أولًا إلى نذوري، ثم ارفعن صرخةَ النصر القوية بقلوبٍ طيبة، صرخة التضحية التي يألفها الإغريق قاطبة، لتُحَمِّسَ رجالنا وتجعلهم غيرَ هيَّابين في الميدان.
وأنا من ناحيتي، أنذر لآلهة مملكتنا الحارسين، الذين يسهرون على حقولنا وعلى شوارع مدينتنا،
وإلى نافورة ديركي Dirce، وإلى نهر إسمينوس، أنه إذا صار النصر لنا، ونجَت هذه المدينة، تجري دماءُ الأغنام فوق مذابح آلهتنا،
وأذبح لها الثيران، وأكرس التذكارات،
من أثواب أعدائنا. استمعوا إلى صلاتي، أيها الآلهة:
«أثواب أعدائنا، ومغانم المعارك المشقوقة بالسيوف،
سأعلِّقها كأكاليل في معابدكم المقدَّسة.»
هذا ما يجب أن تكون عليه صلاتكن، وليس بهذا النحيب المرتفع،
وليس بالنطق بتلك الألفاظ البربرية الحمقاء أمام الآلهة، الذين، بكل تأكيد، لن ينقذوكن مما سوف يأتي. وفي هذه الأثناء، سأختار ستة رجال، ثم أعود، فأضعهم معي، وأكون أنا سابعهم، لحراسة أبوابنا السبعة، لكي نكون متعادِلين مع العدو في العِزَّة والقوة، وإلا فستصل الإشاعات السريعة إلى شعبنا،
وتملؤها بُحمَّى الخوف الباطل.
(يخرج إتيوكليس.)
والقلق المجاوِر لقلبي،
يُشعِل نارَ الخوف من الجموع التي تحاصِرنا،
فأكون أشبهَ بيمامة ترهب،
من أجل سلامةِ صِغارها في عشِّها،
الأفعى الزاحفةَ بقسوةٍ إلى فراش تلك الصغار.
انْظُرْ إلى حيث يتقدَّم نحو أسوارنا
أولئك المحاربون، الذين من كل نوع، إنهم أُمَّة تحمل السلاح!
ماذا سيكون مصيرنا؟
وانظر ثانيةً، ها هم يقذفون وابلًا من الأحجار الحادة الأطراف،
على الرجال المعتدين بالسيف والمقلاع.
أيها الآلهة السماوية المولد،
ضَعُوا كلَّ قوة
لإنقاذ المدينة والعشيرة التي أسَّسها كادموس.
أية مملكة صالحة للسُّكنى ستجدونها خيرًا من هذه،
إذا سلَّمتم إلى أعدائنا أرضَنا العميقة،
وينبوع ديركي، أكثر الأمواه تغذيةً
التي يصبُّها بوسايدون، مطوِّق الأرض،
وأولاد تيثيس، ليشربها رجالنا؟!
ولهذا، أيها الآلهة الحارسون،
أنْزِلوا الفوضى بالجيش الواقف عند أبوابنا،
واقتلوا رجالَه وهم يقذفون بتروسهم،
واربحوا المجدَ لأنفسكم بين شعبنا.
هلموا إلى إنقاذ مدينتنا،
ثبِّتوا عروشَكم بيننا،
استجابةً لنحيبنا المرتفع وصلواتنا.
كم يكون مؤسفًا أن يُحكَم هكذا
على مدينة عريقة بالفناء،
ويُستولى عليها بالسيف، وتُستعبَد،
وتصبح أكوامًا من الرماد المنهار،
وتُترك وحيدةً يجللها العار،
بأيدي الآخيين Achaians ومشيئة الآلهة،
الذين يرمِّلون النساء، صغيرات وكبيرات،
ويجرُّونهن من شعورهن كما تُجَرُّ الخيول،
وقد غَدَت ثيابهن أسمالًا على أجسادهن،
وعند الجلاء عن الخرائب، ترتفع صرخةُ
الأصواتِ المختلطة الصادرة من أولئك الأسرى
الذاهبين إلى حتفهم.
إنه لَمستقبلٌ مفزع، ذلك الذي أرهبُه.
يجب أن تُذْرَف الدموع من أجل الفتيات الرقيقات التربية،
اللواتي قَطفْنَ زهرةَ عذريتهن قبل طقوس الزواج،
ويَسِرْنَ في الطريق المقيت إلى بيوتٍ جديدة.
ماذا سيكون مصيرُهن؟ أقول إن الموتى يتمتعون بحظٍّ أعظم سعادة.
عندما تنهزم مدينة
يلاقي أهلُها كثيرًا من الآلام والمِحَن،
فيقبض رجلٌ على رجلٍ آخَر، أو يقتله،
ويجلبون النار، ويغدو المكان كله فاسدَ الجو بالدُّخَان.
ويسيطر جنودُ أريس على الناس زَرَافات زَرَافات،
ويتنفَّس القنوط فوق المشاعر الموقرة.
يملأ الطُّرقاتِ ضجيجُ الصياح،
ويسقط سورُ الأبراج،
ويواجِه الرجلُ الرجلَ فيسقط أمام الرمح،
مضرَّجًا بالدم، وتصيح أمهات الأطفال الحديثي الولادة
باكياتٍ على أطفالهن المذبوحين على صدورهن،
وتُشتِّت العصاباتُ الجوَّالة أفرادَ الأسرة الواحدة.
ويلتقي الناهِب بالسالِب، وكلاهما مُحَمَّل،
وخالي اليد ينادي خاليَ اليد
ليجرِّب حظَّه معه غير قانِعٍ
بنصيبٍ أقلَّ أو معادِل لنصيبِ زميله،
فيقول كلٌّ منهما: «إنك لا تستطيع أن تسعى لنفسك،
فإذا تخلَّفتَ، فمَن كان ينتظرك؟»
هناك مخزون من الطعام مبعثَر فوق الأرض بغير نظام،
وهذا منظرٌ تَحزن له ربَّةُ البيت،
وهدايا الأرض الجميلة مُلْقاة، بعضها مع بعض بدون اعتناء،
أسفلَ بقايا الأطعمة المتروكة بغير اهتمام.
