سجل تشو الأول
لمَّا وقعت العداوة والبغضاء بين دولتي تشي وتشين
لمَّا وقعت العداوة والبغضاء بين دولتَي تشي وتشين، حاولت دولة سونغ التزام الحياد بينهما، إلا أن تشي أجبرتها على الانحياز إلى صفِّها، فما كان منها إلا الإذعان لإرادة تشي.
فذهب زيشيانغ [أحد مسئولي دولة تشو] للقاء حاكم سونغ، في محاولة لاستنقاذ مصالح بلاده، وقال لجلالته: «كنتم بالنسبة لدولة تشوي فرصة فوز ساحق خسرناه بسبب حرصنا على الاستقامة والنزاهة والخلق الكريم، لكننا تعلَّمنا الدرس من دولة تشي وأدركنا ما لسياسة الضغوط والإجبار من قيمة، وهو ما سوف نلجأ إليه مع دولة سونغ منذ الآن.
ثم إن الانحياز إلى دولة تشي في حربها ضد تشين لن يكون بالضرورة ذا فائدة لدولة سونغ التي ستجد نفسها في مواجهة أكيدة مع الخطر، إذا ما انتصرت تشي على تشين — جدلًا — فأما إذا لم يتحقق لها ذلك الانتصار، فسيكون موقف سونغ مُخزيًا جدًّا؛ لأنها ستبدو — وهي الدولة الصغيرة الضعيفة — مجرد لعبة في يد تشي، لمواجهة دولة كبرى قوية مثل تشين، وعندما تقع دولة صغيرة تحت تأثير الضغط الذي تُمارسه دولتان قويتان (حرفيًّا: تملكان العدة الهائلة والعتاد الوفير) وذلك لتحقيق أغراضهما، يُصبح أمن تلك الدولة في خطر بالِغ.»
عندما قامت الدول الخمس بمهاجمة «تشين»
قام التحالُف بين الدول الخمس: تشو، هان، وي، يان، جاو، وقامت بشن هجوم جماعي ضد تشين فذهب جاويان [قائد جيش تشو إلى جلالة الملك]، وقال له: «إذا تحقَّق النصر للدول الخمس واستولت على أراضي تشين، فسوف تتَّجِه أنظارها جميعًا صوب الجنوب، ويتطلَّعون إلى اقتسام بلادنا — تشو — فيما بينهم.» فسأله الملك: «فما العمل، إذن، ما دام الأمر كذلك؟» فأجابه: «أرى أن مصير دولة هان مرتبط بما يئول إليه حال دولتنا، وكل منهما يتعلق بمصير الآخر [حرفيًّا: كما بين الأسنان والشفتين] وقد لاحظت أن سياسة هان تقوم على السعي إلى ما فيه مصلحتها، في الوقت الذي تتجنَّب فيه أن تزجَّ بنفسها إلى الكوارث والنكبات.
(وهكذا) فنحن نستطيع أن ننفُذ إلى الثغرة التي تطمح فيها، إلى السعي نحو تأمين مصالحها، فنوقِعها في الزيغ والأوهام، [هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى …] فنأخذ بناصيتها فيما تتجنَّب أن تزج بنفسها إليه من الأزمات فنُدخل في قلبِها الرعب والهلع.
(وتفصيل ذلك … أننا …) يمكن أن نغريها بالمال الطائل فنبذل لها الأموال على سبيل الرشوة التي تُحقق لنا نحن أغراضنا، فيبدو الأمر وكأنهم قد حقَّقوا لأنفسهم ما يسعون إليه من المصالح والمنافع الذاتية، فتتخبط قلوبهم في مهاوي الزيغ وترتبك تصوُّراتهم وقد اختلطت بالأوهام، ثم نحرك قواتنا لمهاجمتهم فتتزلزل أعماقهم من الخوف، ومن ثم يجدون أنفسهم أسرى موقف دقيق لا خلاص منه، فهم — من ناحية — ترتعِد أوصالهم هلعًا بسبب ما يَرونه من أسنَّة رماحنا المشرعة، ومن ناحيةٍ أخرى، لا يجدون دفعًا لمصير الخوف بسبب حاجتهم لما نبذله إليهم من الأموال، وبناء على ذلك، فإن أي محاولة تجريها الدول الخمس لمهاجمتنا سوف يكون مصيرها الفشل، وهو ما سيؤدي آخر المطاف إلى انهيار التحالف، مما سيُمكننا من الاحتفاظ بأراضينا دون التفريط في شبر منها لأي جهة، مهما كانت.»
وهنالك وافقه ملك «تشو» على رأيه، وأوفد رئيس وزرائه «طاكون شي» إلى دولة «هان». حيث التقى برئيس وزرائها «كونجون»، وقال له: «لا بد من أن جلالة الملك قد شهد بعيني رأسه ما حدث من وقائع في جبل «نيولان»، وما حلَّ بمنطقة «مالينغ» من نكبات [… لا نجد أية تفاصيل أو إرشادات توضح المقصود بهذه العبارة] ومن ثم فنحن نعرض على جلالته أن نهديه خمس مدنٍ كبرى مقابل أن ينسحب من التحالف المناوئ لدولة «تشين». وسوف تمتثِل قواتنا العسكرية بكامل قيادتها إلى توجيهاتكم وأوامركم، وتضع نفسها تحت تصرفكم، ذلك بهدف الاستيلاء على دولة تشي.»
وحدث في الحوادث أن دولة تشي امتنعت عن مهاجمة «تشين»، دون أن تُبلغ ذلك علانية لحليفتيها: دولة جاو، ودولة وي. ولم تنجز تشو وعدَها بإعطاء ما وعدت به من مدن إلى دولة هان، وهكذا وقع تحالُف الدول الخمس المهاجمة ﻟ «تشين في مأزق كبير».
لمَّا اجتمع ملك تشو مع الوزراء
التقى الملك «شيوان» حاكم تشو مع وزرائه، وسألهم: «بلغَني أن كل دول الشمال صارت ترتعِد خوفًا من رئيس وزرائنا (الصدر الأعظم: جاو شيشو) فهل هذا الأمر صحيح؟ فسكت الوزراء جميعًا وتكلَّم «جيانغي» [من مواطني دولة وي، انتقل ليعمل في بلاط تشو واحدًا من كبار المسئولين]، فقال: «(مما يُذكر في الحكايات …) أن نمرًا أراد افتراس الوحوش فهجم عليهم فوقع في قبضتِه أحد الثعالِب، فوقف النمر وقال له: لا أظنك تجرؤ على افتراسي أيها السيد الكريم، فقد رفعتني السماء ملكًا فوق الوحوش جميعًا، فإذا دار بخلدك الوثوب عليَّ كنت كمن يجترئ على إرادة السماء، ولا أخالك تُكذبني وإلا فها أنا ذا أسير أمامك وأنت تتبعني، نمرق وسط صفوف الوحش والطير، وسوف تشهد بنفسك أنهم سيفرُّون من أمامي لهيبتي وعظيم مكانتي فيهم … فوثق النمر في كلامه وسار خلفه، ودخل الغابة، فكانت الوحوش تهرب من الطرقات وتفزع في كل اتجاهٍ وقد ولَّت أدبارها رعبًا وهلعًا، ولم يدْرِ النمر أن الوحوش فرَّت خوفًا منه، لا من الثعلب، فانظر، وتأمَّل الأمر جيدًا — يا مولاي — واعلم أنك تبسط سلطانك فوق أرضٍ يبلغ مُحيطها خمسة آلاف لي، وقد بلغ عدد المقاتلين في جيشك من لابسي الدروع خمسة ملايين جندي، جعلت سلطة الأمر والنهي فيهم صادرة عن جاوشيشو، فلذلك وقعت هيبته في نفوس أهل الشمال جميعًا. ولئن صار له من عظيم المكانة على نحو ما ترى فإنما الهيبة لجلالتك ولجيشك وقواتك الضاربة، تمامًا مثلما كان الرعب والفزع الذي قصصتُ عليك قصته آنفًا، راجعًا لشدة بأس النمر وعظيم مهابته.»
لمَّا تناظر «جاو شيشو» مع «بن شن جون»
قامت مناظرة بين «جاوشيشو» «وبن شن جون» [أحد مواطني تشو] في حضور ملك تشو، كان موضوعها يتناول الأمور الكبرى ذات الأهمية المُتعلقة بسياسات البلاد، ومال الملك على «جيانغي»، وسأله عن رأيه فيما دار بين الرجلَين من جدل، فأجابه: «قد تكلَّما بأحسن ما يكون من فنون الكلام، لدرجة أني أستطيع الجزم — بعد إذنك يا مولاي — بأنه لا مزيد على قولهما [… يقصد أنه لا يجد عنده ما يمكن أن يُضيفه من آراء، وهي صياغة تهكُّمية مغلفة بالتواضع والتوسُّل بأدب الحديث …] فذلك ما يُقال له تنقية صدر الملك من أسباب الشك في كلام الحُكماء.»
لمَّا وقعت معركة هاندان
لمَّا وقعت معركة «هاندان»، ذهب «جاوشيشو» إلى الملك «شيوان» حاكم «تشو»، وقال له: «أرى أنه من الأفضل ألا نمدَّ يد العون إلى دولة جاو، بل نُعطي الفرصة لدولة وي كي تحشد كل قواتها (لضرب جاو)؛ باعتبار أن تعاظُم قوة هذه الأخيرة سيُمكنها من اقتطاع الكثير من أراضي غريمتها جاو، فإذا بدا أنها لن تستسلِم للأمور بكل سهولة، فسوف نُثابر على سياستنا تجاهها بغَير أدنى تبديل، وهو ما سيؤدِّي إلى استنزافهما معًا.»
