ملخَّص المسرحية
بعد أن قتلت الملِكة كلوتايمنسترا زوجَها أجاممنون، اعتلَت هي ومعشوقُها أيجيسثوس
عرشَ أرجوس Argos. بيْدَ أن روحَ سيدِها المقتول كانت
غاضبة، فأرسلَت إليها حُلمًا مُفزِعًا ليزعج روحَها في نومها. رأت الملِكة فيما يرى
النائم، أنها ولدَت أفعى وأرضعَتها كما لو كانت طفلًا، غير أن تلك المخلوقة المهلِكة
كانت تَرضع مع لبن الأم دمًا متخثِّرًا من ثَدْيها. فاستيقظَت من نومها وهي تصرخ
مُلْتاعة. ولما فسَّر عرَّافو البيت هذه الرؤيا بأنها علامةٌ على غضب القوى السفلى،
أمرَت الملِكة ابنتَها إلكترا وخادماتها بأن يحملْنَ القرابين إلى قبر أجاممنون،
عسى أن
تُصالِح روحَه الغاضبة.
كانت الأميرة إلكترا تعيش في القصر، ولكنها ما كانت تُعامَل أكثرَ من مُعامَلة
الإماء. وقبل مقتل أجاممنون أُرسِل شقيقُها الأميرُ أوريستيس ليُقِيم مع عمه
ستروفيوس Strophius في مملكة فوكيس Phocis البعيدة، حيث كبر وترعرع وبلغ مَبالِغ الرجولة.
وفي نفس ذلك اليوم الذي أرادَت فيه والدتُه أن تَدْرأ عنها شرَّ طالع ذلك الحُلم،
صحب
أوريستيس ابن عمه بولاديس، وذهب إلى أرجوس ليَثأر لمقتل والده.
وضع أوريستيس خصلةً من شعره فوق قبر أجاممنون. فلما أبصرَتها إلكترا تأكَّدت بأنها
تقدمةٌ للموتى لم يقدِّمها أحدٌ سوى أخيها، أمَّا أوريستيس فتعرَّف على أخته بثياب
الحداد التي كانت ترتديها. بيْدَ أنها لم تتأكَّد منه إلَّا بعد أن ترى أدلةً أخرى
معزَّزة بالعلامات أو بالتذكارات.
أعلن أوريستيس أن الآلهة أَوفدَته لغرض الانتقام؛ فقد أمره الربُّ أبولو
Apollo١ نفسه، بعد أن هدَّده بأنه إذا لم يُطِع أمرَه فسيبعث إليه والِدُه ﺑ
«إرينويس»
Erinyes٢ (ربَّات الانتقام) لتهاجمه، ويُطرد ملعونًا من مساكن البشر، ومن مذابح
الآلهة، إلى أن يهلك سقيمَ العقل والجسم.
اجتمع الأخ وأخته عند قبر أبيهما، يساعدهما كوروس صديقٌ يَعرض عليهما معونتَه في
قضيتهما العادلة. فتنكَّر أوريستيس وبولاديس في زيِّ السيَّاح الفوكيين، وذهبا إلى
كلوتايمنسترا، فرحَّبَت بهما وأكرمتهما بعد أن أخبراها بأن ابنها قد مات. فأرسلَت
الملِكةُ مربيةَ أوريستيس العجوز لتستدعي أيجيسثوس من الخارج بأن يأتي إليها مع حرسه
الخاص. فأوعز إليها الكوروس بتحريف رسالتها بأن تطلب منه الحضور في غير ما حراسة.
فلما
جاء قُتِل وقُتِلت كلوتايمنسترا بعدَه مُباشَرة، وقد أصمَّ ابنُها أذنَيْه عن
توسُّلاتها لكي يرحمها.
قدَّم أوريستيس الثوبَ الملوَّث بالدماء، الذي «تعثَّرَ» فيه والدُه عند مَصْرعه،
كدليل على عدالة فِعْلته. بيْدَ أن عقله بدأ يَشرد؛ إذ ظهرت أمام بصره إرينويس أمه،
دون
أن يراها أحدٌ غيره. ولذا اندفع خارجًا مبتعدًا عن مسرح القتل.
شخصيات المسرحية
-
أوريستيس Orestes.
-
كوروس من الإماء.
-
إلكترا Electra.
-
خادم.
-
كلوتايمنسترا Clytaemnestra.
-
بولاديس Pylades.
-
مربية.
-
أيجيسثوس Aegisthus.
-
المنظر: أرجوس.
-
الزمن: عصر الأبطال.
-
التاريخ: سنة ٤٥٨ق.م. بمدينة ديونيسيا.
***
(المنظر قبر أجاممنون. يدخل أوريستيس وبولاديس.)
أوريستيس
:
أي هيرميس العالم السفلي. أنت يا مَن تحرس القوى التي لوالدك.٣ كُن مخلصي وحليفي، أتوسَّل إليك الآن إذ أتيتُ إلى هذه الأرض وأنا
عائد من مَنْفاي إلى الوطن. إنني أبكي على هذا القبر المكوَّم لكي يَسمعني
والدي، ويُعِيرني أُذنًا صاغية.
«ها أنا ذا أُحضِر» خصلةَ شعرٍ ﻟ «إناخوس» Inachus،٤ في مقابل تغذيتي، وها هي خصلةٌ أخرى علامة على حزني.
هذا لأنني لم أكن موجودًا يا أبي لأبكي على موتك، كما أنني لم أمدَّ يدي إلى
جثتك لتُحمَل وتُدفَن.
ما هذا الذي أرى؟ هل لي أن أعزو هذا إلى ما حدث؟ أهو حزن جديد حلَّ ببيتنا؟
أو هل أنا مُصِيب في حَدْسي بأنهن يَحْملن هذه القرابين تكريمًا لوالدي،
لمصالَحة القوى السفلى؟ لا يمكن أن يكون إلَّا لهذا الغرض؛ إذ أعتقد أن هذه
حقًّا شقيقتي إلكترا، التي تتقدَّم هناك ظاهرة من بين سائر الباقيات، في ثياب
الحداد المريرة. أي زوس، امنحني أن أنتقِم لموت والدي، وأعرف مساعدتك
بنعمتك!
فَلْنقف مفترِقين يا بولاديس، حتى أستطيع أن أعلمَ يقينًا خبرَ جماعةِ النساء
المتضرِّعات هذه.
(يخرج أوريستيس وبولاديس.)
(تدخل إلكترا مع نسوة يحملْنَ القرابين.)
الكوروس
:
لما أرسلت من القصر، جئتُ أحمل القرابين بمصاحَبة الضربات النازلة على يدي في
جدية وسرعة. وها هو ذا خدي يحمل طابعَ الجروح الدامية، حيث حفرَت أظفاري شقوقًا
جديدة، ومع ذلك فطوالَ حياتي قلبي مفعم بالأحزان. رنَّ صوت التمزيق عاليًا على
نَغَم اللطمات المحزِنة، وهي تمزِّق صديريتي المصنوعة من التيل المنسوج، حيث
يغطِّي صدري ثوبٌ مضروب بسبب الحظ، الغريب على كل ضحك.
بينا أنا كذلك إذ بصوتٍ مجلجِلٍ أوقَفَ
كلَّ شَعْرة على طرفها؛ فقد أطلقَت القوةُ الموحية التي تتنبَّأ لهذا البيت عن
طريق الأحلام بصوت الغضب أثناء النوم، أطلقت صرخة فزع وسطَ سكون الليل البهيم،
ارتفعَت من أبعد حجرة في الداخل، فوقعت ثقيلة على مقصورة النساء،٥ وقام مفسِّرو الأحلام الشبيهو بهذا الحُلم، ففسَّروا مَشيئة السماء
المرتبطة بعهد، فقرَّروا أن مَن تحت الأرض يَشْكُون في غضبٍ مرير، وأنهم غاضبون
ضد القَتَلة.
ولكي تَدْرأ شرَّ هذه البركة غير المبارَكة (وا أماه الأرض!) أرسَلَتني تلك
التي لا آلهةَ لها. غير أنني أخاف أن أنطق بالألفاظ التي أمرَتني بأن أقولها؛
إذ أي تكفير هنا للدم إذا ما أُرِيقَ على الأرض؟ أواه، يا وطيس الحزن الشديد!
أواه، أيها البيت الواقع في الدمار! تلفُّ البيتَ الآن ظلمةٌ لا تُنِيرها الشمس
ويَمْقتها البشر؛ إذ قُتِل سيدُ هذا البيت.
ليس بمُكْنةِ أيِّ فردٍ أن يتخيَّل رهبةَ عظمتك، ولا أحدَ يستطيع مقاوَمتها،
ولا بمقدور أي مخلوق أن يلطف من حِدَّتها، تلك التي اخترقَت آذانَ الجميع
وقلوبهم، قد أطلقت الآن. بيْدَ أن البشر
يحسُّون بالخوف؛ لأن النجاح يبدو في عيون الناس إلهًا، بل وأكثر من إله. ولكن
ميزان العدالة المتَّزِن ساهرٌ على المراقَبة، فيسقط بسرعة على بعض الذين لا
يزالون واقفين في الضوء، وأحيانًا تنتظر الأحزان المتلكئة في شفق جوار الحياة،
ويلفُّ البعضَ ليلٌ واهن.
وإذ شربَت الأرض المغذية، كفايتَها من الدم، بقيت الدماءُ المنتقِمة متخثِّرة
ولن تذوب. تجتاح الكارثة روحَ الرجل المذنب، وتشرد ذهنه حتى ليغرق في البؤس
التام والكامل.
لا علاجَ لمن يَعْتدي على مَخْدع العروس. فرغم سريان جميع المجاري في تيارٍ
واحد لتطهير الدم من يدٍ ملوثة، فإنها تُسرِع في طريقها بغير فائدة.
أما أنا، فبما أن الآلهة أحاطَت مدينتي بمصيرٍ محتوم (إذ ساقوني بعد بيتِ أبي
إلى مصيرِ الرِّق)، يهدف ضد إرادتي إلى قهر عَدَاوتي المريرة، ويستسلم إلى نُصح
سادتي، سواء أكان ذلك النُّصْح عادلًا أو غير عادل. ومع ذلك، فمَن وراء خماري.
وقد تجمَّد قلبي من الحزن الدفين، أبكي أفعالَ سيدي الخبيثة.
إلكترا
:
أيتها العذراوات اللواتي تأمرْنَ بعدلٍ بهمومِ هذه الأسرة، بما أنكن حاضرات
هنا للإشراف عليَّ في طقوس التضرُّع هذه، فأَسْدِين إليَّ نصيحتَكنَّ فيما يختص
بهذا الأمر: ماذا أقول وأنا أسكبُ تقدمات الحزن هذه؟ كيف لي أن أجد ألفاظًا
مباركة؟ وكيف أنطق بالصلاة إلى أبي؟ هل أقول إنني أحضرتُ هذه القرابينَ إلى
زوجٍ محبوب، من زوجةٍ مُحِبَّة، من تلك التي هي والدتي؟ لست أملك الدليلَ
الأكيد على هذا، ولا أعرف الألفاظَ التي يجب أن أقولها، وأنا أصبُّ هذه السكيبة
على قبر والدي. أو هل أقول الكلام الذي اعتاد الرجال أن يقولوه، حتى يعود
بالخير على مَن أرسل هذه القرابين الجنائزية، وهي في الحقيقة هديةٌ تعادل شرَّهم؟!٦
أو هل أتقدَّم في سكونٍ وعدمِ احترام، بنفس الطريقة التي هلك بها والدي،
لأسكبها على الأرض لتشربها، ثم أعود أدراجي، كمَن تحمل فضلات الطقوس، فأطوح
بالآنية بعينَين مبتعدتَين؟
هيا يا صديقاتي، وكن الزميلات الناصحات لي، إذ نشترك جميعًا في العداوة التي
نكنُّها في داخل البيت. لا تَكتمْنَ النصحَ في قلوبكن خوفًا من أي فرد، فإن
ساعة المصير تنتظر كلًّا من الحُر ومَن صار عبدًا بقوة غيره، على حدٍّ سواء.