أمَّا الفتيات الصغيرات، وقد غَدَوْنَ إمَاء، وجديدات على الأحزان،
وصِرْنَ جوائزَ حرب، فيَنتظرهن فراشٌ مُؤسِف،
فراشُ رجلٍ كلُّ حظِّه أنه هزم عدوَّه،
هناك يلتقين ليلًا مع فضِّ بكارتهن،
ويستبدلْنَ بالراحة ألمًا، ودموعًا لا تنقطع.
ليخبرنا بشيءٍ جديد من ميدان القتال،
إنه يجري بسرعةٍ كما لو كانت قدماه عجلتَي عربة.١٧
يصل في الوقت المناسب، ليسمع الأخبار التي يحملها الرسول،
وهو كذلك، يُسرِع خطْوَه في عجلةٍ ظاهرة.
(يدخل الجندي من جانب، وإتيوكليس من الجانب الآخر، يتبعه ستة أبطال وجنودٌ آخَرون.)
يمكنني أن أخبرك بمَن يقف عند كل باب تبعًا للأزلام.
وقف توديوس Tydeus عند الباب البرويتيدي Proetid، مزمجرًا،
ولكنه، رغم هذا لا يستطيع أن يَعْبر نهر إسمينوس؛
إذ حَرَّمَ عليه ذلك
العرَّاف؛ لأن الذبائح لم تكن مقبولة،
وإذ جُنَّ جنودُ تورديوس هذا بتعطُّشه للقتال، غدا كالأفعى
تفحُّ ظُهرًا، فأخذ يَهْذي ويكيل الشتائم
قائلًا إن العرَّاف ابن أويكليس Oecles١٨
ماهر في الروغان والابتعاد
عن طريق الموت، وجبان القلب حتى في القتال.
وبينما هو يصيح مِلْءَ شِدقَيْه، يقذف بثلاثِ ريشات طويلات ظليلات، من قبرة خوذته،
بينما من داخل ترسه، تُرسِل الأجراسُ المصنوعة من البرنز رنينًا مفزعًا،
وقد نقش على صفحة هذه الأداة الوَقِحة، سماء
تتألَّق بالنجوم، وفي وسطها
يُضِيء البدرُ المجيد وضَّاحًا بين النجوم،
فيبدو كأنه عين الليل ذاتها.
وهكذا يفخر بجنون، متبخترًا في حلَّتِه الحربية؛
فأخذ يصيح بجانب شاطئ النهر،
متلهفًا إلى القتال،
كحصانِ عَرَبةٍ متوحِّش،١٩ يعض على قطعة اللجام،
قلقًا من انتظارِ صوتِ البوق،
فمَن ذلك الذي سترسله لمواجَهته؟ مَن هو الجدير بالثقة
ليحافظ على باب بروميثيوس عندما يسقط الحاجز؟
فليس في مقدور الصور أن تُحدِث جِرَاحًا،
كما أنه ليس بوسع دُروعه ولأجراسه أن تؤذي بغير رحمة.
أمَّا ذلك الليل الذي تخبرنا به،
وبريق النجوم السماوية المنبعِث من ترسه،
فهي خزعبلات يمكن التنبؤ بها عن ذلك الرجل.
ماذا يحدث لو سقطت ليلة الموت على عينَيه؟ أعتقد أن رمز الغرور هذا يبرر بعدل معناه لنفس الرجل الذي يحمل ذلك الرمز، وتصير كبرياؤه تنبؤًا ضد نفسه.
لدينا هنا، ابن أستاكوس Astacus الشجاع، لمقاتَلة تونديوس،
إنني أُعَيِّنه بطلًا لذلك الباب، فإن مولدَه
نبيل، ويحترم عرش «الاحتشام»،
ويمقت ألفاظَ الزَّهْو، ولا يسعى إلى أيِّ فعلٍ يجلب العار،
اللهم إلا في أعمال القتال.
لدينا فرع صغير نشأ من أولئك الذين أبقاهم أريس من الرجال المزروعين،٢٠ وهو ميلانيبوس Melanippus، ابن أرضنا بحق.
سيرسل أريس، ربَّة «واجب القرابة»، بحظ الضربة، هذا أكيد وعدل، يرسلها قانونه
لحماية الأرض التي ولدته، من سيف العدو.
(يخرج ميلانيبوس.)
وأن تمنحه الآلهة النصر،
غير أنني أرتعد وَجِلًا عندما أرى
الموتَ الأسود لأولئك الرجال
الذين يموتون وهم يقاتلون من أجل أعِزَّائهم.
أما الباب الإلكتراني Electran، فذهب بالقرعة إلى
كابانيوس Capaneus.٢١
وهو شخص متغطرِس، أشبه بالعملاق، وأسوأ من ذلك
السالف الذِّكر.
يبدو الصَّلَفُ في ثرثرته، أكثر مما تتَّصِف ألفاظه بالناحية الإنسانية،
وإنه لَيرسل
تهديداتٍ غريبةً مُخِيفة ضد أسوارنا،
تهديداتٍ لا بد أن تحبطها الآلهة.
فيقول: سواء أراد الرب أو لم يُرِد، فسينهب هذه المدينة،
وليس بمقدور صاعقة زوس نفسِه،
لو قُذِفت عند قدمَيه، أن تُوقِفه. أمَّا البروق والصواعق، فهو يعتقد أنها لا تزيد على حرارة أشعة الشمس في وقت الظهيرة.
ويتخذ مستشارًا له، حامل نار غير مسلَّح،
كل سلاحه مشعل متأجِّج النار يقبض عليه بكلتا يدَيه،
ألفاظُه بالحروف الذهبية، هي: «سأحرق هذه المدينة.»
إذن، فأرسِل لمنازَلته بطلًا. مَن سيذهب إليه؟
مَن ذلك الذي يقف أمامه غير هائب لجميع زَهْوه؟
فعندما تنتفخ كبرياء الناس بالحماقة، يغدو لسانهم أداةَ اتهامهم.
