سجل جاو الثالث
لمَّا كان العام الثلاثون من حكم الملك
في العام الثلاثين من حكم «هوي آون» — حاكم جاو — تقلَّد «تیان دان» منصب رئيس وزراء جاو (ولُقِّب فخريًّا ﺑ «آن بنجون») [العام الثلاثون من حكم هوي آون، أي سنة ٢٦٩ق.م، والثابت تاريخيًّا أن تيان دان لم يكن قد تولَّى بعدُ رئاسة الوزراء في ذلك العام، وكان قبل التاريخ بزمان يتولَّى قيادة قوات تشي وأبلى بلاءً حسنًا في الحرب ضد دولة يان، وفي ٢٦٥ق.م. قامت دولة جاو بإهدائه إقطاعًا لا بأس به، وعينته قائدًا عامًّا للجيش، وفي العام التالي مباشرة شغل منصب رئيس الوزراء فيها]، وتصادف أنه التقى بالقائد العسكري الشهير «جاوشي»، وقال له: «لا أستطيع القول إني مستاء من طريقة توزيعك وقيادتك للقوات، وإنما أقول: إني لا أجد ما يحملني على الإعجاب بأسلوب القيادة نفسها، والسبب (الوحيد) في ذلك يرجع لطريقة استخدامك حشودًا هائلة من الأفراد في الاشتباكات فهذه الطريقة تعني أولًا: أن عدد المزارعين من الأهالي سيتناقص، بل لن يتمكن الناس من زراعة الأراضي، أصلًا، وثانيًا: فإن عملية نقل الحبوب إلى العتاد الحربي (لتموين القوات) ستعجز عن تلبية الطلبات المعتادة.
وإذن، فهي طريقة القعود جانبًا وتبديد الطاقة والجهد قبل بدء القتال، وهو ما يختلف تمامًا عما يمكن أن أفعله (في مثل هذه المواقف) وقد بلغني أن مجموع ما كان يحشده الملوك والأباطرة (العظام) في القتال لم يكن يزيد، بأي حال، عن ثلاثين ألف مقاتل، وهو عدد كان يكفي لإخضاع الممالك التي تحت السماء، لكنك تعتمد اليوم على حشود تبلغ المائة ألف أو المائتي ألف مقاتل للدخول في الاشتباكات، وهو الأمر الذي يضطرني إلى التحفُّظ على إبداء إعجابي.»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
وتحدث مافو [لقب شرف للمدعو جاوشي] فقال: «لا يبدو أنك تفقه الكثير عن فنون الحرب والقتال، بل إنك لا تعرف أيضًا الصورة الكاملة عن الموقف الحالي على جبهات القتال، إن دولتي «أو»، و«قان» تملكان من السيوف القاطعة ما لو ضربت به أعناق الخيل وأجساد البقر، لقطعتها أشلاء مبعثرة، وإذا سلَّطتها على صفائح المعادن لمرقت فيها كما تمرق في أوهن المواد، وقسمتها قطعًا صغيرة تصنع منها الأطباق النحاسية والملاعق، أما إذا ضربت بها الأعمدة الحجرية المنتصبة لانكسرت السيوف شظايا متفرقة [حرفيًّا: تحطمت إلى ثلاث قطع متفرقة]، وإذا هوَيت بها على المقاعد الرخامية تحطمت السيوف شظايا ضئيلة متناثرة [حرفيًّا: تفرقت إلى مائة شظية].
وإذ نقوم الآن بدفع قوات تعدادها ثلاثون ألف مقاتل، فكأننا نضع السيف الضارب أمام كتلة عمود حجري بالغ الضخامة، ثم إن أحدًا منا لا قبل له بالمادة التي تُصنع منها سيوف دولتي «أو» و«قان»، فهي سيوف ذات مَضاء؛ حتى إن السيف الواحد منها لا يقطع الأشياء إلا بما زاد في سُمكه من الثخانة وفي نصله من الحِدة، ولا يكاد يبتر بِحَدِّه الأشياء، إلا بدقة جسده المعدني الرقيق [هكذا]. وحتى إذا توافرت للسيوف هاتان الصفتان دون أن تكون مزودةً بحمالة وقبضة ذات عوارض، ونصل رهيف الحد وعلائق مناسبة، فلن تصلح للضرب والطعان، وإلا أصابت الضارب قبل المضروب، فكيف يمكن للمرء أن يُحرز النصر، دون حشد قوات بهذه الكثافة (مائة، أو مائتي ألف مقاتل) وهو الحشد الذي يصعب في غيابه، تحقيق أي شيء؛ لأننا عندئذٍ نكون كمن نزل ساحة الحرب بين الممالك بقواتٍ قوامها ثلاثون ألف مقاتل وسيوف ثلمة النصال كليلة، بغير علائق ولا حمائل أو مقابض.
وإذا تأملنا أحوال البلاد في العصر القديم، ولاحظنا أن الأرض كانت موزعة — فيما بين البحار الأربعة (بطول الممالك وعرضها) — بين ما يزيد عن عشرة آلاف دويلة، وبرغم ما كانت عليه الأسوار المحيطة بتلك الدويلات من متانةٍ وقوة، فلم تكن تزيد — في أكثرها منعةً وضخامة — عن ثلاثين جانغ (تسعين مترًا تقريبًا)، وعلى الرغم مما قيل عن كثرة الأهالي واحتشاد الناس في الممالك، فلم يكن يزيد نصيب البلد الواحد من السكان عن ثلاثة آلاف عائلة؛ أي إنه لم تكن هناك أية مشكلة في حشد ثلاثين ألف مقاتل لمناوأة الواحد منها.