فإذا كانت لديكن وسيلةٌ أفضلُ فتكلَّمْنَ!
الكوروس
:
احترامًا لقبر والدك، كما لو كان مذبحًا، سأنطق بما يُساوِر أفكاري الداخلية،
طالما قد أمرتِني بذلك.
إلكترا
:
تكلَّمي كما لو كان عندك احترامٌ لقبر والدي.
الكوروس
:
تكلَّمي بألفاظٍ مليئة بالخير للقلوب المخلِصة، وأنتِ تَسْكبين.
إلكترا
:
وأذكر اسمَ مَنْ مِن بين هؤلاء القريبين مني؟
الكوروس
:
اسمك أولًا، ثم اسم كلِّ مَن يمقت أيجيسثوس.
إلكترا
:
إذن فهل أقول هذه الصلاة لنفسي، ثم لك أيضًا؟
الكوروس
:
الأمر هو موكول إليك. فاستخدمي حكمَكِ. هيا قرِّري بنفسك.
إلكترا
:
مَن غيرنا إذن لأضيفه إلى جماعتنا؟
الكوروس
:
لا تَنْسي أوريستيس، رغم كونه لا يزال بعيدًا عن وطنه.
إلكترا
:
حسنًا قلت! لقد نصحتني خير نصح.
الكوروس
:
والآن من أجل القَتَلة المذنبين، بفِكْرٍ منتبه …
إلكترا
:
بِمَ أصلي؟ علِّميني، اذكري اذكري لي الصيغة.
الكوروس
:
أن ينزل عليهما شخصٌ ما، إله أو إنسان.
إلكترا
:
أتقصدين أن ينزل حَكَمًا أو مُنتقِمًا؟
الكوروس
:
قولي في عباراتٍ بسيطة: «مَن يأخذ روحًا نظيرَ روح؟»
إلكترا
:
وهل هذا شيء عادل يحقُّ لي أن أطلبه من السماء؟
الكوروس
:
عادل؟! وكيف لا يكون عادلًا أن تجازي العدوَّ شرًّا بِشَرٍّ؟!
إلكترا
:
أيها الرسول الأعظم بين العالم العلوي والعالم السفلي، يا هيرميس العالم
السفلي، هيا إلى معونتي، واستَدْعِ لي الأرواحَ التي تحت الأرض كي تُصغِي إلى
صلاتي؛ الأرواحَ التي تسهر على مراقَبة منزل والدي. نعم، والأرض نفسها التي
ولدت جميعَ الأشياء، وإذ قامت بتغذيتهم وتربيتهم، فهي تنال الزيادةَ في مقابل
ذلك. وهل وأنا أصبُّ هذه القرابين المطهرة للموتى، أتوسَّل إلى والدي، فأقول
صلاتي هكذا: «رحماك بي، أنا وعزيزي أوريستيس! كيف نكون سادةً في أملاكنا؟ إذ
نحن مشرَّدون الآن كما لو كانت قد باعَتنا بالمقايَضة، تلك التي ولَدَتنا، تلك
التي اشترَت بنا أيجيسثوس رفيقَها، ذلك الذي كان زميلَها في قتلك. أمَّا عن
نفسي فلستُ خيرًا من عبدة، وأمَّا عن أوريستيس، فهو منبوذ مطرود من أملاكه،
بينما ينعمان في شجاعةٍ ووقاحة زهوهما، بما ربحْتَه بكدِّك. وهل لأوريستيس أن
يعود إلى الوطن وبحظٍّ سعيد؟! هذه هي صلاتي لك، فاستمع إليها يا والدي. وأما
لنفسي، فامنحني أن أبرهِنَ في قلبي على عِفَّة أكثر، أكثر بكثيرٍ من والدتي،
وعلى أكثر براءة.»
أرجو بهذه التوسُّلات عن أنفسنا. أما من أجل أعدائنا، أن يظهر مَن يثأر لكَ
يا والدي، وأن يقتل قاتِلَيك جزاءً وِفاقًا. (هكذا أتوقَّف في صلاتي للخير، من
أجل الذي ينطقون بها للشر.) ولكن كن لنا جالبَ النِّعَم إلى العالم العلوي
بمَعُونة الآلهة والأرض والعدالة المتوَّجة بالنصر.
(تصبُّ السكائب.)
هذه هي صلاتي، وأصبُّ فوقَها هذه السكائب. ومن واجبكن أن تتوِّجْنَها بزهور
النحيب، رافعات أصواتكن بأنشودة للموتى.
الكوروس
:
اذرفي دموعك منتحِبة من أجل سيدنا الصريع. وَلْتصحب هذه الوقاية من الشر،
وهذا يعني أن تبعد عن الأخيار التلوُّث المقيت للقرابين المسكوبة.٧
أصغِ إليَّ، أصغِ إليَّ، يا سيدي العظيم! بروحك التي يلفُّها الظلام.٨
الويل، الويل، الويل! يا لرجل قوي برمح ينقذ هذا البيت، رجل ماهر في فنون
الحرب، يُشهِر القوسَ في معمعان المعركة السكوثية Scythian، ويستخدم سيفَه ذا المقبض في اشتباكٍ قريب!
(بعد آخِر عبارات الكوروس، تكتشف إلكترا خُصلةَ
الشَّعر.)
إلكترا
:
ها قد تسلَّمَ والدي السكائبَ التي شربَتها الأرض، ولكن ها هي أخبارٌ
محيِّرة! اشترِكْنَ معي فيها.
الكوروس
:
تكلَّمي، ومع ذلك فإن قلبي يرقص خوفًا.
إلكترا
:
أرى خُصلةَ شَعر هنا، تقدمة قُصَّت لأجل القبر.
الكوروس
:
خُصلة مَن يمكن أن تكون هذه، أهي لرجلٍ ما أو لفتاةٍ مشدودةِ
الزُّنَّار؟
إلكترا
:
هذا سهل التخمين، فبوسعِ أي فردٍ أن يخمِّن.
الكوروس
:
وكيف إذن؟ فَلْتتعلَّم شيخوختي من شبابك.
إلكترا
:
ما من أحدٍ يُمكِن أن يقصَّها غير نفسي.
الكوروس
:
نعم، إذ الأعداء هم الأَوْلى بأن يقدِّموا مثل هذه التقدمة المحزِنة من
شَعرهم.
إلكترا
:
وزيادة على ذلك، فلو نظرنا إليها، فهي تشبه تمامًا …
الكوروس
:
خُصْلات شَعرِ مَن؟ هذا ما أرجو معرفته.
إلكترا
:
شَعرنا نعم، تشبهه جدًّا، إذا ما نظرنا إليها.
الكوروس
:
أيمكن أن يكون أوريستيس هو الذي قدَّمها هنا سِرًّا؟
إلكترا
:
تشبه هذه الخُصْلةُ خُصْلاتِ شَعْره المتموِّجة، أكثر من أي شَعرٍ
آخَر.
الكوروس
:
ولكن كيف تجاسَرَ على المجيء إلى هنا؟
إلكترا
:
لا بد أنه أرسل خُصْلته بعد أن قصَّها ليُكرم بها والده.
الكوروس
:
إن في ألفاظك لَسببًا أعظم للدموع، إذا لم يطأ بقدمه هذه الأرض بعد
ذلك.
إلكترا
:
إن موجة من المرارة لَتجتاحُ قلبي أيضًا، وقد ضربت كما لو طُعِنت بسيفٍ
فاخترق جسمي مرةً ومرة. تنحدر من عيني قطراتٌ ظَمْأى، من فيضانٍ عاصف، تنحدر من
تلقاء نفسها لا يمنعها مانع عند مرأى هذه الخُصلات. إذ كيف لي أن أتوقَّع
العثور على شخصٍ آخَر، رجل من المدينة، تلك القاتلة، والدتي، التي اتخذت لنفسها
إزاءَ أولادها روحًا لا آلهةَ لها، تلك التي مُنِحت بغيرِ حقٍّ اسمَ الأم.
أمَّا من جهتي، فكيف لي أن أرضى بهذا الحق على الفور، فهل كانت تزين رأس ذلك
الأعز على نفسي في العالم كله، أوريستيس؟ كلا، فالأمل إنما يتملَّقني.
ويحي! آه لو كانت ذات صوت رقيق كأنها رسولٌ يخبرني، حتى لا تتقاذفني الهواجس،
بل تأمرني في وضوح بأن أطرح هذه الخُصْلة بعيدًا لو كانت مقطوعة من رأسٍ ممقوت،
أو إذا كانت لقريبٍ لي، فَلْتشاركني حزني، فإن تزيين هذا القبر جزيةٌ
لوالدي.
يبدو أن السماء التي تتوسَّل إليها تعرف أية تيارات تدفعنا كالرجال في البحر.
ومع ذلك، فلو قُدِّر لنا النجاة، فمن بذرة صغيرة قد تنمو مادةٌ عاتية.
انظرْنَ! ما هذا؟ هنا أثر — دليل ثانٍ — أثر أقدام، كل منها مطابق للآخَر،
وتشبه آثار أقدامي! لأن هنا نوعَيْن من آثار الأقدام؛ آثار أقدامه، وآثار
أقدامِ رفيقٍ له. تتفق الأعقاب والأمشاط في نسبها مع آثارِ أقدامي. إنني أقاسي
عذابًا، وذهني في دوَّامة.
(يدخل أوريستيس.)
أوريستيس
:
أعلِني إلى السماء استجابةَ طلباتك وصلواتك، وصلِّي لكي يحالفَكِ النجاحُ في
المستقبل.
إلكترا
:
كيف هذا؟ من أين نلتَ النجاحَ بنعمة السماء؟!
أوريستيس
:
لقد أبصرت مَن ظللت مدةً طويلة تطلبين رؤيته.
إلكترا
:
ومَن مِن الرجال تعرف أنني كنتُ أطلب؟
أوريستيس
:
أعرف أنك تحبين أوريستيس حبًّا جمًّا.
إلكترا
:
وأين إذن وجدتَ استجابةَ صلاتي؟
أوريستيس
:
ها أنا ذا، لا تبحثي عن صديقٍ أقربَ مني.
إلكترا
:
كلا، ومن المؤكَّد يا سيدي أنك تنصب لي شَرَكًا ما.
أوريستيس
:
إذا كان الأمر كذلك، فأنا أَحِيكُ المكائدَ لنفسي.
