مسرحية المتضرِّعات أو الضارِعات أو المستجيرات ١
مقدمة
كانت إيو هي ابنة إناخوس، ملِك أرجوس، كاهنة هيرا، وإذ أكلت الغيرةُ قلبَ هيرا بسبب حب زوجها للكاهنة، فقد شوَّهت هيرا عقلَ ضحيتها وجسدَها بأن أصابتها بلوثة جنون، ثم مسختها عِجْلة، وجعلتها تَجُوب الأرض والبحر معًا إلى أن وصلت أخيرًا أرضَ نهر النيل، حيث استعادت إيو شكلها البشري باللمسة الخفية التي لعشيقها زوس، ثم حملَت منه إيبافوس الذي أنجب ليبيا، والتي منها وُلِد كلٌّ من بيلوس وأجينور، ولكنَّ شجارًا دبَّ بين أيجوبتوس وداناوس، ولَدَي بيلوس، فقد أراد أولادُ أيجوبتوس الخمسون تحت رباط الزواج الملزم الاستحواذَ على بنات داناوس الخمسين، ولكن إذ كرهت العذارى ذلك الإكراه الذي لجأ إليه الأزواج، فقد آثَرْنَ الهرب مع أبيهن إلى أرجوس، وطن أمهن الأول. وهناك لجأْنَ إلى بيلاسجوس، ملِك تلك البلاد، وطالَبْنَه بحق الحماية واللجوء.
كان تردُّد الملِك في تأييد المستجيرات في حق اللجوء، ثم انتصار ذلك الحق بعد أخذ أصوات شعب أرجوس، ثم وصول المغازلين في أعقابهن بعد أن سبقهم رسولهم مُطالِبًا بتسليم العذارى، ثم فشله في تحقيق مرامه رغم تهديده بالحرب؛ كل هذه الأمور تشكِّل المضمونَ الدرامي للمسرحية.
وتنتهي أحداث المسرحية على أيدي المصريين والدانائيات. وإذ وجد داناوس نفسه مُجبَرًا على الإذعان لمطالب أبناء أخيه، فإنه اشترط على بناته ضرورةَ قتل أزواجهن في ليلة الزواج، فأطَعْنَه جميعًا باستثناء هوبيرمنسترا نكثَت بعهدها الرائع، ولم تقتل لونكيوس بناءً على حبها له. وعندما قُدِّمت هوبيرمنسترا للمحاكَمة راحت الربَّة أفروديت تدافع عنها على أساس أن حبَّ الرجل والمرأة يقدِّسه حبُّ السماء للأرض.
وتاريخ هذه المسرحية لا يمكن تحديده بدقة، ولما كانت أحداثها تدور كلها قبل ظهور الفرس، فإنها تُعتبر إذن وبلا جدالٍ أقدمَ دراما مسرحية وصلَتنا من الأدب الأوروبي.
أشخاص المسرحية
- كوروس من بنات داناوس الخمسين.
- داناوس Danaus: أحد نسل زوس وإيو.
- بيلاسجوس Pelasgus: ملك أرجوس.
- رسول المصريين.
- كوروس ثانٍ من الخادمات القائمات على خدمة بنات داناوس.
- جنود وخَدَم آخرون.
- المنظر: قُرْب شاطئ البيلوبونيز Peloponnese، مرعى به كومة مُعْشَوْشبة يقوم عليها عدد من المذابح وتماثيل الآلهة، ومنهم زوس،٢ وأبولو،٣ وبوسايديون،٤ وهرميس.٥ وتُرى في الخلفية البعيدة أسوار وقِلاع أرجوس Argos. تتجمَّع بنات داناوس Danaus٦ قُرْب التماثيل.
- الزمن: قبل التاريخ.
***
(تدخل مجموعة من العذارى بعد أن هربْنَ من مصر، ونزلْنَ بشواطئ أرجوس بصحبة أبيهن.)
إلينا بعين العطف.
جئنا بالسفينة من كثبان الغبار
القائمة عند المصب الخارجي لنهر النيل،
وإن تلك الأرض التي غادَرناها لَعزيزةٌ على زوس،
مشتركة مع المراعي السورية، ومع ذلك فقد أتينا
غير موصومات بلعنةِ جريمةِ دم،
وغير مطرودات بحُكم مدينة، بل مَنْفيات باختيارنا،
أملًا في الهروب من شهوة الرجال،
من الزواج البَشِع المحرَّم بأبناء أيجوبتوس Aegyptos.٧
يقود والدنا داناوس قضيتَنا،
ويقودنا في كل حركةٍ نعتزمها.
رأى بتخيُّره بين الشرور، أن من الخير
أن نطلب النجاةَ بطريق البحر
إلى أرض أرجوس؛ فهنا
بدأت عشيرتنا التي اكتمل نموها الآن،
وتَنْسب مَنْشأَها من ذلك الحيوان المعذَّب،
وعمل نَفَسُ زوس ذاته ولَمسته على مجيئنا.
إلى أي أرضٍ أكثر رحمةً من أرجوس يمكننا أن نذهب، متسلِّحين
بهذه — وهي أسلحة المتضرعين — الأغصان الملفوفة بالصوف؟
أيتها المدينة! ويا تربة هذه الأرض، والمياه المتألقة! أَيَا آلهة الهواء، والأرواح الساكنة في حجرات الأرض المظلمة، المبجلة بالطقوس الكئيبة!
والثالث في صلاتي، هو زوس المخلِّص،
الذي تقود يدُه دفةَ الاستقامة،
استقبلوا جماعة النساء المتضرعات هؤلاء، دعوا الشفقة ترحِّب بنا من أرجوس كالريح الرقيقة!
أمَّا الكبرياء الذَّكَرية لأبناء أيجوبتوس العنيفين،
فقبل أن يَطَئُوا هذا الشاطئ الكثير المستنقعات،
اقذفهم، ومعهم سفينتهم المطارِدة،
إلى البحر الشاسع! حيث تلتقي
بالعاصفة الصرصر العاتية،
وبالرعد، والبرق، والريح، ومطر المحيط الوحشي،
فَلْيموتوا، قبل أن يضعوا أيديهم علينا،
نحن بنات عمهم، ليدخلوا فراشنا رغمًا منا،
الذي يُحرِّمه عليهم الحق!
والآن، من وراء البحر
أتضرَّع إلى حامينا؛
الطفل الذي رعى وسط الأزهار،
العِجْل الذي خلفه٨ زوس،
من البقرة، أمِّ عشيرتنا،
التي صارت حبلى بتنفُّس زوس وعناقه،
ومن ثَم أُعطِي اسمه الحقيقي،
وتمت حياته كما تُنُبِّئ،
عندما ولدت أمه إبافوس Epaphus٩ (طفل اللمسة)،
الذي أتوسَّل إليه الآن،
هنا في الحقول التي رعتها
إيو،١٠ أمنا الأولى،
والآن، إذ أروي ما قاسَته وقتذاك،
أقدِّم دليلًا على ما نطالب به اليوم،
وسرعان ما ستَتْبعه أدلةٌ أخرى،
ستَظهر رغم عدم البحث عنها؛
لأن الحقيقة ستُعرَف عندما يَطُول الزمن.
إذا تصادَفَ وجودُ أي فرد من مُواطِني هذا الشاطئ
قريبًا منا، واستمع إلى بكاء الطيور؛
ظن، عندما تقع أنشودة تضرُّعنا الحزينة،
على أذنه، أنه يسمع
صوتَ زوجة تيريوس Tereus،١١ دوليان Daulian الباكية،
تلك العندليب التي صادها الصقر،
والتي تبكي تحت أوراق الشجر الخضراء،
حزنًا على حياتها مَنْفيةً من وطنها.
وتروي بالأناشيد قصةَ موت ابنها؛
كيف هلك بيدها هي نفسها،
فريسة العاطفة الوحشية التي اجتاحت أمه.
لذا تأثَّرتُ وبكيتُ بالمراثي الأيونية،
وأتلفتُ بالحزن نعومةَ
الخدود التي أنضجها١٢ النيل،
وقلبًا غير ماهر في الدموع.
أقطف أزهار الألم المرير،
وأرعى قطيع أهوالي.