وإذا حاولنا اليوم — على سبيل المثال — تقسيم تلك الدول القديمة التي تجاوز عددها عشرة آلاف وقسمناها إلى سبع دولٍ كبرى ذات قدرات قتالية عالية، بحيث يصير في مقدور الدولة الواحدة منها تجهيز قوات ذات عدد وافر من المُقاتلين (مائة ألف مقاتل)، فإن أية قوة مكونة من ثلاثين ألف جندي، مهما ثابرت على القتال مع أي دولة من هذه السبع، فلن تجني سوى الهزيمة النكراء، مهما طالت بها السنون، تمامًا كما حدث لدولة تشي، وقد شهدت أنت بنفسك تلك التجربة، حيث كانت قد دفعت بجيش قوامه مائتا ألف جندي لمهاجمة تشو، وظل القتال دائرًا خمس سنواتٍ حتى أفرغ كل ما في جعبته وتوقف نهائيًّا بعد تلك المدة. وكذلك أيضًا حاولت دولة جاو مهاجمة دولة جونشان بقواتٍ تفوق المائتي ألف مقاتل، لكنها بعد خمس سنوات، ارتدَّت على أعقابها. وانظر الآن إلى دولتي «تشي»، و«هان» وهما تحشدان كل قواتهما في مواجهة بعضهما البعض في محاولة للتطويق المتبادل، فهل يعقل أن يأتي الآن من يزعم بأنه قادر على نجدة إحداهما بدفع ثلاثين ألف محارب؟ إن البلاد الآن تحوطها أسوار مرتفعة تبلغ ألف جانغ ويترقب الحرب على الجبهتين سكان كل واحدة منها، الذين لا يقل تعدادهم عن عشرة آلاف عائلة، إذ تدفع الآن بقوات تبلغ ثلاثين ألف مقاتل لحصار مدن حصينة عالية الأسوار [يبلغ ارتفاع أسوارها عشرة آلاف جانغ]، فإن ذلك العدد الضئيل من القوات لن يكفي لإحكام حصاره حول ضلع واحد من أضلاع المدن المسوَّرة، بل إنك لن تجد ما يتبقى (من القوات) لخوض المعارك الميدانية، (وهنا يبرز السؤال الأساسي) فما قيمة المُقاتلين الذين أرسلت بهم مددًا وعونًا للمُتحاربين؟ وفيم دفعهم إلى جبهات القتال، إذن؟».
وهنالك تنهد «آتنجون» عميقًا، قال: «أعترف بأني لم أبلغ ما أصبته بثاقب رأيك وسديد فكرك».
لمَّا أرسلت دولة جاو وزيرها الأعظم
أوفدت دولة جاو وزيرها الأعظم «تشوها» إلى دولة تشين، وذلك في محاولةٍ منها لحث هذه على تعيين «وايرانغ» في منصب رئيس الوزراء، وتكلم «سونتو» [أحد كبار الوزراء في جاو] إلى تشوها، فقال له: (اعلم) أنه إن لم تستجب تشين إلى طلبك، فسوف يضمرها لك «لواهوان» [من مواطني جاو — أصلًا — لكنه وقتئذٍ رئيس وزراء تشين] والأفضل أن تتجاذب أطراف الحديث سرًّا مع «لوهوان»، فتقول له: «إن دولة جاو أوفدتني في محاولة منها لإقناع تشين بعدم التسرُّع في تكليف ويرانغ برئاسة الوزراء.» وإذ يلاحظ الملك تشاو، حاكم تشين — عدم إلحاح جاو في حثه على تعيين ويرانغ رئيسًا للوزراء، فلن يأخذ كلامك على محمل الجد — هذا طبعًا في حالة عدم نجاح مسعاك — وهو ما سيجعل لوهوان مُمتنًّا لك، حافظًا جميلك في أعماق قلبه.»