إلكترا
:
كلا، بل إنك تَتُوق إلى السخية من مصائبي.
أوريستيس
:
لو سخرتُ من مصائبك حقًّا، فإنما أنا أسخر من مصائبي أيضًا.
إلكترا
:
إذن فهل أنا أخاطبك كما لو كنتَ أوريستيس حقًّا؟
أوريستيس
:
كلا، فحتى إن رأيتِ في نفس شخصه، فأنتِ بطيئة المعرفة. ومع ذلك، فمنذ أن رأيت
خُصْلة الحداد المقصوصة هذه، وفحصت آثار الأقدام، اتخذَت أفكارُك أجنحةَ السرعة
لتُدرِك أنني هو مَن ترين. أَعِيدي خُصْلةَ الشعر إلى الموضع الذي قُصَّت منه؛
خُصْلة شَعر شقيقك. ولاحِظي كيف تتَّفق وشَعر رأسي. ثم انظري قطعةَ المنسوج هذه
التي نسجَتها يداكِ، ذات الخطوط المستعرضة والمزخرَفة بصور الحيوانات. تمالَكِي
نفسك! لا يذهلنك الفرح! لأني أعلم أن أقربَ أقربائنا أعداء لكلَيْنا.
إلكترا
:
أواه، يا أعظمَ محبوبٍ من بيت والدك، وأمل ذلك البيت في البذرة المنقذة،
والمشتاق إليه بالدموع! ثِق بجُرأتك تَحْظَ ثانيةً ببيت والدك. إن وجودك
المحبوب لَينالُ أربعةَ أجزاء من حبي؛ إذ يجب عليَّ أن أدعوك أبًا، ولك الحب
الذي كان يجب أن أكنَّه لأمي — تلك التي
أمقتُها بحقٍّ أكثر من كل مَن سواها — والمحبة التي كنتُ أحملها لأختي، التي
راحت ضحية ذبيحة معدومة الرحمة، وكأخٍ كنت الحائز على ثقتي، والفائز باحترامي
دائمًا، أنت وحدك. هل ﻟ «القوة» و«العدالة» و«زوس» الثالث٩ السامي فوق الجميع، أن يُعِيروك مساعَدتهم!
أوريستيس
:
أي زوس، أي زوس، انظر إلى قضيتنا! انظر إلى ذرية يُتِّمَت لأبٍ نسرٍ هلك وسطَ
فتحاتِ شبكة، نعم في حبائل أفعى جبَّارة عاتية. إنهم يُتِّموا تمامَ اليُتْم،
وقبض عليهم قحطُ الجوع؛ لأنهم لم يبلغوا بعدُ في نموهم مبلغَ القوة الكاملة
التي تمكِّنهم من إحضار بغية أبيهم إلى العش. فهكذا تراني، أنا وإلكترا
المسكينة، هنا طفلَين فقدا أباهما، طريدَين من بيتنا، على حدٍّ سواء. فإذا
أهلكت هذه الذرية التي لأبٍ قدَّم لك الذبائح، وقام بأسمى فروض العبادة، فمِن
يدِ مَن مثل يده تتسلَّم طاعة الولائم الفاخرة؟ إذا أهلكت نسلَ ذلك النسر، فلا
تُرسِل منذ الآن علامات تصدِّقها البشرية، وإذا ذبلت هذه الذرية الملكية، فلن
تفيد مذابحُك في أيام ذبائح الثيران. تَبَنَّ هذه الذرية، ترفع بيتًا من دركات
الحضيض إلى أسمى درجات الرفعة والسُّؤْدد، رغم كونه يبدو الآن مندثرًا تمام
الاندثار.
الكوروس
:
أيها الطفلان، يا منقِذا وطيسَ أبيكما، لا تتكلَّما بصوتٍ عالٍ هكذا، يا هذان
الطفلان العزيزان؛ لئلا يَسْمعكما شخصٌ ما، ولمجرد الرغبة في الكلام ينقل كلَّ
حديثكما لسيدَيْنا، عساني أراهما يومًا ما ميتَين وسط دخان اللهب
القاتم!
أوريستيس
:
من المؤكَّد أن الوحي العظيم القوة، وحي لوكسياس Loxias لن يتخلى عني، إذ كلَّفني بالمُضِي في هذا الخطر إلى
النهاية، وقد أعلن في صوتٍ جَهْوريٍّ عقابًا تتجمَّد لهوله دماءُ قلبي الدافئة،
إن لم أنتقِم لوالدي من الآثِمين، وأمرني أنا الثائر لفقد أملاكي،١٠ بأن أقتلهما كما قتلا. وقرَّر أنني إن لم أفعل ذلك سدَّدت
الدَّيْنَ بحياتي وبكثيرٍ من الآلات المحزنة؛ لأنه تكلَّم مبيِّنًا للبشر غضبَ
القوى الخبيثة بعالم ما تحت الأرض، وذاكرًا
أوبئةً طاعونية وقروحًا جذامية تعلو فوق لحم الناس بمخالب وحشية، فتأكل مادتَه
الأولية، وكيف يتدفَّق من هذا المرض زغبٌ أبيض.١١ كما ذكر هجماتٍ أخرى للأرواح المنتقمة، على أن تنحدر من دم الأب
إلى ذريته؛ لأن صاعقةَ قوى الجحيم الداجية، الذين أثارَتهم الضحايا المقتولة من
جنس الأقارب تطلب الثأر، وتخرج المخاوف التي لا أساسَ لها والجنون، من الليل
فتعذب وتربك الإنسان الذي يرى بوضوح. ولو أنه يحرك حاجبَيه في الظلام،١٢ حتى يغدو جسمه مشوَّهًا بفعل السياط النحاسية، ويطارد حتى ولو كان
منفيًّا عن وطنه. قرَّر الإله ألَّا يسمح لمذنبٍ كهذا بأن يشترك في طاس الوليمة
ولا في الشراب المبهج، ويَحُول غضبُ والده بينه وبين المذبح، رغم كونه١٣ غير مرئي، كما لا يستقبله أي إنسانٍ أو يعيش معه. وأخيرًا بعد أن
يحتقره الجميع، ولا يجد صديقًا، يهلك بميتةٍ شنيعة تُذِيب
جسمَه تمامًا.
أيجب ألَّا أثِق في أي وحي من هذا النوع؟ كلا، فحتى إذا كنتُ لا أثق فيه، فإن
الفعلة لا بد أن تتم، إذ تتآمر عدة بواعث لغرضٍ واحد. فعلاوة على تكليف الرب
هذا، وحزني الشديد على والدي، وألم الفقر، حتى إن مواطني الذين هم أشهر البشر
جميعًا، الذين استولوا على طروادة بروحٍ جريئة لا يجب أن يكونوا رهْنَ إشارةِ
جماعةٍ من النساء؛ لأنه في قرارة نفسه ليس سوى امرأة، وإن لم يكن كذلك فسرعان
ما يضع نفسَه موضع الاختبار.
الكوروس
:
أيتها الأقدار الجبَّارة، امنحْنَ عن طريق قوة زوس، إتمام السداد، حتى إذا ما
دارت العدالة، فإنها تصيح بصوتٍ جَهْوري وهي تحصل الدين، وتنطق كلمةً بغضاء
ردًّا على كلمةٍ بغضاء، وتدفع ضربةً قاتلة في مقابل ضربةٍ قاتلة أخرى. ويقول
الأمر العجوز ثلاث مرات: «مَن يفعل فسيُفعَل معه بنفس ما فعل.»
أوريستيس
:
أي أبتاه يا والدي التعيس! بأية كلمة أو بأي فعلٍ يمكنني الطيران إليك من
بعيد، حيث يحمل لك مكان راحتك نورًا يتعارض مع ظلامك؟ ومع ذلك، فإن بكاءً
جنائزيًّا يخلِّد ذكرى الأتريداي Atreidae١٤ الذين كانوا يملكون هذا البيت من قبلُ، لأحد الطقوس
المبهجة.
الكوروس
:
يا بني، لا يرتاح ضمير الموتى بفكِّ النار الجائعة، ولكنه فيما بعدُ يتهم مَن
أقلقه. للرجل الميت مَرْثاته لإظهار الرجل المذنِب. فالبكاء ذو السبب العادل من
أجل الآباء ومن أجل الوالدين، إذا ما ارتفع عاليًا وقويًّا أدار البحث في كل
جهة.
إلكترا
:
إذن، فاسمع يا والدي إذ نبكي بدورنا بدموعٍ غزيرة. إنهما طفلاك كلاهما،
اللذان يبكيانك بمَرْثاة فوق قبرك. لقد لجآ إلى مدفنك كمتوسِّلَين
وكمَنْفيَّين. ماذا يوجد هنا من الخير؟ وماذا يخلو من السوء؟ أليس من العبث أن
نناضل ضد القَدَر؟
الكوروس
:
ومع ذلك، فإذا شاءَت السماء حوَّلت بكاءَنا إلى أصواتٍ ذاتِ نغمةٍ أكثر
بهجةً. وبدلًا من المَرْثاة فوق القبر، سترحِّب أنشودة نصر في داخل الأبهاء
بجمعِ شملِ الصديق.١٥
أوريستيس
:
آه يا والدي، لو كنتَ قُتِلت تحت أسوار إيليوم Illium مجروحًا برمح لوكياني Lycian! إذن لَتركتَ شهرةً عظيمة لأولادك في أبهائهم،
ولَأثرتَ إعجاب الناس بحياتهم في مَسيرهم، ولَوجدتَ قبرًا في أرض وراء البحر،
مرتفعًا عاليًا بالتراب المكوَّم، ولما تركتَ عبئًا ثقيلًا يَنُوء بحمله
بيتك.
الكوروس
:
ولَرحَّب بك زملاؤك الذين نالوا شرف القتل، بصفتك حاكمًا بالغَ العظمة،
ومبرزًا تحت الأرض، ووزيرًا للأقوى، للآلهة التي تحكم هناك في العالم السفلي؛١٦ إذ كنتَ في حياتك ملِكًا عليهم، على أولئك الذين يحكمون بالموت،١٧ ويمسكون العصا التي يطيعها الجميع.
إلكترا
:
كلا، ما كنت أريدك أن تسقط يا أبي تحت أسوار طروادة، ويكون قبرك بجانب نهر
سكاماندر Scamander،١٨ وسطَ الأقوام الآخَرين الذين ماتوا بالرمح، بل أفضِّل أن يُقتَل
قاتِلاك بيد أقاربهما مثلما قتلاك، حتى يعلم أيُّ شخصٍ في بلادٍ بعيدة، لا يعرف
شيئًا عن همومنا الحالية، بمصير الموت الذي أصابهما.
الكوروس
:
إن أمنيتك يا بنيتي لَأفضلُ من الذهب، من هذه الوجهة؛ لأن هذا يَفُوق الثروةَ
العظيمة الطيبة، نعم، بل والنعمة العليا١٩ أيضًا، إذ من السهل التمنِّي. ولكن الآن — بما أن صوت هذه الضربة المزدوجة٢٠ قد وصل إلى الوطن — فإن لقضيتنا أنصارَها تحت الأرض، بينما أيدي
الطرف الآخَر، رغم كون السلطة له — أولئك الأوغاد — فإنها أيدٍ دَنِسة. إن
الأولاد هم الذين لهم النصر في هذا اليوم!
