سجل تشي الخامس
لمَّا ذهب سوتشين إلى الملك مين
ذهب سوتشين إلى الملك «مين» حاكم تشي وقال له وهو يُحاوره في بعض المسائل الفكرية:
«بلغني يا مولاي أن من بادر إلى تهييج الفتن وإشعال نار الحرب، كان مآله في آخر المطاف إلى البؤس والانكسار، وأن من اجتهد في إحاطة الملوك بسياجٍ من الجفاء والعزلة، سينتهي حتمًا إلى الانكفاء داخل إسار العزلة المقيتة. [علمت أيضًا] أن من تمجَّد شأنه وتألق نجمُه فهو الذي يستند دائمًا إلى قاعدة من التأييد، وأن من تباعد عن مُبغضيه هو [ذلك الذي] عرف كيف ينتهز الفرصة المواتية، ولذلك فإن القديسين الحكماء لا ينجزون أمرًا إلا بالاستناد إلى مرونة في الفكر والسلوك، وهو ما يفي بالنهوض بهمَمِهم دون إبطاء. [هكذا فإن] مرونة الفكر [التكتيك … حرفيًّا] والاستناد إلى أساس من الدعم والتأييد هما — معًا — المقودان اللذان يُوجهان مسعى البشر على طريق الحياة، أما:
(١) انتهاز الفرصة المواتية، (٢) وإدراك طبيعة الأوضاع القائمة، فهما طريقتان ناجعتان لتصريف الأمور، فإذا قيل إن هناك من يقدرون على إنجاز المآثر الكبرى دون حاجة إلى مرونة في التفكير أو سند من التأييد، وبغير مُراعاة للأوضاع القائمة أو تقدير للفرص واللحظات الملائمة، فإن أمثال أولئك النفر من الناس قليلون جدًّا.»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
«إننا لو تأمَّلنا الأحوال جيدًا لوجدنا أن أمضى السيوف لن تكون حادة بتارة بغير الاستناد إلى اليد التي تضرب بها [حرفيًّا = إن أمضى سيفين في دنيا الشفرات القاطعة وهما «كانجين» و«مويا» لن يقطعا شيئًا إلا بإدارة اليد الضاربة. وتقول الأسطورة إن هذين السيفَين كانا في الأصل رجلًا وامرأة تحوَّلا إلى سبيكة معدنية شقت نصفين فخرج منها السيفان الشهيران وقد صارا نصلَين قاطعَين كأمضى ما تكون النصال] وكذلك فإن أشدَّ السهام صلابةً وأحدَّ شفراتها مضاءً لن تُطلق في صدور العدو بغير وترٍ وقوس، فلماذا لم تُغنِ عن السيف حدةُ نصله؟ ولماذا لم يعتد برأس السهم وحدَه نافذًا مُسددًا؟ والجواب عندي أنهما وبرغم كل ذلك فلا يمكن أن تكون لهما قيمة بغَير المرونة [= التكتيك] والعون [ربما: الاستراتيجية؟!] لكن كيف لنا أن نجزم بصحة ما ذهبنا إليه ودقة معرفتنا به؟ والرد عندي جاهز، وسأستند في ذلك إلى رواية التاريخ نفسه الذي يحكي ما وقع في سالف الزمان من أن دولة جاو لما قامت بغزو دولة «ويه» وحدث أن توقفت العربات العسكرية عن التقدُّم في بعض الطريق، فواصل الجنود المشاةُ تقدُّمهم، فلما ترامت الأنباء بذلك إلى عاصمة «ويه» ضجَّ الأهالي وطالبوا دولتهم بالسعي في وقف القتال وطلب السلام ولو بالتنازل عن بعض الأراضي، وكانت أبواب العاصمة قد حوصرت بالقوات المُهاجمة التي استولت على اثنَين من الأبواب المؤدية إلى وسط المدينة، وصارت الأوضاع الماثلة تُشير إلى حالة احتلال وقيل وقتذاك إن حاكم «ويه» شوهد وهو يهرول من أبواب القصر حافي القدمَين وهُرع إلى دولة وي يقص على الناس هناك مأساته ويطلب النصرة. فأسرع الملك «أوهو» — حاكم وي — إلى درعه فتدرَّعها وإلى سيفه فشحذه وسار إلى دولة جاو يستثيرها لمقاتلته [فلمَّا ثارت الحرب بينهما] صارت العاصمة هاندان — عاصمة وي — تعج بالخيل وعربات القتال، وصارت الأرض من النهر الأصفر حتى جبال «تايشين» تتلظَّى بنار الحرب وتتقلَّب في مراجل الفوضى العارمة، لكن دولة «ويه» حصلت على العون الذي تريده، فجمعت ما تبقى لديها من قوات وقصدت إلى منطقة «كانبين» فخربتها، ثم اقتحمت أسوار مدينة «جونمو» ومهما قيل فلا يمكن أبدًا الزعم بأن دولة «ويه» كانت أقدر وأقوى من «جاو»، لكنا نستطيع إذا توسَّلنا بالتشبيه والمجاز أن نُصور دولة «ويه» بالسهم ونُشبه وي بالقوس الذي لولاه لما اندفعت «ويه» صوب منطقة «هدونغ» [جزء من أرضها الأصلية] فتطهرها من القوات المعادية وتعيد سيطرتها عليها، فلما استولى الفزع على دولة جاو استجارت بدولة تشو التي أعانتها في الحال حتى مكَّنتها من مهاجمة وي واشتبكت معها في القتال عند منطقة «جوشي» ثم اخترقتها وبلغت مدينة ليانغمن ثم واصلت القوات زحفها حتى تمركزت في إقليم «لينجون» [من أراضي وي] واستطاعت هنالك أن تسقي خيلها وفرسانها من مياه النهر الأصفر [فما كان يمكن أن تستطيع] دولة جاو مهاجمة وي وأن تشعل الحرائق في منطقة «تسيغو» ثم تستولي على مدينة «هوانشين» بغير الاستعانة [بدولة تشو] حتى يمكن أن يُقال بأن تخريب «كانسبين» واقتحام «جونمو» والاستيلاء على «هوانشن» وإحراق «تسيغو» لم يكن يخطر على بال أيٍّ من «جاو» أو «وي» إلا أن كل ما حدث كان من دواعي سعادتها على أية حال، ولئن سألت عن السبب في ذلك فسأرد عليك بأن كل هذا يرجع إلى حسن تقدير دولة ويه للفرصة والأوضاع القائمة، ثم سلوكها المرن واعتمادها على العون المضمون، أما القائمون على دفة توجيه سياسات الدول في زماننا هذا فليسوا كذلك، [على سبيل المثال فهناك الدولة ذات …] القوات المحدودة [تسليحًا وكفاءة] التي تصر على مناوأة عدو بالغ القوة. [وهناك أيضًا الدولة ذات] الوضع العام الذي يتسم بالتفكك والضعف، وبرغم ذلك تتَّخذ من السياسات ما يُثير سخط الناس وتذمُّرهم، [ثم هناك الدولة ذات] القوات المنهزمة التي تستميت في قتال لا طائل وراءه. وهكذا فإن [-١-] استثارة سخط الناس مع ضعف التسليح وندرة القوة الضاربة [-٢-] ومناوأة دولة قوية دون الاستناد إلى مساحة عريضة من الأرض، [-٣-] التخطيط القتالي لمواصلة العمليات برغم هزيمة القوات … كل تلك الطرق الستة لن تمكن الدول من تحقيق مطلب الترقي إلى النفوذ والهيمنة، بل يباعد بينها وبين كل احتمال ممكن للوصول إلى هذا الهدف.»