وتكلَّم «جينشه» [وزير عظيم بدولة تشي] قائلًا: «هذا التصوُّر غير صحيح مُطلقًا، وليس فيما قاله جاوشيشو أي قدْر من النجابة أو الحكمة؛ ذلك أنه بينما تقوم دولة وي بمهاجمة جاو، فسيداخلها القلق من أن نستغل نحن ذلك الموقف في تشو ونُباغتها بالهجوم من حيث لا تدري، هذا من جانب، أما من جانبٍ آخر، فإذا لم نُبادر إلى مساعدة دولة جاو، فسوف تعتريها أعراض الضعف وتوشِك على الانهيار، فإذا أضفْنا إلى ذلك إقدام دولة وي على ضرب جاو دون أن تنتابها الهواجس بأن تشو سوف تنتهز الفرصة، وتنقض عليها من الخلف فمعنى ذلك أن تشو هي الأخرى، تدعم الهجوم ضد جاو، فكأنها تضع يدَها بيد وي لمحاربة جاو، وهو ما يُعرِّض هذه الأخيرة لخطرٍ داهم لا قبل لها به. فما الذي يدعو سيادته إلى القول إننا سننتظر لنرى كلتا الدولتَين تستنزفان طاقتَيهما معًا؟ ناهيك عن أن وي قد أصدرت الأمر إلى قواتها باقتطاع أكبر قدرٍ ممكن من أراضي جاو التي إذا ما استشعرت نُذر الهلاك والانهيار التام، وقد أيقنت في أعماقها بامتناع تشو عن مساعدتها، في هذه الأزمة المُستحكمة، فلا بد أنها، حينئذٍ ستُسارع إلى التحالُف مع وي للتآمُر ضدنا (ضد تشو) لهذا كله، أرى أنه من الأفضل يا مولاي، أن تتفضَّل جلالتك بتقديم قدْرٍ محدود من القوات لمساعدة جاو، ومن المُتوقَّع أنها عندما تشعر بأن تشو، بكل قواتها وعتادها، يمكن أن تساندها في مِحنتها، فسوف تستميت في القتال مع وي، وبالتالي فإن هذه الأخيرة عندما تلمس روح التحدِّي والعناد من جانب تشو فسوف تثور غضبتها، لكنها إذ تُدرك أن حجم المساعدة الذي تتفضل به تشو على جاو ضئيل جدًّا، ولا يُشكل أي عقبة في طريقها، فسوف تمضي في محاولة القضاء على وي.
عندئذٍ فقط، سيلتحِم الطرفان: دولة جاو، ودولة وي في صراع، يستنزف آخر قطرة من دمائهما، ولا بد أن كُلًّا من دولتي تشين وتشي وقد علِمنا بما تُقدمه تشو من مساعدة إلى جاو، سوف تنتهزان الفرصة وتهجمان على دولة وي فينشبان أظفارهما في جسدها حتى تلقى هزيمة نكراء على يديهما.»
وهكذا، فقد أوفد حاكم تشو، وزيره الأعظم جينشه؛ لقيادة القوات التي أرسلها لمساندة دولة جاو، فلمَّا سقطت عاصمتها هاندان في يد دولة وي، سارعت قوات تشو بالاستيلاء على الأرض الواقعة في أرض جاو بين نهري «صوي»، و«ويشوي» وهي أرض كبيرة المساحة جدًّا.
لمَّا حاول جيانغي أن يُوغر صدر الملك
أراد جيانغي أن يوغِر صدر الملك على جاوشيشو، إلا أنه لو قام بمحاولته منفردًا، لما استجاب له الملك، ولقصرت همَّته دون ما يسعى إليه، فذهب للقاء جلالته وقدَّم طلبًا باسم الماجد «شان يانجون» [أحد مواطني دولة وي]، يرجو فيه الإنعام عليه بمنحة ملكية [أن يقطعه الملك الإقطاعات الكبرى، ويمنحه ألقاب الشرف]، فلم يُبدِ جلالته أدنى اعتراضٍ (من حيث المبدأ)، لكن جاوشيشو احتج على هذا الأمر، بقوله … «إن شان يانجون لم يُقدم لدولة تشو من الخدمات الجليلة أو المآثر العظيمة ما يُوجِب له التمتع، أو الحصول على شيء مما يزمع الملك منحه إياه.» وهكذا عثر جيانغي على ضالته؛ إذ كسب إلى صفه شان يانجون بما أثار في نفسه من شعور بالامتنان، وأصبح كلاهما يبغض جاوشيشو أشد البغض والكراهية».
لمَّا تكلم الضيف القادم من دولة وي
وتكلم الضيف القادم من دولة وي، أمام الملك شيوان حاكم تشو، بما احتشد في صدره من ضغائن ضد جاوشيشو، ثم لم يلبث الملك نفسه حين التقى به، فيما بعد، أن حكى له ما حدث، فعلق بقوله: «ها أنت ترى جلالتك بأني أسمع وأطيع ما تأمُرني به وأقوم على خدمتك — ليل نهار (دون أن تُجرب عليَّ ما يُغضبك مني) — ثم يأتي ذلك الرجل القادم من دولة وي ليُثير البلبلة والفتنة، وقد داخلني شعور بالخوف، لا أدري كُنهه، ولست أخاف ذلك القادم من وي، ذلك الذي يبذُر الشقاق بيننا، وينشر الأكاذيب في أرجاء الممالك، فمثل ذلك الصنف من الناس هم المفسدون الساعون إلى الشر دائمًا، وإذا كان واحد — كهذا من الغرباء — لم يجد أدنى صعوبة في السعي بالشر بيننا، فما بال جلالتك بذوي النوايا السيئة والأغراض الدنيئة من مواطني بلدنا! أتظن أنهم يقصرون عن السير على ذات المنهاج؟ وما أرى إلا أنهم سيسلكون على منوال الضيف في أقرب وقت.» فقال له الملك: «قد وعيتُ كل ما ذكرتَ وأدركتُ حقيقة الأمور، ولا أدري ما الذي يدعوك إلى كل هذا القلق؟»
لمَّا كان جيانغي يبغض جاوشيشو
كان جيانغي يمقُت جاوشيشو غاية المقت، فلما تكلَّم مع الملك شيوان، قال: «بلغني يا مولاي، أن رجلًا كان يقتني كلبًا يُقعي عند باب بيته، وكان يدلِّلُه ويُحبه لأنه يحرس منزله، وحدث أن الكلب نزل إلى بئر فتبول فيها، ورآه أحد الجيران، فراح ليُخبر صاحبه بما وقع منه، فوقف له الكلب عند باب البيت بالمرصاد يُريد أن يفتك به، فخاف الرجل على نفسه ضراوة الكلب فتراجع عما كان ينوي من إبلاغ سيد البيت حقيقة ما خفي عنه.
ما أودُّ أن أقوله لك يا سيدي هو أنه أثناء موقعة هاندان قامت قواتنا بشن الغارة على تلك العاصمة الكبرى، وتمكنت من احتلالها، وانتهز جاوشيشو الفرصة، فاستولى على الكثير من الكنوز والمجوهرات الثمينة بدولة وي، ولأني كنت مُقيمًا، وقتئذٍ بالعاصمة المنكوبة، فقد أُتيح لي أن أعرف دقائق الأمور بوضوح كافٍ؛ وهو الأمر الذي أثار سخط جاوشيشو عليَّ، فأضمر لي الحقد، وحال بيني وبين لقائي بجلالتك.»
لمَّا قرر جيانغي أن يشوِّه سمعة جاوشيشو
راح جيانغي يتدبَّر الحِيل لتشويه سمعة جاوشيشو في كل أنحاء دولة تشو، ثم إنه قصد إلى الملك شيوان، وقال له: «اعلم يا مولاي أنه إذا أقامت الدهماء لنفسها زمرة تستعين بها على قضاء مصالحها، صار عِلية القوم في خطر ماحق، لكن عندما يتورَّط أسافل الناس في صراعاتهم المُتبادلة، وتطحنهم الأطماع والمنافسات، يحلُّ الهدوء والسلام على الوجهاء وأماثل الناس، وأرجو من جلالتك ألا تغفل عن هذه الحقيقة ما حييت. واسمح لي أن أسأل جلالتك: ما ظنُّك بمن يُحب أن يذيع على الملأ فضائل الناس ويشيد بمناقبهم وخصالهم الحسنة؟ فأجابه الملك: «ذلك هو الماجد الكريم، ولا بد من أن نسعى إلى صحبته.» فسأله: «فما قولك فيمن يجتهد في إنشاء مثالب الناس والجهر بقبائحهم؟» فأجابه: «فذلك هو الدنيء الحقير الذي نتناءى عن مجالسته.» فقال جيانغي: «ومع ذلك، فهناك — من بين الناس — الابن القاتل أباه وأمَّه، وهناك أيضًا الوزير السافك دم سيدِه الملك، ثم إنك لا تعلم شيئًا من ذلك كله يا جلالة الملك، أتعرف السبب في احتِجاب معرفة ذلك عنك؟ السبب هو أن جلالتك لا تُريد إلا سماع الأخبار الطيبة، وتبغض الاطلاع على شرِّ الأنباء والحوادث الدائرة بين الناس.» وهنا، قال له الملك:
«فلا مانع إذن، من أن أنصت إلى كل طيب وخبيث من أخبار الناس.»
لمَّا كان جيانغي يشرح وجهات نظره السياسية
راح جيانغي يشرح بعض وجهات نظره السياسية للوزير المُقرب من البلاط الحاكم، في تشو [الوزير آن ليجون] قائلًا له: «أراك تحصل على راتبٍ كبير، وتشغل منصبًا رفيعًا، وذلك دون أن يكون لك في سجل المآثر والخدمات الجليلة شيء يذكر، ودون أن تربطك بجلالة الملك وشائج القربى أو صلة الدم، وهو الأمر الذي يدهش له الناس في أرجاء البلاد، خصوصًا أنك لا تجيد القيام بطقوس الاحترام اللائق بين يدي الملك، مما يدفعهم للتساؤل عن السبب في المزايا التي تَحظى بها على الرغم من كل ذلك.» فأجابه آن لينجون: «الأمر كله لا يزيد عن أن جلالته قد تكرم عليَّ بمنصب يفوق ما أستحقُّه بعض الشيء، وليس هناك أية أسباب أخرى غير ذلك.» وهنالك قال له جيانغي: «إن من يعتمدون على المال في إقامة علاقاتهم الاجتماعية مع الناس والتودُّد إليهم يأتي عليهم زمان تُبدَّد فيه الأموال، فينقطع ما أقاموه من ودٍّ جميل، وإذا كان الجمال وسيلة لأَسْر القلوب، فإن الجمال يذوي وينقشِع، فتتبدل القلوب؛ ولطالما تناءى قلب المُحب عن عشق امرأة جميلة قبيل انتهاء مأدبة ساهرة، وكثيرًا ما تبدَّدت الثقة في أحد رجال الحكم قبل أن يجفَّ المداد فوق أوراق تعيينه، وإني لأنظر إلى حالك فأجدك قد تقلدتَ زمام السلطة في أكثر المواقع أهمية بالبلاط الحاكم، ومع ذلك فأنت تتقاعس عن توطيد العلاقة مع جلالة الملك، مما يُمثل تهديدًا محتملًا لموقعك في المستقبل. فسأله آن لينجون قائلًا: فما العمل إذن ما دام الأمر على ما ذكرت؟» فأجابه: «ليتك تتقدَّم إلى جلالته راجيًا أن تبقى في خدمته حتى الموت، بل حتى بعد الموت؛ إذ تطلب منه أن يسمح بدفن رفاتك في مقبرته، أملًا في البقاء إلى جواره على طول المدى، فتلك هي الطريقة التي تضمن لك البقاء في منصبك داخل بلاط آل تشو الحاكم، لفترةٍ طويلة.» وهنا قال الرجل: و«إني لأقبل توجيهاتك بكل احترام وتبجيل.»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
ومرَّت ثلاث سنوات دون أن يتصرف «آن لينجون» حسب ما أوصاه به جيانغي، فلما التقى هذا به، قال له «ما لي أراك قد أغضيتَ الطرف عن العمل بمُقتضى ما نصحتُ لك، وكأن كل ما دبرتُ لك من الحيل كان مجرد كلام بغَير طائل؟! فاعلم أني لن أحضر إليك هنا البتة، ما لم تعمل بما خططتُ لك.» فقال له آن لينجون: «إن نسيت فلن أنسى فضلك عليَّ، ونُصحك لي، فأنا لم أغفل عما دبرتَ لي من حِيَل، لكني لم أجد الفُرصة السانحة حتى الآن.»
