تقديم

بين يدي القارئ الآن، ترجمة الجزء الثاني والأخير من كتاب «سياسات الدول المتحاربة»، وهو واحد من أهم وثائق التاريخ الصيني القديم، بالإضافة إلى كونه سجلًّا تراثيًّا ذو مكانة وشهرة في تاريخ الكتابة بالصينية، حتى قيل إن الأباطرة ورجال الحكم والمُثقفين كانوا يحرصون على اقتنائه ومطالعته على الرغم من اقتصار نصوصه على محتوى يتعلَّق مباشرةً بتلك الطائفة من المُخططين السياسيين وآرائهم وتصوراتهم لإدارة الصراع بين الدويلات الصينية المُتحاربة في الفترة المُمتدة من القرن الرابع إلى الثاني قبل الميلاد، دون أن تتطرَّق موضوعات هذا السجل القديم إلى أي مضامين فكرية أو فلسفية، سوى ما هو مشهور عنه من أنه المدونة التي سجَّلت الخطوط العريضة للجهود النظرية التي أسَّست لما يقال إنه مذهب في الفكر السياسي يُطلق عليه «مدرسة الصراع بين التحالف الأفقي والرأسي»، وهو في ذلك يختلف عن باقي كتب التراث القديم التي لا تخلو من أصداء واضحة لمختلف مدارس الفكر في الصين القديمة: من الكونفوشية إلى الطاوية، مرورًا بالموهبة والتشريعية، بل الريفية والثنائية (الين/يانغ) … وغيرها، فهذا الكتاب — في معظمة — مجرد سردٍ لأحوال العلاقات السياسية والدبلوماسية، والمعارك العسكرية والمناوشات السياسية بين دويلات الصين على مدى مائتي سنة تقريبًا.

هو كتاب غريب بحق، يتفرد وحده بين كتب التراث بخصائص تضعه في سياقٍ مختلف عما هو معهود في الوثائق القديمة، غير أنه لم يحظ باهتمام الكثير من الدارِسين للتراث الصيني في بلادنا العربية، ولا كان موضع احتفاء من قبل الدارسين الأجانب، والغربيين منهم بخاصة، وقد حاولت كثيرًا البحث عن ترجمة كاملة له في الإنجليزية، فلم أجد سوى مُختارات قليلة (غير منشورة، وإن كانت متاحة للاطلاع عبر شبكة الإنترنت).

في فترة ما يُسمى، في ثبت العصور الصينية، ﺑ «الدول المُتحاربة (٤٧٥-٢٢١ق.م.) كان يستطيع كل صاحب موهبةٍ سياسية في التخطيط أو ترتيب شئون الاتصال والعلاقات الدبلوماسية بين الدويلات القديمة أن يَمثُل بين يدي الملوك وأن يعرض لآرائه ويبلُغ أرقى المناصب (وفي أمثلة كثيرة … كان يمكن أن يفقد حياته، إذا ما ثبت فشله أو خيانته). كانت الموهبة والقدرة على إفحام المُتناظرين واقتحام ساحات الجدل والنقاش، والذكاء في إقناع الملوك والأمراء بوجهات النظر والخطط المناسبة هي العنصر الرئيس في نجاح رجال التخطيط ووصولهم إلى مصاف النفوذ؛ ومن ثم كان الطموح الشخصي يدفع هؤلاء الرجال كان هناك غير قليل من النساء، أيضًا …) ليشقوا طريقهم نحو الغايات الفردية بكل الوسائل المُمكنة، دون مراعاة أحيانًا، لأية مبادئ، بل إن واحدًا مثل «تشانغي»، ذلك السياسي الداهية، تحوَّل إلى النقيض تمامًا؛ إذ تحول من رجلٍ يدعو إلى التحالف مع دولة «تشين»، فيما سُمِّي بالمحور الأفقي، (حيث تملك هذه الدولة القوية وحدها حق تقرير شئون الممالك وتسيُّدها جميعًا) إلى الدعوة لمجموعة التحالف المناهضة، فيما كان يشار إليه باسم التحالف الرأسي (مجموعة الدول التي تقع على محور رأسي يمتدُّ من الشمال إلى الجنوب، بزعامة دولة تشو).