لمَّا هاجمت تشي دولة يان
قامت دولة تشي بالإغارة على دولة يان، وكانت دولة جاو ترمي في سياستها، إلى الحفاظ على يان والدفاع عن أي تهديد لوجودها، (وبخصوص هذا الموضوع …) فقد تحدث «يؤي» [ينطق المقطع الأول كما في «فيديو»، والثاني كما في «إسرائيل»] إلى الملك أولينغ حاكم جاو، وقال له: «إن هجومك على تشي دون أن تدخل في حلف مع الممالك المتحاربة، يجعلك هدفًا لعدائها وتصرفاتها العدوانية ضدك، والأفضل أن تتقدَّم إليها بطلب استبدال منطقة «خدونغ» (شرقي النهر) بمنطقة أخرى من أراضي دولة يان التي سلبتها من جاو (في نزاعات سابقة)، ولما كانت لكم في «شرقي النهر» مناطق سيادة ونفوذ، مثلما لدولة تشي أيضًا الكثير من المناطق التي تقع تحت سيطرتها هناك، فلا أظن أنه من المُمكن أن ينشأ نزاع بينكم وبين دولة يان (حول إدارة تلك الأراضي). فتلك هي الطريقة التي يمكن أن تتقارب بها دولتان (في سياستهما). ثم إن استخدام أراضي شرقي النهر لتقوية ودعم مركز دولة تشي — بين الدول — وكذلك ما يمكن أن تقدمه دولة يان للمساهمة في دعم بناء قوة تشي، كل ذلك سيدفع باقي الممالك والدويلات على التبرم بما تُحققه تشين من درجات قوة متصاعدة، ولا بد من أن الممالك جميعها، سوف تُهرع إليك وترجوك الإسراع في الإغارة على تشي، ومن ثم تُواتيك الفرصة الحاسمة لضرب تشي مُستعينًا برصيدٍ من القوة الهائلة الذي توفره لك باقي الممالك.» وهنالك استحسن الملك أولينغ الفكرة، وشرع في استبدال الأرض الواقعة شرقي النهر (على النحو الذي أخبر به) مع أراضي دولة تشي، وهو ما دفع دولتي وي وتشو إلى الإعراب عن استيائهما البالغ من هذا التصرف، فبعثنا رجليهما تشوهاو [وزير عظيم بدولة تشو] وهويشي [وزير عظيم بدولة وي] إلى دولة جاو وقدمتا إليها طلبهما بالإغارة على تشي حفاظًا على قوة وكيان دولة يان.
لمَّا قامت تشين بمهاجمة جاو واحتلال المناطق
قامت دولة تشين بمهاجمة دولة جاو وأغارت على المناطق التابعة لها في «ليندي»، و«ليشي»، و«تشيدي»، وأوفدت دولة جاو أحد نبلائها، (القون «تسيهو») [القون هنا تعريب للكلمة الصينية التي تعني «النبيل»؛ لجأت إلى التعريب — أي كتابة صوت الكلمة بحروف عربية لكثرة ورود هذا اللقب الشرفي فيما يلي من نصوص الكتاب، ولأنه لقب، ذو دلالة خاصة تختلف عما يشار إليه «النبيل» — المترجم] إلى دولة تشين ليُقيم هناك، بوصفه «رهينة لضمان السلام»، ثم عرضت عليها تسليمها مناطق «جياو» [كانت تابعة أصلًا، لدولة تشين، فيما مضى [«ولي»، و«نيوخو» مقابل إعادة أقاليم ليندي، وليشي، وتشيدي، إليها، فلما أذعنت دولة تشين لذلك الطلب وأعادت إليها الأقاليم الثلاثة المذكورة، نكثت دولة جاو بعهدها ورفضت تسليم مناطق جياو، ولي، ونيوخو؛ بالمقابل، فحمِيَ غضب الملك تشاو، حاكم تشين، وأوفد القون «تسيزن» [أحد أشراف دولة تشين] إلى جاو مُطالبًا بالتنازل عن أجزاء من أراضيها. فأرسل له الملك «هوي أون» حاكم جاو، وزيره الأكبر «جنجو»، ليقول له: «إن المناطق الثلاث المذكورة، وهي ليندي، وليشي، وتشيدي، تقع في أقصى أطراف بلادنا، وما استطعنا أن نُبقيها تحت سيادتنا إلا بفضل ما بذله الملوك الأقدمون ورجال الدولة السابقون من جهدٍ نذكره لهم على مرِّ الأيام، وأعترف بأني لا أحوز مثل ما للقدماء من مجد وشرف فإذا بقيت، هكذا غير قادر على استلهام مجد القدماء، فستضيع البلاد كلها، بما في ذلك الأقاليم الثلاثة المشار إليها. وأعترف أن حولي، الآن كثير من الوزراء الفاسدين وأنهم هم الذين أفسدوا كل شيء، وهذا أمر مُحتمل جدًّا.» وتجاهلت جاو ذلك الموضوع الذي أثارته دولة تشين برمته.
الجزء الثاني من الفصل نفسه
واشتد غضب الملك تشاو، حاكم تشين، وأصدر أمره إلى كبير القادة العسكريين «هوشان» بالهجوم على جاو، فتقدمت القوات واحتلت منطقة «يوي»، فسارعت قوات جاو بقيادة جاوشي بالتقدم لتخليص المنطقة من يد الغاصبين، وأرسلت دولة وي قائدها القون «تسيجو» على رأس قوات مدججة بالسلاح، فرابط في منطقة «أني» [تابعة لدولة وي]. وذلك في محاولة لعرقلة تقدم قوات تشين، وبالفعل فقد لاقت هذه هزيمةً منكرة في منطقة «يوي»، فعادت أدراجها، فعرجت في طريق عودتها على منطقة «جيدي» التابعة لدولة وي فأغارت عليها، ودافع «القائد المشهور ليانبو» عن هذه المنطقة، وأنزل بقوات تشين الفتك والتدمير فهزمها شر هزيمة.