ثم لم يلبث الملك شيوان حاكم تشو، أن خرج في رحلة صيدٍ في بحيرة «يونمن» وفي إثره سارت مواكب العربات والخيول المُطهمة، بينما ارتفعت الأعلام والرايات من كل صنفٍ حتى كادت تحجب نور الشمس، فلمَّا جن الليل، صارت ألسنة النار فوق المشاعل تُضيء الآفاق بألوانٍ بديعة كأنها قوس قزح، وفي كل الأنحاء، تردَّدت صيحات النمور، وعواء الوحوش، كأنها الرعد يُزلزل أركان البرية، ثم طلع من جوف الليل سبعٌ ضارٍ وهجم على موكب الملك، فنزع جلالته السهم وضرب عن قوسه فأصاب الوحش برميةٍ قاتلة، فخلع الملك قصبة إحدى الرايات القريبة منه وراح يضرب بكعبها رأس السبع المُحتضر وهو يضحك، ويقول في شيء من السخرية: «ما أسعد حظنا إذ ظفرنا الليلة بصيدٍ هانئ وأجمل ما في هذه الرحلة هو تلك الصحبة الطيبة! تُرى، هل يجد المرء مثل تلك السعادة بعد الموت؟» فلما سمع آن لينجون قول الملك، بكى وتحدَّرت دموعه على وجنتَيه، واقترب من الملك وهو يقول: «… قد دخلت قصرك يا مولاي وجلست قرب مجلسك فكنتُ في صحبتك في السراء والضراء، داخل القصر وخارجه، فلم أفارقك لحظة، وليتني إذا ما نقضي من زمان الملك العمر الطويل [… إذا ما توفي الملك (حرفيًّا) بعد عشرة آلاف سنة …] أموت وأدفن معك، ليت رفاتي بعد مماتي تنثر تحت جسدك النبيل تقيك شرَّ الهوام والنمل والزواحف، وليس أهنأ لقلوبنا إلا أن تسعد بنا في الحياة وبعد الحياة.» وقد ابتهج الملك للغاية، وأنعم على «آن لينجون» باللقب النبيل.
فلمَّا علم الناس بذلك، قالوا: «هذا دليل على أن جيانغي هو أبرع مُخطط سياسي، بينما «آن لينجون» هو أحسن من يُجيد انتهاز الفرصة السانحة».
لمَّا حضر جيانغي إلى دولة تشو مبعوثًا
قبل أن يستقر الحال ﺑ «جيانغي» مسئولًا رسميًّا في دولة تشو، كان قد حضر إليها، فيما مضى، مبعوثًا رسميًّا من دولة وي، وكان قد تحدَّث إلى الملك شيوان، فقال له: «لمَّا وطئت قدماي أرض بلادكم، سمعتُ أن عندكم تقليدًا عجيبًا وهو أنكم لا تحجبون ما تعلمونه في الناس من مزايا وحسنات، ولا تذيعون — فيما بينكم — مساوئهم، فهل الأمر على ما سمعت؟» فلمَّا رد عليه الملك بالإيجاب قال له: «فما دام الأمر هكذا، فلعلَّ الأمير بايكون قد أفلت بما جلبه من نكبات [… والأمير بايكون هو ولد أحد أمراء تشو السابقين وكان قد هرب إثر مقتل أبيه إلى دولة أو، فأعاده أحد حكام تشو إلى البلاد وخلع عليه وأكرم وفادته] ولعل الوزراء إذا وقعوا في أوجه التقصير وجدوا لديكم العفو والتسامح.» فسأله الملك عن السبب في قوله هذا، فأجابه: «كان «جوهو» [أحد الوزراء المُقربين من البلاط الحاكم في تشو] يتفانى في العمل لمصلحة دولة تشو، حتى بلغ درجةً عالية من الرفعة، ثم إنه كلما ترقَّى في درجات الشرف، زادت سطوته وسلطاته، فصار له القول الفصل دون غيره فطغى وتجبَّر، ومع ذلك، فقد أخذ الناس من حوله يقولون عنه إنه «… ليس على الأرض كلها من يُدانيه مكانة وشرفًا» وهو القول الذي اتفق الجميع عليه، حتى كأن الأفواه كلها نطقت بلسان واحد.»
لمَّا أقيمت دعوى قضائية ضد أحد مواطني مدينة إينغ
أقيمت دعوى قضائية ضد أحد سكان مدينة إينغ، ولم يُبت فيها لمدة ثلاث سنوات، فاتفق مع واحدٍ من الناس أن يدَّعي أنه يريد شراء منزل الرجل المُتحفظ عليه رهن المحاكمة [وكان القانون الصيني القديم يُخول للسلطات حق مصادرة منازل المحكوم عليهم والتصرُّف فيها بالبيع، فإذا لم يصدر ضد المُتهم حكم إدانة امتنع التصرُّف في أملاكه ليتبيَّن له إن كان مُذنبًا من عدمه (… ففي حالة رفض طلب الشراء، كان ذلك دليلًا على أن الرجل قد تُبرأ ساحته ويُخلى سبيله)، فذهب الرجل الذي يزعم شراء المنزل، إلى جاوشيشو، وقال له: «أريد شراء منزل الرجل المدعو (فلان) المقيم بمدينة إينغ». فأجابه: «إن الرجل المشار إليه ليس محل إدانة، وبالتالي فهو غير مُستحق لأي عقاب ضدَّه، ولذلك فلن يُمكنك شراء منزلة.» فقام الرجل المُتظاهر بالشراء مُعتذرًا وأراد الانصراف. وفي الحال أدرك جاوشيشو أنه تسرع فيما صرَّح به من القول، فعضَّ على أصابعه من الندم، وقال للرجل «… إنني، في كل الأحوال، أريد أن أساعدك، حتى دون أن تأتي إليَّ متعللًا بحجة شراء منزل. سعيًا للكشف عن نواياي». فأجابه: «كلَّا، لم أتعلَّل بأية حجة للكشف عن أي شيء». فقال له شيشو: «قل لي — من فضلك — ما معنى أن يأتيك سائل يسألك شيئًا، ثم إذا رفضت طلبه، انفرجت أساريره وتهلل وجهه … إن لم يكن ذلك ادعاء مكشوفًا وتصنعًا ظاهرًا، فماذا يكون إذن؟».
لمَّا خرج تشين هوي من دولة جو ليجوب البلاد
لمَّا خرج تشن هوي من دولة جو ليجوب الأقطار المختلفة داعيًا إلى أفكاره وخططه السياسية، الْتقى في طريقه باثنين من رفاق السفر، فسار ثلاثتهم نحو الجنوب حتى بلغوا دولة تشو، فدخلوها وشقُّوا طريقهم صوب مدينة «شين تشنغ».
والتقى «تشن هوي» برئيس المدينة، فانتهز الفرصة وراح يعرض عليه ما في جعبته من التصورات والخطط السياسية، قائلًا: «إن دولتي، جنغ، ووي، يُنظر إليهما، من جانب بلادكم، بوصفهما دونكم في القوة والتسلح، وليس هناك سوى دولة تشين هي الوحيدة التي تمثل أكبر عدوٍّ لكم، ولئن قلت لك إن دولتي جنغ ووي، ضعيفتان، فلأنكم في تشو تستطيعون مواجهتهما بقواتكم المرابطة في شانليان، ثم إنكم تقدرون أيضًا على مواجهة قوات إيانغ القوية التابعة لدولة تشين بدفاعات منطقة «شين تشنغ» على تواضع قدراتها، وتستطيع تشين في ليلة واحدة، أن تشن هجومًا مباغتًا ضد مدينتي «بوبان»، و«بين يان» [في دولة وي] على الرغم مما بينهما من مسافة تبلغ مائة لي، وذلك دون أن تشعر عاصمة وي [آني] بما حدث من اعتداء على أراضي البلاد، كما تقدر تشين أيضًا على مباغتة مدينتي شين تشنغ، وشانليان بالهجوم الساحق، على الرغم مما ما يفصل بين هاتين المدينتَين من مسافة قدرُها خمسمائة لي [… خطأ في الأصل والصحيح أن المسافة تبلغ مائة لي فقط]؛ وذلك قبل أن تفيق شانليان من دهشتها، ثم إني نظرت فرأيتُ أن المدن الحدودية لديكم ليس لها ظهير قوي تستند إليه، ولا يمكن اعتبار منطقة «جيانان» ولا نهر سيشوي سندًا يعتدُّ به، فما الذي يمنع حاكم تشو من أن يجعل من مدينة «شين تشنغ» ولاية مركزية، بحيث تصبح ذات قيمة دفاعية للمدن الواقعة على الحدود؟»
فلمَّا علم رئيس مدينة شين تشنغ بذلك فرح للغاية، وجهز عربةً عسكرية تجرها أربعة جياد ليركبها تشن هوي في تنقُّلاته وأنعم عليه وأعطاه خمسمائة ليوانغ وزنة من الذهب ليستعين بها على نفقات السفر والترحال. وكان من نتيجة ذلك أن توثقت عُرى الصداقة بين تشن هوي ودولة تشو، ثم إن حاكم البلاد أخذ بنصيحته وجعل من مدينة شين تشنغ واحدة من أهم الولايات المركزية في طول المملكة وعرضها.»