ليست تهديدات كابانيوس مجرد ألفاظ، وإنما هو على استعداد لأن يعمل متحديًا الآلهة. فعندما يفخر بجنون، مِلْءَ رئتَيه،
فإنه يرسل تحدِّيه القاتل إلى السماء، فتتضخَّم
ألفاظُه كما ترعد الأمواج في أُذن زوس.
وإنني لعلى يقينٍ من أن حامل ناره سيُوافِيه
بما يستحق؛ الصاعقة، غير المشابهة لحرارة أشعة الشمس في وقت الظهيرة. لقد عيَّنتُ لمواجَهته رجلًا
حاقِد الألفاظ، ملتهِب الشجاعة؛ إنه بولوفونتيس Polyphontes، الذي ستكون قوته دِرعًا أكيدة، تَقِينا بنعمة أرتيميس،٢٢ بطلتنا، وبنعمة الآلهة الآخرين.
(يخرج بولوفونتيس.)
والآن، اذكر اسمَ بطلٍ آخَر، والباب الذي عُهِد إليه به.لتَكُن الصاعقة هي السلاح المُوقِف له،
قبل أن يقتحم بيتي.
وَلْيَكُن أول تقهقُرٍ لرمحه الوَقِح
خرابًا على نفسه!
الباب الذي سيهاجمه.
قفز الزلم الثالث من الخوذة البرنزية المقلوبة، فأرسل إتيوكلوس
Eteoclus منقضًّا بجنوده على الباب النياستاني Neistan،
وقد تلهَّفَت أفراسُه القَلِقة، إلى اقتحام المدخل، فأخذت تدفع جباهَها وهو يُدِيرها، تارةً إلى هذه الجهة، وطورًا إلى الجهة الأخرى.
أمَّا خياشيمها الأنبوبية فمليئةٌ بالأنفاس الحيوانية المزهوة،
وترسل موسيقى وحشية. وفوق ترسه شارةٌ
غير متواضعة، وإنما هي: رجل في حلَّةٍ حربية يتسلَّق سورَ العدو بواسطة سُلَّم، لكي ينهب المدينة،
كذلك يصيح هذا الرجل، وكلامه مكتوب هناك:
«لن يصدَّني أريس نفسُه عن أسوارهم!»
أَرسِل ضدَّه رجلًا نثق في قدرته
على دَرْءِ أغلال الرِّقِّ عن مملكتنا.
أن تزحزحه مرتجفًا عن ذلك الباب. فإمَّا بالموت سيدفع دَيْنه الطبيعي لأرض وطنه، أو يهزم رجلَين وقلعة فوق ترسه،
سيحمل مغانمه إلى وطنه ليُشَرِّف بيتَ أبيه.
هيَّا، واذكر لنا ثرثرةَ البطل التالي، ولا تترك شيئًا.
إننا نصلِّي طالباتٍ النجاحَ لقضيتنا،
والموتَ لأعدائنا.
فكما أنهم في زَهْوهم الجنوني
يهدِّدون مدينتنا في صَلَف،
فَلْينظر زوس المنتقِم إليهم بغضب.
ترسَه الضخم المستدير، الشبيه بالجرن، ولاحَظْتُه وهو يطوح به،
ارتعدتُ؛ إذ لم يكن هذا من العمَّال الخامِلين، الذين ينقشون
مثل تلك الصنعة على تروسهم، بل نقش شارته رسم توفون Typhon، وفمه يتنفس النار فيخرج الدخان الأسود متألقًا، حتى ليكاد يكون لهبًا،٢٥ وعليه لفات أجسام الأفاعي
تجري حول الحافة لتضم الغِلاف الخارجي،
وتثبته في هيكل الدائرة المُنْبَعِج التجويف.
فصاح صيحة الحرب، إذ تقمَّصه أريس، وغدا كأتباع باخوص Bacchus،٢٦ نشوان بشهوة الحرب، تقدح عيناه بالفزع.
فكِّرْ مليًّا فيمَن يحاول منازَلة مثل هذا الرجل،
وقد زها عند أبوابنا بالهزيمة المصحوبة بالذعر والفزع.٢٧
وهي تسعى إلى جحرها وصغارها. وثانيًا هوبربيوس Hyperbius المقدام ابن أرينوبس Oenops؛ وهذا رجلٌ كُفْء لمواجَهة ذلك الرجل.
إنه راغب، منذ لحظة اختياره، في الوقوف على مدى
دوره إزاء ما يتطلَّبه الموقف،
أمَّا جسمه وروحه وأسلحته، فكلُّها مؤهَّلة لمثل هذه المنازَلة. وقد فعل هيرميس حسنًا في الاختيار بين هذين؛
فهذا الرجل عدو لمَن سيواجهه،
وترى منقوشًا على ترسَيْهما صور الآلهة التي
سيضعان كُلًّا منها في مواجَهة الآخَر،
وهي كذلك متعادية، فعلى ترس أحدهما توفون يتنفَّس اللهب،
بينما يجلس الأب زوس لا يتحرَّك فوق ترس هوبربيوس، وقد التهبت صاعقة النار في يده. وأعتقد أنه ما من رجلٍ رأى زوس مهزومًا. هذه هي الآلهة المناصِرة لهما؛ وهكذا نكون نحن مع الجانب الظاهر، وهم مع الخاسر؛ إذ إن قوة توفون في المعارك تقل كثيرًا عن قوة زوس. وإذا كنا نأمل، مع الاختيار الموفَّق بين هذين الرجلَين، أن النصر
سيتجاوب مع رمزَيهما، إذن فسيعرف هوبربيوس
يدَ زوس المنقِذة؛ زوس الذي يحمل هوبربيوس ترسَه.
وهذه صورة يمقتها كلٌّ من: القوى غير المنظورة،
والجنس البشري، والآلهة الخالدين —
سيضرب رأسه التراب أمام أبوابنا.