فهلَّا يهبُّ أحدٌ لنَجْدتنا،
نحن اللاجئات من أرضٍ نائية؟
اسمعونا، يا آلهة الزواج، ودَعُوا العدلَ ينتصر،
ولا تُمكِّنوا الشبابَ الوحشي من أن ينال
شهوتَه الشريرة، وَلْتُقمَع
الكبرياءُ بواسطة كراهيتكم لها،
أتِمُّوا لنا الزيجاتِ الصحيحة.
فحتى مَن يفرُّون من القتال في المعارك
لهم مذبحٌ يَلجَئُون إليه من الهلاك،
حيث احترام الآلهة يجعلهم في أمان.
قيل بحق:
«إن رغبةَ زوس القوية عسيرةُ الصيد»١٣
تضيء جميع الأشياء أمامه بوضوح،
ولو أنه يُخْفِيها في ظلامٍ دامس
عن عيون البشر الهالكين.
وبإيماءة من زوس
يتقرَّر تنفيذُ كل شيء،
فيتم الحادث «منتصبًا على قدمَيه»؛
لأن طريقَ قلبه الراغب
يمتد مُظلمًا ومعقَّدًا، ويحير البصر والفكر.
يقذف زوس بالبشر من آمالهم العالية
إلى هلاكهم،
ولا يوجد إلهٌ خالد
يستطيع أن يُشهِر في وجهه قوةَ الألوهية غير المتطلبة جهدًا؛
إذ إن زوس يعاقب غرورَه في لحظة،
رغم أنه متوَّج في عبادة البشر.
وهكذا فَلْينظر زوس إلى غطرسة البشر، ويلاحظ كيف أن اشتهاء لحمنا يجعل الرجلَ العجوز صغيرًا،
ويزهر برغبةٍ منحرفة،
بينما تحثُّه الرغبةُ الجامحة بغير هوادة،
وعندما يتبع الشرُّ الغرور، يتبعه الألم بدوره.
كنت أنشد مثل هذه الأناشيد، غير المنظومة ببراعة
وغير المتناسِقة النغمات،
وصوتي الذي حبسَته العَبَرات، تارةً حاد وطورًا عميق،
هي أناشيد مليئة بالنحيب كأنها المراثي الطقسية،
فأحتفل بموتي بالأنَّات الحية،
أصرخ طالبةً الرحمةَ من هذه المرتفعات الآبيَّة١٤
(عفوًا، أرضَ هيلاس عن لغتي الفظَّة)،
ثم أعود فأمزِّق من جديد
خماري التورياني Tyrian١٥ إلى أسمال تمجُّ العين رؤيتها.
وعندما يسير كل شيءٍ على ما يرام، عندما يكفُّ الموت عن التهديد،
يتدفَّق الوفاء بالنذور للآلهة.
غير أنني مرتبكة بالخطر والضائقة.
إلى أين تقودني هذه العاصفة؟
أصرخ طالبةً الرحمة من هذه المرتفعات الآبيَّة
(عفوًا، أرضَ هيلاس عن لغتي الفظة)،
ثم أعود فأمزِّق من جديدٍ
خماري التورياني إلى أسمال تمجُّ العين رؤيتها.
بعيدًا ذهبت مجاذيف سفينتنا،
وهيكلها المسدود بالشمع لكي يمنع تسرُّب البحر إليها،
فجاءت بنا بريحٍ مواتية،
ولم تُؤْذِنا أية عاصفة، وإني لَشاكرة؛
إذ انتهت رحلتي إلى اليابسة،
عسى زوس، الذي يبصر كلَّ شيء أن يقودها حسبما نرغب
ويمنحنا، نحن ذُريةَ عروسه المقدَّسة إيو،
أن نفلتَ من عناق الرجال،
ونحتفظ بعذراويتنا مَصُونةً غير مقهورة.
وعسى أرتيميس،١٦ ابنة زوس، المُحِبَّة للعِفَّة،
التي أحبطَت شهوةَ أوريون Orion١٧ إلى أوبيس Opis،
أن ترغب في عفافي بتقديرٍ رحيم،
فَلْتأتِ بكل قُوَّتها،
عذراء لنجدة عذراء،
وتَدْحر هذه الشهوةَ التي تُلاحِقنا،
حتى إننا، نحن ذُريةَ عروسه المقدَّسة إيو،
نفلت من عناق الرجال،
ونحتفظ بعذراويتنا مَصُونةً غير مقهورة.
وإلا، فإلى البيت الذي تمقته الشمس،
إلى زوس العالم السفلي، ملِك الموتى،
الذي يرحب بضيوف لا يُحصَوْن عَدًّا،
سنأتي بأغصان تضرُّعنا؛
لأننا سنُشنَق ونموت بأُنْشوطة المشنقة،
إذا لم تستمع إلى تضرُّع آلهة أوليمبوس.١٨
للأسف، إن غضب الآلهة،
يبحث عنكِ، يا إيو، ليعاقبكِ،
فإني أعرف غيرةَ ساكني السماء في شئون الزواج؛
فمن الريح التي تهبُّ غاضبةً تخرج العاصفة.
ثم إن زوس يجلس دون القيام بدفاعٍ عادل،
عندما يرى لأول مرة
ابنَ البقرة، الذي وُلِد منه هو نفسه،
فيُحوِّل عينَيه بعيدًا عن ابنه،
عندما نتضرَّع إليه،
فهو يسمع صراخَنا بقُرْبه، مهما كان يجلس بعيدًا.
للأسف، إن غضب الآلهة،
يبحث عنكِ، يا إيو، ليعاقبكِ،
فإني أعرف غيرةَ ساكني السماء في شئون الزواج؛
فمن الريح التي تهبُّ غاضبةً تخرج العاصفة.
(في تلك الأثناء يكون داناوس قد دخل آتيًا من جهة الشاطئ.)
وجدتنَّ أباكنَّ ربَّانًا حكيمًا،
وعجوزًا وموضعَ ثقة،
والآن سأُعنى بأَمْركنَّ فوق اليابسة
وأتولى حراستكن، على شرط أن تحتفظن بما أقوله مكتوبًا
في قلوبكن.
(ينظر نحو الأُفق ويشير ناحية أرجوس.)
أرى الغبار يرتفع، مُعلِنًا في صمتٍ عن قدومِ جيشٍ لم تُسمع بعدُ قعقعةُ عجلاته ومحاورها، وأرى كتلة من الرجال بالتروس والرماح، وكذلك خيولهم،وعرباتهم المقوَّسة. لا شكَّ في أن حكام هذه المملكة،
قد عَلِموا بمجيئنا، فأقبلوا ليرونا بأنفسهم.
وليروا ما إذا كان هذا المجيء الوحشي ينطوي على نيَّة سيئة،
أو أنه بسببِ غضبٍ وحشي. وفي كلتا الحالَين، يا بناتي،
من الخير أن تجلسْنَ متضرِّعات لهذه الآلهة ذات الأعياد،١٩
هنا فوق هذه الرابية. فالمذبح أقوى من الحصن، وإنه لَترسٌ
منيع. هيَّا بسرعة أحضرْنَ أغصانكن الملفوفة بالصوف
الأبيض؛ رموز زوس الرحيم،
أمسكْنَ بها في أيديكن اليسرى، في وضع الاحتفال،
وأَجِبْنَ على أسئلة رجال أرجوس هؤلاء بالطريقة
التي يخاطب بها الأغرابُ الحديثو المجيء،
بألفاظٍ تستدرُّ الدموعَ والشفقة من أجل حاجتكن،
قُلْنَ بصراحة إنكن أتيتنَّ إلى هنا هارِبات، وإن أيديكن
بريئةٌ من الدم. وتذكَّرْنَ قبل كل شيء:
ألَّا تستخدمْنَ أيةَ جُرأة أو تفكُّك في كلامكن أو ملامحكن،
فَلْتكن الملامح متواضِعة ومحتشمة، والعين ثابتة.
لا تتلعثمْنَ أو تتردَّدْنَ في كلامكن.
فإن هؤلاء قومٌ ذوو طباعٍ حادة. فتذكَّرْنَ إذن
أن تَظْهرن بالخضوع! فكلكن غريبات، ولاجئات عاجزات،
ولا محلَّ للألفاظ الجريئة لدى الجانب الأضعف.