لمَّا كان كونشو يتمتع بتأييدٍ دولتي تشي ووي
كان كونشو [أحد الوزراء العظام بدولة هان] يتمتع بتأييد دولتي تشي، وي، بينما كان أمير البلاد نفسه يحظى بمساندة دولتي تشين، تشو، (وعلى خلفية تلك الاعتبارات) راح كلاهما يتنافسان لشغل منصب رئيس الوزراء. فلما ذهب وزير دولة تشو الأعظم، جنشن موفدًا — في مهمة رسمية — إلى دولة هان، زعم كذبًا في تصريح له، بأن جلالة الملك هواي حاكم تشو قد أمر بمنح إقطاعات مدينتي «شين تشنغ» و«يانغ رن» لسمو الأمير، فلمَّا علم جلالته بذلك غضب بشدة وشرع في اتخاذ إجراءٍ عقابي صارم ضد الوزير الأعظم، الذي ما إن عرف ذلك حتى ذهب إلى الملك، وقال له: «اعلم يا مولاي أني ما ادعيتُ كذبًا أن جلالتك قد منحت إقطاع تَيْنِكَ المدينتَين لسمو الأمير إلا لما فيه مصلحة البلاد، قلت إن ولي عهد دولتنا قد حصل على إقطاع شين تشنغ ويانغ رن، لأنه يَتنازع مع كونشو حول اختصاصات رئيس الوزراء، ومثل هذا التصريح الذي صدر عنى كفيل بأن يدفع دولتي «تشي» و«وي» لمهاجمة بلادنا (هان)، فتقع في مأزق شديد التعقيد، مما سيدفعنا إلى تعليق مصائرنا بيد دولة تشو، فهل نجسر إذا ما وجدنا أنفسنا نستنجِد بتشو لحمايتنا أن نُطالبها بردِّ مدينتي «شين تشنغ» و«يانغ رن» إلى أراضينا فهما، أساسًا، تتبعان دولة هان … فإذا لم يستطع سمو الأمير الفوز برئاسة مجلس الوزراء والتفوُّق على غريمه كونشو، ثم حالفه الحظ وأفلت من براثن الموت [هكذا] فلا بد أننا سنقلب القبعة رأسًا على عقب [… يعني سنسرع في لهفة] ونطلب تأييد ونصرة «تشو» لنا، وهو ما يعني استحالة أن نطالبها برد أراضينا التي استولت عليها.» … وهنالك استصوب الملك رأيه وأعفاه مما كان مقررًا من العقاب.
لمَّا نصح «دوها» لحاكم تشو بسرعة التقدم
كان المدعو «دوها» [من مواطني تشو] قد نصح للملك بالسعي للحصول على مساندة وتأييد دولة جاو، وأراد جلالته أن يُهديه اللقب الفخري (أوطافو) [… رتبة الشرف الخامسة] ويفوِّضه سلطة التصرُّف في الأمور دون الرجوع إليه.
وهنالك ذهب «تشين جن» إلى الملك، وقال له: «اعلم أنه إذا عجز «دوها» عن أن يحصل على مساندة دولة جاو، فلن يُمكنك أن تسترد ما منحته إيَّاه من مراتب الشرف، وتصبح كمن أنعم بأثمن الجوائز على من لم يُقدم للبلاد أية خدمة جليلة، أو مأثرة خالدة؛ أما إذا استطاع أن ينال تأييد جاو لجلالتك فسوف تكون مُطالبًا بأن تقدِّم له ما هو أعظم من مجرد منح الألقاب الفخرية، فإن لم تفعل، فستبدو وكأنك لم تُكافئه بشيء، وأرى أن أفضل ما يمكن أن تفعله هو أن تُعطيه عشر عربات عسكرية وتكلِّفه بعمل اللازم للحصول على مساندة دولة جاو، فإذا نجح في مسعاه منحته لقب الشرف.» ووافقه الملك على رأيه، وأعطى الرجل عشر عربات عسكرية مُطالِبًا إيَّاه باتخاذ اللازم لضمان تأييد جاو، لكن دوها لم يُعجبه ما بلغه من الملك، فغضب وتراجع عن فكرة الذهاب إلى جاو. وذهب تشن جن إلى الملك، وقال له: «ها قد لمستَ بنفسك مدى عجز صاحبنا عن الحصول على تأييد دولة جاو».
لمَّا ألقى تشو سؤالًا
ألقى الملك هواي — حاكم تشو — سؤالًا على المدعو فانهوان، قائلًا: «أريد أن أُعد ترتيبات لتنصيب رئيس وزراء تابع لنا في البلاط الحاكم بدولة تشين، فمن تراه الأنسب لشغل هذا الموقع؟» فأجابه، قائلًا: «لا أستطيع أن أُحدد فردًا بعينِه.» فقال الملك: «فما رأيك في أن أُكلف كانماو بهذه المهمة؟» فردَّ عليه فانهوان بالنفي، فلما سأله الملك عن السبب في اعتراضه هذا، قال له: «قد علمت أن «شيجوي» [أستاذ كانماو ومُعلمه الأول] كان يعمل بوابًا في منطقة «شان تساي»، فهو لا يدري شيئًا عن أصول العمل في خدمة الملوك ولا علم له — في أقل القليل — عن الأمور المعيشية البسيطة لعامة الناس (ومع ذلك) فقد اشتهر بالنزاهة والأمانة في أنحاء البلاد، وقد تطبع كانماو بطبعه على مدى السنوات التي عمل فيها مساعدًا له، ولربما كان أنسب أن يعمل في خدمة رجل فاضل حكيم مثل الملك هوي، ورجل ذكي البصيرة مثل الملك أو، ومسئول حكومي بارز شغوف بذكر مثالب الناس هو كانماو نفسه، ومهما تعدَّدت الوظائف التي يُمارسها فلن يجرب عليه أحد تجاوزًا أو خروجًا عن القوانين والأصول المتَّبعة، فقد عهدت فيه كفاية الفضل وتمام الخلق، ومع هذا فلا يصح أن تبعث به ليتولَّى منصب رئيس الوزراء، إن وجود رئيس وزراء يتحلى بالكفاءة وحُسن الخلق في دولة تشين، لن يكون بالضرورة مفيدًا لنا في دولة تشو. وقد سبق أن أرسلت «جاوهوا» مبعوثًا إلى دولة يوي ليتولى منصب رئيس الوزراء هناك وحدث ما حدث من تطورات أوصلت إلى قبولنا بضمِّ أراضي جيوجان؛ مما أدى في آخر الأمر إلى زجِّ قائد الجيش «تان مى» في أزمات ومصاعب لا حصر لها. (واعلم يا مولاي) أن وقوع دولة يوى في مُستنقع الاضطرابات الداخلية، يُمكِّن تشو من التقدُّم نحو الجنوب للحصول على أرض «لاي خو» وتحويل منطقة شرق النهر إلى ولاية كبرى. ولتحسب الأمر — يا مولاي — من هذه الزاوية؛ لأن ما بلغتموه جلالتكم من النفوذ والسطوة إنما كان بفضل ما وقعت فيه يوي من اضطراباتٍ داخلية، وها أنت اليوم تضرب صفحًا عن تعامل «تشين» بما سبق أن عاملت به دولة يوي، أو ربما أنك قد نسيت ما اتخذته من سياسات سابقة، لما أصاب جلالتك من داء النسيان [هكذا]. فلئن كنت تريد حقًّا أن تُعِد العدة لتنصيب رئيس وزراء لدولة تشين، فالأنسب لهذا الغرَض هو ذلك المدعو «كونسون هاو» [رئيس وزراء تشو]؛ ذلك أن علاقته بملك تشين على خير ما يُرام، فقد كان صاحب سِني صباه الأولى؛ (إذ عاش بصحبته …) يرتدي مثل ملابسه، فلمَّا بلغا سِن النضج، صارا يركبان العربة الملكية جنبًا إلى جنب، بل كان كونسون هاو يرتدي الزي الملكي ويباشر إدارة الشئون العامة، دون أن يخلع شارة الملك، فذلك هو الرجل الذي أرى أن يقع عليه اختيارك لإيفاده بغرض تولِّي منصب رئاسة الوزراء، وهو الأمر الذي إذا تحقق، على النحو الذي تُريده، فسوف يعود ببالِغ النفع على دولة تشو.»
لمَّا راح سوتشين يعمل على نشر سياسة التحالف
أخذ سوتشين يُعِد العدة لتوسيع نطاق سياسة دولة جاو القائمة على التحالف الرأسي [وذلك في عام ٣٣٣ق.م، حيث ائتلفت الدول الضعيفة في كتلةٍ مناوئة للدول القوية، وهي الدول الست التي اتَّحدت في جبهةٍ واحدة ضد تشين]، فذهب للقاء حاكم دولة «وي»، داعيًّا إلى الدخول في صف التحالُف، وقال له: «إن دولة «تشو» أقوى مملكة تحت السماء (… بين الممالك)، وأنت سيدي الحاكم، أوفر الملوك حكمةً وأعظمهم حلمًا (وإذا تأمَّلنا أحوال دولة تشو، وجدنا أنها …) ذات أراضٍ شاسعة، تمتد غربًا فتشمل مناطق «تشيان جون»، و«أوجون» وفي شرقها توجَد مناطق «شياتشو»، و«خايانغ»، وفي الجنوب تشمل «دون تين»، و«تصانغو» وإلى الشمال من أراضيها تمتد حصون «فن تشيو» و«جيتشان»، و«شون يانغ». ويبلغ محيطها خمسة آلاف لي، وفي جيشها مليون مقاتل من لابسي الدروع، بالإضافة إلى ألف عربة حربية وعشرة آلاف من الجياد المدربة على خوض القتال، وفي خزائنها ما يكفي عشر سنوات من الحبوب فتلك كلها عناصر أساسية تؤهلها لمكانة الدولة العظمى، وأرى أن ما لدَيك من الحكمة والحلم إذا ما انضمَّ إلى قوة ورهبة دولة تشو، فسينتج ائتلافًا لا تجرؤ أعتى الممالك على مواجهته، لكنك إذ تُفكر الآن في الذهاب غربًا إلى دولة تشين لخدمة أغراضها وتلبية مطالبها، فسيحذو حذوك كل الأمراء، ولن يتأخَّر أحد منهم عن التوجُّه إلى عتبات القصر الملكي في تشين لتقديم أسمى آيات العرفان. إن دولة تشين لا تحسد بلدًا على ظهر الأرض قدر حسدها ﻟ «تشو»، واعلم أن قوة «تشين» في ضعف غريمتها المذكورة والعكس صحيح، فلا غرو أن تشتد العداوة بينهما؛ ولهذا كله فليس أفضل (لجلالتكم) من سرعة الانضمام إلى التحالف الرأسي [تحالف الدول الست التي تقع على محور رأسي] بغية عزل دولة «تشين»؛ فإذا لم ترق لجلالتكم فكرة الانضمام إلى التحالف، فستسارع تشين إلى إرسال فرقتَين عسكريتَين لمهاجمة «تشو»، بحيث تندفع الفرقة الأولى من مضيق «أوكوان» [داخل أرض تشين]، بينما تتقدم الفرقة الأخرى من منطقة «تشيان جون» وهو ما يمكن أن يعرِّض إقليمي «يان»، و«إينغ» للخطر الداهم. وقد بلغني، يا مولاي، أن الإدارة الناجحة لشئون الممالك لا ينبغي لها أن تتلكَّأ في دروب التواني وإلا فالفوضى تضيع فرص الإصلاح السديد، والتخطيط الجيد يسبق تطور الأحداث، وإلا فلا نفع ولا جدوى من تدارُك العاقبة إذا ما وقعت النكبات. وهكذا فإني أرجو من جلالتكم انتهاز الفرصة ودرء المخاطر بسرعة التبصُّر والتدبر في هذا الأمر.