الواقف عند الباب البورَّاياني Borraean، بجانب قبر أمفيون Amphion٢٨ بن زوس. إنه يُقسِم بالرمح الذي في يده،
الذي يُقَدِّره حسب اعتقاده أكثرَ من الإله أو من عينَيه، إنه سيدمِّر مدينة كادموس، حتى بالرغم من زوس. هذه هي طريقة كلامه، ذلك الجَرْو المتورِّد الخدَّين، ابن المرأة المتوحشة الجوَّابة للتلال،
إنه رجلٌ نصفُ غلام. ولماذا؟ فإنه الآن فقط، يُرسِل فوق خدَّيه خصلاتٍ غضَّةً من الشعر الأجعد، ومع ذلك فإنه تقدمه ليدل على كبرياء ليست أنثوية كاسمه،٢٩
ولكنه، مع ذلك متوحِّش ذو عينَين مخيفتَين. إنه يقف عند بابنا،
ليس بغير ثرثرة، وترسُه ذو الإطار البرنزي، مستدير الشكل، يحمي كلَّ جسمه، ويرسل الإهانةَ إلى مدينتنا. والصورة المتألقة المنقوشة صورة سفنكس Sphinx،٣٠ آكلة لحوم البشر، مثبتة بمهارة على الترس،
بحيث تتحرَّك حول محور، وتحمل أسفلها رجلًا من شعبنا الكادمي؛ وهذا مما يُؤخَذ على هذا المحارب، ويُلقي عليه كامل ثقل أسلحتنا. وأظنه لم يأتِ ليقاتل بالتجزئة في هذه الحرب، وإنما ليحقِّق رحلته الطويلة. وهو من أركاديا، بارثينوبايوس. هذا رجلك، وهو غريب، وَجَدَ في أرجوس
المأوى والتنشئة النبيلة، والآن لكي يسدِّد دَيْنه يقذف على هذه الأسوار بتهديدات، أرجو أن تحبطها السماء.
عنفَ غضبهم، على يد السماء!
وأن تكون نهايتهم مثلَهم، مدمرة وشريرة.
أمَّا لمواجَهة هذا أيضًا، ذلك الأركادي الذي تَصِفه، فلدينا رجل غير مزهو، وإنما تتطلَّع يده إلى العمل؛ إنه أكتور Actor،٣١ شقيق البطل الذي اخترناه قبلَه. لن يَدَع أكتور هذا الفيضَ من الأقوال غير المدعمة بالأعمال، يتدفَّق
ليروي الأعشاب الضارة، ولن يَدَع عدوًّا على ترسه صورة ذلك الوحش المقيت، يمر داخل أبوابنا. ستلوم السفنكس حامِلَها، عندما تجد نفسَها تحت أسوارنا محطَّمة ومطروقة، بحيث يصير خارجها في داخلها.٣٢ لعل كل لفظ من كلامي يتحقَّق بعطف السماء.
عندما سمعتُ عبارات الزَّهْو
التي تفوَّه بها هؤلاء الرجالُ المتشدِّقون الزنادقة. عسى الآلهة، إذا كانت آلهة، أن تحطِّم مثل أولئك الرجال في القتال.
إنه عرَّاف يقاتل بشجاعة. إنه أمفياراوس٣٣ القوي.
يقف عند الباب الهومولوياني Homoloean، يكيل الشتائم لتوديوس العظيم، فيصيح قائلًا: «إنه قاتِل ومحفِّز على الشغب العام،
علَّمَ أرجوس طُرقَ الشر، أكثر من جميع مَن عداه؛
إنه أعظم كاهن في سفك الدماء، ومُوقِظ لأرواح الانتقام،
ومستشار أدراستوس في هذه الحرب الشعواء.»
بعد ذلك يرفع بصره إلى السماء، وينادي عاليًا على مَن جعله مَوْلدُه شقيقَك، فينادي بولونيكيس، أي «الباحث عن النزاع»، مقيمًا مرتَين على ذلك الاسم المشئوم،٣٤ ويتكلَّم هكذا: «لا شك في أن مثل هذا العمل يسرُّ الآلهة، وهو ممجَّد في كلٍّ من سماعه وتركه ميراثًا للصغار؛ أن تجلب جيشًا أجنبيًّا ليهاجم ويدمِّر
مدينةَ آبائك، ويضع في التراب آلهةَ مملكتك!
هل من الصواب أن تردم الينبوعَ الذي غذَّى حياتك؟
عندما تجعل أرضَك أسيرةَ سيفِك
لأنك غَيُور، فكيف يعمل ذلك على نجاح قضيتك؟
أمَّا عني، فإن أرض هذه المملكة هي التي سأغنيها،
سيقوم قبري ووحيي على أرضٍ أجنبية.
إذن، هيَّا بنا نقاتل؛ لأنني أرى الموتَ وليس العار.»
هكذا تكلَّم العرَّاف، وأمسك ترسَه بغير حَرَاك؛ ذلك الترس البرنزي الذي لم يُنقَش على سرته أية علامة؛
لأنه لا يهتم بأن يبدو أشجعَ شخص، بل ليحصد هكذا أخاديد عقله الخصبة، التي تنشأ عنها النصائح السليمة. وأشير بأن ترسل نِدَّه محارِبًا يكون حكيمًا وشجاعًا؛
فالرجل الذي يحترم الآلهة، هو مَن يُخشى جانبُه.
التَّقيُّ بغير التقيِّ، والطيب بالشرير. لا شيء أسوأ في أي مشروعٍ من صحبة السوء.
وليس محصولها نعمة؛ لأنه عندما تحرث الحماقة، فلن يكون محصولُها غيرَ الموت. قد ينضمُّ الربَّان الطيِّب إلى سفينة،
حيث ينوي بحَّارتُها المجرِمون الشرَّ،
فينال نفسَ مصير أولئك الرجال الذين يمقت الربُّ نوعَهم،
أو في المدينة، يقع رجلٌ طيب وسطَ الأشرار الذين يظلمون الأغراب، ويَنْسَون الآلهة؛ إنه كذلك رغم براءته، يقع في نفس الشَّرَك المُعَدِّ لهم، ويُرَوَّض ويُخْضَع بسَوْط السماء غير المحابي.