لمَّا أراد «فودين» التحالف مع الدولتين
أراد «فودين» [أحد كبار الوزراء ورجال الدولة في جاو] أن يدخل، باسم دولة جاو، في التحالف مع دولتي وي، وتشي؛ بينما كان لوهوان يفكر في تحالف، باسم جاو، مع دولتي تشين وتشو، وكان أكثر ما يخشاه فودين، أن يقتنع الملك أولينغ — حاكم جاو — بكلام لوهوان، فينضم — من ثم — إلى تشو وتشين، وذهب «سيما شيان» [أحد وزراء جاو] إلى الملك، ليتحدَّث معه على لسان فودين ودفاعًا عن موقفه، قائلًا: «أرى من الأفضل — يا مولاي — أن تنضم بلادنا إلى صف دولة تشي؛ ذلك أننا إذا شرعنا، اليوم، في مهاجمة تشين دون التحالف المُسبق مع تشي، فسوف تتحالف تشو مع تشين ويقومان بمهاجمة كل من هان، ووي، فتلجأ كلتاهما إلى دولة تشي طلبًا للنجدة والعون، فإذا لم تسارع هذه بالإغارة على تشين، فستتعلل بضرورة البدء بضرب جاو، وهكذا فإنها إذ تعجز عن ضرب تشين، فلن تواتيها الجرأة إلا على ضرب جاو، وما دامت قوات تشي ستُمنَع عن توجيه ضرباتها صوب الغرب، فسوف تنصت دولة هان إلى صوت تشين، فتتمرد على تشي وتقلب لها ظهر المِجن، وإذ تنقلب على صاحبتها تقربًا إلى تشين، فستحيق الهزيمة النكراء بدولة جاو.
وأتصور أننا إذا تقاربنا الآن، مع تشي، وامتنعت هذه عن توجيه دفة هجومها جهة الغرب، فلا بد من أن دولتي وي وهان ستقطعان علاقاتهما مع تشي، وهو ما يعني أنهما بعد انهيار علاقاتهما مع تشي سوف يخطبان وُدَّنا ويتقربان إلينا، هذا طبعًا بالإضافة إلى ما قلته آنفًا من أننا إذ نتقارب مع تشي، فلن تسلط هجومها على الجبهة الغربية.
ومن المعلوم أن لوهوان كان قد سبقت له الإقامة مدة ثلاثة أشهر في دولة وي، (وعلى الرغم من مسعاه الدائب) فإنه لم يستطع فسخ العلاقة القائمة بين «وي» وتشي.
وإذ تصورنا أننا بعد التقارب مع تشي، أنها قامت بالاشتراك مع دولة وي في التقدم بهجوم مشترك جهة الغرب، فسيكون ذلك وبالًا على تشي نفسها التي ستنهكها الحرب وتنال من طاقتها وتنال أيضًا من قوة تشين، وتُصبح دولة جاو محطَّ اهتمام الممالك والدويلات.» ورد عليه الملك أولينغ، قال: «لكني إذا تحالفت مع الدول الثلاث وتقدمت معهم لمهاجمة تشين، فسينزل بي معهم الدمار والتخريب من جراء ما سيطولنا من أيدي تشين العدوانية.» فأجابه سماشيان، قائلًا: «كلَّا … لن يحدث شيء من ذلك، ولن يمسَّك أيُّ قدْر من السوء؛ لأننا نتحالف مع الدول الثلاث، فسنتعلل بغياب شرط المصالحة بيننا وبين دولة جونشان للتحلل من مهمة الاشتراك معهم في الهجوم على تشين، فإذا ثبت لدينا صدق عزم الدول الثلاث على مهاجمة تشين، فلا بد أن ينتظروا قرارنا النهائي في هذا الشأن إذا ما بدا لهم إجراء مصالحة بيننا وبين دولة جونشان وإذا أذعنت هذه لشروط الصلح معنا، فستكون تلك فرصتنا الذهبية لمنع جونشان من إجبارنا على التنازل لها عن الأراضي كشرط للمصالحة معتمدين في ذلك على ضغوط الدول الثلاث عليها؛ فإذا رفضت شروطنا، فستقطع الدول علاقتها بها، وهو ما يعني وقوعها في إسار العزلة وهو أمر مرغوب فيه تمامًا.
وإذ تعجز الدول الثلاث عن توقيع المصالحة بيننا وبين جونشان فلا مانع من أن نساهم في المجهود القتالي بعددٍ قليل جدًّا من القوات، وبذلك نكون قد أنجزنا هدفين أولهما: عزل دولة جونشان، وثانيهما: القدرة على توزيع قواتنا المقاتلة (على نحو مرن)، وإذا انعزلت جونشان فستضعف وتسقط من تلقاء نفسها، وهو يُعطينا الفرصة للمشاركة ببقية القوات في ضرب تشين. ونكون بذلك قد اكتسبنا حق اقتطاع نصيب وافر من أراضي كل من تشين وجونشان بضربة واحدة فقط.»
لمَّا أقدمت دولة وي على التحالف مع
أعدت دولة وي العدة للتحالف مع تشين، وذلك بسبب (سياسات) «فودين». وهو ما أثار موجة من القلق والخوف في أجواء دولة جاو، فوجهت إليها طلبًا تُعرب فيه عن استعدادها للتنازل لها عن أجزاء من الأراضي، وذلك استجابة لتوجيهات شوكون [كان وزيرًا — وقتئذٍ — في دولة وي].