أوريستيس
:
اخترق هذا الأرض، ووصل إلى أذنك٢١ كما لو كان سهمًا. أي زوس، يا مَن ترسل من العالم السفلي، للأفعال
التهوُّرية الشريرة التي تقترفها أيدي البشر، ترسل لها عقابَها الذي طال
تأخُّرُه، ورغم هذا فإنه سيتم من أجل خاطرِ أب.٢٢
الكوروس
:
عسى أن يكون من نصيبي أن أرفع عقيرتي بصرخةِ انتصارٍ على ذلك الرجل عندما
يُطعَن، وعلى تلك المرأة عندما تهلك! لماذا أُجهِد نفسي لكتمان ما يَجُول أمام
روحي؟ يضرب الغضب ضرباتٍ حادةً فوق قمة قلبي في حقدٍ وكراهية.
إلكترا
:
ومتى سيُنزِل زوس الجبَّارُ يدَه عليهما — ويلي! — ويشق رأسَيهما إربًا؟ ليكن
للأرض نصيبٌ منهما! وبعد الظلم، أطلب العدل بحق. اسمعي أيتها الأرض، وأنتم أيها
القوى السفلى المبجَّلة!
الكوروس
:
كلا، فإنها القاعدة الأبدية التي تجعل الدمَ المُرَاق على الأرض يطلب دمًا
آخَر. يصرخ القتل بصوتٍ عالٍ على روح الانتقام التي تجلب، من أجل مَن سبق
قتلهم، دمارًا على آخَرين.
أوريستيس
:
يا للحسرة! يا قوى العالم السفلي الملكية، إنكم ترون لعناتِ المقتولين
العاتية، ترون بقايا أسرة أتريوس Atreus٢٣ في حالتهم العاجزة، ترونهم يُطرَدون من بيتٍ لبيتٍ في عارٍ وخِزْي.
فإلى أي طريقٍ نتَّجِه يا زوس.
الكوروس
:
إن قلبي لَيخفقُ ثانيةً وأنا أسمع هذه الشكوى المحزِنة. سرعان ما أخلو من
الأمل، وتقتتم كليتاي لسماع هذه الألفاظ، حتى إذا ما حداني الأملُ فشجَّعني
وقوَّاني، ذهب بمِحْنتي، آتيًا عليَّ في نورٍ ساطع.
إلكترا
:
عن أي شيءٍ نتوسَّل بحق أكثر مما نتوسَّل من أجل المحنات التي قاسيناها، حتى
من تلك التي ولدَتنا؟ قد تتملَّقُنا، ولكنَّ تملُّقَها لا ينفع في تهدئتنا، إذ
لا يمكن تلطيفُ كراهيتنا لوالدتنا؛ لأنها أشبه بذئبٍ وحشيِّ القلب.
الكوروس
:
ألطم صدري٢٤ بمَرْثاة٢٥ آرية Arian تبعًا لعادة المرأة
الكيسيانية Cissian٢٦ المنتحِبة بضرباتٍ من قبضة اليد تنزل متلاحِقة ثقيلة وسريعة، وكان
بوسع المرء أن يرى يدي ممتدتَين، تارةً على هذا الجانب، وتارةً على الجانب
الآخَر، وهما نازلتان من فوق — من أقصى مداهما — حتى رنَّ رأسي المهشَّم التعيس
تحت وَقْع الضربات.
إلكترا
:
ويحك، أيتها الأم القاسية البالغة الجرأة! لقد أتَتْكِ القوة على أن تدفني
زوجَك دفنًا قاسيًا. فرغم كونه ملِكًا، دُفِن بغير أن يَبْكيه أحدٌ أو يسير
وراءه شعبُه أو يَصْحبه البكاء.
أوريستيس
:
ويلي، إن كلامك لَيوحي بالاحتقار التام. وعلى ذلك، أفلا يمكن بمساعدة الرب،
ومساعدة يدي، أن تُجازَى على الاحتقار الذي فعلَته بأبي؟ فَلْآخذ حياتَها، ثم
لا يهمني أن أموت بعد ذلك!
الكوروس
:
نعم، ومُزِّق٢٧ بطريقةٍ خبيثة، أود أن تعرف ذلك. وحتى عندما دفنَته هكذا، وضعَت
خطتَها بحيث تكون عبئًا على حياتك فوق ما تحتمل جميع القوى. ها أنت قد سمعتَ
قصة الإهانة الفاضحة التي لحقَت أباك.
إلكترا
:
إنها قتلت أبي، كما تذكرين، أمَّا أنا فاحتُقِرتُ منذ ذلك الوقت، واعتُبِرت
من سَقَط المتاع، محبوسة في حجرتي كما لو كنتُ كلبًا شريرًا، فأطلقتُ العِنان
لدموعي — التي جاءت بسرعة أكثر من الضحك — وانخرطتُ في النحيب داخل محبسي
ببكاءٍ غزير. اسمعي قصتي وادفنيها في قلبك.
الكوروس
:
نعم، وَلْتَغُصْ عميقًا في أُذنَيك، ولكن يجب أن تحافظي على هدوئك ورباطة
جَأْشك. أمَّا ما سيتبع ففكِّري فيه بنفسك، يجب أن تدخلي المعركةَ بغضب صلب لا
ينثني.
أوريستيس
:
ها أنا ذا أناديك يا أبتاه، قِف إلى جانب ابنك!
إلكترا
:
وأنا التي أبكي بدموعٍ سواجم، أضمُّ صوتي إلى صوته.
الكوروس
:
وكل جماعتنا تدمج صوتَها في تلاوة الصلاة مُدوية. استمع! هيا إلى الضوء! قِف
معنا ضد العدو!
أوريستيس
:
إله الحرب سيواجِه إلهَ حرب، والحق سيواجه الحق.
إلكترا
:
وأنتم أيها الآلهة، قرِّروا بحق حجة الحق!
الكوروس
:
إن هذه لَتَسْري في جسمي، وأنا أسمع هذه الصلوات. ظل القدَرُ منتظرًا مدة
طويلة، ولكنه سيأتي استجابةً لنداء مَن يدعو.
آه، أيتها المتاعب المتأصِّلة في هذه الأسرة، ويا ضربة الدمار باعثة الشقاق
الفَظ! آه! أيتها الأحزان المُبكِية والمفجِعة! آه، أيها الألم المُمِض!
لدى هذا البيتِ علاجٌ لتلك الويلات؛ علاج ليس من الخارج، من يد شخصٍ آخَر، بل
من يده هو نفسه، بالتنازع العنيف للدم، ننشد هذه الأغنية للآلهة المقيمة تحت
الأرض.
أيتها القوى السفلى المباركة، أَعِيروا توسُّلَنا هذا أُذنًا صاغية، وبإرادةٍ
مستعدةٍ أرسلوا نَجْدتَكم للأولاد حتى ينالوا النصر!
أوريستيس
:
أيا أبتاه، يا مَن هلكتَ بميتةٍ غير ملكية، أجِبْ طلبتي وامنحني السيادةَ على
أبهائك!
إلكترا
:
وأنا أيضًا يا والدي، أطلب منك طلبًا مماثِلًا؛ أن أهرب بعد أن أُلحِقَ
بأيجيسثوس دمارًا عظيمًا.
أوريستيس
:
نعم، إذ عندئذٍ تمدُّ ولائم الرجال الجنائزية المعتادة تكريمًا لك، وبغير ذلك
لا يكون لك نصيبٌ مشرف في الوليمة الفاخرة ذات النكهة الشهية، والتي تضم
القرابين المحترقة المقدَّمة للأرض.
إلكترا
:
وأنا كذلك، من كامل وصية ميراثي من بيت والدي أقدِّم لك سكيبة في ليلة زفافي،
وقبل كل شيء آخَر أبجِّل وأكرم قبرك هذا أعظم تكريم.
الكوروس
:
أيتها الأرض، أرسِلي والدي ليراقب معركتي!
إلكترا
:
أيا بيرسيفاسا Persephassa، امنحينا نصرًا
مجيدًا.
أوريستيس
:
تذكَّر الحمام الذي سُرِقت فيه روحك، يا أبتاه.
إلكترا
:
وتذكَّر كيف نصبوا لك شبكةَ صيدٍ غريبة.
أوريستيس
:
قُبِض عليك يا والدي بأغلالٍ لم تصنعها يدُ حداد.
إلكترا
:
وبأغطيةٍ صُمِّمت بطريقةٍ مُخجِلة.
أوريستيس
:
أبتاه، أَلَا تُقلِقك مثل هذه الإهانات؟
إلكترا
:
أَلَا ترفع رأسَك العزيز عاليًا؟
أوريستيس
:
إما أن ترسل العدالة لتُحارِب من أجل الأعزَّاء على نفسك، أو تمنحنا أن نقبض عليهما٢٨ بطريقةٍ مماثِلة، إذا كنتَ ستنال النصرَ حقًّا بعد الهزيمة.
إلكترا
:
أصْغِ يا أبتاه إلى آخِر توسُّل لي. كما أنك ترى هذه الأفراخ قابعةً عند
قبرك، فَلْتكن عندك رحمةٌ على ذُريتك، على المرأة، وفي الوقت نفسه على
الذَّكَر، ولا تعمل على انقراض ذُرية بيلوبس Pelops٢٩ هذه؛ إذ عندئذٍ تكون غير ميت، رغم الموت. فإن الأولاد أصواتُ خلاصِ
الإنسان مهما كان ميتًا؛ إنهم كقِطَع الفلين التي تطفو فوق الشبكة لتحافظ على
الخيوط الكتانية من الأعماق. أصْغِ! إننا نتقدَّم بهذه الشكوى من أجلك أنت،
استجِب لتوسُّلِنا هذا، تنقذ نفسك.
الكوروس
:
الحقيقة أنكما تقدَّمتما بشكواكما هذه بنفسٍ راضية، مُظهِرين التكريمَ لهذا
القبر غير المَبْكِيِّ عليه. أمَّا ما بقي، فبما أن قلبك متحفِّز للعمل، فهيا
إلى العمل إذن.
أوريستيس
:
وهو كذلك، ولكن ليس من الخطأ أن نسأل لأي غرضٍ أرسلَتْ هذه القرابينَ بعد أن
فات الأوانُ للتكفير عن فِعلةٍ تستعصي على العلاج. فهذه التقدمات منحةٌ محزِنة
للميت غير الواعي، ولا يُمكِنني التخمين بمعنى ذلك. وفضلًا عن هذا، فإن تلك
الهدايا حقيرةٌ لا تتفق وهذه الجريمة. فلو سكب المرءُ كلَّ ما لديه تكفيرًا عن
جريمةِ دمٍ واحدة، فإن جهدَه يضيع سُدًى، هكذا يقول المثل، فإن كنتِ تعرفين
حقًّا، فأخبِريني لأني أَتُوق إلى معرفة ذلك.
الكوروس
:
أعرف يا بني؛ لأنني كنت هناك. فعلَت ذلك لأنها رأت حُلمًا اضطرب له قلبُها
وحامت حولَها أرواحُ الليل المفزِعة، فأرسَلَت هذه القرابين، أرسَلَتها تلك
المرأةُ التي لا آلهةَ لها.