وَلْيكن زوس شاهدًا علينا؛ زوس أبو عشيرتنا!
الآلهة أمرًا أكيدًا.
أي زوس، اعطفْ على حالتنا، لا تسمحْ بموتنا!
فإذا كان زوس في جانبنا، غدَت عاقبةُ كل شيء سعيدة.
هنا أبولو، نجل زوس، نادِينَه.
المقدَّس والطاهر، فإذا نُفِي مرة من السماء، وهو إله،
فإنه سيحترم في البشر تلك المِحْنة التي عرفها.
وكسِربٍ من اليمامات المستكينات خوفًا من الصقور،
اطلبْنَ الحماية من أقاربكن الأعداء،
الذين يلوِّثون عشيرتَنا. فهل يأكل الطائرُ لحمَ الطائر
ويظل طاهرًا؟ وهل يضاجع رجلٌ امرأةً
رغمًا منها ورغمًا من رغبة أبيها، ويكون طاهرًا؟
فحتى بعد الموت، لن يفلت مثل هذا العمل، في هاديس Hades،٢١
من العقاب، فيقولون إن هناك أيضًا، بين الموتى زوسًا آخَر يُصدِر الحكمَ الأخير على جرائم البشر.
كنَّ حازماتٍ إذن، وجاوِبْنَ قائدَ أولئك القوم،
حتى تُكلَّل مسألتُكنَّ بالنجاح اليوم.
(في أثناء ذلك، يكون الملك بيلاسجوس قد دخل مع بعض الحرس.)
وكيف تجاسرتنَّ على المجيء هكذا إلى شواطئنا غير خائفات،
بغير استدعاءٍ ولا ضمان، وبدون صديق ولا مرشد؟
إن هذا مَدْعاة للعجب. حقًّا، إن الأغصان التي هي شارة المتضرع،
موضوعة إلى جوانبكن أمام هذه الآلهة ذات الأعياد.
يمكننا تفسير هذه العلامة وحدها، أمَّا ما بقي،
فالتخمين يولِّد تخمينًا آخَر، وهكذا إلى ما لا نهاية،
إن لم يكن هناك صوتٌ يُجِيبنا بالحقيقة المؤكدة.
ابن بالايخثون Palaechthon المولود من الأرض،
وحاكِم هذه البِقاع،
والعشيرة التي تزرع هذه الأرض، تُسمى بعدلٍ عشيرة البيلاسجيين، نسبةً لي أنا ملِكهم، كما أنني أحكم جميع المملكة،
الممتدة غربًا، والتي يجري خلالها نهر هالياكمون Haliacmon. وأحدد من ممتلكاتي جميع المنطقة البيرهايبية Perrhaebian، وهي الأرض الممتدة وراء جبل بندوس Pindus، قُرب خاءونيس Chaones، وسلسلة الجبال الدودونية، حيث تلتقي اليابسة بالبحر، وتنتهي عندها إمبراطوريتي؛ إنني أحكم جميع الأراضي
الممتدة من هناك إلى هنا.
وإن الأرض الآبيَّة نفسها، هذا السهل المستوي، سُمِّي باسم آبيس Apis، الذي اشتهر في العصور القديمة بمهارته في شفاء الأمراض.
إنه ابن أبولو، أستاذ العلاجات والتنبؤات،
الذي عبر الماء من ناوباكتوس Naupactus، وطهَّرَ هذه الأرض
من الوحوش التي تفترس البشر؛ تلك المخلوقات التي
لما كانت الأرض قد تدنَّست
بجرائم القتل القديمة، قد قامت بتربيتها، كما تفعل زوجةُ الأب القاسية، وتتألف من أسراب الأفاعي المتوحشة التي تُقاسِم الإنسانَ ميراثَه.
عالجَ آبيس هذه الأوبئة بالعقاقير الشافية وبالطقوس المطهرة، فرضيتْ أرضنا كل الرضا، وكافأته على ذلك بذِكْر اسمه في أيام الصلاة.
لقد تكلَّمتُ. والآن فَلْتقرِّر إحداكن عشيرتَها،
بوضوح، وبإيجاز؛ إذ تمقت أرجوس الحديثَ المطول.
البقرة التي أخصبها زوس نحن مِن نَسْلها.
أصغ إليَّ: سيحمل كلامي برهانًا على كل ما قلتُه.
على التصديق. كيف يكون
قوم مثلكن من أهل أرجوس؟٢٤ إنكن أكثر شبهًا
بالليبيات، وبكل تأكيد لستُنَّ من نساء مملكتنا.
قد يُنبت النيل مثل هذا النبات، وفي وجوهكن،
حيث يُشَكِّل الصانع الذَّكَر ملامحَ السيدات، يوجد
طابع قبرص الحي. كما أسمع أن هناك
نساءً مثلَكن، من البدو، يمتطين ظهورَ الإبل
كما نركب نحن صهواتِ الخيول، ونسير بها في
سهولة وسط الأراضي
المجاورة لإثيوبيا. ولو تسلَّحتُنَّ بالقِسِي
لَخمَّنتُ بأنكن أولئك الأمازونات Amazones٢٥ الذائعات الشهرة،
اللواتي يعشْنَ بغير رجال ويأكلْنَ لحوم البشر.
ولكن أخبِرْنني بجلاء
كيف تنحدرن من أرجوس، نشأةً ودَمًا؟
أمينة مفاتيح معبد هيرا Hera؟٢٦
فعلَته هيرا ضد تلك البقرة المنحوسة الطالع؟
الذي كان له ولدان، وكان والد أبي الواقف هنا.
وله أخٌ له خمسون ابنًا.
وبما أنك الآن تعرف قصةَ عشيرتنا الطويلة،
أرجوك أن تعمل كبطَلٍ لهذه الجماعة الأرجوسية.
ولكن كيف كانت لكنَّ الجرأةُ والإرادة على أن تتركْنَ
وطنَ أبيكن؟ أية ضربةٍ للقَدَر نزلَتْ بكنَّ؟
لن تجد في جناح مَتاعبنا ريشتَين متماثِلتَين.
مَن كان يفكِّر في أننا نلجأ إلى هذا الفرار المفاجئ، ونتجه إلى أرجوس، المرتبطة بنا برباطِ الدم القديم،
مَسُوقاتٍ باستنكارنا للاعتداء غير المقدَّس في مصر؟
وملفوفةً بالصوف الأبيض، فأيَّ معروفٍ تطلبْنَ مني؟
إنكن تطلبْنَ مني شيئًا فوق طاقتي.
لو كنتُ طَرَفًا في هذه القضية منذ البداية.
يا ابن بالايخثون، يا ملك البيلاسجيين،
أصغ إليَّ بقلبٍ ودود،
انظر نحوي، أنا المَنْفيَّة المتضرِّعة،
أجري في هذا الاتجاه وذاك،
كعِجْلةٍ يطاردها ذئبٌ فوق الصخور الشديدة الانحدار،
وبينما تثِقُ في مساعَدة الراعي، تَخُور لتُعلِن له عما يؤلمها.
تُومِئ بالموافَقة من تحت ظلال هذه الأوراق المقطوفة حديثًا.
وبما أن الدم يربطكن بمدينتنا، فعسى ألَّا تسبِّب قضيتُكن هذه
لنا أيَّ ضرر، ولا تجرُّ علينا حرْبًا من أي مصدرٍ خَفِي.
فتُفاجِئنا على غير استعداد. فهذا ما لا نسعى إليه.
الذي يعطي كلَّ فرد ما يستحقه،
أن تجعل هروبَنا عديمَ الضرر، فالقديمُ في المعرفة، يتعلَّم من الحديث الولادة:
إذا احترمتَ المتضرِّع كانت الضحية التي تقدِّمها خيرَ ما يقدِّمه المرءُ الطاهرُ الحياةِ
على مَذابح الآلهة المجيدة.٣٠
أنت الحاكم المطلَق السلطة، إنك تُدِير
شئونَ المذبح الذي هو وطيس مملكتك،
دون أن تخشى صوتَ أيِّ فرد. وبمجرد إشارةٍ منك أنت، يا ملِك العرش الواحد، تبتُّ في جميع القرارات؛ لذا فأنت بعيدٌ عن كل مؤاخَذة.