وتحدث «ليكي» [وزير عظيم بدولة جاو] إلى «لي توي»، وقال له: «إن جاو تخشى أن تنجح سياسة التحالف الأفقي وهو ما دفعها إلى التفكير في التنازل لدولة «وي» عن أجزاء من الأراضي تلبية لنداء وتوجيهات شوكون [وزير دولة وي] وأرى من الأفضل — في هذه الظروف — أن تقنع جلالة الملك بإقطاع تلك الأراضي (المزمع تسليمها إلى وي) للوزير «جوسوي» [صاحب سياسة «الاهتمام بدولة تشي وتجاهل أمر تشين»] دعمًا له في جهوده ومهماته التي يمكن أن يكلف بأدائها في دولة وي، حيث ينصح له بالسفر إليها واعتلاء كرسي رئاسة الحكومة فيها وكلنا نعرف أن جوسوي هو الرجل الذي يقود الممالك كلها في حملة شديدة ضد تشين، بإعلان السخط عليها والتحريض على كراهيتها وازدرائها، وإذ يتولى الآن رئاسة وزراء وي، فلا أظن التحالف قائمًا بينها وبين تشين، (وهذا من ناحية أخرى …) فلن يمكن لكل من وي وتشي — مهما بلغتا من القوة — أن تقدرا على إيذاء دولة جاو، خصوصًا بعد أن فقدتا دعم تشين لهما، ثم إن وي ستتعالى وتشمخ بأنفها فوق تشي ولن تأخذ بتوجيهاتها انطلاقًا من احتقارها لها واستصغارًا لشأنها.
وبنفس القدر، يمكن القول إنه … مهما بلغت كل من تشين ووي من درجات القوة ومعدلات التفوق، فلن تستطيعا الإغارة على جاو من دون مساعدة دولة تشي لهما، وهكذا، فالظروف تخدم دولة جاو وتيسر مهمة جوسوي على نحو غير مسبوق، فاغتنم الفرصة فورًا.»
لمَّا أوفدت دولة وي إلى دولة جاو
أوفدت دولة وي إلى جاو مبعوثًا يعرض عليها الانضمام إلى التحالف الرأسي — وكان وسيطها في ذلك «بينيوان» [رئيس وزراء جاو، وقتئذ] (وتحدث المبعوث طويلًا) إلى ملك جاو، دون أن يستجيب لدعوته، وخرج من عنده بينيوان والتقى ﺑ «يوتشين» [أحد كبار رجال دولة جاو] وقال له: «إذا كنت داخلًا للقاء جلالته، فحدثه في موضوع التحالف الرأسي.» فلمَّا أقبل يوتشين على الملك، ابتدره جلالته بحديثه قائلًا: «كان بينيوان عندي منذ لحظات، وكان يعرض عليَّ اقتراح دولة وي في الانضمام إلى تحالف المحور الرأسي، لكني لم أوافق، فما رأيك أنت في هذا الموضوع؟» فأجابه يوتشين بأن دولة وي مخطئة في هذا الاقتراح، فلما استفسر منه الملك عن السبب، أجابه قائلًا: «إن أي شأن يدور بين دولتين إحداهما أعظم وأقوى من الأخرى سيتم مُعالجته بحيث تجني الدولة العظمى الفائدة منه ولا يعود للدولة الأضعف إلا تحمل الخسائر والتبعات، ولئن كانت دولة وي ترجو منك الانضمام إلى التحالف الرأسي، وأنت ترفض الانصياع لهذا الاقتراح، فإن ذلك سيجر على وي الويلات والمصائب، غير أن جلالتك ترفض أن تجني الفوائد الماثلة، وهكذا فإن رأيي هو أن دولة وي مخطئة، وجلالتك — إن أذنت لي — مخطئ تمامًا (مخطئ بدرجة أكبر!).
لمَّا تحدث بينيوان مع أحد الدعاة
تحدث بينيوان مع فنجي [أحد دعاة الخطط الأساسية] وقال له: «أفكر في التقدم صوب الشمال للإغارة على منطقة «شان طانغ، ثم أرسل حامية لضرب دولة يان، فما رأيك في هذه الخطة؟» فأجابه، قائلًا: «لا أوافقك على هذه الخطة، وقد كان فيما مضى أن … «بايتشي» أعظم القادة العسكريين في دولة تشين قد دخل واحدةً من أخطر المعارك في منطقة «تشان بين» وذلك بصحبة «جاوكو» (ولد مافو — رجل الدولة الشهير) معتمدًا على سيرته التي تشهد له بانتصاره الساحق سبع مراتٍ متتالية، على دولة جاو، وحدث أنه في تلك الموقعة ألحق الهزيمة النكراء بقوات جاو، وانتهز فرصة انتصاره الرائع، وقام بحصار مدينة «هاندان» بما تبقى لديه من العدة والعتاد، غير أن دولة جاو (كانت دائمًا تفعل الشيء نفسه في المرات السبع المتوالية) جمعت فلول الجند الشاردة وبقايا المؤن والذخائر، وحشدتها للدفاع عن هاندان واستماتت في الدفاع حتى لحق النصَب والإعياء بجنود تشين. وكان السبب في ثبات دولة جاو في الدفاع واستبسالها في الصمود الذي يحول دون انهيارها يكمن في صعوبة مهاجمتها مع سهولة الصمود في الدفاع عنها، ومن ثم فلا تملك دولة جاو فخر الانتصار المدوِّي في سبع معارك متتالية وعلى الجانب الآخر فإن دولة يان لم تتعرَّض لمحنة الهزيمة في معركة (مثل معركة «تشان بين») بل إن الدولة المهزومة [مشيرًا بذلك إلى جاو] ما زالت حتى اللحظة لم تثأر بعد لخسارتها الفادحة، والأغرب من ذلك أنها تفكر في حشد قواتها المُنهكة لضرب دولة يان القوية الجبَّارة، حيث تتصرَّف الدولة الضعيفة المُفككة الأوصال (جاو) على غرار ما قامت به العملاقة القوية تشين إبَّان هجومها على هاندان، على أمل أن تسلك الجبارة العظيمة يان مثلما سلكت به المهزومة المنهارة جاو في دفاعها المُستميت عن هاندان، وهذا معناه أن تشين القوية حقًّا تنتهز الفرصة وتضرب بجيشها الذي أُعيد تنظيمه وتسليحه بعد أن نال قسطًا كافيًا من الراحة — تضرب به جاو المنهكة المعزولة، على حين غرة … على نحو ما حدث مثلًا لدولة «أو» القوية الجبارة وكان سببًا في انهيارها، بينما اشتد ساعد الضعيفة المتهافتة «يوي» وكان هجومها المباغت حينئذٍ سببًا في وصولها إلى ذرى القوة والإمبراطورية والمجد، ولذلك لا أرى داعيًا لمهاجمة دولة يان.» فاستحسن بينيوان رأيه، قائلًا: «الرأي ما قلت.»