الجزء الثالث من الفصل نفسه
«وقد بلغني أن رجل الدولة المحنك، والسياسي الداهية، هو من يستمد إرادته من إرادة وأماني شعبِه، وهو ذلك الرجل القادر على التنبُّؤ بالحرب قبل قيامها، وهو أيضًا المُدرك لضرورة التكيف والمواءمة مع اتجاه تطور الأحداث، في الدنيا كلها؛ ولذلك [فمن مقتضيات التزود بهذه المقدرة] ولا بد [لرجل الدولة] ألا تنطوي نواياه على أية ضغائن تجاه الملوك والأباطرة عند عقد المعاهدات والتسويات المُتبادلة بين الأطراف، وألا يسعى إلى إلحاق الهزيمة الشاملة بأعدائه عند الظهور عليهم وإخضاعهم؛ فتلك هي الطريقة التي يحمي بها نفسه من التعرُّض لحرب استنزاف قاسية، ومن استصغار لشأن ونفوذ بلاده، فتتَّسع مساحة مملكته وتزداد طاقة الأمل في تحقيق أحلامه. [ويحكي التاريخ أنه] عندما قامت فيما مضى من الزمان كلٌّ من تشي، هان، وي بمهاجمة دولتي: تشين وتشو فلم يكن القتال بينهم حامي الوطيس، ولا بلغ حجم الأراضي التي تم الاستيلاء عليها [وتم توزيعها بالتساوي بين المُنتصرين كغنيمة حرب] يضارع مساحة كلٍّ من هان، ووي مُجتمعتَين. ومع ذلك، فقد أنحى الجميع باللائمة على دولة تشي؛ لأنها كانت السبب فيما حلَّ بكلٍّ من وي وهان من مصائب وأهوال، هذا بالإضافة إلى أنه عندما اشتعل أوار الحرب بين الدويلات والإمارات، واشتبكت كلٌّ من تشي و«يان» في قتال مرير، قامت جاو بضم منطقة «جونشان» بينما اشتدَّ القتال دون هوادة بين تشين وحليفتها تشو من ناحية، وبين هان ووي من ناحية أخرى، في حين استعرت حُمى الحرب بين كلٍّ من دولتي سونغ ويوي، وفي الوقت الذي اشتبكت فيه تلك الدول العشر الكبرى في قتالٍ مرير مع بعضها البعض، وصار العدوان المتبادل شغلها الشاغل، فقد ظلت كلها ترقُب أحوال وتصرفات دولة تشي بكل انتباهٍ واهتمام؛ وذلك لأن هذه الأخيرة كانت تحرص أثناء توقيع الاتفاقيات والمعاهدات مع باقي الدول على استنبات ودعم أسباب التشاحن والكراهية والفتنة [هذا في وقت السلم، أما في زمن الحرب فقد] كانت تعمل بكل جهدٍ ممكن على إيقاع الهزيمة المهينة بأشد أعدائها قوة وبأسًا.»
الجزء الرابع من الفصل نفسه
«ثم إن السبب الأساسي فيما يحل بالدول الكبرى من أزمات يكمُن فيما تنطوي عليه نواياها من طموح إلى آفاق النفوذ الإمبراطوري، أما السبب فيما ينزل بالدول الصغرى [الضعيفة] من نكبات فيرجع إلى ما يُساورها من هواجس تُصوِّر لها طمع الآخرين في ثرواتها وتآمُرها للنَّيل منها؛ فلذلك يحيق الخطر بالدول الكبرى، بينما تهلك الدول الصغرى فلا تقوم لها قائمة. وخليق بالدول الكبرى [ألا تكون هي البادئة بالعدوان بل] أن تبني خُططها على أساس دفاعي [يتلقى الهجوم أولًا ثم يقوم بالرد] فتصد الهجوم ثم تتقدَّم بثبات وإصرار نحو التخطيط لغزو الدول الجائرة [ التي خرقت قواعد الحق والعدل] وهكذا يتَّضح أن سياسة تلقِّي الهجوم أولًا ثم الرد عليه ثانيًا «هي المقدمة التي تبرر القيام بالغزو اللاحق، حيث يتزايد عدد الأنصار وتتعزَّز القدرات القتالية، وهكذا، فإن زيادة عدد القوات المعاونة [من الخارج] وتعزيز عناصر القوة ومغالبة قوات دول صغرى أنهكها القتال [كل ذلك] جدير بأن يخلق قدرة قتالية فعالة وقادرة [عندما تسير الأمور وفق إدارة كل الأطراف المتحالفة] تستطيع الأكف أن تقبض على زمام مصالحها، فتلك — إذن — هي الطريقة التي تبلغ بها الدول العظمى مشارف المجد الإمبراطوري، دون أن ينازعها أحد في ذلك فتتحقق لها الهيبة والنفوذ فوق الممالك. أما بالنسبة للدول الصغرى، فإن أفضل ما تسلكه من سبل هو أن تلتزم جانب الحرص والثبات والهدوء على أن تقتصد كثيرًا فيما تُوليه من ثقة للإمارات والممالك، وأن تحافظ على رباطة جأشها واتزان موقفها نحو جيرانها الملاصِقين لحدودها فتأمن معارضتهم ومناوأتهم لسياستها، ثم إن قدرًا من الحيطة والحذَر تجاه الدويلات والإمارات، يمكن أن يحميها من مفاجآت الغدر والخيانة، وهكذا فإذا ما أتيح [للدول الصغرى] أن تأمن الخيانة من خارج حدودها، وتطمئن إلى عدم معارضة جيرانها الأقربين فقد أفلحت في أن تتجنَّب ما لا تحمد عقباه.