ماذا بوسعي أن أفعل؟ أين أسير؟ أخاف أن أعمل، أو لا أعمل.
إذن فَلْأترك الأمورَ تجري في أعِنَّتِها.
التي تتطلَّع إلى أحزان البشر، وتبصرهم
عندما يجلسون بغير ما فائدة عند وطيس جارهم،
وقد رفض أن يُسدِي إليهم الترضيةَ الشرعية.
وإن غضب زوس من أجل احتقار المتضرِّع
سيظل باقيًا ولا يلين
بدموعِ مَن يقع عليه ذلك الغضب.
فمَن ذلك الذي يستطيع أن يعترضنَّ على طلبهم هذا؟
وبحسب نفس قوانينكن تجِبُ محاكَمتُكن،
طالما لم يَثبت أنْ ليس لأولئك الرجال حقٌّ عليكن.
سأواصِل فراري من هذا الاعتداء القاسي المتعجرف،
وأمدُّ فراري إلى حيث تمتدُّ النجوم فوق الأرض.
إذن، فَلْتَختَر العدلَ لحليفك، وأعطِ
الحُكمَ المقدس الذي ترضاه الآلهة.
سبَقَ أن قلتُ لكِ على الرغم من أنني الملِك المطلَق السلطة،
إنني لا أستطيع التصرُّف في قضيتكِ بغير شعبي،
حتى إذا باءَت بمكروه، لا يقول لي الشعب قط:
«لقد خربتَ أرجوس من أجل خاطر الغرباء.»
يُقِيم ميزانَه الدقيق الاتِّزان،
وينظر إلى كلا الجانبَين، ويعطي بحق،
الشرَّ نظيرَ الشر، والبركاتِ للصالحين.
وبما أن الجميع مُتَّزِنون الآن بغير مُحاباة،
فلماذا تخاف إقامةَ العدل في قضيتي؟
ببصيرةٍ واضحةٍ غير شاردة، حتى تنال هذه المعضلة نهاية سعيدة
غير ضارة، أولًا لأرجوس ولنفسي، حتى لا تقوم الحرب والنهب،
ونُصابَ بضربتهما جزاءَ عملنا، وحتى لا نُسلِّمكن
أيتها المتضرِّعات عند مذابح آلهتنا،
وحتى لا نثير الانتقام، تلك الروح المدمِّرة، إلى هلاك أنفسنا؛
تلك الروح التي لا تطلق فريستَها حتى في الموت.
بعدل، وبحسب الدِّين،
لا تخُن اللاجئات
اللواتي طردهن الرجالُ الذين لا إلهَ لهم، من وطنهن!
لا تسمح بأن أُجَرَّ أمام عينَيك
من مِحْراب الآلهة الكثيرة هذا،
أيها الملك، المطلَق السلطة في أرجوس!
اعرف نيةَ هؤلاء الرجال
نحو الغرور الشرير،
واحذَرْ غضبَ زوس.
لا تجعل المتضرِّع إليك
يُساق كما يُساق الحصانُ باللجام
تحدِّيًا للعدالة،
من أمام التماثيل المقدَّسة.
والأيدي المُمسِكة بنعومة ردائي، الثمينة.
واعلم أن قرارَك، سواء أكان في صالحنا أو ضدنا،
سيَبقى لأولادك ولبيتك،
مهما كان تصرُّفك إزاءَنا طيبًا أو سيئًا،
فهكذا سيُقدَّر لهم.
فكِّرْ جيدًا؛ هذه هي عدالة زوس،
ولا بد أن تَسري.
فسواءٌ أكانت على هذا النحو أو ذاك، فلا بد أن تَقودَني إلى الحرب.
تشبه هذه الحقيقةُ هيكلَ سفينةٍ أمسكَت بها حبالُ
الروافع٣٣ فثبتَت في مكانها تمامًا،
لست أرى الرسوُّ في الميناء، في أي مكان.
وعندما تُلقَى البضائع الثمينة في البحر خلال العاصفة،
فقد تأتي بضائعُ أكثر بفضل زوس، الواهب زيادة الثروة،
وعوضًا عن تلك، يملأ بالبضائع سفينةً أخرى أكبرَ من السابقة.
وهكذا، عندما تنطلق سِهامُ اللسان في الوقت غير المناسب، فإن كلمة قد تشفي أثرَ كلمةٍ أخرى، وتهدِّئ بفعل السحر،
النفسَ المهانة.
أمَّا إذا مُنِحتْ إراقةُ الدم بسَفْك دماء الأقارب، وجَبَت التضحية
بالصلاة وسقوط الكثير من الضحايا لكثيرٍ من الآلهة، دَرْءًا لنزول اللعنة.
الحقيقة، أنني دخلتُ في هذا النزاع من أجل خرابي،
ولكن عند التنبؤ بالخراب، أختار الجهلَ بالشيء
بدلًا من معرفته، عسى أن يُثبت الحظُّ السعيد أنني مُخطِئ!
موقعَ السوطِ المُلْهِب.٣٥
تتراكم عليَّ المصائبُ كنهرٍ وقتَ الفيضان.
لقد زُجَّ بي في بحرٍ عميقٍ خَطِر،
حيث يقبع الدمار، ولا أُبصِر أمامي مَرْفأً آمِنًا.
فإذا لم أضمن لكُنَّ المساعَدةَ التي تطلبْنَها،
فإنكن تهدِّدنني بتدنيس أرضي، فوق ما أتصوَّر،
وإذا تحدَّيتُ أبناءَ عمكن أيجوبتوس، واتخذتُ
موقفي أمام أسوارنا وحارَبت في هذا الأمر،
أَلَا تكون النهاية ثمنًا مريرًا أدفعه؛
أن يبلِّلَ الرجالُ الأرضَ بدمائهم من أجل النساء؟
ومع ذلك، فإن زوس يحمي المتضرِّع، وينبغي لي أن أخاف غضبه، الذي يجب أن يخشاه المرءُ قبل كل شيءٍ آخَر.
اذهب بسرعة، أيها العجوز داناوس، واحمل في ذراعَيك أغصانَ التضرُّع، كتلك التي تحملها بناتُك،
وضَعْها على مذابحِ آلهةِ أرجوس،
حتى يرى جميعُ مُواطِنينا الدليلَ على هذا التضرُّع،
واحذَرْ أن تتفوَّه عني بأي كلام؛
إذ يحب جميعُ المواطنين أن يجدوا عيبًا في الحكومة.
فقد يَرَى بعضهم هذه الأدلةَ ويتحرَّك
عطفًا، وسخطًا على أولئك الرجال المتغطرسين،
ويزيد إقبالُ أرجوس على مَنْح المساعَدة لقضيتك.
وإذ إن الضَّعْف يُوقِظ الكرمَ في كل قلب.
أرسِلْ معي بعض رجالك الأرجوسيين كي يُرافِقوني ويُرشِدوني، حتى أجد مذابح آلهتكم
بجانب المعابد في المدينة، أو على حصون أسواركم،
وحتى أستطيع المرورَ في شوارعكم آمِنًا؛ لأن ثيابي
وشخصي كلَيْهما يَشِيان بي ويدلَّان على أني أجنبي؛
إذ يُخرِج النيل قومًا يختلفون عن قوم إناخوس Inachos،٣٦ فالحذر خير شيء، وربما جرَّ التهوُّرُ السريع إلى الخوف، وكثيرًا ما قتل الرجالُ أصدقاءَهم، قبل ذلك، جهلًا.
وحذارِ أن تتلكَّئُوا في جوانب الطُّرقات لتتحدَّثوا عن هذا البحَّار، الذي تَطُوفون به حول المعابد كمتضرِّع.
(ينصرف داناوس متجهًا نحو أرجوس، يرافقه بعضٌ من حرس الملِك.)
وفي أثناء ذلك، سأذهب وأجمع كل شعبي،
حتى أجعل أرجوس صديقةً لكُنَّ، كما أخبر
والِدَكن بخير ما يقوله. انتظرن هنا، وتوسَّلْنَ
إلى آلهةِ مملكتنا أن تمنحكن جميعَ ما تصبو إليه قلوبُكن.