ولست أوافق كثيرًا من وجهات نظر بعض الدارسين الصينيين في وصفهم لهؤلاء المُخططين بالطموح الزائد والوصولية … إلخ، (حيث تتم إدانة هؤلاء الرجال، من وجهة نظر كونفوشية صارمة، تجعل من قواعد الأخلاق كهنوتًا مقدسًا)، وإنما الصحيح أن نعتبرهم رجال دولة (بالمعنى الحرفي، أو المهني الفني) من طراز فريد، وقد أُتيح لهم أن يشاركوا في إدارة الصراع السياسي بين المَمالك القديمة في زمن الدول المُتحاربة، وعلى جبهة عريضة ضمت كل أصحاب الرأي في الصراع القائم، وقتئذٍ، بين العروش الحاكمة. وستجد في فصول الكتاب أدوارًا يقوم بها رجال ونساء، لا تربطهم أدنى علاقة بالتخطيط السياسي (بعضها يبدو أقرب إلى طبيعة الحكي الأسطوري!). مما يمكن معه القول إن رجال التخطيط، في ذلك الوقت، كانوا طليعة مجتمعٍ كبير يستكشف سبلًا مؤدية إلى اتفاق كبير، يلم شتَاتَه ويدعو الأطراف المتصارعة في أمة كبيرة إلى مائدة مفاوضات لحسم قضايا مصيرية بعيدًا عن ساحات القتال، في محاولة أشبه ما تكون بالمقابل النظري لمقولة «كلاوزفيتز» الشهيرة: (إن «الحرب هي بوسائل أخرى»؛ في حين كان المُخططون الصينيون، إبان عصر الدول المتحاربة يزعمون بأن السياسة هي المجال الذي يُتيح للخطط والتسويات السياسية أن تلعب دورًا أكثر حسمًا وجدوى مما تقوم به المعارك الحربية)، وهكذا؛ فقد راحوا يُقنعون الجميع بأن النصر النهائي — أو حتى الهزيمة المروعة — لا يتقرران بالقوة العسكرية وحدها، إلا على نحو نسبي، (فالكلمة الأخيرة في المسألة كلها، معقودة بمدى النجاح الذي تبلغه الخُطط السياسية في تقديرها لعناصر وحجم وتوازن القوة بين الطرفَين المتصارعَين: دولة «تشين»، في المحور الأفقي؛ ودولة تشو، في كتلة المحور الرأسي) تلك تحديدًا، وبإيجاز شديد هي الفكرة الأساسية في كتاب سياسات الدول المتحاربة.»

ولا ينبغي أن ننسى أن المُرتكز الذي تقوم عليه الفلسفة الكونفوشية هو ضبط العلاقة بين الجماعة البشرية بمختلِف انتماءاتها وطبقاتها ووظائفها الاجتماعية؛ فهي فلسفة الحشود الإنسانية بالدرجة الأولى، وتتجلى بأبرز معانيها في مجال ترتيب الشأن السياسي، بل إن عميدها الأكبر (كونفوشيوس) نفسه كان واحدًا من الساعين إلى العمل في منصبٍ وزاري، وكان يعد تلاميذه ليتبوءوا «وظائف سياسية ذات شأن»؛ وبالتالي، فقد كان رجال التخطيط — بمعنًى ما — جزءًا من بناء كونفوشي كبير، يتحركون فيه وبه ومن خلاله في مساعيهم المُتواترة بين العروش الحاكمة، إبَّان زمن الحرب. ومن هذه الزاوية نستطيع أن نلحظ أهمية دورهم تاريخيًّا (حيث أفضت جهودهم، جنبًا إلى جنب ظروف التطور التاريخية، إلى توحيد الصين، لأول مرة في تاريخها، كله في عام ٢٢١ق.م.) أما السبب في عدم ذيوع شهرة هذا الكتاب، فيرجع أساسًا، إلى خلوِّه من أية انتماءات فكرية واضحة للأفكار التقليدية التي شكلت الفلسفة الصينية (الكونفوشية، الطاوية)؛ فلا هو جزء من صرح كونفوشي، ولا هو تابع للطاوية، أو لِغيرها من المذاهب التقليدية.

وإنما هو مجرد سجل تاريخي حافل بالحكايات والأحداث والأساطير، وهذا وحده كفيل بأن يُخرجه من دائرة الاعتبار الكونفوشي الذي لم يكن يعتدُّ في مجال الإبداع إلا بالشعر وحده، بموسيقاه التي تنتظم قواعد النغم والإبداع (حيث الموازين مُحددة، والمقامات محفوظة)، ولم يُعرف عن الكونفوشية أنها نظرت بعين الاحترام إلى الحكايا والأقاصيص أو الرواية والأساطير.