إن سوء الظن بالقوى الفاسدة يصون ودائع الخزائن الرسمية من الضياع [من أن تقرضه العثة] حتى لو ذبلت الأرصدة وتآكلت أطرافها، فإذا استطاعت الدول الصغرى أن تلتزم هذا النهج طاوعتها المقادير ومصادفات البشائر السعيدة مقرونة بالخير العميم، دون — حتى — أن تقرب القرابين أو تسبح بحمد الآلهة، أو أن تقترض أكداسًا مكدسة من القروض الضخمة، ولذلك فيقال دائمًا: «إن من جعل البر والتراحم هداية للسائرين، استحق أن يصير ملكًا فوق عرش الممالك، ومن سلك سبيل الحق والعدل اخلولق أن يرتقي مدارج المجد الإمبراطوري [فيصير إمبراطورًا]، أما من أراق كل نقطة دم وعرق حتى استهلك مقدرة قواته على القتال فقد هلك.
وقد يسأل سائل عن الأساس الذي بنينا عليه علمنا في هذا الأمر واستندنا إليه في أحكامنا، [وعندئذٍ نُجيب بقولنا إنه قد …] كان الملك فوتشاي حاكم دولة «أو» فيما مضى مغترًّا بقوته وشديد بأسه فشمر عن ساعد الحرب وراح يُثير الفتن والاضطرابات ولم يُبالِ أن يهاجم مدينة «إينغ» — عاصمة دولة تشو — ويأسر ملك «يوي»، وبالطبع فلم يكن ليسير وحده في طريق القتال دون أن يسحب وراءه رتلًا من الأمراء وحكام الدويلات، ومع ذلك بلغ به الأمر آخر المطاف، أن شهد نهاية مفجعة، حيث [وقع الجسد وضاع البلد] وصار هُزأة بين المالك وعبرة لمن يعتبر وكان السبب في كل ذلك سعيه الدائم لإثارة الفتن والأزمات مُعتمدًا على بعض عناصر القوة التي تميَّز بها، وذلك كله رغبة منه في الفوز باللقب الملكي الأفخم.
وقد كانت دولتا «لآي» [دويلة صغيرة في عصر «الربيع والخريف» أطاحت بها دولة تشي] و«إينغ» — قديمًا — تدبران الدسائس والمؤامرات، بينما اشتهرت دولتا «تشن» و«تساي» بالبراعة في فنون الخداع والتمويه ومع ذلك فقد بادت دولة إينغ دون أن تشفع لها علاقات التحالُف مع «يوي»، وكذلك تضعضعت أركان دولة «تساي» وهي التي اتخذت من «جين» حليفة قوية. هذا وقد ضربت كلٌّ من تلك الدول المثل في البراعة في استخدام الدسائس والمؤامرات والخداع على المستوى الداخلي. في حين أنها أصاخت آذان الصدق لأقاويل وترهات الإمارات على المستوى الخارجي.
ومن كل ما سبق يتضح بجلاء لا لبس فيه أن كل ما أصاب الدول — صغرى كانت أو عظمى، ضعيفة أو قوية — من نكبات ورزايا ومحن، كان من الممكن جدًّا استخلاص البراهين والشواهد والمُقدمات الدالة عليها والمؤدية حتمًا إليها.»