لمَّا تحدث بينيوان إلى أخي الملك
تحدث بينيوان إلى بين يانغ [أخو الملك هوين، حاكم جاو من الأم وقال له: كان «قونزيمو» [أحد نبلاء دولة وي] عاقدًا العزم على الترحال إلى دولة تشين، فمر في بعض الطريق وعرج شرقًا صوب دولة وي يريد توديع «إينخو»، فكلَّمه هذا، قائلًا: «ما دمتَ قد عقدت العزم على السفر، سيدي القون، أفلا تعظني بشيء (من الحكمة)؟» فأجابه «قونزيمو» قال: «بل كنت نويت أن أهديك كلماتٍ من عندي، حتى قبل أن تطلب مني ذلك فاسمع ما أقول لك، واعلم أن العاقل الكريم لا يرنو إلى المال، وإنما يأتيه المال (من تلقائه)، (واعلم أيضًا …) أن المال، وإن لم يعقد وعدًا مع الجمال واللذَّة [ملاحة الوجه، ولذيذ الطعام … حرفيًّا] فإنهما يُجتلبان معه، كما أن ملاحة الوجه ومستساغ لذَّة الطعام وإن لم يقترنا بالجاه والثراء العريض، يلحق في إثرهما؛ ثم إن الجاه والعز لا يطلبان مع الموت لقاء، لكنه يأتيهما حتمًا وبغير سابق دعوة. فهي غفلة تنتاب الناس، وخطأ يُعالجونه بالتكرار على مر الأعوام والدهور [حرفيًّا: كلما مرت السنون، كثر المُخطئون».]
فقال له إينخو: «إن ما تعظني به حكمة عميقة المَغزى [حرفيًّا: تكاد تنطبع فوق جسدي كأثر النحت في الصخر!] … وإذ يهتف بي هاتف تلك الكلمات، تترسخ في قلبي ويثبت بها رشدي، فأتمنى أن تطوي عليها صدرك وتظل تذكرها ما حييت.» فوافقه «بين يانغ» وأقره على صواب ما قاله.
لمَّا قامت قوات تشين بمهاجمة جاو
قامت قوات تشين بمهاجمة جيش جاو في منطقة «تشان بين» وألحقت به شرَّ هزيمة، ثم صدر الأمر للقوات بالعودة [حدثت موقعة تشان بين في عام ٢٦٠ق.م. وكان بايتشي قائد قوات تشين، فلما انتصر على جيش جاو أعمل القتل والفتك بأفراده حتى أنه قتل من الأسرى والمُستسلمين أربعمائة ألف جندي، فنقم عليه رئيس وزراء «تشين» «فانجيو» ذيوع شأنه وأنكر عليه شهرته وشجاعته ووقف له بالمرصاد … ونجمت الأحداث عن انسحاب الجيش المُظفر إلى قواعده!] ثم أوفدت تشين إلى جاو تطلب التنازل لها عن ستِّ مدن بسكانها مقابل إجراء الصلح معها، ولم تكن جاو قد استقرَّت على رأي. وتصادف أن كان لوهوان عائدًا من دولة تشين، فالتقى به الملك «شياوتشن» — حاكم جاو — وراح يفكر معه في تصور خطة مناسبة، قائلًا له: «قد احترت وأعيتني الحِيل، هل أوافق على التنازل الذي طلبته تشين، أم أرفض؟ وما نتيجة القبول أو الرفض؟» فأجابه لواهوان، «تلك أمور من الصعب عليَّ أن أجزم فيها برأي قاطع.» فقال له الملك: «وحتى لو لم تكن الأمور تُبين عن رأيٍ جازم، فلتجرب الخوض فيها بتصورات وأفكار.» فرد عليه لوهوان، قال: «هل سمعت يا مولاي، حكاية الوالي «كنفو وينبو» وأمه العجوز؟ الحكاية باختصار هي أن كنفو هذا، كان يعمل موظفًا في البلاط الحكومي بدولة «لو» [تنطق كما في «الملوك»] فأصيب بمرض عُضال وتوفي على إثر ذلك، وكانت له ست عشرة زوجة يُقِمنَ معه في بيته [تعدد الزوجات أمر شائع في الصين القديمة]، فلما عرفن بخبر وفاته، صدمتهن الفجيعة فقمن وقتلنَ أنفسهن في آنٍ واحد، فلما بلغ ذلك الحادث مسامع والدته كفَّت عن البكاء ومسحت دموعها، ولاحظت الخادمة تحجُّر مشاعرها، فعلقت بقولها: «كيف يطيع الأم قلبها أن يموت ولدها فلا تبكي عليه؟» فردت الأم، قائلة: «كان كونفوشيوس رجلًا بارًّا فاضلًا، ومع ذلك فقد طردته السلطات من بلده، مسقط رأسه — دولة لو — (فتبعه الناس جميعًا) إلا ولدي، تركه يذهب إلى منفاه دون أن يتبعه أو يكون في وداعه، ثم إن زوجاته انتحرنَ فور علمهن بخبر وفاته، مما يدل — بكل وضوح — أن ابني لم يكن بالرجل الذي يُوقِّر الكبير ويُبجل الفاضل الكريم، وإنما كان يصرف كل انتباهه وحُبه واحترامه لزوجاته.»