سأذهب إذن لأُصرِّفَ الأمورَ كما قلت،
فعسى أن يصحب الإغراءُ والنجاحُ ألفاظي!
(يخرج بيلاسجوس وحرسه.)
وصاحب السلطة العليا بين ذوي السلطات الملكية،
الكائن في المسكن الخالد المبارَك،
اسمعْنا، وامنَحِ الإغراءَ والنجاح.
استأصِلْ غطرسةَ الرجال التي تمقتها بعدل،
أَغْرِق الفوريَّة Fury٣٩ المطارِدة،
مع جميع مجذِّفيها ذوي البشرة السمراء،
عميقًا في الحوض العاصف للبحر الأرجواني.
وانظر بعين العطف على عشيرتنا القديمة،
وعلى جنسنا، متذكِّرًا
القصةَ القديمة الرقيقة؛
قصةَ محبوبتِك؛ أُمِّنا جميعًا.
كُن حافلًا بالذاكرة، أنت يا مَن وضعتَ يدك
على إيو! أي زوس، إننا ندَّعي بك
موجِدًا لنا، ووالدنا كما ندَّعي بأن أرجوس وطنٌ قديم لنا.
تركتُ مصر وأتيتُ
إلى هذه المراعي التي كانت تقف فيها أمُّنا منذ زمنٍ بعيد،
وحيث كانت ترعى بين الأزهار تحتَ عينٍ مراقِبة.
لقد هربت إيو من هنا،
معذَّبةً بلدغةِ ذبابة الماشية حتى درجة الجنون،
وارتحلَتْ بين كثيرٍ من قبائل الرجال
حتى شقَّت طريقًا عبر أمواج البحر
بين أوروبا وآسيا،
فرأت القارتَين المتجاوِرتَين على كلتا يدَيها.
ثم هربَتْ من هناك خلال أرض آسيا،
واجتازت مراعي الأغنام الفروجية، من أحد طرفَيها إلى طرفها الآخَر،
حتى بلغت مدينة تيوثراس Teuthras بين الموسيانيين Mysians، وصعدت أودية لوديا Lydia،
ثم بين التلال الكيليكية Cilician والبامفولية Pamphylian،
وظلتْ تعدو قُدُمًا إلى أرض أفروديتي،٤٠
الزاخرة بالقمح، والشهيرة
بالأنهار الدائمة، والتربة الخصبة العميقة.
ظلَّت إيو تَطُوف هائجةً
أمام لدغة تلك المطارِدة المجنَّحة،
حتى وصلَت إلى مصر الخصبة، حديقة زوس،
إلى أراضي المراعي التي يغذِّيها الثلجُ الذائب،
وتجتاحها دوَّامات الرياح،
إلى مياه النيل التي لا تمسُّها أيةُ أمراض،
وهي لا تزال مُصابةً بالتعب والعار،
معذَّبةً بالألم المدمِّر من منخس هيرا.
أمَّا رجال ذلك العصر، سكان مصر،
فكانت قلوبُهم ترتجف ذُعرًا، ويمتقع لونهم
عند رؤية ذلك المنظر غير الطبيعي، الذي لم يُسمَع به.
رأَوْا مخلوقًا، بشريًّا ووحشيًّا في نفس الوقت،
جزءٌ منه بقرة، وجزءٌ آخَر امرأة،
ففقدوا النطقَ عند رؤية هذه العجيبة،
ثم … ثم … مَن ذلك الذي عزَّاها،
وأشفَقَ على محنةِ تَرْحالها الطويل
المعذبة بلدغةِ تلك الذبابة الدوَّارة، التي عذَّبت إيو؟
كان هو زوس، الحاكم بسلطةٍ مُطلَقة لا نهائية.
فتنفَّس زوس بقوة رقيقة،
وأطلقَ عيها نَفَسَه الإلهي، فجلب لها الراحة،
وإذ شعرت بتلك الراحة، انهمرت دموعُها
تعبِّر عن كامل حزنها وعارها.
وتسلَّمت في جسدها «حملَ زوس».٤١
(ما أصدقَ قوله!) فولَدَت
طفلًا خاليًا من العيوب.
كان ابنها طويلَ العمر وافرَ الرخاء؛
ولذلك فإن أرض مصر واهبة الحياة
تصرخ قائلةً: «إن هذا لَهُو بحقٍّ ابنُ زوس.»
فمَن غير زوس يستطيع شفاءَ
الجنون الذي سبَّبه مَكْرُ هيرا؟
إن هذا الشفاء لَهُو من عملِ يدِ زوس،
وما هذا الطفل إلا بذرةُ زوس.
قُلْ هكذا، يصل هدفك إلى عين الحقيقة.
أيُّ واحدٍ من الآلهة يمكنني أن أناديه بعقل
لكي يقوم، بحقٍّ واضح، بعملٍ٤٢ خاص به؟
يا ملِك الآلهة، إنك أبونا،
لقد زرعَتْ يدُك أصلَنا؛
فَلْيلجأ قلبُك إلى الذاكرة، أيها الصانع الأعظم،
يا زوس الكلي البركة، يا مانح السعادة.
إنك لا تطيع أمرًا أعلى وأنت مُتربِّع فوق عرشك،
فليسَت سلطتُك بالسلطة المتواضِعة
التي يمنحها سيدٌ أعلى،
إنك لا تنحني
لمشيئة أي إله مُتوَّج فوقك.
فمهما كان الغرضُ الذي يقصده عقلُك الضخم،
فإن قوتَك تسارع إلى نقله لحيِّز التنفيذ والميلاد؛
أنت تتكلَّم، فيُنفَّذ كل شيء.
(يعود داناوس.)
بكامل مجلسها
قد أصدرَت قرارًا باتًّا، في صالحنا.
أخبِرنا بهذا الشيء فقط؛ ما نصُّ قرارِهم؟
أي عمل قرَّرَت الأصواتُ السائدة؟
وإنما بصوتٍ واحد جليٍّ، بعَثَ الشبابَ من جديد في قلبي العجوز،
فقد كان الجو مليئًا بالأيدي اليمنى للمدينة كلها؛
وهذا قرارهم: أن نقيم في أرجوس
كضيوفٍ أحرار بمَنْأًى عن الاعتداء، مضمونة سلامتنا
ضد الحقد البشري، فلا يحق لأي أجنبي أو أرجوسي
أن يمسَّنا. وإذا استخدَمَ أعداؤنا القوة، فإن الرجل
الذي يكون مُواطِنًا ولا يهرع إلى مساعَدتنا
يَفقد حقوقَه المدنية ويُنفَى.
حقًّا، لقد تكلَّم الملك بيلاسجوس بفصاحةٍ رائعة من أجلنا،
محذِّرًا شعبه بقوله: «حذارِ في المستقبل
أن تُثيروا كاملَ انتقامِ إلهِ المتضرِّعين.
أمامَكم حقٌّ مزدوج، لضيوفٍ ومواطنين،
فإذا نبذناهم، هدَّدَنا
دنسٌ مزدوج، أشبهُ بشيطانٍ لا يشبع،
متعطِّش دائمًا إلى الخراب.»
عند ذلك لم يستطِعِ الشعبُ الأرجوسي الانتظار،
فرفعوا أيديهم وأعطوا أصواتهم كما ذكرت.
أمَّا الملك، فاستخدَم كلَّ وسائل الإغراء
لفن الخطابة؛ فكلَّل زوس النتيجةَ بالنجاح.
صلاةً من أجل شعب أرجوس،
حتى يكون الخيرُ جزاءَ الإحسان الذي فعلوه من أجلنا.
عسى زوس، صديقُ الغرباء،
أن يتطلَّعَ ويتمَّ نذورَ الشكر
التي يقدِّمها الغرباءُ لمضيفيهم،
كي تنال ألفاظُنا النهايةَ المرجوَّة.
أيها الآلهةُ السماوية المولد، استمعوا الآن إلى صلاتي،
بينما أسكبُ تقدمات الصلاة هذه:
لا تَسمحوا قطُّ لِلُّهُب بأن تقفز وتلتهم
في هذه المدينة البيلاسجية،
ولا لأريس الشهواني، بأن يرفع صوتَه المحزِن الصاخب،
الذي يحصد حقولَ الإنسان التي زرعها الآخَرون؛
لأن أهل أرجوس أشفَقوا علينا،
وأعطَوْا أصواتهم عطفًا؛
لأنهم يحترمون متضرِّعي زوس،
هذا القطيع الحزين المستحق للعطف.