الجزء الخامس من الفصل نفسه
«يقول المثل السائر: إن حمارًا أعرج يمكن أن يسبق حصانًا أصيلًا شاخ وكبر ونالت منه السنون، وإن فتاة ناهدًا يمكنها أن تصرع الملاكم الجبار «منغ بن» إذا ما وهن منه الجسد وأثخنته الآلام.» وبالطبع فإن مقدرة الحمير لا يمكن أن تفوق الخيل، ولا طاقة أي فتاة صغيرة أو بُنيانها الجسدي يمكن أن يؤهلها للتغلب على مصارع قوي البِنية، لكن المغزى هنا يكمُن في التدليل على أن [خطة] الانتظار والتريُّث حتى تخمد قوى الطرف الأقوى في الصراع هي التي تفوز دائمًا [وإذا نظرنا إلى ساحة الصراع الماثلة وجدنا أن …] قوة الأمراء الآن متكافئة تمامًا، وليس هناك مَن يريد أن يتنازل أو يتراجع، وليس هناك أيضًا من يملك أن يُدمر خصمه، أو أن ينتزع أي مكاسب منه [يستولي على أرضه]، ولا هناك كذلك من يفكر في التريث وتجميد حركة قواته ريثما تتبدد طاقة خصمه، وتصريف مشاعر الكراهية لتحلَّ محلها إرادة المقاومة والعدوان ضد كل من حاد عن جادة الصواب، وليس هناك من ينزع قناع الحرب ويُعلي راية العدل والحق بما يُعجِّل من فرص مغالبة الأمراء وقادة الدويلات والإطاحة بعروشهم. وعندما تنجلي للبصائر ملامح الكارثة التي ستكون قد حلَّت بالأمراء، وتنكشف [لكم] تفاصيل الأوضاع، فتنأون بأنفسكم عن التعهد بالانضمام للتحالُفات وتمتنعون عن مبادلة الأسرى، وعن أى تصرفات مُتهورة أو طائشة ويظل بإمكانكم دفع عجلة تطور الأمور إلى الأمام، فإذا توثقت العلاقات المتبادلة بين الدويلات والإمارات، فليس لنا أن نبدي أدنى اعتراض، حتى لو بلغ الأمر حد التنازل عن الأراضى وإزالة أسباب المشاحنات والكراهية بين الإمارات بعضها وبعض بما قد ينجم عنه من زيادة قوتها، فسيلزم عندئذٍ أن نفكر في طريقة للاقتراب منهم، لماذا؟ لأنه وإن كانت أوضاع كل الأطراف تحتوي على ملامح قلق وقروح مشتركة [فإن ذلك يقارب بينها على نحو خفي وينفي شبهة التفوق لأحدها دون الآخر، إذ …] إن الحرب، أساسًا [وعلى العكس تمامًا] وسيلة لاقتناص المنافع والمغانم. وبالطبع فإنه لم يتيسر لنا أن نُدرك تلك الحقائق إلا بما حدث من وقائع في الماضي، بحيث كانت رحى الحرب قد دارت بين دولتي «تشي» و«يان» في موقعة «هوانشيو» وكانت الدائرة على «يان» التي خرجت مهزومةً تلعق جراحها بعد أن فقدت مائة ألف […] من قواتها، وهنالك انتهزت القبائل الشمالية هذه الفرصة لتشنَّ هجومًا غادرًا على «يان» المُنهكة المفككة الأوصال إثر هزيمتها المُبالغة وامتدَّ الهجوم إلى إقليم «لوفان» حيث نهبت الحواصل والحظائر واستولت القبائل على قطعان البقر والجياد بأعدادٍ هائلة، هذا وكان من المعلوم أنه لم يسبق أن قامت — على مر التاريخ — أية علاقات بين تشي والقبائل الشمالية، ولا حدث بين قواتهما أي نوعٍ من التحالُف أثناء العمليات القتالية [ضد دولة «يان»]، ولا حدث بينهما تبادل للأسرى كنوع من التنسيق ضد «يان»، ومع ذلك فقد تطابقت مواقفهما وتماثلت في طبيعتها مع ما يقوم في تلك الظروف من تنسيقٍ وتحالف بين طرفَين ضد ثالث، لماذا؟ لأن الاتفاق الحاصل بين طرفَين في ملامح أزمة ذات سماتٍ متقاربة يُوحِّد بين أغراضهما القتالية ضد هدف مشترك سعيًا لتحقيق مآرب واستلاب مغانم. وهكذا يتَّضح مما سبق أن التحالف مع دول تتماثل معنا في ظروفها وأوضاعها كفيل بضمان تحقيق مصالح طويلة الأمد، ولا بد أن [سياسة] «الانتظار ريثما تتبدَّد طاقة الخصم الهجومية» خليقة بحثِّ الإمارات والدويلات على الانضمام إلى صفوفنا والوقوف معنا في وجه أعدائنا.»
الجزء السادس من الفصل نفسه
«لذلك فإنه لا ينبغي للملك الحكيم أو الوزير النابِه إذا ما أراد [أحدهما] أن يجعل من السؤدد والشرف والنفوذ الأعظم فوق الممالك هدفًا أو غاية مرجوة، ألا يُبادر إلى إشعال فتيل الحرب أو يُسارع إلى المبادأة بالهجوم [ذلك أن] الحرب هلاك للبلاد وإتلاف وتبديد لموارد المدن والبلديات.
فإذا جمعت الظروف على دويلة أو إقليم هاتين الكارثتَين [… هما: خراب البلاد وتبديد الموارد] فمن الصعب جدًّا يا مولاي أن تطلب إلى الأمير القائم على شئونها أن يأتمر بأمرك ويتبع مشورتك [فمن النادر جدًّا أن يستمع لما تقول] برغم ما هو معلوم من أن الحرب هلاك وإتلاف وتبديد، فإنك تجد الحكماء والمُثقفين والنابهين — إذا ما سمعوا أن حربًا قد قامت — حملوا ما جادت به خزائنهم من أمتعة وهرعوا بها إلى ثكنات الجنود ويتبرعون … [للمجهود الحربي] بكل ما تجود به طاقاتهم، وتراهم يحملون آنية الشراب والطعام ويقيمون الولائم العامرة للجنود البواسِل الذاهبين «للقاء الموت» بجسارةٍ في ساحات القتال، بل قد تغلي دماء الشهامة والكرم في عروقهم، فيعمدون إلى عريش الأسواق والعربات فيحرقونها جميعًا في بطون الأفران [لعمل الولائم الساخنة الشهية للجنود] هذا بخلاف ما يذبحون من العجول والأبقار [المخصصة أصلًا للعمل في الزرع والحصاد] على شرف المقاتلين الشجعان [وهم يُدركون] أن كل ذلك ليس في مصلحة الجنود، بل هو إضعاف وانتقاص من طاقتهم وقدراتهم.