وهكذا، فإذا أخذنا بكلام الأم الذي قالته بلسانها، فسنحكم بأنها أم كريمة النفس، فاضلة الخلق، أما لو كان قائل هذه الكلمات زوجاته أنفسهن، لاستنتج السامع، بالبداهة، أنه كلام نساء استولت على قلوبهن الغيرة.
ولذلك، فقد تكون العبارات والألفاظ والكلمات نفسها، يختلف قائلها، فتختلف مراميها ودلالاتها، (وقد سألتني جلالتك سؤالك الذي ابتدرتني به) وأنا قادم من دولة تشين فإذا قلت: إن من الأفضل الامتناع عن تلبية طلب تشين، وعدم تسليمها الأراضي، فقد تكون تلك خطة غير صائبة، وإذا قلت عكس ذلك، فلربما وقع في ظنك أني إنما قلت هذا منحازًا لجانب تشين، وبالتالي فقد عييت عن الإجابة. (وعلى أية حال) فإن كنت تراني أهلًا لتدبير تلك الخطط لك، فالأجدر بك أن تُكلفني بذلك تكليفًا.» فرد عليه الملك بالموافقة (على أن يسند إليه مشروع التخطيط لهذا الشأن).
الجزء الثاني من الفصل نفسه
فلمَّا اتصل خبر ذلك إلى يوتشين، أسرع إلى القصر، وقابل الملك، فقصَّ عليه ما سمعه من لوهوان، فقال له يوتشين: «بل هو محض زيف وكلام فارغ!» فلما سأله الملك عن السبب في حكمه هذا، أجابه بقوله: «السؤال هو: هل انسحبت قوات تشين بعد شروعها في مهاجمتك بسبب الإنهاك؟ ولنقل إن جلالتك تظن بأنها تدخر المزيد من طاقة القتال، فهل كان إحجامها عن التقدم في القتال بسبب افتتانها بجمال عينيك وعطف قلبها الرحيم عليك؟» فقال له الملك (حاكم جاو): «مما لا شك فيه أن تشين؛ إذ قررت الهجوم على بلادي، فلم تكن لتدخر جهدًا في مواصلة تقدمها بشتى الطرق ولا بد — إذن — أن انسحاب القوات كان سببه ما أصابها من تعب وإرهاق.» وهنالك، قال له يوتشين: «لمَّا كانت تشين قد استخدمت كل قوتها وطاقتها في الهجوم على ما لا طاقة لها باستلابه والاستيلاء عليه من الأقاليم والمدن والمناطق المختلفة، فقد لقي جيشها الإعياء والإرهاق واضطر إلى العودة من حيث جاء، ثم إن جلالتك تفكر بجدية — وهو الأدهى والأعجب — في أن تتنازل لها عن المناطق التي لم تستطع هي نفسها الاستيلاء عليها بهجومها الكاسح، وكأنك تُعطيها المزيد من المدد والدعم مكافأةً لها على مهاجمتك (وهي، بالطبع، لن تدخر وسعًا في إعادة الكرَّة فيما بعد …) وهكذا، فلن تجد ما تُخلِّص به نفسك من براثنها عندما تعاود تشين الهجوم عليك مرةً أخرى، في العام القادم.
الجزء الثالث من الفصل نفسه
ولم يلبث ملك جاو أن نقل ما سمعه من يوتشين إلى لوهوان، الذي رد عليه بقوله: «وهل يدرك يوتشين هذا، كل أحوال وتفاصيل القدرات العسكرية لدى دولة تشين بما في ذلك أقصى ما يمكن أن تبلغ إليه طاقتها القتالية؟ وعمومًا، فإذا كنا نعرف حقًّا أن قدرات تشين العسكرية لا تؤهِّلها للوصول إلى ما ترمي إليه، فلنا ألا نُفرط في حبَّة رمل من أرضنا، لكن إذا أقدمت تشين في العام القادم، على مهاجمة جاو فلربما تطلَّب الأمر أن تتنازل لها جلالتك عن أراضٍ — من قلب بلدك — من الأقاليم الداخلية، للتفاوض من أجل المصالحة.