الجزء الثاني من الفصل نفسه
فإذا أصغيت إلى قولي جعلت لك الولاية فوق الإمارات، حتى قدت إليك مواكب الأمراء من شرقي جبل «هواشان»، يأتونك بالهدايا ويصلونك بالصلات ويدفعون إليك جزية الفصول الأربعة، ويخضعون لأوامرك ومنهاجك المرسوم، وصار في إمكانك التكفُّل بشئون المعابد التابعة للدولة وتدريب الجنود وصقل الأسلحة، وستجد الجميع طوع أمرك، قائمين على خدمتك بما يشرح صدرك، فاعلم أنك إذا أخذت بما وضعتُ لك من الخطط والسياسات وجدتَ صفوف المُغنين والمطربين وذوات الحسن والجمال من نساء الدول المختلفة: هان، ووي، وتشي، ويان، وجاو، ويه؛ يخطرن في أفنية قصورك الخلفية ليدخلن في زمرة حريمك ومَحظياتك، ثم إن حظائرك ستمتلئ بأحسن الجياد والنوق التي ترعرعت في دولة «جاو» ومنطقة «دايدي»، فلذلك أقول لجلالتك: إن نجاح خطة التحالف الرأسي يضمن لدولة تشو السطوة والنفوذ فوق الممالك. أما إذا قُدِّر لخطة الحلف الأفقي أن تنتصر، فسوف يعني هذا استتباب السيادة لدولة تشين.
وما أشهده ماثلًا أمام عيني، اليوم، من إهمالكم شأن السطوة والسيادة، وقبولكم لما يذاع عنكم من خضوعكم للغير، فهو ما أعتبره — في قرارة نفسي — غير جدير بكم ولا ينبغي لكم انتهاجه بأي حال.
الجزء الثالث من الفصل نفسه
إن دولة «تشين» أشبه ما تكون بالسبع الضاري أو الذئب الجائع، فهي لا تنفك تسعى لالتهام الممالك التي فوق الأرض جميعًا؛ ولذلك فقد صارت أبغض الأعداء إلى الناس كلهم. واعلم أن أولئك الذين يدعون إلى الارتباط بالتحالف الأفقي [… مع تشين وفي ظل رئاستها وقيادتها للكتلة الأفقية (مجموعة الدول التي تقع إلى الجوار مع «تشين» على خط عرضي واحد)] — أولئك القوم — إنما يقدمون على التضحية بأجزاء من أراضي الممالك والدويلات بغية تقديمها إلى دولة «تشين»، على سبيل الخضوع والإذعان؛ فذلك ما يُقال له … «زرع بذور الشر تمهيدًا لاستنباتها.» إن وزراء الدويلات والإمارات لا يتورَّعون عن اقتطاع مساحات من أراضي بلادهم وأملاك أسيادهم الملوك لتقديمها عن طيب خاطر لذلك الذئب النهم المدعو «دولة تشين»، كي تفتح شهيته لابتلاع وضم المزيد من الأراضي ثم يجد أولئك المسئولون أنفسهم، فجأة، أمام كارثة اسمها «أطماع دولة تشين»، وعندئذٍ يتركون أوطانهم في قلب الخطر ويرحلون بعيدًا حيث يجدون من «تشين» كل ما يحتاجون إليه من العون، فوق أنها تُظلُّهم بنفوذها بعد إذ تمكنوا من إجبار الملوك على تسليم أراضي الأوطان إلى تشين الكبرى، وتلك جريمة كبرى، لا تُوجَد على ظهر الأرض أشنع منها. فمِن ثم كان الانضمام إلى التحالف الرأسي يعني أن تقوم الممالك بتسليم أجزاء من أراضيها لدولة تشو، فإذا انتصر التحالف الأفقي، فستقوم تشو بتسليم الأراضي إلى «تشين»، هناك فرق شاسع بين السياستين فرق هائل جدًّا فشتان ما بين تَينك الخطتَين، فأين موقع جلالتكم منهما؟ ذلك ما نود أن نعرفه، وقد أوفدني حاكم «جاو» إلى بلدكم لإطلاعكم على خطتنا المُتواضعة فها هي ذي بين يديكم، ولجلالتكم القول الفصل في الاختيار.»
الجزء الرابع من الفصل نفسه
ورد عليه حاكم تشو، قائلًا: «إن حدود بلادي تُتاخم دولة «تشين» في الجهة الغربية، وأعرف أنها تطمع في مهاجمة منطقتي «باتشو»، «هانجون» لتضمَّهما إلى حدودها؛ فيما عرفت من نهمها، كالسبع الضاري، إلى الاستيلاء على كل ما تطوله يدها، قررتُ أن أبتعد عن خُططها وأتناءى عنها قدْر الإمكان. ولمَّا كانت دولتا «هان» و«وي» قد أجبرتا على الانضمام إلى تشين لما فرضته عليهما من أسباب قاهرة لموقفهما هذا، فلن أجازف بالاشتراك معهما في وضع أية خططٍ أو تصورات بعيدة المدى خشية أن يسارع الخونة بإفشاء أسرار التخطيط أو إبلاغها إلى تشين، فتدور علينا الدائرة قبل أن نشرع في تنفيذ أي ممَّا تصوَّرناه بالفكر المجرد، وأظن، من وجهة نظر شخصية جدًّا، أن اللجوء إلى دولة تشو باعتبارها الجبهة القادرة على صد ومقاومة تشين لا يعد بالكثير من فرص النجاح والنصر، كما أن الخطط التي يتم التوصل إليها، داخليًّا بالمناقشة مع الوزراء ورجال الدولة لا يمكن أن تكون بالضرورة، محل ثقةٍ كبرى، ولهذه الأسباب مجتمعه فلم أعُد أهنأ بنوم ولا أستسيغ طعامًا، ولا يهدأ لي بال، كأني راية معلقة في الهواء، لا تستند إلى دعامة مُثبتة راسخة الجذر في الأرض، وما دمت قد جئتنا بهدف توحيد الممالك ونشر الاستقرار في ربوع الدويلات، وإزالة أسباب الخطر المحدق بالبلاد، فها أنا ذا أحمل بلدي بيدي هاتَين وأتبعك خطوة بخطوة.»
لمَّا حاول تشانغي ضرب التحالف
حاول «تشانغي» ضرب التحالف الرأسي والدعوة للتحالُف الأفقي، ومن ذلك فإنه ذهب لمقابلة الملك «هواي»، حاكم تشو، في محاولة لإقناعه بآرائه، وقال له أثناء لقائه «إن نصف أراضي الممالك تقع في حوزة تشين، هذا بالإضافة إلى ما تملِكه من قوة عسكرية قادرة على مواجهة الدويلات؛ فوق ما تتميز به من ظروف وأحوال طبيعية تحميها من الخطر الداهم إذ تُحيط بها الجبال وتدور بها الأنهار وتترامى على حدودها، من الجهات الأربع، طبيعية ثابتة، ويزيد عدد مقاتليها على المليون جندي، وتبلغ حصيلة عرباتها العسكرية ألف مركبة مقاتلة، بجانب عشرة آلاف فارس، ثم إن الحبوب في مخازنها مكدسة في أكوام تكاد تُغالب قِمم الجبال طولًا، وقد سادت هيبة القانون في أرجائها، واستعد جنودها للخطر، غير هائبين ملاقاة الردى، ومليكها يلحظ بعين الحرص مكانتها وشدة بأسها بين الأمم، ووراءه قادة ورجال النجابة والشجاعة والعزم من أبرز خصالهم، يُغيرون على أعاديهم، ويقذفون في قلوبهم الرُّعب حتى قبل أن يرفعوا لواء الحرب، فإذا ما أقدموا على الزحف، انطوت تحتهم الجبال وانهارت الحصون وانقصم ظهر الممالك [هكذا حرفيًّا] وكان آخِر من أذعن لهم بالغلبة من الأمراء هو أول الهالكين.
ثم إني أرى أولئك الداعين إلى تأليف حلف رأسي لمحاربة التحالف الأفقي وكأنهم يسوقون النعاج الضالة للنزال مع سبعٍ شديد الافتراس، فتأمل كيف يكون القتال بين نمِر ضارٍ ونعاج مُضطربة، وإلامَ تنتهي نتيجة مثل تلك المواجهة؟ ألا ترى أن النصر والهزيمة، في مثل تلك الحال مسألة بديهية لا تحتاج إلى كثير جدل، وإني إذ أرى جلالتكم تنأَون بأنفسكم عن الدخول في صف النمور الضارية وتذهبون إلى صفوف النعاج والخراف، وأقرر بأن خطتكم، في هذا الشأن، من وجهة نظري الشخصية، يشوبها الخطأ البالغ.
الجزء الثاني من الفصل نفسه
ليس على الأرض من الدول القوية إلا واحدة من اثنتَين: إما دولة «تشين» أو دولة «تشو»، فإن لم تكن هذه هي القوية، فلا بد أنها تلك الأخرى، فإذا ما قام صراع مسلح بينهما، وهما على هذا النحو من التكافؤ في ميزان القوة، فستتعاظم حدَّة التناقض بينهما بطريقةٍ تهدد بقاء كليهما وهكذا فإنك إذا لم تبادر إلى إقامة الصلات مع تشين، فسوف تدفع بقواتها للنزول شرقًا حيث ستتقدم للاستيلاء على مدينة إيانغ، وهو ما سيؤدي بالتالي إلى إغلاق طريق «شان طانغ» المار بدولة «هان»، وباطِّراد تقدُّم قوات «تشين» نحو منطقة «خدونغ» تصبح قادرة على احتلال منطقة «تشين قاو»؛ مما سيفرض على دولة هان الخضوع تحت سطوة «تشين»، وعندئذٍ تُطأطئ دولة وي رأسها للعاصفة وتسير مع ركب الخاضِعين تحت جناح «تشين»: وهكذا يتيسر لهذه أن تُهاجم دولتكم من جهة الغرب، بينما تقوم حليفتاها «وي»، و«هان» بشن الغارة عليكم من الجهة الشمالية، ولا أدري، كيف لبلادكم أن تتخلَّص من ذلك المأزق الداهم والخطر الوشيك؟»
الجزء الثالث من الفصل نفسه
«هذا من ناحية، أما من جهة أخرى، فإن تلك الدول المقبلة على توقيع ميثاق التحالف الرأسي، لا تُمثل إلا حفنة من الكيانات المتهافتة الضعيفة التي تدبر لمهاجمة أكبر وأقوى دولة على وجه الأرض. ومن المعلوم أن تحدي أطراف ضعيفة لدولة قوية، والتسرُّع في الإقدام على اشتباك عسكري معها دون تقدير كافٍ لحجم قواتها، بالإضافة إلى اضطلاع دول فقيرة بمجهود قتالي كبير يتجاوز طاقة احتمالها كل ذلك يُعد طريقًا محفوفًا بالمخاطر، ومنذرًا بالتهلكة، وقد بلغني أنه لا ينبغي لبلدٍ يتضاءل حجم قواته عما يملِكه عدوه أن يُقدِم على استفزازه، وليس لدولة يقلُّ مخزونها من الحبوب عما يتوافر لدى أعدائها أن تشرع في حربٍ طويلة الأمد.