أوريستيس
:
وهل علمت بمضمون الحُلم فتخبريني به صحيحًا؟
الكوروس
:
رأَت في حُلمها أنها ولَدَت أفعى، هذه هي روايتها هي نفسها.
أوريستيس
:
وأين تنتهي القصة؟ وما مُلخَّصها؟
الكوروس
:
أرقَدَتها لتستريح كما لو كانت طفلًا ملفوفًا بالأقمطة.
أوريستيس
:
وأي طعام طلبَت هذه المخلوقةُ الشريرة الحديثة الولادة؟
الكوروس
:
قدَّمت لها ثَدْيَها بنفسها، في حُلْمها.
أوريستيس
:
لا شكَّ في أن حَلَمة ثَدْيها لم تُجرَح بأسنان ذلك الحيوان المقيت.
الكوروس
:
كلا، وقد امتصَّت مع اللبن دمًا متخثِّرًا.
أوريستيس
:
حقيقة، إن هذا الحُلْم ليس بغير معنى، فهذه الرؤيا معناها رجل!
الكوروس
:
عندئذٍ أطلقَت صرخةً في نومها، وصحَتْ مذعورة، وكم من مصباحٍ أُضِيءَ في
الظلام، فأرسلَ الضوءَ ساطعًا داخل البيت لإبهاج سيدتنا. لذلك أرسَلَت القرابين
للبيت عسى أن تصير علاجًا شافيًا لمِحْنتها.
أوريستيس
:
كلا، إذن فأنا أتوسَّل إلى هذه الأرض، وإلى قبر والدي، أن يتمِّم الغرض من
هذا الحُلْم بواسطتي، وهو، كما أفسِّره، مُطابِقٌ في كل نقطة. إذ لو غادرَت
الأفعى نفسَ المكان كما غادَرْتُه أنا، ولو كانت مزوَّدة بأقمطتي، ولو حاوَلت
أن تفتح فمها لتأخذ الثدي الذي غذَّاني، وخلطَت اللبن الحلو بالدمِ المتخثِّر،
بينما صرخَت هي فزعًا من هذا؛ إذن بكل تأكيد، بما أنها غذَّت مخلوقًا ذا طالِعِ
شُؤْم، إذن فهي ستموت حتمًا بالعنف؛ لأنني إذا انقلبتُ أفعى، فسأكون قاتِلَها،
كما يقرِّر هذا الحُلْم.
الكوروس
:
إني لَأختارُ قراءتَك لنذيرِ الشُّؤم ذاك. وَلْيكن كذلك! أما ما بقي بعد هذا،
فوزِّعْ على صديقاتك أدوارَهن. مُرِ البعضَ بماذا يفعلْنَ، والبعض الآخر بما
يتركْنَه دون إنجاز.
أوريستيس
:
إخبارهن بهذا سَهْل. يجب أن تدخل شقيقتي القصر، وإني لَأكلِّفُها بكتمان
اتفاقنا هذا، وأقصد بذلك أنه بما أنهما قتلا رجلًا عالي القدر، بالخدعة، كذلك
يُقبَض عليهما بالخداع أيضًا، ويَهلكان بنفس الشَّرَك. هذا هو ما قرَّره
لوكسياس، السيد أبولو، ذلك العرَّاف الذي لم يَثبت خطؤه من قبلُ.
سأذهب إلى الباب الخارجي، كاملَ التسليح، في زيِّ رجلٍ غريب، ومعي بولاديس
الذي ترينه هنا كضيفٍ وحليف للبيت. سنتكلَّم كلانا بلهجة بارناسوس Parnassus٣٠ مُحاكِين النطقَ باللغة الفوكية. فإذا لم يرحِّب بنا أحدٌ من
البوَّابين الترحيبَ اللائق، بحجة أن السماء أرسلَت المتاعبَ على هذا البيت،
فسننتظر إلى أن يمر بالبيت شخصٌ فيخطر بباله شيءٌ فيقول: «لماذا يقفل أيجيسثوس
بابَه في وجه المتوسل إليه، إذا كان في البيت حقًّا ويعرف به؟»
أما إذا اجتزتُ العتبةَ الخارجية للباب ووجدتُ ذلك الرجلَ جالسًا على عرش
والدي، أو إذا جاء أمامي بعد ذلك وجهًا لوجه، فإنه سوف — لاحِظي جيدًا! — يرفع
عينَيه ويتطلَّع قبل أن يقول: «مِن أي أرضٍ هذا الغريب؟» إذ سأعاجِله بسيفي
وأطعنه به وأُلقِيه صريعًا. فإن الروح المنتقِمة التي لم تقترب من الدم، ستشرب
جرعتَها الثالثة والعُظمى من الدم الصريف!
والآن يا إلكترا، لاحِظي جيدًا ما يدور في البيت، كي تلتئِم خطتانا معًا
تمامَ الالتئام. أما أنتنَّ (يخاطب الكوروس)
فمن الخير أن تلزمْنَ جانب الصمت. لا تتكلَّمْنَ عندما لا تكون هناك حاجةٌ
للكلام. وتكلَّمْنَ بالضروري فقط، حسب ما تتطلَّب الظروف. أما ما بقي بعد ذلك،
فإني أدعوه٣١ لأن يلقي نظرةً هنا ويقود النزاعَ بالسيف في الطريق الصحيح.
(يخرج أوريستيس وبولاديس وإلكترا.)
الكوروس
:
كثيرة جدًّا هي المخاوف المفزِعة والمهدِّدة بالخطر، التي ربَّتها الأرض
وأذرع جماعات البحر العميق بواسطة الوحوش الضخمة المقيتة. كذلك توجد بين السماء
والأرض أضواء٣٢ معلَّقة عاليًا في الهواء، وكائنات مجنَّحة، وكائنات تمشي، وتستطيع
الأرض أن تقصَّ أخبارَ الغضب العاصف لدوَّامات الريح.
ولكن مَن ذا يستطيع التكهُّن بروح الرجل البالغة الجرأة، وبالعواصف
المتهوِّرة للنساء المتصلِّبات الروح، رفيقات ويلات البشر؟ تسيطر على المرأة
عاصفةٌ جامحة قوية، وتنال انتصارًا قاتِلًا على زيجات الوحوش والبشر على حدٍّ
سواء.
لو كان هناك أي فرد خفيف العقل في فَهْمه فَلْيَعرف هذا، عندما يعلم بقصة
الجذوة المتَّقِدة التي صمَّمَتها ابنة٣٣ ثيستيوس Thestius العديمة
القلب، التي دبَّرَت هلاكَ ابنها عندما استهلكَت الجذوة المتفحِّمة، التي كان
عُمرها من عُمْر ابنها منذ الساعة التي خرج فيها من رَحِم أمه وصرخ عاليًا،
والتي ظلت معه طوالَ حياته إلى اليوم المقدَّر لمصيره.
تقول إحدى الأساطير إن امرأة أخرى، هي موضوع يصلح للدعارة. إنها عذراء٣٤ دبَّرت هلاكَ شخصٍ عزيز عليها بإيعازٍ من أعدائه؛ إذ أغرَتها هديةُ
مينوس، وهي عبارة عن العِقْد الكريتي المصنوع من الذهب، فقطعت شَعرتَه الخالدة
وهو نائم يتنفَّس غير مرتاب. فيا لها من فتاةٍ ذات قلب كلب! فأخذه هيرميس.٣٥
ولكن بما أنني استحضرت إلى الأذهان قصصَ الآثام المنطوية على عدم الرحمة،
فهذا هو الوقت الملائِم لذِكْر قصةِ زواج تجرد من الحب، فكان عامرًا للبيت من
جرَّاء المكائد التي دبَّرتها زوجةٌ لَعُوب ضد سيدها المحارب، ضد سيدها لسببٍ
يحترمه أعداؤه. ولكن أبجِّل وطيسًا ومنزلًا غريبًا على نيران العاطفة، كما
أبجِّل في المرأة روحًا تنفر من الأفعال
الجريئة.
الحقيقة أن قصة نساء ليمنوس٣٦ تحتلُّ المكانَ الأول بين قصص الجرائم. وقد ظلت مدةً طويلة تُروى
بالأنين، بصفتها فاجعةً مُنكَرة، حتى صارت مَثلًا يضربه الناس لكل فزعٍ جديد،
فيقولون إنه أشبه بالمِحْنة الليمنية. وبسبب هذه الفِعلة الشنعاء التي يمقتها
الآلهة، انقرض ذلك الجنس وأُبِيد، في خِزْيٍ وعار، من بين البشرية. فما من رجلٍ
يوقر ما يستحق كراهية السماء. هل هناك قصةٌ من تلك القصص لم أذكرها
بإنصاف؟
غير أن الحسام المرير الحاد، اقترب من الثَّدْي، وضرب ضربتَه في موضعها
تمامًا انصياعًا لأمِّ العدالة؛ إذ الحقيقة أن عدم استقامة ذلك الذي يذنب بحق
في ذات عظمة زوس الملكية، إنما يُلْقى على الأرض ويُوطَأ تحت الأقدام.٣٧
لقد ثبت سندان العدالة بإحكام. تشكِّل ربَّةُ المصير أسلحتَها، وتصنع سيفها
في الوقت المناسب، وتأتي روحُ الانتقام المشهورة والعميقة التفكير، بالابن إلى
البيت ليوقع الجزاء عن تلويث البيت بالدم المسفوك قديمًا.
(يدخل أوريستيس وبولاديس مع خادمٍ أمام القصر.)
أوريستيس
:
يا بواب! يا بواب! اسمع طرقاتي على الباب الخارجي! مَن بالداخل، يا بواب، يا
بواب، أقول مرة أخرى مَن بالبيت؟ وللمرة الثالثة أنادي شخصًا ما من هذا البيت
ليأتيني، إذا كنتم ترحِّبون بالغرباء بإرادة أيجيسثوس.
الخادم
:
نعم، نعم، أسمع. من أي أرضٍ هذا الغريب، وإلى أين؟
أوريستيس
:
أعلن قدومي لسادة هذا البيت؛ لأنني أحمل لهم أنباء. وأسرِعْ لأن عَرَبة الليل
تُسرِع بالظلام، وهذا هو الوقت الذي يُنزِل فيه أبناءُ السبيل مرساتهم في بيتٍ
ما ذي ترحيبٍ عام. اطلب من شخصٍ ما تكون له سيطرةٌ
على هذا البيت أن يأتيَ إليَّ، السيدة
الموكول إليها أمره، أو السيد، وهذا أليق؛ إذ عندئذٍ لا يسبِّب التأنُّقُ في
العبارات غموضَ الألفاظ؛ إذ يتحدَّث رجلٌ إلى رجلٍ في جرأة، ويعبِّر عن قَصْده
بغير تحفُّظ.
(ينسحب الخادم. تظهر كلوتايمنسترا عند الباب مع خادمة.)
كلوتايمنسترا
:
أيها الغرباء، ما عليكم إلا أن تعلنوا عن حاجتكم، فلدينا كلُّ ما يناسب هذا
البيت من حمَّامات دافئة، وفُرُش تُذهِب التعب، ووجود العيون المرحبة. أما إذا
كان هناك أمرٌ غير ذلك يتطلَّب مشورةً أعظمَ من شئون الرجال، فإننا سنتصل
بهم.