طريقة تدوين الكتاب تلتزم بنسقٍ واحد يعتمد على إيراد النصوص المُتعلقة بسجلَّات الدول الرئيسة في عصر الدول المتحاربة — كما لاحظت، سيدي القارئ في الجزء الأول من هذا الكتاب — دون مراعاة للترتيب المنطقي في سرد الأحداث؛ ممَّا يُربك القارئ ويخلُّ بتطور السرد في معظم الأحوال، وكثيرًا ما ستُصادف تكرار فصول وأحداث مُحددة، دون داعٍ أو مناسبة أو حتى ضرورة إبداعية بلاغية، والأغرب من هذا كله أننا قد نُصادف ما يتَّصل بذكر أحوال شخصيةٍ ما، من نشاط وحركة وشئون حياة، بعد أن تكون قد ماتت وشبعت موتًا في فصولٍ سابقة، ثم إذا بها تنهض من تحت الأرض، فجأة لتتنسَّم الحياة من جديد، وعلى نحوٍ يتحدى منطق التتابُع السردي، ويغرق النص في فوضى هائلة هي أشبَه شيء بما كان يذكره المؤرخ الأندلسي الشهير، ابن حيان القرطبي، وهو يحكي طرفًا من سيرة ملوك الطوائف الذين ظلُّوا، على مدى أجيال يُوقظون الموتى بعد أن قُبروا ليقوموا إلى سدة العرش ثانية، في ثنايا فصول صراعهم على السلطة؛ لدرجة أنهم أماتوا وأحيوا أحد الأمراء (… الأمير هشام المؤيد)، ثلاث مرات! افتراءً على الحق وسخرية من التاريخ، وجريًا وراء مطامع السلطة.

وليس من الغريب أن نرى فوق ذلك ملامح شبه كبيرة، بين سيرة الأمم المتحاربة في الصين وتاريخ الدول العربية الإسلامية في الأندلس، فالصراعات تكاد تنطبق حرفًا بحرف؛ فالولايات الأندلسية تكاد تُكرر في مسار تحالفاتها واضطرابها وتحلُّلها حكاية النزاع بين الدويلات الصينية المُتحاربة؛ فهنا: فصول من معارك دولة «تشين» مع «تشو» و«هان» وغيرها من الدول الصينية القديمة، لتنتهي بانتصار «تشين».

وهناك صراعات الطوائف، فالمرابطين والموحدين؛ لتخلُص إلى علو شأن الدولة الحفصية في شمال إفريقيا، فقط مع فارقٍ أساسي هو أن تطاحُن الدويلات الصينية تمخَّض عن وحدتها تحت راية «تشين»، بينما انتهت صراعات الأندلس بالسقوط المروع.

ويبقى أنه لا مجال لمقارنةٍ هنا، ولا أقصد إلى ذلك سبيلًا؛ فالصين مارست صراعها على أرضها بحثًا عن صيغة للوحدة في ظروفٍ معينة من التطور التاريخي، بينما كانت الدولة العربية في الأندلس مجرد تجربةٍ لها شروطها في ظل جهود الفتح خارج إقليم الحضارة العربية قريبًا من تخومه مُشارفه.

وليس ابن حيان القرطبي كزميله الصيني (ليو شيانغ)، فالأول عاش التجربة وعاصر فصولها شاهدَ عيان، بينما الثاني نقل عن ستِّ مدونات مختلفة، وقد حاول جهده أن يضبط ويُصحح، لكن الأديب الكامن في أعماقه كان أقوى من المؤرخ، فعالج سيرة شخصياته بمزاجٍ أسطوري.

وختامًا، فلست أريد أن أكرر ما سبق أن ذكرته في مقدمة الجزء الأول، لكني أود القول إني أردت بهذه الترجمة أن أضع بين يدي القارئ نصًّا جديدًا من التراث الصيني، ربما لا يجد السبيل إليه على الأقل فيما هو متاح من الترجمات في اللغات الأوروبية وأن أضيف إلى المكتبة العربية واحدة من أهم مدونات مذهب الخطط السياسية المعروف في الاصطلاح الصيني باسم «تسون هنغ»، وأن أقدم أيضًا للباحث المُتخصص، نصًّا تاريخيًّا من لغته الأصلية، مزودًا بحواشٍ وشروح.

وسيجد القارئ بعضًا من تعليق المُحققين واردًا بين قوسين هلاليين، أما الإضافات التي تتعلق بموضوع النص، عرضًا، فقد حصرتها بين قوسين مربعَين، علمًا بأن النص، بالإضافة إلى كونه مصدرًا تاريخيًّا أصيلًا، فهو قطعة من الأدب الصيني القديم، رائدها التذوُّق الحر، مفتاحها في كنزها الأخفى، بيد أن النص لا يخلو من شروح وأسانيد.

ليست هذه سوى محاولة لترجمة كتابٍ آخر من التراث الصيني، ومثل كل محاولة، فهي تنطوي، لا بد، على مجازفاتٍ وأخطاء وتقديرات غير دقيقة؛ فمن المكابرة الادعاء بأن هذه الترجمة على درجة تامة من الدقة، لكني أؤكد للقارئ أني بذلتُ كل ما أستطيعه من جهد لكي تكون الترجمة أقرب ما يمكن لأجواء النص الأصلي كاملًا ووافيًا وصحيحًا، عن لغته الأصلية.

محسن فرجاني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