ثم إن الأهالى يقومون قبيل الحرب [أثناء الإعداد لها] بالصلوات والابتهالات في خشوع لأجل الذاهبين للقتال [وبعد انتهاء العمليات] يُرسِل جلالة الملك وفودًا خاصة من جانبه للقيام بتكفين الموتى وعمل الطقوس اللازمة لدفنهم، وعندئذٍ يصير واجبًا على كل المدن والقرى التي تمر بها المواكب الجنائزية أن تقوم بما يلزم من إعداد لأواني القرابين والأضحيات لآلهة الأراضي، حتى الأسواق والمحال يصبح لزامًا عليها جميعًا أن تغلق أبوابها؛ كي يتفرغ عُمالها لما يُناط بهم من خدمات للجيش الملكي، فهذه كلها أمور من شأنها أن تعمل على تبديد مدخرات الخزائن العامة للبلاد وما يأتي اليوم الثاني من أيام القتال، حتى ترى الأنحاء كلها تغصُّ بتوابيت الموتى وتجد العِصي والدعامات، وحتى لو كان النصر من نصيب القوات فهو النصر الذي كلف ثمنًا غاليًا، الذي أخذ من الشقاء والعذاب والدموع ما يكفي أن يُدمي قلب الإله نفسه. وتذهب الناس لوداع أمواتهم وقد أنفقوا في طقوس القرابين والدفن آخِر ما تبقى في حوزتهم من مال، بينما تجد أهالي الجرحى قد استندوا لمداواة قروح أبنائهم، أما الأصحاء العائدين من جبهات القتال بكل صحة وعافية، فيمرحون ويرقصون طربًا ويجتمعون إلى موائد اللهو والشراب قد صُفت عليها الأواني والأطباق العامرة التي أنفقت لأجلها الأموال الطائلة، هكذا يتكلف أهالي الأحياء مثلما يتعلَّق برقبة أهل الموتى من الأنفاق، ويصير جملة ما يصرفه الناس جميعًا في مثل تلك الظروف، مبالغ طائلة من المدخرات والأموال التي لا تكفي لتعويضها عشرات السنين من دخل المحاصيل والحصاد، هذا بالإضافة إلى خسائر العمليات القتالية نفسها من أموال وأدوات قتال؛ إذ تكون النصال قد ثلمت والرماح تكسرت والأقواس فقدت أوتارها والعربات انقلبت والجياد أنهكت والأسهم تفرقت بِددًا في الساحات والأركان، أما الدروع والمغافر [فحدِّث ولاحرج إذ تكون قد] تهشمت برغم ما أنفق لشرائها وصنعها من أموال عامة، هذا بالإضافة إلى ما يكون السادة المُثقفون والمتعلمون وكبار الموظفين قد أخفَوه واحتفظوا به في خزائنهم الشخصية من أمتعة وأشياء ولا يفوتك أيضًا ما يستولي عليه قاطعو الأخشاب وحرَّاس الحظائر من مغانم متفرقة يَجدونها مُتناثرة في الساحات. [أرى أنه] من الصعب أن تطلب إلى أمراء دويلتَين، تخرَّبتا على هذا النحو أن يصيخا السمع إلى أية نصائح أو توجيهات.
وأرجو أن تلاحظ يا مولاي، أن تكاليف مهاجمة المدن الحصينة تزيد أضعافًا مضاعفة عما ذكرت لك، ذلك لأنه يصير من الواجب على الناس — في هذه الحالة — أن ينهمكوا في إعداد أدوات إخفاء الأسهم والأحجار المُعدة للقتال، وأن يُقيموا الأبراج ذات المزاغل فوق العربات الحربية [المُعدَّة لمهمات الاستطلاع]، وبالطبع فإنه يُصبح من المطلوب أن ينخرط الناس جميعًا في صفوف الخدمة العسكرية، وأن يُقيم معظمهم إقامةً دائمة داخل الخنادق أو تحت الأنفاق، هذا دون أن تكلَّ يد الصناع عن إعداد ما يلزم من الأسلحة ومعدَّات القتال، بينما ينهمك الجنود في عمل التحصينات والدُّشم والإنشاءات العسكرية المطلوبة، ويظل القادة ساهرِين وقد أثقلت أجسادهم الدروع والخوذ الحديدية يرتدونها ليل نهار بحيث يقدرون على القيام بعملية اقتحام المدينة الحصينة في أسرع وقت مُمكن بعد إصدار الأوامر إليهم بذلك، ثم إذا صدرت الأوامر، رأيت القادة والضباط مُنهكين لكثرة ما بذلوا من جهدٍ في التدريب والإعداد، وألفيت الجنود قد تساقطوا بين قتيلٍ وجريح، ومن ثم، فقلَّما نجحت عملية اقتحام لأسوار وخنادق المدن الحصينة عند أول محاولة، بل يتطلَّب الأمر عدة محاولات مُتتالية.
فلكل ذلك، أقول لجلالتك إنه لا ينبغي لعاقل أن يُبادر بالهجوم، ولا أجد ما أستند عليه من دليلٍ سوى شاهد التاريخ، ذلك أنه لمَّا ترأَّس القائد المظفر «جيبو» — فيما مضى من الزمان القديم — حملةً هجومية [مشتركة بين الدول الثلاث: هان، جاو، وي] ضد كلٍّ من «فان» «جونشين» [دويلات قديمة] وذبح قادتَها وأمراءها ثم خربهما حتى لم تعُد تقوم لهما قائمة فلمَّا تم له ما أراد، سار بقواته تجاه منطقة «شيوي» حيث انطلق من هناك ليُهاجم إقليم «جين يانع» [التابع لدولة جاو] واستطاع أن يَستولي على المنطقة والإقليم معًا مما أثار فزع حاكم جاو — الملك شيانغ وقتئذ — حتى قيل إنه قد ضرب في هذه الحملة مثالًا رائعًا على القيادة العسكرية الناجحة، ومع ذلك فقد انتهى به المطاف إلى الخزي والعار، إذ لقي حتفه وانهزمت بلاده شرَّ هزيمة [سقط الجسد وضاع البلد = حرفيًّا] وإذا سألت عن السبب، فسأُجيبك قائلًا: إنه [جيبو] كان البادئ بالحرب والعدوان، فأباد «فان» و«جونشين» بعد أن خربهما تخريبًا وحشيًّا. [هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن] دولة «جونشان» كانت — قديمًا — حشدت كل قواتها لمُلاقاة جيش التحالف بين دولتي «يان» و«جاو» والتقى الجمعان في موقعة تشانزي، من أرض جاو، حيث هزمت قوات دولة جاو، ثم التقت قوات جونشان جهة الشمال، بقوات دولة يان حيث دارت الدائرة على هذه الأخيرة فانهزمت وذبح قائد جيشها. ومع أن حصيلة دولة جونشان من العربات العسكرية لم تكن تزيد عن الألف عربة، إلا أنها تمكَّنت من صد دولتَين تملكان عشرة آلاف عربة، وانتصرت عليهما في معركتين متتاليتين، وهو ما يعد أداءً رائعًا من الناحية العسكرية، إلا أن ما حدث بعد ذلك هو أن البلد انهارت تمامًا، وفر حاكمها إلى دولة تشي ورضي، في ذل وهوان، أن يعمل وزيرًا لدى بلاطها الحاكم، ذلك لأنه لم يستطع أن يُجنِّب نفسه آثار الحرب التي تتجاوز عواقبها التدميرية كل حدود المنطق وتستعصي على الضبط أو التحكم في تبعاتها. وهكذا يتضح لجلالتك على ضوء ما ذكرت لك من وقائع فشل الحرب الهجومية.»