هكذا الحال مع أمفياراوس؛ ذلك الرجل المحتشم الشجاع،
المستقيم والوَرِع، والعرَّاف القويُّ، المتحالِف
ضد رأيه مع المجدفين المتغطرسين،
في رحلةٍ بعيدةٍ سيثبت أنها أطول من أن يعود منها أي إنسان،
فإنه إذا شاء زوس، سيُجَرُّ معهم إلى أسفل الأرض.
الحقيقة أنني أعتقد أنه لن يستطيع أن يهاجم الأبواب، ليس بسبب اليأس أو الجبن، وإنما لأنه يعرف تمامًا أيَّ مصيرٍ ينتظر قتاله، إذا كان لكلمة أبولو أن تثر، ولطريق الرب أن يلتزم السكون، وإلا فقُلِ الصدق. ورغم هذا سنعادله برجل، هو لاسثينيس Lasthenes القويُّ، ذلك البواب العديم الكرم،
المتَّصِف بحكمةِ الشيوخ وعضلاتِ الشباب، وعينٍ يَقِظة كقدمه الخفيفة الحركة، وذراعِ رمحٍ سريعةِ الانقضاض على الموضع العاري بجانب ترس العدو.
ومع ذلك، فالنصر بين البشر هدية السماء.
وامنحونا ما نطلبه بعدل:
امنحوا مدينتنا النصر،
وحوِّلوا خطرَ السيف
إلى أولئك الذين يغزون أرضنا،
وهم لا يزالون خارج تحصيناتنا،
عسى زوس أن يضربهم
بصاعقة ويقتلهم!
وهو واقف على الأسوار، بصفته القاهر،
ويُنشِد على أرضنا صيحاتِ النصر الوحشية،
أن يتمكَّن من قِتالك، وبعد أن يُجندِلَك، يموت إلى جانبك،
أو إذا عشتَ (يصيح هكذا) وهو الأمرُ الذي يجلب العارَ عليه،
أن ينتقم منك انتقامًا مماثلًا بالمنفى
فينفيك، كما نُفِي هو. هكذا يصيح،
مناديًا الآلهةَ الخاصة بالأقارب والوطن؛
لكي تَشْهد عليه وتبجِّل صلاتَه هذه،
الزاخرة بالنزاع والعنف المناسبَين لاسمه!
والترس الذي صنعه جديدًا، كامل الاستدارة،
نُقِشت عليه شارةٌ مزدوجة، مُصمَّمة ببراعة:
محارِب كامل التسلُّح، من الذهب المطروق،
وتقوده سيدةٌ تمشي أمامَه في تواضُع.
يقول إن اسمها «العدالة» كما يُستدلُّ من الكتابة؛
«سأُرجِع هذا الرجلَ من المنفى،
سيمتلك مدينة، وفي بيت أبيه
يروح ويجيء كما يشاء.»
هذه هي الأدوات التي يحملونها معهم. ولك الآن أن تقرِّر مَن سترسل. وسأحمل الرسالةَ، فهذا هو واجبي، ولكنك ربَّان مدينتنا وعليك اختيار الرجل.
أَيَا بيتَ الدموع غير المنتهية، بيتَنا، بيتَ أوديب!
إنها لعنته تلك التي تُثمِر فينا نحن أبناءه.
ومع ذلك، فليس هناك متَّسَع من الوقت للدموع أو للأنين، خوفًا
من أن يأتي هذا الألم بميزةٍ أكثر سحقًا لنا؛
فسرعان ما سنعرف، عن بولونيكيس، الذي هو اسمٌ على مُسَمًّى،
عن الحقيقة الكامنة في حلته الحربية،
وعما إذا كان سيستطيع أن ينتصر
ويحضر من المنفى بحروفٍ من الذهب المشغول
تتألَّق فوق ترسه، متصلة بالجنون.
إذا كانت ابنةُ زوس العذراء، العدالة، سبَقَ أن
ابتسمت لأعماله وأفكاره، فقد ينال العودة.
ولكن ليس عندما أفلَتَ من ظُلْمة الرَّحِم،
ولا وهو طفل، ولا عندما بلغ طورَ الرجولة لأول مرة، ولا عندما صار شعر لحيته كثًّا، سواء بالكلام أو بالمظهر،
يُمكِن أن تعلن عنه «العدالة» الآن، وهذا مؤكَّد، على الأقل
أكثر من جميع ما عداه،
عندما تقاسي مدينتُه العنفَ على يده،
أن تقف العدالة إلى جانبه، فهل ستنضمُّ هي إلى شخصٍ متلهف إلى العنف بهذه الكيفية، فإن العدالة إن فعلتْ سُمِّيتْ كاذبة.
سأذهب بهذه الثقة لمواجَهته، أنا نفسي.
ومَن له حقٌّ أقوى مني؟ رئيسٌ ضد رئيس،
سأكون ندًّا له، أخًا في مواجَهة أخ، وعدُوًّا أمام عدو.
(إلى أحد الخدم) اجْرِ وأحضِرْ لي دروع٣٥ الركبة والساق،
لتحميني من الرماح والحجارة.
لماذا تقارن خُلقَك المحمود بتجديفات أخيك؟
يكفي أن يحارِبَ الكادميون يدًا بيد
مع رجال أرجوس، فالدمُ المسفوك هكذا يُمكِن ترضيتُه
ولكنَّ دمَكما واحد، فمثل قتل الأخ هذا، لن يستطيع
الزمنُ أن يُطهِّر من التلوث به.
وإذا لم يكن هناك مَفرٌّ من تحمُّلِ ذلك المصير،
فَلْنتحمَّلْه خاليًا من العار،
فماذا غير هذا يُمكِن تمجيدُه بين الموتى؟!
غير أن المصير المقرون بعدم الشرف، يهدم آخِر
آمالِك ويمنعه من الكلام.