لم يعطوا أصواتهم مع الرجال،
محتقرين قضيةَ النساء،
وذلك بدافع خشيتهم لغضب زوس
الذي ينتقم ويُنفِّذ،
الذي ليس بوسع أي شخص أن يحاربه
والذي لا يجرؤ أيُّ بيت أن يستقبل
زائرًا محمَّلًا بالمصائب،
كطائر الشرِّ المدنِّس للسقف.
أمَّا أرجوس، فتحترم رباطَ الدم
والمتضرِّعَ الواقف أمام محراب زوس الطاهر؛
ولذا ستظل مذابحُهم نظيفة،
وتقدماتهم مقبولة لدى الآلهة.
وهكذا من شفتيَّ المقدستَين بهذه الأكاليل،
فَلْتتخذ الصلاة المتلهفة جناحًا،
لعل الطاعونَ لا يُجرِّد أرجوس من رجالها،
ولا الحرب الأهلية أن تدنِّس أرضَها
بالدمِ الأرجوسي المسفوك بيدِ مُواطِنيها،
ولتظل زهرةُ شبابها يانعةً لا تُقطَف.
ولعل أريس، عاشِق أفروديتي،
ومحطِّم الرجال، ألَّا يُهلِكَ خيرةَ شبابها.
وَلْتُبارَك مقاعدُ مجلسِ شيوخهم
ذوي اللحى الموقَّرة،
وَلْتُحكَم مدينتُهم خيرَ حكم،
بينما يقدمون التبجيلَ اللائق لزوس،
وقبل كل شيء، لزوس إله الغرباء،
الذي يُقِيم الحقَّ بالقانون الأزلي.
نرجو لمحاصيل الأرض
أن تنبت وتعطي غلَّتَها،
وأن تبارك أرتيميس ذاتُ السِّهام٤٣
نساءَهم عندما يَلِدْنَ الأطفال.
عسى القتل والإبادة
ألَّا يَأتيا قطُّ لتمزيقِ أوصال هذه المدينة،
وألَّا يَضَعا سيفًا في يدِ أريس، والِدِ الدموع،
ليطردَ الرقصَ والموسيقى
بصرخةِ الحرب الأهلية.
وعسى المرض، ذلك الكابوس المحزِن،
أن يستقرَّ بعيدًا عن بيوت أرجوس،
وأن ينظر أبولو بعين العطف إلى جميع شبابها.
عسى زوس أن يخصب تُربتَها
لتُخرِج ثمرتَها المناسبة
وكلَّ محصول في موسمه،
وعسى القطعان التي ترعى في حقولها
تُنتِج صغارَها بكثرة،
ويزدهر الشعب في كل شيءٍ
ببركة الآلهة.
وعسى المغنُّون يُنشِدون أناشيدَ الصلاح عند مذابحهم،
بينما يرتفع من الشفاه الطاهرة،
صوتُ الأفراح على أنغام الأوتار.
وعسى مجلسهم، الدائم طول الحياة،
أن يراقب ببصيرةٍ ثاقبة ومُداوَلة حكيمة،
مصالحَ الشعب، الذي تحكم قوتُه الدولة،
وَلْيمنحوا الأجانبَ في مدينتهم
التوسُّلَ الشرعي، ويحترموا المواثيق،
قبل استخدام السيف أو وقوع الضرر.
وعسى أن يحترموا دائمًا
الآلهةَ المحافِظة على دولتهم
بالطقوس التي تعلَّموها من آبائهم فوق أرضهم،
وهم يحملون أغصانَ الغار ويقدِّمون ذبائحَ الثيران.
هذا ثالثُ بندٍ مكتوب،
بعد بندِ احترامِ الوالِدَين،
في قوانين العدالة التي يتحتَّم على الجميع احترامُها.
والآن، أصغين إليَّ، ولا ترتعِدْنَ عندما تَسمعْنَ مني أنباءً مُفاجِئةً وغيرَ مرغوبٍ فيها. فمن مكان تضرُّعي هذا، وهو مركزُ مُراقَبتي، أرى السفينة! وحبالَ الشراع، والحواجزَ الواقية٤٤ وهي دون جدالٍ سفينةٌ مصرية،
وإن حيزومَها المزوَّد بعيونٍ لاستطلاع الطريق أمامها،
ليُطِيع الدفَّة القائدة المثبتة في كَوْثَلها؛ إنها تجدُّ في السير نحوَنا،
نحن ضحاياها. أواه! أرى الآن رجالًا فوق ظهرها،
وأرى أطرافَهم
سمراءَ تحت ملابسهم البيضاء. أمَّا السفنُ الأخرى، فقد لاحَت كلُّها أمام البصر، والأسطول برمَّتِه. وإذ اقتربَت سفينةُ الطليعة
من اليابسة، طوَتِ الشراعَ وسارت بالمجاذيف.
هيَّا إذن، يجب أن تَعمَلْنَ في هدوءٍ وبحكمة،
واجِهْنَ ما يُواجِهكن، وثبِّتن عقولَكن على هذه الآلهة.
سأذهب لأطلب النجدةَ بحثًا عن رجالٍ يدافعون عن قضيتنا، ويحقِّقون
غرضنا. فقد يحاول بعضُ رُسلِ أولئك الرجال أو سفرائِهم
القبضَ عليكن على أنكن مِلْكًا لهم.
ولكن، كلَّا! لن يحدث هذا، لا تخشينَهم.
ومع ذلك، فخيرُ شيءٍ — في حالةِ تأخُّر نَجْدتنا —
أن تتذكَّرْنَ الحماية الممنوحة هنا.
تشجَّعْنَ! فسيقيم الزمنُ ويومُ الحساب
العدلَ، ويُجازِيان كلَّ مذنب يتحدَّى الآلهة.
فلم تَمْضِ، بيننا وبينهم، غيرُ لحظة.
إنني مذعورة وأرتعد،
هل هناك ميزةٌ حقيقية
في الهروب هكذا من الوطن؟
أبتاه، لقد أُغمِي عليَّ من الهَلَع.
تشجَّعي، إذن، سيحاربون من أجلكن، إنني واثقٌ من هذا.
إنهم متعطِّشون للقتال، وإنك لَتَعلمُ حقَّ العلم أنني أقول الحقيقة.
وإن سُفنَهم لَمتينةُ الأخشاب،
ومقدماتها المصنوعة من المعدن اللامع،
مسدَّدةٌ نحوَنا وأبصرَتْنا، وخلفَهم آلافٌ من الرجال ذوي البشرة السمراء.
النِّحافِ الأبدان، ذوي العضلات المقسَّاة في حرارة الظهيرة.
فليس للمَرْأة جُرأة، وماذا بوسعها أن تصنع وحدَها؟
وإن أولئك الرجال لا يعرفون العقل،
إنهم مجانين ومجدِّفون،
وما عادوا يهتمون بالمذابح
أكثر من اهتمامهم بالطيور التي تتغذَّى على فضلات الذبائح.
كما يرحِّبون بعداوتكن.
إنهم متغطرسون ومحبُّون للشهوة،
وسريعو استخدامِ قوةِ الجنون،
وعديمو الخوفِ ككلاب الصيد، وعلى استعدادٍ
للسخرية من الآلهة حتى يُصِيبَهم البَكَمُ.
وما من ثمرةِ شوفان تُضارِع سنابلَ القمح.
يجب أن ندافع عن أنفُسِنا، ليس أمامَنا متَّسعٌ من الوقت.
كما يستغرق وقتًا آخَر
في الرسو على اليابسة. فما من ربَّان، حتى ولو أنزل المرساة،
يَجْرؤ على الإسراع في ربط حبال الرسو على الشاطئ، كما تحتاج السفينة إلى قيادة، ولا سيما نحو الغروب على شاطئٍ عديمِ المَرْفأ؛ فغروبُ الشمس ونزولُ الليل يجعلان قائدَ الدفَّةِ الماهرَ يتصبَّبُ عَرَقًا، كما لو كان بين شقَّيْ آلةِ التعذيب.