الجزء السابع من الفصل نفسه
«ولتناول بعض الجوانب المهمة مما يطلَق عليه في زماننا فن الحرب [فن قيادة القوات] وأحدثك (في بعض من هذه الجوانب) عن الهجوم، وهو يعني تحقيق الانتصار على نحوٍ مُستمر أثناء العمليات قبل انتهاء الحرب، أما «الصمود» فمعناه الحفاظ على أسوار المدينة الحصينة بحيث تبقى صلبة ومنيعة [فإذا ما تحقق هذان الجانبان] صارت الحرب جديرة بأن يُقال عنها — وسط الممالك — إنها نموذج للحرب الجيدة، [ومع ذلك، ﻓ …] إن بلدًا تعتمد اعتمادًا كاملًا على قُدرتها الفائقة في تطبيق شروط الحرب الجيدة وفي الطريقة المُثلى لاستخدام القوات العسكرية، ستجني من ذلك أسوأ النتائج. وقد بلغَني أن أكثر الدول قوةً وتحقيقًا للنصر في ساحات القتال، لا تلبث أن تتعرَّض لسقوطِ أكبر عددٍ من جنودها في براثن الموت، وبالتالي تُصبح قريبة إلى بلوغ المرحلة القصوى من الإنهاك وضعف القدرة القتالية بين الممالك كلها؛ كما أن أشد الدول صمودًا وراء الأسوار الحصينة، هي التي يتفاقم الجزع والقلق بين سكانها، مما يكشف ثغرات جدرانها ويفضح نقاطها الضعيفة، فيسقُط جنودها المحاربون على خطوط النار ويهلك مواطنوها المُقيمون داخل الأسوار، وتتعرَّى ثغرات حصونها، [فكل ذلك] مما لا يرضى به أو يتمنَّاه أي حاكم لبلاده.
واسمح لي أن أقول لك، يا سيدي إن كل رامٍ بسهمٍ وقوس يُصوِّب بدقةِ وإحكامِ وبراعةِ قناص نحو قلب الهدف المُعلَّم بدائرة حمراء في وسطه ورغم أن دائرة مُنتصف الهدف هذه لم تعادِ أحدًا ولم تمسَّ إنسانًا بسوء، إلا أن المُسدِّد رمية في قلبها يُعد من خير الرماة، والمُخطئ تصويبه يتوارى في خجل، فالكل من صغيرٍ إلى كبير، غني وفقير، يريد قلب الهدف بدقة وإجادة، لماذا؟ لأن تلك الدائرة الحمراء ترمز لصعوبة التصويب، وتتحدَّى مقدرة الرماة على الدقة والإحكام.
إن البلاد التي تحدُّها أسوار صامدة منيعة وتملك القدرة على أن تخوض غمار مائة حربٍ وتنتصر مائة مرة، هي البلاد التي تبدو للناس كقلاعٍ يصعب اقتحامها، بل تُمثل أيضًا أكبر مكمن للخطر، ومن ثم يتولَّد في نفوس الناس جميعًا مشاعر الحقد والكراهية والعداوة تجاهها [مما يُعرضها لمواجهات دامية نتيجتها أن …] تنكشف ثغرات أسوارها، وتنثلم عزيمة جنودها، وتحتشد سحابات القلق والتوتر في أجواء علاقاتها بباقي الدويلات، وهكذا فإنه ينبغي للسيد العاقل أن يتنكَّب عن ذاك السبيل؛ ذلك أن الإفراط في استخدام القوات وتركيز الاعتماد الكلي عليها، سينتهي آخر المطاف إلى الضعف والهوان وإن بدأ في بواكيره الأولى بالقوة والعنفوان، وهو ما لا ينبغي أن يقع في محظوره رجل الدولة الفطن.
إن الملك الحكيم ورجل الدولة العاقل يستطيعان أن يفرضا سُلطانهما فوق الدويلات والإمارات والممالك جميعًا دون حاجةٍ إلى تحريك أية قوات من ثكناتها؛ ذلك أن كبح جماح القوة العاتية، وردِّ النفس عن الاغترار والتبجُّح والتكبُّر كفيل باجتلاب أسباب الرخاء والحصول على أثمن المغانم، والظهور على الخصم في النزاعات المسلحة [إذا ما اضطر الملك الحكيم لخوض القتال] دون حتى أن يأمُر بتحريك صفٍّ واحد من قواته إلى ساحات المعارك، [ ويستطيع الملك الحكيم أن] يُجبر المدن الحصينة على الاستسلام دون حاجة إلى دفع عربات الاقتحام والعربات ذات الأبراج ومزاغل المُراقبة، ومن ثم تسري فوق البلاد شروط الطاعة لسياسته ويتحقَّق له النفوذ والسيادة فوق الممالك في وقتٍ وجيز جدًّا [… ولقد جاء حينٌ من الدهر كانوا فيه] يسوسون شئون بلادهم بأكبر قدْر من السؤدد [مُستخدمين في ذلك] أقل ما يمكن من الوقت والتكاليف؛ سعيًا لتحقيق أفضل وأبقى المصالح، ومن ثم فيُمكن الخلوص إلى نتيجةٍ مفادها أن [التخطيط القتالي القائم على] تلقِّي الهجوم أولًا، ثم ردِّ الضربة ثانيًا، هو الذي يضمن تجنيد وتطويع أمراء وحكام الدويلات والإمارات [تحت سلطانك].»