أوريستيس
:
إنني غريب داولياني Daulian من الفوكيين.
بينما كنت سائرًا في طريقي أحمل أمتعتي لشأنٍ من شئوني الخاصة إلى أرجوس —
وكنتُ قد أنهيتُ رحلتي إلى هنا٣٨ — إذ قابَلَني رجلٌ غريب عليَّ، كما كنتُ غريبًا عليه، وسألني عن
وجهتي، وأخبَرني بوجهته. إنه ستروفيوس Strophius، أحد الفوكيين (عرفتُ اسمَه من خلال حديثنا)، وقال
لي: «بما أنك أيها الغريب ذاهبٌ إلى أرجوس، على أية حال، فتذكَّرْ أن تخبر
والِدَي أوريستيس بأنه مات، ولا تنسَ هذا بحالٍ ما. وسواء قرَّر أصدقاؤه أن
ينقلوه إلى وطنه أو يدفنوه في الأرض التي أقام فيها غريبًا إلى الأبد، فعُدْ
إليَّ بقرارهم. وفي الوقت نفسه، فإن آنيةً من البرنز لَتَضمُّ رمادَ رجلٍ
مَبْكِيٍّ عليه بكاءً حارًّا.» لذا أخبرك بهذا كما سمعتُه، وسواء كنتُ بالصدفة
أتكلم مع مَن يَعْنيهم الأمر، أو مع مَن يهتمون به، فهذا ما لا أعرفه، ولكن يجب
أن يعرف أبوه هذا الخبر.
كلوتايمنسترا
:
الويل لي! إن روايتك هذه لَتُوحِي بتحطيم آمالنا تمامًا. يا للعنة التي تغشى
هذا البيت، العسيرة المقاوَمة! وما أبعد المدى الذي يَصِل إليه بصرك! فحتى مَن
كان المفروض أنه بمَنْأًى عن طريق الأذى، فها أنت ذا قد صرعتَه بسهامك
المسدَّدة جيدًا من بعيد. وجرَّدتَني من أولئك الذي أحبُّهم، أنا الكلية
التعاسة. والآن، يا أوريستيس — إذ خيرًا فعل بالاحتفاظ بقدمه بعيدةً عن حمأة
الدمار — والآن، هذا الأمل الذي كان في داخل البيت لعلاج مرحه العادل، ها أنت
ذا تسجِّل هجرانَه لنا.٣٩
أوريستيس
:
أما عن نفسي، فإني متأكِّد، بوجودي مع مضيفين بهذا الثراء، أنني أفضِّل لو
عرفوني ورحَّبوا بي بسبب أخبارٍ مفرحة. إذ أين توجد ثقةٌ أعظمُ مما يُبدِي
المضيفُ للضيف؟ ولكن بحسب فكري، أنه خرق للفروض المقدَّسة ألَّا أُنجِزَ
للأصدقاء ما عهدوا به إليَّ، مثل هذا، عندما أكون قد ارتبطت بوعد وبالإكرام
الموعود.
كلوتايمنسترا
:
كلا، وإنما يجب أن تطمئن وتتأكَّد من أنك لن تنال جائزةً أقلَّ مما يليق، ولن
تَلْقى في هذا البيت ترحيبًا أقل مما يجب، فقد كان بوسعِ رجلٍ غيرك أن ينقلَ
هذه الرسالة، ولكن هذا الوقت هو ما ينال فيه الغرباء الذين كانوا مسافرين في
رحلةٍ طويلة، إكرامَهم الملائم. (إلى خادم)
اصحَبْه إلى حجراتِ استقبالِ الضيوف من الرجال، هو وخَدَمه وزميله في السفر،
وَلْيُكرَموا هناك بما يتفق وبيتنا. إني أكلِّفك بهذا، وستكون مُلزَمًا بتنفيذه
بدقة، وفي الوقت ذاته سنخبر سيدَ البيت بهذا الأمر، وبما أننا لا نفتقر إلى
الأصدقاء، فسنتلقَّى المَشُورةَ في هذا الحادث.
(ينسحب الجميع ما عدا الكوروس.)
الكوروس
:
أيا خادمات هذا البيت المخلصات، كم من الوقت سيمر قبل أن نستخدم أيةَ قوةٍ في
شفاهنا لنقدِّمَ خدمةً إلى أوريستيس؟
أيتها الأرض المقدَّسة، والتل العالي المقدَّس المُطِل الآن على الحوض الملكي
لقائد الأسطول، استمِعا إليَّ الآن، وأعِيراني المَعُونة! هذا هو وقتُ الإغراء
بخداعها لكي تشترك معه في العمل، ولهيرميس العالم السفلي — ذلك الذي يعمل في
الخفاء — أن يقود الالتحامَ بالسيف القاتل.
(تدخل مربية أوريستيس.)
يبدو أن ضيفَنا الغريب يفعل الشرَّ الآن؛ لأنني أرى مربية أوريستيس تبكي
بدموعٍ غزيرة. أيا كاليسا Calissa!٤٠ إلى أين تذهبين؟ كيف حدث أنك وَطِئْتِ بقدمك باب القصر، حزينة على
رفيقتك غير المأجورة؟
المربية
:
أمرَتني سيدتي أن أنادي أيجيسثوس بغاية السرعة لأجل الغرباء، حتى يحضر ويعلم
بوضوحٍ أكثر، بصفته رجلًا أمامَ رجل، هذه الأنباء التي وصلت منذ لحظة. الحقيقة
أنها أخفت ضحكها لِمَا حدث وأسعَدَها، أمام الخدم، وخلف عينَين تتظاهران
بالبكاء، ولكن هذه الأخبار التي جاء بها الغرباءُ في وضوح، تُوحِي بالدمار
التام لهذا البيت. أؤكِّد أنه سيغتبط في قلبه عند سماع هذه القصة. ما أتعسني من
امرأة! كيف آلمت المصائب القديمة، التي من كل نوع، والتي يصعب احتمالها، وقد
أصابت بيت أتريوس هذا، آلمت قلبي داخلَ صدري! ومع ذلك فإنني ما قاسيتُ ضربةً
كهذه على الإطلاق، إذ احتملتُ جميعَ الويلات السابقة بصبرٍ وجَلَد، بيْدَ أن
سيدي أوريستيس المحبوب، الذي من أجله أضعتُ كلَّ روحي، ذلك الذي أخذتُه من
والدته عند مولده وربَّيته. وتلك الأعمال الكثيرة الشاقة — التي ذهبَت جميعُها
بغير فائدة — عندما كانت صرخاته الطويلة الحادة تنغِّص عليَّ راحتي. إذ يجب على
المرء أن يربِّي هذا الشيءَ العديمَ الإحساس كما لو كان حيوانًا أعجمَ —
وبالطبع يجب ذلك — بمُسايَرة مزاجه. فبينما كان لا يزال طفلًا ملفوفًا
بالأقمطة، ولا يستطيع النطقَ بالكلام إطلاقًا — سواء للتعبير عن الجوع أو العطش
أو قضاء الضرورة — فجوف الأطفال الصغار يعمل ما يحلو له. كان يجب أن أتنبَّأ
بهذا، ومع ذلك فكم من مرةٍ، وأظن أنني كنتُ مخطئة، غسلتُ ملابسَ ذلك الطفل!
فوظيفة الغسَّالة والمربِّية واحدة. كنتُ أنا التي تسلَّمتُ أوريستيس من يدَيْ
والده لأقوم له بهاتَين الوظيفتَين. والآن، ما أتعسني إذ أسمع أنه مات! ولكني
في طريقي لإحضار الرجل الذي جلب الخرابَ على هذا البيت، وسيسرُّه كثيرًا أن
يسمع هذه الأخبار.
الكوروس
:
وبأية صورةٍ أمرَتْه أن يحضر؟
المربية
:
بأية صورة؟! كرِّري هذه العبارة مرةً ثانية كي أفهم المعنى بطريقةٍ
أفضل.
الكوروس
:
هل يحضر مع حَرَسه الخاص، أو بدون حَرَس؟
المربية
:
مع حَرَسه الخاص.
الكوروس
:
كلا، لا تُبلغي هذه الرسالة لسيدنا البغيض، ولكن اطلبي منه أن يحضر وحدَه
بغاية السرعة، وبقلبٍ مبتهج، حتى يخبر بغير خوف. إذ تستقيم الرسالةُ الملتوية
في فَمِ الرسول.٤١
المربية
:
ماذا؟! وهل أنتِ مسرورةُ القلب من هذه الأخبار الحالية؟
الكوروس
:
ولِمَ لا، إذا كان زوس قد يغيِّر اتجاه ريحنا الخبيثة؟
المربية
:
كلا، وكيف يمكن أن يكون هذا؟ فقد ذهب أوريستيس؛ أملُ هذا البيت.
الكوروس
:
لم يذهب بعدُ. إنه لَعرَّافٌ غبي، ذلك الذي يفسِّر الأمرَ على هذا
النحو.
المربية
:
ماذا تقولين؟ هل تعرفين شيئًا أكثر مما قيل!
الكوروس
:
اذهبي وبلِّغي رسالتك! افعلي ما أمرتُ بفِعْله. تُعْنى الآلهة بمَن تريد أن
تُعْنى به.
المربية
:
حسنًا، سأذهب طوعًا لأمرك، عسى أن يتحوَّل كل شيء بنعمة الله إلى خير ما
يكون!
الكوروس
:
والآن، استمِع إلى توسُّلي، يا زوس، يا أبا الآلهة الأوليمبية، اسمح بتوطيد
حظوظ هذا البيت، حتى إن الذين يرغبون بحقٍّ في الحكم بنظامٍ أن يروه. لقد
توخَّيت العدالة في كل كلمة نطقت بها. فحافِظ على سلامتها يا زوس!
أيا زوس، انصر ذلك الذي بداخل القصر أمام أعدائه؛ لأنك إن أبهجتَه فسيسرُّه
أن يدفع لك الجزاءَ ضعفَين أو ثلاثة أضعاف.
تذكَّر أن الأفراح المميتة لرجلٍ عزيزٍ عليك، مربوطةٌ في عَرَبة البلاء. وهل
لك أن تضع حدًّا للأحداث الجارية، فتسمح بأن نراه يسير بخطًى ثابتة في هذا
الطريق بخطوة الركض الشاقة لبلوغ الهدف!٤٢
وأنت يا مَن تقيم في البيت في الحجرة الداخلية المؤثَّثة في بذَخٍ وأُبَّهة،
اسمعوني أيها الآلهة، يا مَن تشاركوننا مشاعرَنا! أَنزِلوا عقابًا جديدًا عن
الأفعال الدموية المقترَفة قديمًا. عسى أن يكفَّ القاتل العجوز عن ولادةِ
ذُريةٍ في هذا البيت!
وأنت يا مَن تسكن في المغارة٤٣ العُظمى الجميلة البناء، اسمَحْ بأن يرفع بيت هذا الرجل عينَيه
ثانيةً بالفرح، وينظر بعينَين مبتهجتَين، من وراء حجاب الظلام، ضوءَ الحرية
الساطع الأشعة!