إن أولئك الداعين إلى التحالف الرأسي يُزيفون الأدلة والبراهين، ويزينون القول لملوكهم بما يمتدحون من حكمتهم وشرفِهم وهيبتِهم، ولا يذكرون لقادتهم إلا النواحي الإيجابية في مشروع التحالُف، دون أن يعرِّجوا على جوانبه السلبية المُنذرة بالويل؛ مما يُعرض الجميع لنكبةٍ مروعة تتمثل في تعرُّض دولة «تشو» لهجوم «تشين» المُدمر، الذي لن يُبقي ولن يذَر، ولن يمكن تفاديه إذا ما تفاقمت الأوضاع ووصلت إلى نقطة يتعذَّر معها الابتعاد عن حافة الانزلاق إلى كارثة؛ لذلك كله، فإني أرجو من جلالتكم مراجعة تلك الأمور بتأنٍّ ودقة شديدة.»
الجزء الرابع من الفصل نفسه
«وإذا ما قُدر لدولة «تشين» أن تستولي على إقليم «باجو» فستُبادر على الفور إلى تسيير سفينتَين محملتَين بالحبوب من منطقة جبل «مين» حيث تُطلَقان بين شاطئي نهر «اليانغتسي» وتنحدران مع مياهه صوب الشرق، فتصلان بعد مسافة ثلاثة آلاف لي إلى العاصمة «إينغ دو» وعلى ظهر كلٍّ منها عدد هائل من الجنود حيث تتَّسع السفينة الواحدة لما مقداره خمسون مقاتلًا، بالإضافة إلى شحنات من الحبوب تكفي لمدة ثلاثة أشهر، وتقطع السفينة الواحدة منهما ما يبلُغ ثلاثمائة «لي» في اليوم الواحد، وبرغم تلك السرعة الهائلة، إلا أنها لن تؤثر على أو تستنزف المجهود القتالي للقوات، فما هي إلا عشرة أيام حتى تكون الرحلة قد بلغت مضيق «هانكون» الذي ستتملَّكه الدهشة والفزع، مما ستسري آثاره صوب الشرق، فتهب مدن وقرى المنطقة الواقعة شرقي مدينة «جين لين». فتصف الجنود وتتأهَّب للدفاع، إلا أن منطقتي «تشيان جون» و«أوجون» ستقعان تحت سيطرة الغزاة وتخرجان من دائرة أملاك جلالة الملك إلى الأبد؛ وحينئذ، ستدفع «تشين» بقواتها من إقليم «أوكوان» وتقوم بمهاجمة تشو من الجنوب وهو ما سيؤدي إلى قطع الطريق المار بمُحاذاة الحدود الشمالية، وهنالك تقوم قوات دولة «تشين» بمهاجمة «تشو»، التي ستجد نفسها تحت ظلال الخطر مدة لا تقلُّ عن ثلاثة أشهر كاملة، في حين أن ما يمكن أن يصل إليها من الإمداد والعون لن يأتي قبل ستة أشهر في أحسن تقدير، فمن ثم تجد «تشو» نفسها في موقف أسوأ مما تواجهه «تشين» وأقول لك يا مولاي: «إن أكثر ما يُثير القلق عليكم والإشفاق بكم، هو ما يبدو في ظاهر أحوالكم من الارتكان إلى مساعدة الدول الضعيفة، بينما تتغافلون عما تحمِله لكم «تشين» في أنيابها من السمِّ الناقع، هذا بالإضافة إلى ما تحملتموه من أعباء شديدة في تدبير شئون الدفاع عن المدن والقرى التي اجتاحتها قواتكم إبَّان حربها المُظفرة ضد دولة «أو»، حيث قمتم بإبادة قواتها بالكامل، فأنيط بكم أمر حماية المعاقل والأقاليم، فزادت مسئولياتكم في الوقت الذي تفاقمت فيه الأحوال المعيشية السيئة التي تمرُّ بها الأهالي في ذلك البلد المنكوب. وقد بلغني أنه من المُحتمل لمن يهاجم بلدًا قويًّا أن يصادف أصعب المخاطر. وهو ما يضيق به صدر الأهالي، فتضطرب صدورهم بالغضب، وتمتلئ جوانحهم بالكراهية ضد سلطات الاحتلال. وهكذا فإن احتمال وقوع أزمات شديدة إثر قيام قواتكم بمهمة الدفاع [في دولة أو] بالإضافة إلى عصيانكم وتحديكم لإرادة «تشين» في المنطقة، كل ذلك يُثير لديَّ — وعلى نحوٍ شخصي جدًّا — مشاعر القلق لما يُحيط بكم من الخطر.»
الجزء الخامس من الفصل نفسه
«ولئن كانت دولة «تشين» قد أحجمت، طوال خمس عشرة سنة عن تحريك قواتها لضرب الدويلات، فقد كان السبب في ذلك يكمن فيما تدبره من خططٍ سرية تهدف إلى تحقيق طموحها في ضم كل الدول والإمارات التي تحت السماء.
وقد جاء حينٌ من الدهر، وقع فيه الجفاء بين «تشو» و«تشين»، واشتبكت قواتهما في موقعة «هانجون» حيث كانت الهزيمة من نصيب «تشو» التي فقدت من خيرة نبلائها الحامِلين الألقاب الاجتماعية العُليا ما يزيد على سبعين فردًا، وانتهى الأمر بسقوط منطقة «هانجوان» في أيدي قوات العدو. وهنالك حمي غضب ملك «تشو». فأرسل جيشًا لمهاجمة «تشين»، ودارت بين الطرفَين معارك في منطقة «لانتيان»، ومُنيت «تشو»، في هذه المرة أيضًا، بهزيمة ساحقة.
ولطالما دارت بين الدولتَين معارك طاحنة، فكأنهما فهدان يتعاركان لا يكاد يهدأ أحدهما حتى يثب عليه الآخر يدعوه للنزال، ومع ذلك فهم الخاسران الوحيدان؛ إذ تبذل كلٌّ من «هان»، و«وي» كل جهدهما في تقوية حشودهما الخلفية، لذا كانت خطط «تشين» و«تشو» خرقاء، ينبغي تصويبها، وإني لأرجو من جلالتكم مراجعة تلك الأمور بدقة متناهية.»
الجزء السادس من الفصل نفسه
«وإذا ما انطلقت قوات «تشين» صوب الشرق، وهاجمت دولة «وي» وإقليم «يانجين»، فسيكون ذلك بمثابة عملية خنق أو كتم أنفاس للدويلات والإمارات المنتشرة تحت السماء، وإذا قمت جلالتك بتحريك قواتك لمهاجمة دولة «سونغ»، فسوف تتمكن من احتلالها، ثم تشرع بعد ذلك في التقدم شرقًا، حتى تخضع لك الاثنتا عشرة دويلة الواقعة بمحاذاة نهر «سيشوي».»
الجزء السابع من الفصل نفسه
«وقد كان سوتشين أكثر من عمل جاهدًا بثقة وعزم راسخ لإقامة التحالف الرأسي وتقريب وجهات النظر والعلاقات بين البلاد، وهو الأمر الذي وضعه موضع التبجيل البالغ، حتى أنعم عليه الملك «سو» حاكم «جاو» بأحد ألقاب التشريف وأقامه رئيسًا لوزراء دولة «يان»، فراح يُخطط سرًّا لمهاجمة دولة تشي؛ وذلك بالاتفاق الودي مع حاكم دولة «يان». على أن يفوز «سوتشين» بنصيبه المُقرر من أراضي «تشي» بعد احتلالها، وهكذا فقد تظاهر «سوتشين» [ذات يوم] بأنه ارتكب جرمًا شنيعًا، وهرب من فوره إلى دولة تشي حيث استقبله الحاكم بكل ترحاب، وأكرم وفادته وشمله برعايته، وعيَّنه رئيسًا لوزراء بلاده، فما كاد ينقضي من الزمن عامان، حتى اكتشفت تفاصيل المؤامرة السرية فاشتاط الملك (حاكم تشي) غضبًا وأصدر حكمه بالإعدام ضد سوتشين؛ حيث جرى تقطيع جسده بواسطة جنازير حادة موصولة بين جسده وعربات ضخمة تجرها الجياد القوية.
(ولذلك فإني أخلص إلى القول إن) الاعتماد على رجل ماكر ومخادع ومتقلب مثل «سوتشين»، بهدف التخطيط لإدارة وقيادة وتوحيد الممالك والدويلات التي تحت السماء، يعد أمرًا مستحيلًا وقد قام الدليل الواضح على ذلك.»
الجزء الثامن من الفصل نفسه
«إننا إذا تأمَّلنا أحوال كل من تشين وتشو، وجدنا أنهما بلدان متجاوران، وحدودهما مشتركة، وطبيعة أرضهما متناظرة، ولا غروَ في ذلك فهما أختان متجاورتان وإذا قبلتَ ما أعرض عليك، فسوف أُبادر إلى إرسال أمير دولة «تشين» ليأتيك فيبقى في كنفك رهينة سلام، بحيث تُرسِل دولتكم إلى «تشين» بالمقابل ولدكم الأمير [الملك شيانغ فيما بعد] ضمانًا للسلام بين البلدَين، كما أرجو أن توافق جلالتكم على مجيء ابنة ملك «تشين» لتُقيم في القصر عندكم، مجرد محظية تقوم بأعمال الخدمة المنزلية البسيطة، كما أن تشين سوف تمنحكم حق الانتفاع بما تجلبه مدينة كبرى (ذات عشرة آلاف أسرة مُقيمة) من ضرائب؛ وذلك ليقوم التآخي الدائم بين بلدَينا، ونضع نهاية للحرب بيننا، فهذا أفضل ما يمكن أن نتوصَّل إليه من الخطط المشتركة. وعلى ذلك، فسوف يقوم جلالة الملك حاكم «تشين»، بإيفاد رسل يقومون بتسليم رجال الحاشية لديكم الوثائق والرسائل ذات الصلة، حتى يصدُر قراركم النهائي في هذا الأمر.»