الجزء الثامن من الفصل نفسه
«… وقد تناهى إلى سمعي رأيٌ حكيم مفاده أنه لا يشترط في الطرق الهجومية أن تعتمد على استخدام القوة العسكرية؛ ذلك أنه مهما بلغ حجم القوات المُقاتلة، فإن [الطرق التي يفكر بها] القصر الحاكم يمكن أن تتمكَّن من صدها وهزيمتها، حتى لو كانت — تلك القوات — تحت إمرة أكفأ القادة (من أمثال «هيلو»، «أوتشي») فمن المُمكن النيل منها والإيقاع بقيادتها.
إن سورًا عاليًا يبلغ ارتفاعه ألف «جانغ» [أربعة آلاف متر] تستطيع بكل سهولة أن تقوم (بالتخطيط) باختراقه وأنت في مأدبة ملكية عامرة داخل أروقة القصر [وليس في ساحة المعارك]، وكذلك فإن عربة حربية استطلاعية ارتفاعها مائة «تشي» [ثلاثون مترًا] يُمكن تحطيمها — بخطط تُعقد في حجرة نوم جلالة الملك [وليس على خطوط النار].
ولن يكون من العسير — بعد اليوم — أن تصدح الموسيقى بأعذب الألحان، وتنتثر الدفوف والعيدان، وتشخشخ المصلصلة، وينطلق صفير الناي، وينداح النغم في أذن كل سامع، ويتردد الرنين في أعماق النفس [حتى بعد انتهاء العزف الموسيقي بزمن طويل] وتتسع الأراضي، وتمتد السيادة الوطنية فوق كل شبر من تراب الوطن، ويُظلل النجاح كل مسعًى، فيتهادى الأمل غضًّا فتيًّا، كما تتثنَّى أعطاف فتيات راقصات وهن يتبعن إيقاع النغم برشاقةٍ وجمال، ويعبق الجو بعبير المرح وتنتشي النسمات بعرف من رائق الهناء والسرور، ويأتيك من كل فج أمراء وشيوخ يسجدون عند أعتابك ويُقسمون لك يمين الولاء.
إنه ليس من الشرف في شيءٍ أن يوزع القصر ألقابًا جليلة ودرجات فخرية على [كل من هبَّ ودبَّ من] الناس في كل أرجاء المملكة، وليس من قبيل الكرم أن يكون المال أو النفوذ هو وسيلة ضبط الأمور وتدبير الأحوال الداخلية في البلاد، ولذلك لا تثبت دعائم الحكم الملكي الجليل إلا في الممالك التى يشقى فيها الناس ويكدَحون كي يهنأ ملوكهم بالراحة، وتضطرب أحوال الدهماء كي يلتذَّ الأباطرة بالاستقرار وتُحبط فيها مؤمرات الأمراء والوزراء، فتنعم البلاد بعهودٍ مديدة من الأمان. فإذا سألتني — جلالتك — عن الأساس الذي بَنيت عليه تقديري هذا، فإني مُجيبك بأن القاعدة التي يستند إليها قيام وازدهار الحكم الملكي، هي أن استقرار المجتمع ورفاهية الإنسان (في الحياة) يتوقَّفان على ما ينعم به جلالة الملك من استقرار وسعة عيش ورخاء بال، أما الكد والمشقَّة والقلق والاضطراب، فتلك كلها من نصيب العامة وأهل الممالك كافة، فإذا ما تعرَّضت البلاد لغزوة عاتية، أمكن صدُّها ودحرها، وإذا حلت بالمملكة نازلات الدواهي والنوائب، صار من المُستطاع تفاديها واجتناب شرورها، وإذا اندلعت دسائس الأمراء ومكائدهم، وأُتيح إجهاضها في مهدها، فطال بقاء الملك، ودامت أيام رخائه على طول المدى، فإن سألتني عن حجتي التي أستند إليها في هذا الزعم، فجوابي عليك [فيما سأقص من] أحداث تاريخ مضى ودروس زمان قد انقضى [نُطالعها] فيما أقدم عليه الملك «هوي» حاكم وي، من محاولة هجومية ضد «هاندان» — عاصمة جاو — معتمدًا على ما توفر له من أسباب القوة حيث قد امتدَّ نفوذه وسلطانه فيما حاز من أراضٍ شاسعة المساحة وما اصطفَّ تحت إمرته من قوات متدرعة بالخوذات والمغافر بلغت ثلاثمائة وستين ألفًا من المُقاتلين، فلمَّا تمكن من احتلالها تقدم غربًا حتى حاصر «دينيانغ» [مدينة على الحدود بين دولتي «وي» و«تشين»]، ثم تحالف مع اثني عشر أميرًا واتفق معهم على أن يذهبوا بصحبته إلى أمير دولة جو للتآمُر ضد دولة تشين الواقعة جهة الغرب ثم إن حاكم تشين «الملك شياكون» تولاه الفزع وأصابه الأرق لياليَ طويلة، عافت نفسه الطعام (خشية تعرُّض بلاده لهجوم مضاد) وأصدر أمرًا بإنشاء وسائل عسكرية هجومية فوق كل الأسوار، ورفع درجة الاستعداد الدفاعي عند الخطوط الحدودية، بل إنه أوفد إلى تلك المناطق عددًا وافرًا من الفدائيين والقادة والجنود استعدادًا للهجوم المتوقع من جانب دولة وي. وفي تلك الأثناء ذهب «شانيانغ» إلى الملك شياكون وقال له: «إن دولة وي من الدول ذات الإنجازات الكبرى والمآثر العظيمة، وها هي قد مدَّت شبكة اتصالها بكل البلاد التي تحت السماء، وعقدت تحالفًا مع اثنَي عشر أميرًا واتفقت معهم على لقاء أمير دولة «جو»، وترتيبًا