ما من قوةٍ تستطيع تسهيلَ النزول إلى البر إلا بعد أن تستقرَّ السفينةُ آمِنةً في مرساها. كُنَّ حازِماتٍ إذن، وبعقولٍ مثبتة على الآلهة، واحصلْنَ على مَعُونتهم. سأترافع عنكن، فبالصوت العجوز، والألفاظ الفَتِيَّة، ستهتف أرجوس لرسولِكن!
(يخرج داناوس.)
أو نصعد إلى أعلى كالدُّخَان الأسود،
قريبًا من سُحب زوس اللامعة،
أو نطير بغير جناح، غير منظورات،
ونختفي، ونضيع كالغبار!
بيْدَ أن الفرارَ عديمُ الجدوى، ولن نستطيعه بعد الآن،
وقد أظلم قلبي وارتجف.
إنني الفريسة التي وقعت في يدِ مُراقَبة والدي،٤٥
إنني لَأموتُ ذعرًا،
وأُوثِرُ أن أَلقى حتفي في أُنْشوطةِ حبلِ المشنقة على أن أعطي
لَحْمي لزوجٍ أمقتُه،
فَلْيَمتلكني الموتُ بسرعة!
أتمنى لو أجِدُ مقعدًا في الجو الأزرق،
حيث تحوِّلني سُحبُ المطر الجارفة، إلى ثلج.
إلى قمةٍ مَلْساءٍ لا تستطيع المعيز أنفسُها أن تتسلَّقها،
مكانٍ وراء مدى البصر، إلى أعلى
صخرةٍ غير واضحة تؤمُّها الكواسر،
لتشاهدني وأنا أقفز إلى الهوَّة السحيقة،
فرارًا من زواجٍ بالإكراه يرفضه قلبي!
عندئذٍ يصير لحمي الميت طُعْمةً للكلاب المفترسة،
ولتَسْمين كواسر الوادي. بهذا أكون راضية!
إذ يخلِّصني الموتُ من الآلام والدموع.
فَلْيسدِّد الموتُ سِهامَه جيدًا،
وَلْيُطالِب بي قبل الفراش وقبل العناق.
إلى أين أهرب لأكونَ حُرةً
في الإفلات من رباط اللحم؟
أصرخُ بنداء يصل إلى عَنان السماء، تقدمات تسمعها الآلهة
وتستجيب،
إلى صلوات الخلاص!
أي أبتاه زوس، انظر إلى هذا النضال،
فالعدلُ في عينَيك.
لا تبتسِمْ للعنف،
أي سيد الأرض، الكلي القوة،
كُنْ رحيمًا بنا، نحن المتضرِّعات.
إن أبناء أيجوبتوس يريدون صَيْدنا،
وينقضُّون علينا بصرخات الحرب،
بكل الغطرسة الوحشية التي يعرفها الذكور المطارِدون،
ليأخذونا بالقوة!
أي زوس! أنت وحدك المُمسِك بقَبِّ الميزان،
وبغيرك لا يحصل أيُّ شيءٍ على هدفه.
انظرن، انظرن، ها هو ذا قرصان البحر آتٍ!
لِمَ نزلتَ إلى الشاطئ؟ لماذا جئتَ؟
(يُقبِل الرسول المصري بصُحْبة عددٍ من الرجال المسلَّحين.)
النجدة، النجدة! اهرعْنَ إلى الآلهة للنجدة!إنهم فاسِقون متوحِّشون.
أيها الملك بيلاسجوس، عاقِبهم وأهلِكهم!
(عندما يرى المصريون التماثيل، يتردَّدون في بادئ الأمر.)
بأسرع ما تستطيع أقدامُكن أن تحملكنَّ … وإذا لم تأتين،
فسننزع شعورَكن، ونغمد الخناجرَ في أجسامكن، حتى تجرين
مضرَّجاتٍ بالدماء، الدماء، الدماء، ثم نَقطع رءوسَكن.
هيَّا، عسى الطاعون أن يأخذكن، أسرِعْنَ إلى السفينة!
اترك العنف، أقول لك، واهجر طِباعَ الجنون هذه، اخرج من هذا المعبد! عُدْ إلى سفينتك، واحترم مدينةَ أرجوس.
عسى ألَّا أرى النيل ثانية،
ذلك النهر المخصب، المغذِّي
الدم الذي يقفز داخل العروق الداعرة لمصر!
إننا من الجنس الأرجوسي، من سلالةٍ قديمة،
من أسرةٍ ملكية منحدِرة من ملِكة.
عندما أضع يدي عليكن وأجرُّكن بالقوة.
ساربيدون Sarpedon.٤٦
املأْنَ الجو نباحًا، واصرخْنَ بصوتٍ أعلى،
أَلَا يمكنكن الصراخُ بطريقةٍ أكثر استدرارًا للشفقة؟!
وعسى النيل القويُّ، الذي بعث بك إلى الشرور،
أن يسجِّل شرورَك على أنها تضيع سُدًى!
فالجرُّ من الشَّعْر ليس بالأمر اللطيف.
أشبه بعنكبوت تُراقِب فريستَها،
وتَحِيكُ نسيجَها لتَضَعني بداخله.
إنه حُلْم، أي أمي الأرض، أيتها الأم الأرض،
ساعِديني، وأبعِدي عني هذا الحُلْم المزعج!
أيتها الأم الأرض، أيها الأب زوس!
لستُ مَدينًا لها بشيء، سواء في الميلاد أو في الحياة.
ولما كان أفعى، فقد جرَّني من قدمي.
أواه، أيها الوحش!
أغِيثِينا، أدرِكينا، أيتها الأم الأرض، الأم الأرض،
ساعِديني، وأبعِدي هذا الوحشَ المريع!
أيتها الأم الأرض، أيها الأب زوس!
وإلا لوَّثتُ ومزَّقتُ ثيابَكن الرقيقة فوق أبدانكن.
لن تصرخن بعد ذلك كي تطلبن الحكَّام، لا تَخَفْن!
(يُمسِك المصريون بالدانائيات ويبدَءُون في جرِّهن نحو السفينة. وفجأةً يظهر بيلاسجوس مع حَرَسٍ مسلَّح، فتناديه الدانائيات وهو لا يزال على مسافةٍ بعيدة.)
أيها الملك! إنهم يجرُّوننا من أمام المذابح!(يدخل الملك بيلاسجوس.)
أتظنون أنكم قد أتيتم إلى أرضِ نساءٍ؟ إننا أَغارِقة،
ويجب على الأجانب أن يُظهِروا لنا احترامًا أعظمَ من هذا.
ستجدون أن مِثل هذه الأخطاء لن تُجدِيكم نفعًا.
ألأني وجدتُ هنا ما ضاع مني؟
كما يجب على الرسول أن يفعل — أخبِرني:
أرسَلَني سادتي لأُحضِر هؤلاء النسوة، بناتِ عمِّهم، فمَن أقول لهم إنه أجبَرَني على العودة خالي اليدَين؟
لن تتطلَّب هذه المسألةُ محاكمَ أو شهودًا،
فالقاضي هو أريس، الذي يُصدِر حكمَه في مثل هذه القضايا،
ليس بالغرامات المالية، وإنما بخسائرَ فادحةٍ
من الرجال الصَّرْعى، والأعضاء المتشنِّجة في الموت الدموي.
وتعرفه، أنت وكل جماعتك. أمَّا هؤلاء النسوة، فإذا أبدَيْنَ إرادتَهن، بالمناقَشة الشرعية، ونلتم رضاءَهن بالذهاب معكم، أخذتهن. ولكنَّ هذه المدينة
قرَّرت بإجماع الأصوات، في مجلسٍ كامل، وبرأيٍ واحدٍ ثابت ألَّا يسلِّموهن بالقوة إطلاقًا، وهذا القرار
سيَسْري إلى الأبد، ويظل ثابتًا لا يتزعزع.
ليس ما قلتُه منقوشًا على الشمع، ولا مكتوبًا
على لفَّاتٍ من الرَّق، لقد سمعتَ اللسان الحر يتكلَّم
الحقيقةَ الواضحة. والآن هيَّا اغرب من أمام وجهي في الحال.