لا تجعل العاطفة المتأجِّجة
والتلهُّف إلى القتال يَذهبان بك بعيدًا.
هذه الضرورة التي تشعر بها، شرٌّ من الشرور،
اتركه قبل أن يستفحل أمرُه.
المنتقلَ بسرعةٍ إلى الرأس هكذا،
إذن، فَلْنَدَع ريحَ المصير، ومدَّ الجحيم، وكراهيةَ فويبوس،٣٦
تذهب بعشيرة لايوس إلى الدمار، إلى آخِر رجلٍ فيهم.
إلى وَصْمةِ دمٍ دينية، ستكون ثمرتُها مُرَّة؛
لأن اللحم الذي تمزِّقه، لحمُ رجل،
وليس الدمُ شرعيًّا.
وتطاردني بعينَين جافتَين عديمتَي الرحمة،
مؤكِّدةً لي أنه من الخير التعجيلُ بالموت وليس إرجاؤه.
حتى لا يمكن أن تُوصَف بعد ذلك بالجبن، أَلَا ينزاح طيفُ ذلك البيت، ذو العباءة السوداء، عندما تتقبَّل الآلهة التقدمات من يدك؟
والتقدمة التي تريدها منا هي أن نموت.
إذن، فلماذا نهرب من نهايتنا المحدَّدةِ لنا؟
وتحبوك بمصيرٍ أكثر اعتدالًا،
رغم ثَوَرانها الآن، كما كانت من قبل.
ذلك الشبح الذي يأتي كلَّ ليلة لتوزيع ميراثنا.
(يخرج إتيوكليس.)
واهًا، واهًا لذلك الإله المخالِف لغيره من الآلهة،
المعصوم من التنبؤ بالشر،
أما وقد أثارَت لعنةُ الأب الإيرينوس Erinyes،٣٨
فإني أراها الآن تنفِّذ صلاةَ الغضب،
التي نطق بها أوديب في أثناء محنته،
إنها هذه الكراهية التي نراها
تَسُوق ابنَي أوديب إلى أن يُهلِك كلٌّ منهما الآخر.
ويُقَسِّم الغريب ميراثَهما،
فإن خالوبوس Chalybus القادم من سكوثيا البعيدة ليكون موزِّعًا فظًّا لممتلكاتهما، هو الصُّلْب القاسي القلب، ذلك الصلب الذي شَكَّل القالب، وعيَّنَ لهما الأرض بقدر ما يستطيع الموتى أن يمتلكوا،
غير أنه لا نصيب لهم في هذه السهول الممتدة.
عندما يموت الناس بأيدي أقاربهم،
عندما يقتل الأخُ أخاه،
ويشرب ترابُ الأرض
الدمَ القرمزي الذي يَسْوَدُّ ويجف،
فمَن ذا الذي يستطيع وقتئذٍ أن يقوم بالتطهير؟
مَن ذا الذي يُمكِنه أن يغسلَ ذلك الدم؟
واهًا لك، أيها البيت ذو الآلام المذنبة،
قديمها وحديثها، مختلطة معًا!
إنني أُشير إلى خطيئة اقتُرِفت منذ زمنٍ بعيد،
فجلبَت العقابَ السريع وقتذاك،
ولكنها رغم هذا لا تزال قائمةً حتى الجيل الثالث،
عندما عصى لايوس أبولو،
الذي حذَّره ثلاثَ مرات بالوحي الكثير،
من مِحرابه البوثيِّ القائم في سرة الدنيا،
أنه إذا أنقذ مدينتَه،
فسيموت بغير ذُرية.
فلما سيطَرَ عليه نزَقُ الحب
أنجَبَ لنفسه، ولهلاكه،
أوديب قاتل الأب،
الذي بَذَرَ الحبوبَ في الحقل المُحرَّم،
رَحِم أمِّه الذي نما فيه،
فقاسى المحصولَ الدموي لفِعْلته؛
إذ جاء بهما روحُ الجنون معًا،
وسُلِب كلٌّ منهما إدراكه.
فأقبلَت المتاعبُ تَتْرى كالبحر يرسل أمواجَه إلى الأمام متلاحِقة،
فتتكسَّر لجة، وترفع التالية لها، فتتكوَّم ثلاث لجات معًا،
وتَثُور أمواجُه حول هيكل مدينتنا،
ولا يزيد سُمْك حاجزنا، الفاصل بين الحياة والموت عن سُمْك حائط،
لذا أخشى على طيبة وعلى أسرة ملوكها،
لئلا تُطحَن معًا جميعًا.
عندما تَصدر لعنةٌ من وحيٍ قديم
وتقع تمامًا، فإنها تستقر ثقيلةَ الوَطْء؛
لأن قُوَى الدمار نشيطة، ولن تمرَّ دون أثر.
وعندما يزدهر الناس، الذين يعيشون بالخبز،
ويصيرون عظماء،
عندئذٍ لكي يخفِّفوا حمْلَ السفينة،
يدفعون الغرامةَ من أعماقِ مخزنها.
أيُّ رجل نال تكريمًا
من الآلهة أو من مُواطِنيه في الميدان الزاخر،
كما كَرَّموا أوديب
يوم خلَّصَ مملكتنا
من ذلك الشيطان الذي كان يأكل لحومَ البشر؟
ولكن ذلك الرجل التعيس، عندما أدرك زواجَه المشئوم،
تعذَّبَ وثار، في جنونِ قلبه،
وباليد التي قتلَت أباه، ضاعَفَ آلامَه فأتلَفَ عينَيه
اللتين لم تُطِيقا النظرَ إلى أولاده.
وعندما ضنَّ عليه ولداه بمكانه في وطنه،
صبَّ عليهما في ساعةِ هياجه، وبلسانٍ مرير،
وا أسفاه! صبَّ عليهما اللعنات؛
أنهما يقتسمان ميراثَهما في الوقت المناسب
بالعنف وبالسيف المقسِّم.