على ذلك فلن يكون في وُسع تشين أن تقاوم دولة كبرى في حجم وي فما المانع أن تُرسلني إلى ملك وي فلعلِّي أقدر على إيقاع الهزيمة به وببلاده [دون قتال]» فلما أجابه الملك شياكون إلى ذلك، قام وسافر إلى وي حيث التقى هناك بالملك هوي، وقال له: «إن لك من المآثر والإنجازات يا جلالة الملك المعظم ما لا يخفى على أحد، وقد مدت أمامك كل الطرقات في كلِّ البلاد تمشي في كل الأنحاء كيف شئت، لكنك آثرت أن تعقد التحالف مع اثنتي عشرة إمارة تقع في عدة دويلات معروفة للجميع من بينها مثلًا: «سونغ» و«ويه» و«تسو» و«لوقو» و«تشن» و«تساي»؛ وهذه كلها وكثير غيرها، يسوقها الملك الأعظم أمامه كما يسوق الراعي أغنامه بعصاه، ومن ثم فليست هذه هي الدول التي يُعتمد عليها أو يُعتدُّ بها لتأسيس إمبراطورية كبرى تحت سلطانكم الأعلى، وأرى أن الأوفق والأنسب لجلالتكم هو أن تبادروا إلى عقد تحالف مع جارتكم الشمالية دولة يان، ثم تقوموا بمهاجمة دولة تشي الواقعة إلى الشرق منكم، وهو ما سينتج عنه إذعان دولة جاو لنفوذكم، فإذا تم لكم ذلك التحالف مع دولة تشين، جارتكم الغربية، ثم أرسلتم حملة تأديبية إلى الجنوب ضد دولة تشو، هو ما سينجم عنه خضوع دولة هان لسلطانكم. وعندما تعقدون العزم وتُبيتون النية على غزو دولتي «تشي» و«تشو» فإنكم تتفقون في ذلك — للصدفة الطيبة — مع مطالب وأماني الناس جميعًا، وهو ما يعني رجحان كفة اعتلائكم عرش الحكم الإمبراطوري. هكذا يُمكنكم من الآن الاستعداد لهذا الأمر، وأنصح لجلالتكم، بناءً على ذلك، أن تقوموا بإعداد ما يلزم من الملابس الرسمية المُميزة بشعار الإمبراطورية، ثم تدبروا الحِيَل والمؤامرات للإيقاع بدولتي «تشي» و«تشو»» ووقع الكلام موقعًا طيبًا في نفس جلالة الملك «هوي» حاكم وي، بل إنه راح يجتهد في إعادة بناء القصر الملكي وتوسيع منشآته بحيث تتلاءم مع أبهة وفخامة القصور الإمبراطورية وأمر الملك أيضًا بإعداد وتفصيل القمصان الإمبراطورية ذات الشارة الحمراء المُميزة برسم التنين، ورفع الرايات والأعلام التي تحمل الشارة نفسها، وإعداد ما يلزم الجنود في المعارك من بيارق وألوية ذات الرمز الإمبراطوري، وبرغم أن مثل تلك البيارق والألوية كانت مُخصصة — أصلًا — للأمراء وحكام الدويلات، إلا أن جلالته أمر بضمها تحت قيادته، وهو الأمر الذي أثار غضب كلٍّ من تشي وتشو، وترتب على ذلك أن هرع كل الأمراء إلى دولة تشي وانضموا إلى صفوفها، وتحركوا تحت قيادتها في حملة تأديبية ضد دولة وي، فاقتحموها، وقتلوا أميرها وأهلكوا جيشها الذي كان يُضرب به المثل في القوة والضخامة، وأسقط في يد الملك «هوي» فهرع إلى قصره حافي القدمين وأصدر قرارًا عاجلًا بإيقاف القتال وتجميد تحركات القوات، ثم أسرع بنفسه صوب الشرق طالبًا التفاوض السِّلمي مع «تشي»، وهو ما أسفر عن التزام الأمراء أماكنهم وتجميد تحركاتهم ضد وي، وهنالك، حصل ملك تشين بكل يسر وبساطة [وهو مُسترخٍ، عاقد الكفَّين (حرفيًّا)] على الأراضي الواقعة وراء نهر «شي» دون أن يقدم الشكر على ذلك، لما تفضل به ملك وي من خدمة جليلة قدَّمها له بكرمٍ بالغ؛ وهكذا يُمكننا القول إن «شانيانغ» عندما شرع في ترتيب وشرح خططه وأفكاره التآمُرية مع ملك تشين فإن فصول المؤامرة كانت قد أعدَّت فوق المقاعد داخل ردهات القصر ونضجت بالحوار لدى المأدبة الملكية العامرة، ثم تشكَّلت ملامحها الكاملة والنهائية في أروقة القصر الحاكم، ومع ذلك، وقبل أن تتحدَّد تلك الملامح بصورة قاطعة، فقد كان قائد قوات وي موثوق اليدَين تحت الأسر في دولة تشي، دون أن يتمكن حتى من استخدام العربات المُهاجمة والعربات ذات الأبراج الاستطلاعية، بينما كانت الأراضي المُترامية وراء نهر شي، قد وقعت بالكامل في حوزة دولة تشين وصارت تحت سيادتها التامة، فذلك هو ما أشرت إليه فيما سبق من أن هزيمة الأعداء يمكن أن تتمَّ تحت قباب القصور الملكية، وأن القادة يُمكن القبض عليهم وأسرهم حتى وهم بين صفوف قواتهم، وكذلك يسهل اقتحام الأسوار العالية من فوق موائد المآدب الملكية، هذا بالإضافة إلى ما يمكن أن يقوم به المرء من تدمير للعربات العسكرية المُعادية دون حتى أن يُضطر إلى القيام من مجلسه أو مُغادرة مكانه.»