عسى أن يمنح ابن مايا Maia٤٤ — كما يجب عليه أن يفعل — مساعدتَه؛ إذ لا أحدَ يمكنه أن يقود
فِعلةً في طريقٍ ملائم، خيرًا مما يفعل هو إذا شاء.٤٥ بيْدَ أنه بكلامه الخَفِي يجلب الظلامَ على عيون الناس بالليل،
وليس بالنهار أوضح منه دليلًا.
وأخيرًا سنُنشِد بصوتٍ مرتفعٍ أغنيةَ خلاصِ هذا البيت، تلك الأغنية التي
تغنِّيها النساء عندما تهدأ الريح، ولا ترسل صوتها المزمجِر جالِب الأحزان،
«تجري السفينة بسلام، ولي، لي، يزيد هذا إلى ربح، وتَنْأى الكارثة بعيدًا عن
أولئك الذين أحبُّهم.»
ولكن عندما يأتي دور العمل، فاصرخْ عاليًا بشجاعةٍ جيدة، قائلًا اسم «أبتاه»،
وعندما تصيح هي «ولدي»، أنجِز الفِعلة المؤذية، الخالية من الإثم.
ارفَعْ روحَ بيرسيوي Perseus٤٦ في داخل صدرك، ومن أجل الأعزاء عليك تحت الأرض، ومن أجل من فوق،
أقِمِ العدلَ الشافي لغليل غضبهم الشديد، مُحدِثًا الدمارَ الدموي في داخل
البيت، ومحطِّمًا المجرم الذي تسبَّب في الموت.٤٧
(يدخل أيجيسثوس.)
أيجيسثوس
:
لم آتِ من تلقاء نفسي، بل استدعاني رسولٌ بناءً على أخبارٍ مذهلة، كما سمعت،
يرويها الغرباءُ الذين جاءوا. إنها أخبارٌ بعيدة عن الترحيب، تقول إن أوريستيس
مات. فإذا وُضِع هذا على البيت صار عِبئًا مخيفًا، بينما هو لا يزال يَئِنُّ من
الجرح الذي أصابه به قتلٌ سابق. كيف يتسنَّى لي معرفة ما إذا كانت هذه الرواية
صادقةً وهي الواقع؟ أو هل هي مجرد إشاعة روَّجَتها النساء المذعورات، فترتفع
عاليًا ثم تهبط لتدلَّ على لا شيء؟ ماذا يُمكِنك أن تخبِريني به لكي يوضح
المعنى فيَسْهل فَهْمه؟
الكوروس
:
سمعنا الحكاية، هذا صحيح، ولكن ادخل واستفهِم من الغرباء. فليس تأكيد الرسول
شيئًا يُذكَر إذا قِيسَ باستعلامِ المرء بنفسه من الرجل ذاته.
أيجيسثوس
:
أريد مُقابَلة الرسول، وأتحقَّق منه من جديد، هل حضر الموتَ بنفسه أو أنه
يروي ما سمعه من تقريرٍ غامض؟ كلا، فَلْأتأكَّدن من أنه لا يخدع عقلًا مفتوح
العينَين.
(يخرج.)
الكوروس
:
أي زوس، أي زوس، ماذا بوسعي أن أقول؟ هل أبدأ بهذا صلاتي وتوسُّلي إلى
الآلهة؟ كيف لي، في إخلاصي هذا، أن أجد ألفاظًا تلائم الموقف؟ هذه هي اللحظة
التي فيها إما أن يدمِّرَ حدُّ النصال المضرَّجة بالدماء، والتي تصرع الرجال،
بيتَ أجاممنون إلى الأبد، أو يوقد لهب نورٍ ساطع في قضية الحرية، فيفوز
أوريستيس بكلٍّ من السيطرة على مملكته وممتلكات آبائه العظيمة. بمثل هذه
التجرِبة سيُواجِه أوريستيس خصمَه دون أن يكون معه مَن يشدُّ أزرَه. وعسى أن
يجرَّ هذا إلى النصر!
(تُسمَع صرخةٌ من الداخل.)
أيجيسثوس
(في الداخل)
:
أواه! أواه! الويل لي!
الكوروس
:
ها! ها! هكذا أقول. كيف الحال؟ كيف دُبِّر الأمرُ لهذا البيت؟ هيا بنا نقف
بعيدًا؛ إذ لم تَنتهِ المسألةُ بعدُ، حتى نكون بمَنْجاةٍ من اللوم في هذا العمل
الشرير. فقد تقرَّرت نتيجة القتال الآن.
(ينسحب الكوروس إلى أحد الجوانب، وعندئذٍ يندفع أحد خَدَم
أيجيسثوس داخلًا.)
الخادم
:
الويل لي، الويل والوبال لي! قُتِل سيدي! الويل لي! ومع ذلك، فأنا أصرخ للمرة
الثالثة، لم يَعُد هناك أيجيسثوس! هيا، افتحوا بكل سرعة! أَزِيحوا مزاليجَ باب
النساء! هذا الخَطْب في حاجةٍ إلى ذراعٍ يُمْنى قوية، ولكنها لن تساعد مَن قتل،
ما فائدة ذلك؟ أواه! أواه! هل أنا أصرخ إلى الصُّمِّ، وأضيع صوتي عبثًا إلى
قومٍ نائمين؟ إن رقبتها قريبة من حد الموسى، وتكاد تسقط تحت الضربة.
(تدخل كلوتايمنسترا مُسرِعة، وحدها دون خَدَم.)
كلوتايمنسترا
:
ما هذا؟ أية صرخة لطلَبِ الغوث تُطلِقها في البيت؟
الخادم
:
أقول إن الميتَ يَقتلُ الحيَّ.٤٨
كلوتايمنسترا
:
ويلي! ها أنا ذا أدركتُ معنى اللغز. سنهلك بالخداع كما قَتَلنا. فَلْيُعطِني
أحدٌ ما فأسَ قتال، وبسرعة! وَلْنعرف ما إذا كنا منتصِرين أو مهزومين؛ لأنني
وصلتُ إلى هذا في هذه الفِعلة الشريرة.
(يخرج الخادم. يفتح الباب فتظهر جثةُ أيجيسثوس، وأوريستيس واقفٌ
إلى جانبه، وعلى مسافةٍ منه بولاديس.)
أوريستيس
:
إنك نفس الشخص الذي أبحث عنه. أمَّا ذلك، فقد نال كفايته.
كلوتايمنسترا
:
ويلي! أأنت ميتٌ أيها الشجَّاع أيجيسثوس، يا محبوبي!
أوريستيس
:
أتحبِّين ذلك الرجل؟ إذن فسترقدين معه في نفس القبر، ولن تُفارِقيه قطُّ في
الموت.
كلوتايمنسترا
:
كفَّ يدَك، يا بني! أشفِقْ يا ولدي على هذا الثَّدْي الذي رضَعتَ لبنَه
وغذَّاك، حتى وأنت نائمٌ لم تَنبت الأسنان في لِثَتِك بعدُ.
أوريستيس
:
ماذا أفعل يا بولاديس؟ هل أُبقِي على حياةِ أمي شَفقةً بها؟
بولاديس
:
وماذا يكون إذن عن وحي لوكسياس الذي صدر في بوثو Pytho، وعن عهدنا الذي أقسَمْنا عليه؟ لأنْ تَعتبر جميعَ
البشر أعداءَك أفضلُ لك من عداوة الآلهة.
أوريستيس
:
أحكم بأنك المنتصر؛ فقد نصحتَني بالصواب.
(إلى كلوتايمنسترا) هيا إلى هذا الجانب!
أعني إلى جانبه لأقتلك. وبما أنك اعتبرتِه خيرًا من والدي بينما كان حيًّا،
فارقدي معه في الموت؛ لأنه الرجل الذي تحبِّينه، وكانت كراهيتُك لمَن فرض عليك
أن تحبيه.
كلوتايمنسترا
:
أنا التي غذَّيتُك، وسأصير عجوزًا لديك.
أوريستيس
:
ماذا؟! أتقتلين والدي وتتَّخِذي مسكنَك معي؟
كلوتايمنسترا
:
القدَرُ هو المسئول عن هذا، يا ولدي.
أوريستيس
:
إذن فالقدَرُ هو الذي دبَّرَ موتَكِ بنفس تلك الطريقة.
كلوتايمنسترا
:
أَلَا تخشى لعنةَ الوالِدَين، يا ولدي؟
أوريستيس
:
لقد ولَدتِني، ثم طردتِني وألقيتِني إلى البؤس.
كلوتايمنسترا
:
من المؤكَّد أنني لم أطردك بإرسالي إياك إلى بيت حليف.
أوريستيس
:
بعتني عبدًا، رغم كوني ابنَ رجلٍ حر المولد.
كلوتايمنسترا
:
إذن فأين الثمن الذي تقاضَيْتُه عنك؟
أوريستيس
:
يمنعني العار من أن أقرعك بما تستحقِّين.
كلوتايمنسترا
:
كلا، إذن فلا تحجمن عن إعلانِ حماقاتِ والدك.
أوريستيس
:
لا تتَّهِمي ذلك الذي كان يكدُّ وأنتِ جالسةٌ في البيت بدون عمل.
كلوتايمنسترا
:
كان عملًا قاسيًا، يا بني، أن تتجرَّد النساء من زوج.
أوريستيس
:
نعم، ولكنَّ كدَّ الزوجِ هو الذي يَعُولهن وهن جالساتٌ في البيت.
كلوتايمنسترا
:
يبدو أنك مصمِّم، يا بني، على أن تقتل أمك.
أوريستيس
:
إنك أنتِ التي تقتلين نفسَك، ولستُ أنا الذي أقتلك.
كلوتايمنسترا
:
احترِس، احذر كلابَ اقتفاءِ الأثر برائحة الدم المنتقِمة للأم.
أوريستيس
:
ولكن الكلاب المنتقِمة للأب، كيف أفلتُ منها لو تركتُ هذه المهمةَ بغير
إنجاز؟
كلوتايمنسترا
:
بما أنني لا أزال على قيد الحياة، فأعتقد أنني أنوحُ عبثًا أمام قبر.٤٩
أوريستيس
:
نعم، فإن مصيرَ أبي هو الذي يحدِّد حتفَكِ هذا.
كلوتايمنسترا
:
ويلي! هذه هي الأفعى التي ولَدتُها وأرضَعتُها!
أوريستيس
:
نعم، وقد تنبَّأ حُلمُكِ المفزِع بالصواب. إنكِ قتلتِ مَن كان يجب ألَّا
تقتليه، إذن فقاسي ما كان يجب ألَّا يكون.
(يُجبِر أوريستيس أمه على الدخول، ويتبعهما بولاديس.)
الكوروس
:
إني لَأحزنُ، حتى من أجل هذين في مصرعهما المزدوج. ومع ذلك، فبما أن أوريستيس
المعذَّب قد تسنَّمَ قمةَ كثيرٍ من الأعمال الدموية، فإننا لَنفضِّلُ أن يكون
الأمر هكذا؛ ألَّا تهلك عين هذا البيت تمامًا.
وكما جاءَت العدالة لبريام وابنه أخيرًا في عقابٍ ساحق، كذلك جاء إلى بيت
أجاممنون أسدٌ مزدوج، هو القتل المزدوج٥٠ بذَلَ المنفيُّ والمتضرِّع إلى إله بوثو، قُصارى جهدِه في إنجاز
مهمته، تحثُّه بعدل نصائح من فوق.