إنني لَأرتجف خوفًا من أن تكون،
الإيرينوس السريعة الأقدام تُنَفِّذ لعنتَه في هذه اللحظة.
(يدخل رسول.)
إن مدينتنا طِيبة بمأمن من الرِّق! لقد تَمخَّض زهو أولئك الرجال المتغطرسين،
عن لا شيء. لقد وصلَت طِيبة إلى الهدوء بعد العاصفة.
لم يحدث تسرُّب في الموجات الهادمة، وأسوارُنا سليمة؛
إذ صدَّ رجالنا الموثوق بهم الأعداء. فوقفوا كالمتاريس أمام الأبواب، وكل شيءٍ على ما يرام — في معظم الجهات — عند الستة الأبواب، أما الباب السابع فإن الرب أبولو، قائد السبعة٣٩
المرهوب، قد وقف بنفسه، ونقل خطيئةَ لايوس القديمة إلى حيِّز التنفيذ الملائم، على عشيرة أوديب.
ذلك المصير الذي يُبِيد عشيرتَهما المنكودة الطالع.
إذن، تمدُّنا هذه الحادثة، بمادةٍ لكلٍّ من الفرح والدموع؛
تزدهر مدينتنا، ولكنَّ زعيمَيها وقائدَيها
قد اقتسما هكذا بالصلب السكوثي المطروق، مبلغَ ميراثهما.
والأرض التي يمتلكانها هي ما يحصل عليه كلٌّ منهما لقبره
أينما ذهبا.
تحملهما الريحُ المشئومة؛ ريحُ لعنةِ والدهما الحزين. وهكذا أُنقِذت طِيبة، إلا أن ملِكَيها الشقيقَين سقطا، وتشرَّبت الأرض دماءهما التي سفكتها أيديهما.
(يخرج الرسول.)
والمنقذون الحقيقيون لأسوار كادموس هذه!
هل لي أن أبتهج وأصيح فَرَحًا
بأن طِيبة قد أفلتَت دون أذى؟
أو هل أبكي من أجل قائدَينا في الحرب —
مأسوفًا عليهما، ومشئومين، وبغير ولد —
اللذين كاسمَيهما،٤٠ والمفعمَين بالحقد والعداوة،
قد هلكا بواسطة هدفهما الآثِم؟
إن بردًا مخيفًا ينزل على قلبي،
والأغنية التي أنشدتها في نظرتي المرتبكة،
عندما سمعتُ عن أناس ينزفون الدم، ويموتون ميتةً تعيسة،
أكانت أنشودة الدفن — بغير شكٍّ طالع نحس — أن ننشد مثل هذه الأنشودةِ في وقت القتال؟
أصابَت هدفَها بغير تأجيل،
والسبب في كل هذا هو عصيان لايوس.
وما من قلقٍ على المدينة
يستطيع درْءَ ما تنبَّأ به العرَّافون.
أيهذا الذي ينبغي لنا أن نَبْكيه،
هل فعلتَ ذلك الشيء العسير التصديق؟
أهذه هي الحقيقة الواقعة، وليست شائعة؟
(يُرَى موكب قادم ومعه جثتا إتيوكليس وبولونيكيس.)
انظروا! هذا المنظر يتكلَّم بوضوح، ولسنا بحاجةٍ إلى رسول.بوسعنا أن نرى النهايتَين القاتلتَين المتبادلتَين
لشخصين انضمَّا إلى مصيرٍ واحد يكسر قلوبنا.
ماذا هناك غير الحزن، وها هو ابن الحزن،
يعود أخيرًا إلى بيته الشرعي؟
هيَّا يا صديقاتي، أحضِرْنَ تأوَّهاتكن لريحٍ مواتية، لضربةٍ باليد على الرأس من أجل ارتطام المجذاف بالماء، وهذا هو الطقس المألوف ليرسل السفينةَ المقدسة٤١ ذات الأشرعة السوداء، إلى أخيرون، ولا يرسل أكاليل من الأزهار،
عسى أبولو ألَّا يَطأ الأرض،
التي ترحب بالجميع على حدٍّ سواء،
حيث لا تضيء شمسٌ الظلامَ.
(تُوضع الجثتان على الأرض. تدخل أنتيجوني وإيسميني.)
انظروا! ها هما أنتيجوني وإيسميني٤٢ هنا،أمامهما واجبٌ مرير؛ أن تحزنا على شقيقَيهما.
أعرفُ أن أحزان صدرَيهما الجميلَين،
ستخرج بكل إخلاص،
كاملةً ومعها النحيب الملائم.
ولكن قبل أن تنطقا به، يقضي علينا واجبنا بأن نبكي بصوتٍ مرتفع، بترتيلةِ شيطان المصير، وننشد ترنيمةَ انتصارِ الموت البغيضة.
آهٍ يا هاتان الأكثر تعاسةً من شقيقَيكما
مِن بين كلِّ مَن يربطْنَ أثوابَهن على صدورهن!٤٣
إنني أبكي وأنتحب، ليس بالتظاهر
وإنما بإخلاص، ومن القلب يخرج بكائي الحاد.
يا مَن لم تستطع عزيزتاكما أن تحثَّكما،
واللذين لم تُتعِبكما الشرور!
وبكل شجاعتكما المؤسفة،
ظهر أن ما خرَّبتماه هو بيتُ أبيكما.
حظِيا لنفسَيهما بموتٍ مُؤسِف.
أسوار نفس وطنك! وأنت يا مَن (إلى إتيوكليس) حصلتَ على تاج ملك
لضرر نفسك.
(إلى كليهما) والآن قد سَوَّيتما نزاعَكما بالسيف.
مُقدَّرًا لهما الموت المتبادَل!
نزلت عليهما لعنةُ أبيهما.
وتنتظر جميعُ طِيبة، غير المطالب بها، وَرَثةً جُددًا؛
طِيبة التي ماتا من أجلها!
من جانب أولئك الذين يُحبُّونهما.
وسرعان ما ستُقَسِّم لهما النصالُ الحديدية أرضَ أبيهما.