الجزء التاسع من الفصل نفسه
ثم تكلم ملك «تشو» قائلًا: «إن دولة «تشو» ذات موقع ناءٍ وموارد محدودة، وتعتمد في بقائها على نهر «دونهاي». وقد كنت في شبابي أجهل الكثير من ضرورات التخطيط بعيد المدى، وكم أسعدني أن أتعلم منك اليوم — أيها الضيف الكريم — الكثير مما يتصل بالقرارات المهمة، وأود أن أبلغك بكل تقدير، بعد ما سمعت من قولك، موافقة دولتنا ونزولها على رأيك». ثم إن الملك أرسل (إلى تشين) وفودًا تحمل الهدايا وهي عبارة عن: مائة عربة عسكرية، ومجوهرات ثمينة وتحف نادرة ونوع من اليشب [المستخدم في إقامة الطقوس الدينية] يضاء ليلًا عندما يشتد الظلام.
لمَّا كان تشانغي يشغل منصب رئيس الوزراء
لمَّا كان «تشانغي» يشغل منصب رئيس وزراء دولة «تشين»، فقد تحدث، ذات مرة إلى «جاوجي» [وزير عظيم في «تشو»]، قائلًا: «هب أن دولة تشو فقدت إقليم «ياندي»، والعاصمة «إينغ»، ومنطقة «هانجون»، فهل يتبقى لديها شيء مما يُمكنها الاحتفاظ به؟» فرد عليه «جاوجي» بالنفي، فقال له «تشانغي»: «وهب أنكم في دولة «تشو»، لم يعد لديكم رجال دولة أكفاء مثل «جاوكو»، و«تشن جن»، فهل يبقى هناك أحد من المؤهَّلين للقيام بمسئولياتهم وتولي الوظائف العامة؟»، فلما ردَّ عليه الرجل بالنفي، قال له: «فأرجو منك، إذن، أن تبلغ ملك «تشو»، عن لساني إصدار قرار بإبعاد «جاوكو» و«تشن جن» من وظيفتهما، وسنرد على ذلك بإعادة «ياندي»، والعاصمة «إينغ»، و«هانجون» إلى بلادكم.» فلما عاد «جاوجي» وأبلغ الملك بذلك الطلب، فرح جلالته جدًّا بما سمعه وسُر بالغ السرور.
الجزء الثاني من الفصل نفسه
وقد ذهب إلى «جاوكو» من قال له: «قد تجاوزت الأمور الحد المعقول، فهذا ملك «تشو» قد غشي على بصيرته، فلم يعد قادرًا على التمييز بين النابِهين الحكماء، والطامِعين إلى السطوة والشهرة. و(يذكر التاريخ) أن دولة «هان» كانت فيما مضي من الزمان، قد طالبت دولة «آل جو» بترقية «كون شن جيه» إلى منصب رئيس الوزراء، فلم يلتفت إلى طلبه، ثم حاولت دولة «وي» إقناع «آل جو» بتولية «تشيمو هوي» منصب وزير عظيم في دولتهم، وللمرة الثانية قوبلت تلك المحاولة بالرفض، أتعرف السبب في ذلك؟ السبب يا سيدي هو ما جاء على لسان حاكم «آل جو» بنفسه، إذ قال: «إنهم بطلبهم هذا، يُعاملوننا كما لو كنا مجرد ولاية تابعة لسلطانهم.»
والحال أن دولة «تشو» واحدة من الكيانات القوية بما تملِكه من عتادٍ يبلغ عشرة آلاف عربة حربية، وملك البلاد واحد من أكثر الحكام رجاحةً وبصيرة، ومع ذلك فقد صدق ما قاله له «تشانغي» من وجوب إبعادكم و«تشن جن»، وهو ما لم يُقدم عليه «آل جو»، في ماضي الزمان، بل أصبح «تشانغي» بذلك، أكثر مهابةً من حكام دولتي «وي» و«هان»، في سالف الأيام، أضف إلى ذلك أنه، فيما يسلك من تصرفات وينصح من كلمات، إنما يهدف إلى ترسيخ مآثره وأفضاله في صفحة مجده بدولة تشين، هذا بالإضافة إلى ما يسعى بكل جهده، إلى تحصيله من مال وجاه في دولة «وي»، التي إن كان سينصح لها بشيء، فلا بد أنه ناصح لها بالتقدم نحو الجنوب لمهاجمة «تشو».»
لذلك كان من الأنماط المعهودة في شن الغارات على الممالك، والبدء — كضرورة حتمية — بقطع العلاقات الدبلوماسية — للدولة المستهدفة — مع باقي الدول، وذلك فيما يتعلق بالشئون الخارجية، أما بالنسبة للداخل، فتجري محاولة طرد واستبعاد وزرائها المُحنَّكين.
ومن المعلوم أن الوزير «تشن جن»، واحد من أبناء مناطق السهول الوسطى، ولذلك فهو أكثر درايةً بأحوال «سانجين»؛ فمن ثم كان إصرار «تشانغي» على إبعاده عن منصبه، وهو ما يضمن تفريغ دولة «تشو» من رجال السياسة الأكفاء؛ ولأنك — أنت نفسك — واحد من أكثر رجال الدولة قدرةً على إدارة وضبط وتوجيه شئون الناس في «تشو» فها هو «تشانغي» يُطالب باستبعادك، فلا تجد البلاد من يقوم على إدارة شئونها؛ فهذا ما يُقال له مهاجمة الأوطان من الداخل، وهو الأمر الذي يغفل الملك عن فهم خباياه والتحقق بدقة من ملابساته. فلماذا تمنعني من محاولة الالتقاء بجلالته، لأرجوه إيفادي إلى دولة «تشي» كي أحول دون قطع العلاقات بين البلدين (تشي، وتشو)، فإذا بلغ مسامع تشانغي بقاء عُرَى الصداقة على حالها، فسوف يعمل على تأجيل تنفيذ خطة إعادة «ياندي» و«إينغ» و«هانجون» إلى السيادة الوطنية لتشو، مما يُضعف الثقة في آراء جاوجي ويسخط عليه قلب الملك فيُقصيه عن حاشيته.»
لمَّا استفسر حاكم تشو من مستشاره الخاص
توجَّه الملك «وي»، حاكم «تشو» إلى مستشاره «تسي هوا» (الخاص بالأوامر والاستعلامات) بسؤاله: «أتعرف أحدًا من المسئولين ممن تولَّوا منصبًا رسميًّا منذ إرساء دولة «تشو» حتى وقتنا هذا، تفانى في العمل والسهر على مصلحة البلاد دون مطمع في منصب عالٍ أو مالٍ وفير أو مكافأة جزيلة؟» فرد عليه مستشاره، قائلًا: «تلك مسألة ليس لمِثلي علم بها.» فقال الملك: «ألم يبلغك خبر واحد من الناس على هذه الشاكلة قط، سواء سألت أحدًا من كبار رجال الدولة عنه أم عرفته من مصادرك الشخصية؟» فأجابه مستشاره: «فأي صنف من الناس تريد أن تستفسر عنهم؟ فهناك من تشغله شئون البلاد على الرغم في ضيق ذات يده وبساطة عيشه، وهو مع ذلك شريف، نزيه، عفيف اليد واللسان، وهناك من يعمل على الارتقاء بنفسه في سُلَّم الوظائف بُغية زيادة راتبه، وهو في الوقت نفسه مشغول بأمر بلده، مهموم بشئونه، وهناك من لدَيه الاستعداد بأن يقطع له الناس رأسه، ويبقروا بطنه، أو يفتح عينيه فلا يرى شيئًا في العالم سوى وطنه، فلا يشغله شيء من أمر نفسه ولا جسده سوى السهر على مصلحة بلده؛ ثم هناك كذلك من يكدُّ ويسعى لتحقيق طموحه وآماله، لكنه مشغول أيضًا بما فيه صالح الوطن، وهناك من يهتم لأمر بلاده دون طمع في مال أو مكافأة أو منصب.» فسأله الملك: «فمن تقصد تحديدًا بقولك هذا؟».
الجزء الثاني من الفصل نفسه
رد المستشار «تسي هوا» على الملك قائلًا: «كان أحد رؤساء الوزارات في الزمن القديم، ويدعى «تشيون»، يذهب إلى القصر مُرتديًا قميصًا حريريًّا أسود اللون، فإذا انتهى عمله، وعاد إلى بيتِه خلع القميص الحريري وارتدى حلةً خشنة من جلود الأيائل، ولم يحدث مرة أن تأخَّر عن عمله، كان يذهب في الصباح الباكر ويظل واقفًا عند باب القصر في انتظار الإذن له بالدخول (قبل أن يستيقظ أحد من الناس)، ولا ينتهي من عمله إلا عندما تشتد ظلمة المساء، فيرجع إلى منزله، ولم يكن ميسور الحال، وإنما كانت عيشته الكفاف، حتى لم يكن يدري في الصباح كيف يُقيم أوده إذا حلَّ المساء وهو، مع ذلك لا يكاد يختزن ما يكفيه مدة شهر من الحبوب؛ لذلك فقد اشتُهر بالنزاهة والشرف وعفة اليد، وهو بسيط الحال أقرب للضيق منه إلى اليسار، ثم إنه، بجانب هذا كله حريص على ما فيه مصلحة بلاده، مُهتم برفعة شأنها؛ فهذا الرجل (المدعو تسيون) خير نموذج في هذا الباب.»
الجزء الثالث من الفصل نفسه
ومن أخبار ما سلف من الزمان أيضًا أن الوالي «تسيكاو» كان واحدًا من رجال الدولة الذين تم اختيارهم للترقي في صفوف النبلاء وهم أصلًا ممن عاشوا حياتهم في الأوساط الشعبية البسيطة، ويذكر له من المآثر المجيدة قيامه بالقضاء على الاضطرابات الداخلية الناجمة عن تمرُّد «بايكون» [ولد الأمير الذي ثار على ملك تشو وطرده خارج القصر]، بل قام بتوسيع نطاق الأراضي التابعة لسلطان «آل تشو»، وبسط الاستقرار في ربوعها، ثم أعاد للسيادة الوطنية الأرض السليبة الواقعة شمالي جبل «فان تشنغ» فأمنت البلاد على حدودها الأربعة مخاطر الغزو والاحتلال، وأذعنت الدويلات لسلطان «آل تشو»، وخضعت الجباه [التي كانت تسخر من العرش الحاكم بالأمس] لنفوذ وهيبة القصر الحاكم، ولم يعُد يدور بخلد أحدٍ من أمراء الممالك الصغيرة تحريك قواته صوب الجنوب لاقتحام حدود «تشو»، وهكذا أنعم جلالة الملك بإقطاع من الأرض تبلغ مساحته ستمائة ألف مو [وحدة مساحة قديمة للأراضي = ٠٦٦٧، من الهكتار] مكافأة له على خدماته الجليلة، وهكذا، فإن «تسيكاو» خير مثال لأولئك الذين يرتقون الدرجات الشريفة ويفوزون بنصيب وافر من الثروة، وهم يبذلون كل جهد وطاقة.»