إذًا فعسى أن تنالَ قضيةُ الذكور النصرَ والحكم.
(ينصرف الرسول ورجاله.)
تشجَّعْنَ أيتها النسوة،واذهبْنَ الآن مع رفيقاتكن، كلكن،
إلى مدينتِنا القوية الأسوار، المُحكَمة الإقفال بالقلاع ووسائل الدفاع الحكيمة.
(في أثناء الحديث، تجتمع الخادماتُ المرافِقات للدانائيات، فوق خشبة المسرح.)
لدينا بيوتٌ محجوزةلإكرام الضيوف عمومًا، وأنا نفسي لا أسكن
في مستوًى وضيع. بوسعكن اختيارُ الحياة في أرجوس
مع آخَرين في بيوتٍ ضخمة، أو إذا وجدتن من الأفضل
الحياة في بيوتٍ فردية، فأقمْنَ بها بغيرِ أجر، كما يناسبكن ويحلو لكن. أمَّا عن حاميكن هنا، فاعتبِرْنَني، أنا وجميع مواطنيَّ،
الذين رأيهم بهذه الصورة، مع كامل آثاره، حُمَاةً لكُنَّ.
فمَن له الحقُّ بعد ذلك في التعرُّض لكُنَّ؟!
ونرجو التكرُّم بأن تُحضِر إلينا هنا
أبانا داناوس، ذلك الروح الموثوق به،
ليفكِّر لنا ويقودنا بمَشُورته.
إنه هو، ولسنا نحن، الذي يقرِّر أولًا
أين يجِبُ علينا أن نقيم، وأي مكانٍ يستقبلنا بحَنان،
فإن الناسَ سريعو الانتقاد
لمَن يتكلَّمون بلهجةٍ أجنبية.
عسى أن يتمَّ كلُّ شيءٍ على ما يرام،
وأن تكون شهرتُنا بين أهل أرجوس
خاليةً من كل لوْمٍ ووِشاية.
(يخرج الملك بيلاسجوس وحَرَسه.)
أيتها الخادمات، اتَّخِذْنَ أماكنكن؛ كلُّ واحدة مع سيدتها التي خصَّصَها لها داناوس(تنتقل فتيات الكوروس ثانيةً من منصة المسرح إلى مكان الموسيقى حيث تَتْبعهن الخادمات. يدخل داناوس بصُحْبةِ رجالٍ مسلَّحين.)
إنهم، هم الذين أحرزوا النصرَ المبين في قضيتنا.
فقد استجاب أصدقاؤنا الذين يحكمون هذه المدينة، إلى ندائي
بحنقٍ ضدَّ أبناء عمكم. وعيَّنوا لي
هذا الحَرَس ذا الرماح، لضمان سلامتي وشرفي،
والمحافَظة على حياتي من أية ضربةٍ قاتلة خفيَّة٤٧
قد تلوِّث هذه الأرضَ بلعنة دائمة.
فبعد مثل هذا المعروف يحق للشكر
أن يتبوَّأ مكان الشرف في قلوبنا.٤٨
واكتبْنَ هذا في الذاكرة، أضِفْنَ درسًا آخَر إلى الدروس الكثيرة:
يُظهِر الزمنُ طِباعَ الرفيق غير المعروف،
فكلُّ رجل يحمل وِشايةً ضد الأجنبي،
على طرفِ لسانه، وقد تنشأ عن كلمة بسيطة واحدة، وَصْمة ثابتة.
لذا أوصيكن، وإنكن تتمتَّعْنَ بنضرةِ الشباب وجماله اللذين يضطران الرجال إلى أن يُدِيروا عيونَهم، بألَّا تجلبْنَ العار عليَّ.
ليس من السهل حراسةُ البستان الكامل النضج.
وما موضعُ العجب في هذا؟ فإنه يثير حِيَلَ الرجال،
ويحوِّلهم إلى نَهِمين جَشِعين،
ويُغرِي اللصوص من ذوات الأجنحة وذوات الأربع،
بما لا يقل عن اللصوص البشرية.
فما يحدث هو أنه عندما تجد أفروديتي٤٩ بابَ البستان مفتوحًا على مِصراعَيه، وبه أجسامٌ حلوة ناضجة، فإنها تعلن عنها،
حتى إن كل مَن يمر من الرجال المشتاقين، يُلقي نظراتٍ تُذِيب القلبَ إلى مثل هذا الجمال العَذْراوي.
تذكَّرْنَ هذا إذن، ولا تجعلْنَنا نقع فريسةً لذلك
الذي جاهَدْنا في دَرْئِه حتى الآن برًّا وبحرًا،
يلزمنا ألَّا نجلبَ العار على أنفُسِنا فنُشْمِتَ بنا أعداءَنا.
قُدِّمَ إليكن بيتان، أحدهما قدَّمه بيلاسجوس، والآخَر قدَّمته
المدينة، مجانًا بغير أجر، وأنتن لَمحظوظاتٌ في هذا.
ما عليكن إلا أن تتمسَّكْنَ بالنصيحة التي أسديتُها إليكن،
وتُقدِّرن العِفَّة أكثرَ من تقديرِكن للحياة.
أمَّا عن جمال عَذْراويتي، فلا تَخَفْ يا والدي.
فإذا كانت الآلهة لم تصمِّم خطةً أخرى،
فإن عقلي ثابت، لن أُغيِّر طريقي السابق.
هيَّا إذن إلى أبواب أرجوس،
وننشد أناشيدَ المديح لآلهة المُلْك المباركة،
التي تملك المدينة، وتقيم
بجوار مجرى إراسينوس Erasinus القديم.
وأنتن، أيتها الخادمات، أنشدْنَ معنا.
لتكن أنشودتنا عن أرجوس وعن البيلاسجيين،
ولنكُفَّ بعد ذلك عن أناشيد مصبات النيل المتدفِّقة،
وإنما عن الأنهار التي تصبُّ مياهَها الرقيقة
لتمنح هدية الأطفال إلى هذه الأرض العَطْشى،
وتجعل تُربتَها معتدلةً بالرطوبة المخصبة.
فَلْتنظر أرتيميس العفيفة إلينا بعين العطف،
ولا يأتينا الزواجُ بإكراه أفروديتي،
وَلْيذهب مثل هذا الجزاء لأعدائي!
ولم نَنْسَها. إنها وهيرا،
أقربُ في قوتهما إلى عرش زوس.
بيْدَ أن هذه الربَّة المتنوعة الوظائف والرزينة،
لا تُمجَّد إلا بأعظم الطقوس خشوعًا،
حيث تنضمان إلى أمهما العزيزة،
فتأتي أولًا ربَّة الرغبة، ثم ربَّة الإغراء الرقيق،
التي لا يُضَنُّ على سِحرها بشيءٍ قط،
ولربَّة الموسيقى وربَّات الحب، اللواتي يعملْنَ بالهمس،
أدوارَهن التي حدَّدتها لهن أفروديتي.
وقسوتهم المريرة، والحروب الطاحنة التي يهدِّدون بها.
ولماذا ينجحون هكذا في المطارَدة،
فتهبُّ عليهم ريحٌ مواتية تعمل على إسراع رحلتهم؟
سينال هذا الزواج غرضَه
في سعادةٍ تَفُوق ما عرفَته النساء.
عسى زوس القويُّ أن يحميني.
ولكن يبدو أنكِ تريدين تغييرَ ما لا يتغيَّر.
ما في عقل زوس البالغ العُمق؟
ومع ذلك، فاكْبتي عاطفتَكِ في صلاتكِ.
أن يحفظني من الخضوع القاسي لرجلٍ أمقته،
زوس، الذي خلَّص إيو من عذابها،
وأعادتها يدُه الشافية، بالقوة الرحيمة، إلى حالتها الأولى،
لعله يمنح قضيةَ النساء النصر!
إنني لَأقْبلُ الجزءَ الأحسن من شطري الشر،
أكون راضية لو رجحَت كفَّةُ الخير على كفَّةِ الشر،
إذا استطعتُ عن طريق صلاتي، إيجاد وسيلة للخلاص،
والحكم بالعدل،
بمشيئة السماء.