أطلقوا صيحات النصر لإفلات بيت سيدنا من محنته، ومن تبذير ثروته بأيدي
الشخصَين الفاسِدَين؛ ثروته المحزِنة!
وقد جاء ذلك الذي دورُه الانتقامُ بالخداع، بواسطة الهجوم خلسةً. وفي أثناء
المعركة أرشدت يده بواسطة تلك التي هي بكل حقٍّ ابنةُ زوس، التي تنفث الغضبَ
بموت أعدائها. نطلق عليها نحن البشر اسمَ «العدالة»، وبذا نصيب الهدف.
أطلِقوا صيحةَ النصر لإفلات بيت سيدنا من محنته، ومن تبذير ثروته بأيدي
الشخصَين الفاسِدَين؛ ثروته المحزِنة!
إن الأوامر التي أعلنها جهرًا لاكسياس ساكن محراب مغارة برناسوس القوية، قد
توطَّدت الآن بالدعاء العديم الخداع المهاجم للشر. عسى أن تَسُود كلمة الرب
كيلا أخدم الشرير!٥١ ومن الصواب احترامُ سُنَّة السماء.
انظروا، ها هو النور قد أقبَلَ وتحرَّرت من الحكم القاسي الذي شلَّ حركةَ
أفراد الأسرة. انهضي أيتها الأَبْهاء! فقد مضى عليكِ مدة طويلة وأنتِ راقدةٌ
على الأرض عاجزة عن الحركة.
سرعان ما سيمر «الوقت» المنجز لكل شيء، من أبواب البيت عندما يُطرَد كل
تلوُّثٍ من الوطيس بطقوس التطهير التي تطرد المصائب. وستتغير عجلاتُ الحظ، وهي
تسقط وتستقر بوجوه جميلة المنظر حَسَنة الاستعداد لكلِّ مَن يُقِيم في هذا
البيت.
انظروا، ها هو النور قد أقبَلَ، وتحرَّرت من الحكم القاسي الذي شلَّ حركةَ
أفراد الأسرة. انهضي أيتها الأَبْهاء! فقد مضى عليكِ مدة طويلة وأنت راقدةٌ على
الأرض عاجزة عن الحركة.
(يُرى أوريستيس ممسكًا بغصن المتضرِّع وبإكليله، وواقفًا بجانب
الجثتَين، ومعه بولاديس والخَدَم يعرضون ثوبَ أجاممنون.)
أوريستيس
:
انظروا إلى هذين الشخصَين الظالمين في هذا البلد، اللذين قتلا والدي، وبدَّدا
أموال بيتي! كانا في عظمةٍ وهما جالسان على عرشيَهما ومتحابان حتى الآن، كما
يستطيع المرء أن يحكم مما نزل بهما، وقد برا باليمين التي أقسماها على عهودهما
ومواثيقهما. أقسما معًا على أن يكونا عصابةً ضد أبٍ تعيس، وأقسما معًا على أن
يموتا معًا، وها هما قد برَّا بقسمَيهما.
وانظروا الآن ثانية، يا مَن تُنصِتون إلى هذه القضية المليئة بالكوارث،
والحيلة التي دُبِّرت لشدِّ وَثاقِ والدي التعيس، التي بها غُلَّت يداه
وقُيِّدت بها قدماه. ابسطوه! قفوا حوله في دائرة، واعرضوه — إنه غطاء لرجل! —
حتى يرى «الأب» (ليس أبي وإنما الأب الذي يخدم جميعَ الكائنات، أي «الشمس»)
العملَ غير الصالح الذي عملته أمي، وهكذا سيحضر في يوم الدينونة، شاهدًا عليَّ
بأنني فعلتُ هذا القتلَ لباعثٍ عادل، حتى قتل أمي، أما مقتل أيجيسثوس فلا
أتكلَّم عنه؛ لأنه نالَ عقابَ الزاني بحسب نص القانون.
أمَّا تلك التي دبَّرت هذه الفِعلة الشنعاء ضد زوجها، وجعلَت أولادها الذين
ولَدَتهم عِبئًا تحت منطقتها، عِبئًا كان عزيزًا في بعض الأحيان، أمَّا الآن
فكما يتضح من الأحداث مكروهين كراهية الموت من الإنسان، فماذا تظنون بها؟
أولَدَت أفعى بحرية أو حية رقطاء، أعتقد أن مجرد لمستها دون لدغتها، قد شلَّت
حركةَ البعض إذا أمكنها أن تلمس بشرور وبغير خجل.
(يعود فيُمسِك الثوب المضرَّج بالدم.)
أي اسمٍ أطلقه على هذا الثوب، وأنا أتحدَّث بلغةٍ غير حلوة؟ هل أسمِّيه
شَرَكًا للوحوش المفترسة، أو غطاءَ نعشٍ٥٢ لفَّ حول قدمَيه؟ كلا، بل الأحرى أن تسموه «شبكة» لصيد الحيوانات،
أو أثوابًا لتقييدِ أقدامِ رجل. هذا هو الشيء الذي يأتي به قاطع الطريق الذي
يخدع الغرباء، ويمتهن مهنة اللصوص، وبمثل هذه الوسيلة الخداعة يستطيع قتلَ
كثيرٍ من الرجال فيفرح بهم قلبُه.
عسى ألَّا تقيم مثلُ هذه المرأة معي في بيتي! وإلَّا فَلْيسمح اللهُ قبل ذلك
بأن أَهلكَ بغير ولد!
الكوروس
:
أواه، أواه، يا للعمل الوبيل! تعيسة هي الميتة التي أنهت حياتك. يا للحسرة!
يا للحسرة! والازدهار أيضًا لمن خدم الآلام.
أوريستيس
:
أفعلت تلك الفِعلة أم لم تفعلها؟ كلا، إن شاهدي هو هذا الثوب الذي صبغه سيف
أيجيسثوس، كانت دمًا، هذه البقعة التي تساعد الزمن على أن يتلف الأصباغ الكثيرة
التي صُبِغت بها الأقمشة الموشَّاة.
وأخيرًا أتكلم الآن بالثناء عليه، وقد حضرت الآن أخيرًا لأبكيه وأنا أخاطب
هذا النسيج الذي سبَّبَ موتَ أبي، ومع ذلك أحزن للفِعلة وللعِقاب، ولكل
العشيرة، إن انتصاري تلوَّث لا يُحسَد عليه الإنسان.
الكوروس
:
لن يقضي مخلوقٌ بشري حياتَه بغير خسارة وخالية من الآلام حتى نهايتها. يا
للأسف! يا للأسف! تأتي اليوم شدة، ثم تتلوها أخرى غدًا.
أوريستيس
:
ولكن، بما أنه قد يواجهني، وأنتن تعرفن — لأنني لا أعرف كيف ستنتهي — فأنا
سائق يَسُوق خيولَه بعيدًا خارج الطريق؛ إذ يطوح بي ذهني الصعب القياد بعيدًا،
مغلوبًا على أمري، وأما الخوف في قلبي فيميل إلى أن يغنِّي ويرقص على نغمة
الغضب. ولكن بينما أنا لا أزال محتفظًا بحواسي، أعلن لمَن أنا عزيزٌ عليهم،
وأقرَّر أنني لم أقتل بغير عدل والدتي، قاتلة أبي، الملوثة، والتي تمقتها
السماء.
أما عن البواعث التي شجَّعتني على هذا العمل، فأهمُّ مَن أقدِّمه هو لوكسياس،
عرَّاف بوثو، الذي قرَّر أنني إن فعلتُ هذا بَرِئت من التهمة الشريرة، أما إذا
تخاذَلت فلن أذكر اسم العقاب؛ إذ ما من قذيفةِ قوسٍ يُمكِن أن تصل بنكبتها إلى
ذلك الارتفاع.
والآن، انظروا كيف أتسلَّح بهذا الغصن وهذا الإكليل، وأذهب كمتضرِّعٍ إلى
مركز الأرض الرئيسي، أملاك لوكسياس، وإلى النار الساطعة المشهورة بأنها لا تخمد
إطلاقًا،٥٣ مَنْفيًّا لفِعلةِ قتلِ الأقارب هذه، كما أمرني لوكسياس بألَّا
أتوجَّه إلى أي وطيسٍ آخَر. أما عن الطريقة التي تمت بها هذه الفِعلةُ الشنيعة،
فإنني أكلِّف جميع رجال أرجوس، في الوقت المناسب، بأن يأتوا ويشهدوا لي. سأذهب
شريدًا من هذه الأرض تارِكًا ورائي تقريرًا في الحياة أو في الموت.
الكوروس
:
كلا، بل فعلتَ خيرًا. لذا لا تسخِّر لسانَك للنطق بكلامِ الشُّؤم، ولا تجعل
شفتَيك تتكلمان بتكهُّنات النحس؛ لأنك حرَّرت مملكةَ أرجوس بأسرها بأن قطعتَ
رأسَي أفعوانَين بضربةٍ سعيدة.
أوريستيس
:
أواه، أواه! انظرن إليهما هناك، أيتها الوصيفات، كأنهما جورجونتان٥٤ ترتديان أثوابًا من الشعر الأحمر المنسوج بالثعابين المكتظة! لا
أستطيع البقاء هنا أكثر من ذلك.
الكوروس
:
أية أوهامٍ تلك التي تُزعِجك، يا أعزَّ الأبناء على والدك؟ لا يسيطرنَّ
الخوفُ عليك بهذه الدرجة المفزِعة.
أوريستيس
:
ما من مخاوفَ متوهَّمة تُساوِرني، بل الحقيقةُ أن هناك تقف الكلابُ المقتفيةُ
الأثر برائحة الدم، تريد الانتقام.
الكوروس
:
إن الدمَ لا يزال يبلِّل يديك، وهذا هو السببُ في الوساوس التي تبلبل
أفكارَك.
أوريستيس
:
استمع إليَّ أيها السيد أبولو! إنهن يأتين الآن جماعات، ويقطر من عيونهن دمٌ
مقيت!
الكوروس
:
هناك طريقةٌ واحدة لتطهيرك، إنها لمسةُ لوكسياس التي تخلِّصك من هذه
الكآبة.
أوريستيس
:
إنكن لا ترينهن، بل أنا الذي أراهن. إنني أُطارَد، لن أستطيع البقاءَ هنا
أكثر من ذلك.
(يندفع خارجًا.)
الكوروس
:
إذن، فَلْتَصْحبك النِّعَم، وَلَيَرْعَك الله برحمته ويحرسك بحظٍّ
سعيد.
انظروا! للمرة الثالثة تهبُّ عاصفةُ الأسرة على البيت الملكي، وتستمر في
طريقها. فأولًا في البداية جاءت الكارثة القاسية من ذبح الأطفال طعامًا، ثم
حتفُ رجلٍ ملِك عندما قُتِل في حمَّام، فهلك سيدُ حربِ الآخيين Achaeans. والآن، يأتي مرة ثالثة مخلص، أو هل
أقول حتف؟ أواه! متى سيتم عملها؟ متى تهدأ ثورة المصائب وتنتهي وتَكُف؟