الجزء الرابع من الفصل نفسه
«من وقائع الماضي البعيد، أن الحرب لما قامت بين دولتَي «أو» [تنطق كما في «أوبرا»] و«تشو» والتحمت القوات في موقعة «بايجو» وبخاصة قوات المشاة — التي وقع بينها القتال فيما بين صفوف العربات العسكرية، وراح «موهاوداشين» [أحد نبلاء دولة تشو] يشد على أيدي سائقي العربات العسكرية، ويقول لهم: «ها إن مصير الهلاك يكاد يحلُّ ببلادنا، فاثبتوا ساعة ريثما أتخلل صفوف قوات العدو، فإما أن أثخن فيهم أو أن أقبض على الأسرى، ليت الجميع يقاتل معي، حتى تنجو البلاد من الدمار الوشيك …» فلهذا قلت لك إن هناك من يستهينون بالموت نفسه، ويعدونه مجرد إغماضة عين عابرة، ولديهم الاستعداد التام للتضحية بأنفسهم في سبيل مجد بلادهم، فتأمل سيرة «موهاوداشين» تجد مصداق قولي.»
الجزء الخامس من الفصل نفسه
«وكانت الحرب قد وقعت قديمًا بين دولتي «أو» و«تشو» في موقعة تدعى «بايجيو»، وكان أن تمكنت قوات دولة «أو»، بعد خمس معارك من احتلال العاصمة «إينغ»، فهرب الملك «جاو» حاكم تشو، خارج البلاد وتبعه كبار رجال الدولة، وتفرق الناس شذر مذر، وتقطع ما بين الوالد وولده والأم وأبنائها، وهنالك تحدث «فن ماوبوصو» [أحد أبناء نبلاء تشو] قائلًا: «ماذا لو أني تدرَّعت بدرعي وانتضيت سلاحي، وقمت إلى صفوف العدو غير هياب ولا مُتردد، غير أني لست إلا مجرد واحد من المُقاتلين، ولعلِّي إذا طرقت باب الدويلات المجاورة وجدت لديهم العون والنجدة.» ثم حمل كمية وافرة من الحبوب وتسلل خفية بين شعاب الجبال ودروب التلال الوعرة، وعبر الوديان والبحار، يمشي تارة ويسبح تارة أخرى ويتسلق القمم الشاهقة بعض الأحيان، وتسلَّخت منه الأيدي وتورَّمت الأرجل، حتى وصل بعد أيامٍ سبعة إلى بوابة القصر الملكي. فقام واقفًا هناك دون أن يتحرك أو ينطق بشيء، كأنه طائر الكركي، ومرَّت عليه الساعات الطوال وهو ينشج ببكاء مرير ويرفع صوته بالاستغاثة، ومرت عليه سبعة أيام وهو على هذه الحال، دون أن يُجيبه أحد بشيء، فلما انقضت عليه تلك المدة دون أن ينزل جوفه شيء من طعام أو شراب، تبدَّدت قواه وخر مغشيًّا عليه، فلمَّا علم الملك بأمره، أسرع إليه في الحال دون أن يرتدي قُبعته أو يلفَّ حزامه حول قميصه، فأقعى عنده وتناول رأسه بيدَيه وراح يصب الماء في فمه حتى استرد «فن ماوبوصو» وعيه، فسأله الملك: «من أنت، وما حكايتك؟» … فأجابه: «ما أنا إلا مبعوث دولة «تشو» بأرضكم، فأنا (الذي لم تنصفه الأيام …) المدعو «فن ماوبوصو». قد شهدت بعيني موقعة «بايجيو» حيث قامت الحرب بين «أو» و«تشو» التي وقعت فيها العاصمة «إينغ» في يد أعدائنا بعد خمس معارك، وإذا بالملك قد هرب مع رجال الحاشية وكبار المسئولين، وتفرق شمل الناس جميعًا، وتشتت الأهالي، فقمت ساعيًا إليكم لأخبركم بهروب سادتنا خارج البلاد، راجيًا منكم الغوث والنجدة.» فتطلع إليه حاكم «تشين» وأشار إليه بالنهوض، قائلًا: «قد بلغني أنه لا يصح لحاكم يملك عشرة آلاف عربة عسكرية أن يحقر من شأن فارس من أرومة الكرم والشجاعة، وإلا انتفض أساس حُكمه، وقد رأيت اليوم بعيني وقائع تشهد بصحة ذلك …» ثم إن جلالته أمر بسرعة إرسال ألف عربة عسكرية وعشرة آلاف مقاتل تحت قيادة القائدين المظفَّرين «تسي بو»، و«تسيخو»، وقد مرت القوات في طريقها بمنطقة الحصون الشرقية فعبرتها، وتقدمت إلى الشرق حتى اشتبكت مع قوات دولة «أو» عند نهر «جوشوي» وهزمتها شر هزيمة، وقيل إن تلك الوقائع حدثت في إقليم «صوبو»؛ فلذلك قلت لكم: إن هناك من يكدحون ويبذلون غاية ما يملكون من جهد، حدبًا على أوطانهم ورعايةً لما فيه مصلحتها، وخير مثال على ذلك ما ذكرت لك من أمر «فن ماوبوصو».»
الجزء السادس من الفصل نفسه
«كان القتال قد نشب بين دولتي «أو»، و«تشو» في موقعة بايجيو، وبعد خمس جولات سقطت العاصمة «إينغ»، ثم هرب حاكم «تشو» مع كبار رجال القصر، (وكان الدمار والتخريب قد نال من البلد كله … حتى) فرَّ الناس بأرواحهم في كل اتجاهٍ فتشتت شمل الأهالي وتفرَّق المذعورون أَيْدي سَبَأ، بينما ظل «منكو» [القائد الأعلى لقوات دولة تشو المدحورة] يقاتل أعداءه من دولة «أو»، وذلك بالقرب من منطقة «كونطان»، ثم بدا له أن يغادر أرض المعارك عائدًا إلى العاصمة إينغ، وهو يقول: «لو استطعنا أن نُنصب وريثًا للعرش في القصر، فستظل آلهة الزراعة تحمي دولتنا وتحفظ بقاءها.» وما هو إلا أن دخل القصر وجمع سجلات الدساتير والقوانين والوثائق الرسمية فحملها فوق ظهره وخرج يجوب القفار، ويخوض الأنهار حتى بلغ منطقة «يونمن». ثم بلغه أن ملك «تشو» قد عاد إلى العاصمة دون أن يستطيع السيطرة التامة على زمام الإدارة الحكومية؛ وذلك لغياب رجال الحُكم والمسئولين، وتغلغُل روح الفوضى والارتباك بين الأهالي، فذهب إليه «منكو» وسلَّمه الوثائق وسجلات القوانين الخاصة بالدولة؛ مما ساهم في إعادة الانضباط إلى نظام الإدارة وموظفيها (الذين وجدوا في اللوائح مادة جاهزة لإعادة تشغيل دولاب العمل)، فعاد الضبط والربط والنظام يسود الأجواء، وانصلحت أحوال الناس، وعندما أخذت مآثر «منكو» وأفضاله في الاعتبار، فقد جرى النظر بوصفها جزءًا لا يتجزأ من شرف كيان الدولة وأساس بقائها، فأنعم عليه الملك بأعظم ألقاب التشريف، وأقطعه أرضًا مساحتها ستمائة ألف «مو»؛ فلما علم «منكو» بذلك تملكه الغضب وصاح مُحتدًّا: «لست فقط مجرد وزير لدى جلالته، لكني أيضًا رجل دولة ومسئول عن وطن، ولقد ظننتُ أني عندما أقدم القرابين لآلهة الأرض حامية الدولة، فسوف يبقى العرش الملكي في بلادنا محوطًا بالعناية الإلهية، وينزاح عن صدري الخوف الذي أرَّقني على مصير الوطن.» ثم إنه قام وغادر إلى جبل موشان، حيث اعتزل الناس والعمل العام، وما زال أحفاده إلى اليوم يتجنَّبون الانخراط في الوظائف العامة أو العمل في المواقع المُتنفذة؛ وهكذا، فلئن قلت إن من الناس من يهتم لصالح الوطن دون مطمع في جاه أو مال، فقد كان «منكو» واحدًا ممن يصدُق عليه ذلك القول.»
الجزء السابع من الفصل نفسه
وهنالك تنهَّد ملك «تشين». ثم قال: «كان كل هؤلاء من الغابرين الذين انقضى زمانهم منذ وقتٍ بعيد، فهلا ذكرتَ لي أحدًا ممن يعيشون في زماننا، أليس منهم أحد بين ظهرانينا الآن؟» فأجابه المستشار «تسي هوا»، بقوله: «كان دهاة الملوك ونجباء القادة، فيما مضي من العهود القديمة، يتخذون عمَّالهم ممن استدق خصرهم ونحفت أجسادهم، وكان المتعلِّمون من بني دولة «تشو» يميلون إلى الاقتصاد في الطعام والشراب. (حتى تذوي أجسادهم …) فلا يتكاسلون عن القيام والقعود؛ فتنشط حركة أبدانهم. وإذا كان الطعام اشتهاءً غريزيًّا في الإنسان، (فليس له أن ينساق وراء غريزته … بل) يجب أن يصبر على الصوم كثيرًا؛ ولئن كان الموت أمرًا بغيضًا إلى النفس، إلا أنه قدر لا مفرَّ منه.
وقد بلغني أن الملوك إذا ارتادوا ساحات الرماية وأقبلوا على التدرُّب عليها، سار وزراؤهم على دربهم فشغفت قلوبهم بحُب الرمي والقنص. (وكان يمكن لجلالتكم أن تحضوا الوزراء على النزاهة والحكمة …) لولا أني أراكم تنأون عن الحكماء وتضيق صدوركم بهم، ولو كنتم تُحبون ذوي الحكمة والعلم حقًّا، لكان في مقدوركم الآن أن تدعوهم فيسعون إلى جلالتكم من فورهم.»