وقد يتساءل المرء: أية أرض — وكيف قُسِّمت؟
— ستكون نصيب كل منهما لقبره؟
يمزِّق النحيب العالي قلوبَنا،
فإن بكاءنا تلقائي، وأحزاننا خاصةٌ بنا.
لا فرْحَ في آلام أفكارنا،
وتنهمر دموعنا من قلوب تذوي
عند البكاء على هذين الأميرَين.
بوليمةِ موتٍ فخمة مدمِّرة.
اليدان اللتان نمتا من نفس البذرة
حطَّمت حياةَ كلٍّ منهما.
اقتسما حياتهما بحَدِّ العداوة،
وبلغ نزاعهما غايتَه بالغيرة الجنونية.
وهما الآن بحق من دَمٍ واحد.
كان حاسمًا وجافًّا في المنازَعات،
ذلك الغريب القادم من البحر، الذي يقفز من داخل النار، الحديد المشحوذ من حدٍّ واحد،
ومُقسِّمًا فظًّا وقاسيًا للممتلكات.
أهو أريس الذي يحقِّق لعنة الأب؟
مقياس الإنسان — الذي يمنحه الرب،
ولكن سيكون تحت جسمَيهما كميةٌ من الثَّرى عديمةُ القرار.
وفي آخِر النهار يكون النصر لِلَّعنات، التي تصرخ بانتصارها الحاد على الخراب الشامل لذلك البيت المدحور.
هناك تذكار الدمار عند الباب الذي اقتتلا أمامه،
فجندلهما كليهما، مصيرُهما
قبل أن يكُفَّ كلٌّ منهما يدَه.
(تنتقل أنتيجوني وإسميني الآن إلى وسط منصة المسرح لتبكيا على الجثتَين.)
أيها الظل العظيم لأوديب،
أيتها الإيرينوس القاتمة، ما أشدَّ قُوَّتكِ!
أيها الظل العظيم لأوديب،
أيتها الإيرينوس القاتمة، ما أشدَّ قُوَّتكِ!
فإذا رقدا بجانب أبيهما أتعباه.
(يدخل رسول.)
في تربة وطنه؛ لأنه من أجل قضيته اختار أن يتحدَّى الأعداء، مضحِّيًا في ذلك بحياته، وبذا يكون بريئًا أمام معابد آلهة أبيه، فمات في موضع الشرف الذي يليق بالشُّبَّان أن يموتوا فيه. هذه هي رسالتي بخصوصه. أمَّا بخصوص أخيه بولونيكيس الراقد هنا، فإن جسمه سيُلقى بغير دفن لتمزِّقَه الكلاب؛ ذلك الذي كان سيدمِّر هذه المدينة الكادمية، لو لم يقف أحدُ الآلهة في طريقه برمح أخيه؛ ولذلك فسيقاسي الآلام، حتى في موته من أجل التلوث الذي أحدثَته جريمتُه ضد آلهة والده،
الذين أهانهم — هذا الرجل — هاجمًا بقوةٍ أجنبية على مدينتنا ليدمِّرها. فجزاؤه
الخِزْي، ويكون قبرُه الوحيدُ بطونَ الطيور الشريدة، ولن تكوِّم فرقةٌ من العبيد الترابَ فوق جثته،
ولن تُنشَد أية تراتيل جنائزية تكريمًا له، ولن يُقِيم أقرب أقربائه أية طقوس جنائزية.
هذا مصيره الذي قرَّرته له السلطة.
إذا لم ينضمَّ إليَّ أي فردٍ آخَر في دفنه، فسأدفنه أنا، وأتحمَّل أية أخطار قد تنتج عن دفن شقيقي. كما أنني لا أخجل من أن أعصي الدولةَ هكذا وأتحدَّاها.
هناك نداء آخَر، من اللحم الواحد، الذي صنعنا كلينا — لحم الأم الحزينة، ولحم الأب المنحوس الطالع — لن يُهمَل. وعلى ذلك فإن قلبي يقف بسرور الأخت المُخلِصة إلى جانبه في مِحْنته، يقف الأحياء بجانب الموتى.
لن يمزِّق ذئبٌ خاوي البطن لحمَ أخي،
ولن أَدَع إنسانًا يقرِّر ذلك! ورغم أنني امرأة، فسأدبِّر له قبرًا، وأحفر الأرض وأحمله في القماش الرفيع لهذا الثوب الثمين، وأدفنه بيدي، وما من قرارٍ سيُوقِفني. لن أخاف، وإنما سأجد السبيل.
كفى خطابات طويلة. سأدفنه.
(يخرج الرسول.)
أيتها الإيرينوس الفخورة الظافرة، يا أرواح الشر،
محطِّمات الأُسَر، اللاتي قطعن
جذور وأغصان أسرة أوديب!
ماذا سيحدث؟ إلى أي جانبٍ أنحاز؟
أيُّ حَلٍّ يمكنني العثور عليه؟ كيف أطيق ألَّا أَبْكِيك،
وألَّا أَتْبعك حتى قبرك؟
ولكنني خائفة،
إنني أبتعد عن غضب المواطنين.
ستجد كثيرًا من النائحين، يا إتيوكليس،
فهل سيرحل هو، هذا الروح المسكين، من غير نواح،
ولن يرتِّل عليه أحدٌ سوى شقيقته؟ مَن ذا الذي يُوافِق على هذا؟
بولونيكيس إلى قبره، ونشترك في دفنه.
فهذا الحزن يخصُّ كلَّ عشيرة كادموس،
وما تعتبره الحكومة صوابًا
يتغيَّر بتغيُّر الزمن.
الذي بعد الآلهة المباركين وزوس القوي،
بصفته مرشدًا لمدينتنا الكادمية، قد أنقذنا من الانقلاب،
ومن أن تبتلعنا موجةُ الغُزاة الأجانب.
(تُحمل الجثتان، واحدة إلى اليسار، والأخرى إلى اليمين. يتبع نصفُ الكوروس جثة، والنصفُ الآخَر الجثةَ الثانية.)