وراح الملك يسأله … «فإذا أخذت بكلامك وتنازلت ﻟ تشين عن بعض الأراضي، فهل تضمن لي ألا تقدم تشين على مهاجمتنا في العام المقبل؟» فأجابه محدِّثه: «هذه مسألة لا أملك لها أية ضمانات، إننا إذا طالعنا التاريخ القريب، وجدنا أن الدول الثلاث: هان، ووي، وجاو كانت قد أقامت علاقات ودية للغاية مع دولة تشين، وإذ تُقدِم تشين على الهجوم اليوم، فقد تغاضت عن كلٍّ من وي، وهان بينما صبَّت جام غضبها عليك أنت ربما، لأن هديتك إلى تشين لم تكن في روعة وفخامة ما أهدتها إيَّاه كل من وي وهان. وبإمكانك — على أية حال — أن تدع لي مهمة تصفية الأجواء بعد ما لحق بك من هجوم تشين إثر التوتر الذي أصاب العلاقات بينكما بالجفاء والعداوة الشديدة، بحيث تتبادلون معًا الوفود الدبلوماسية، وتقيمون مراكز اتصال على الحدود بين بلديكما، على غرار ما هو قائم بين تشين وهان، ووي.
أما إذا ظللت، يا مولاي، حتى العام القادم دون أن تستطيع تدبير وسيلة لإزالة ما كدر الصفو بينكما، وتحوز مودة ملك تشين ورضاه، فسيكون كل ما بذلته وما قدمته من جهدٍ وهدايا إلى ملك تشين، قد تضاءل بالقياس إلى ما تقوم به كل من وي وهان في هذا الشأن، وإذا وصلت الأمور إلى هذا الحد، فلن يُمكنني أن أعدكم بشيء.»
الجزء الرابع من الفصل نفسه
وأسرع الملك ليُخبر يوتشين بما دار بينه وبين لوهوان، فقال له: «حسب ما ذكره لوهوان فإنك إذا تقاعست عن المصالحة مع تشين الآن، فسوف تهاجمك في السنة القادمة مرةً أخرى، وربما اضطررت، عندئذٍ إلى التنازل عن أجزاء من الأراضي الواقعة في قلب البلاد طلبًا للسِّلم معها، بل حتى لو قامت العلاقات الودية بينك وبين تشين الآن، فإن لوهوان لن يضمن لك عدم إقدام تشين على مناوشتك مرة ثانية في العام المقبل، فما الفائدة من أن تتنازل لها عن أجزاء من أرضك إذن؟! وإذا صح التقدير بأن تشين لن تقلع عن محاولة ضربك بعد أن يحول الحول، فإن تنازلك لها عن أراضٍ، لا تقدر على الحصول عليها بقوتها العسكرية نوع من السعي لإلقاء النفس في التهلكة، وبناءً على هذا كله، فلن يكون هناك داعٍ للمصالحة من البداية.
واعلم جيدًا أن دولة تشين لن تقدر على أخذ المناطق الست، مهما مهرت في القتال، وبرعت في الهجوم. (ومن ناحية أخرى)، فإن دولة جاو لن تخسر المناطق الست المشار إليها مهما عجزت وتخاذلت عن الدفاع.
وبما أن قوات تشين انسحبت نتيجة لما أصابها من الإرهاق، فلا بد أن حالة الإنهاك ستأخذ منها مأخذًا عظيمًا، فلننتهز هذه الفرصة ونحاول ضم الدويلات إلى جانبنا، ولو اضطُررنا إلى شراء وقوفهن معنا مقابل التنازل عن خمس مدنٍ كبرى من مُدننا الآهلة بالسكان، ثم نهجم على تشين المرهقة المكدودة التي لم تعُد تقدر على مواصلة القتال، فلعلَّنا نستطيع تعويض ما قد خسرناه. ومهما يكن من شيء، فسنكون قد حصلنا ولو على قدر ضئيل من المكسب، بدلًا من التنازل عن أجزاء متوالية من الأرض (بغير طائل) مما قد يخصم من قوة البلاد لصالح الإضافة إلى قوة تشين (فأي الموقفين أحظى وأنفع؟!)
ألم يقُل لك لوهوان ما نصُّه إن … «السبب في محاباة تشين لكل من وي وهان؛ مقابل هجومها على جاو، يكمن في عجزكم عن خدمة مصالح تشين بالقدر الذي تقوم به وي وهان؟!
فما أظنه إلا ساعيًا إلى دفعك للتنازل كل عام، عن ستِّ مدن إلى دولة تشين، خدمة لمطامعها؛ أي باختصار شديد، تسليم أرضك لها على نحو مُتدرج ومن دون أي سندٍ أو مُبرر أو تفسير.
ومثلًا فعندما تأتيك تشين في السنة المُقبلة لتُطالبك بالتنازل لها عن أجزاء من أراضيك، هل تُذعن لها وقتئذٍ؟ إنك حتى لو لم تُذعن لها، فستكون قد بددتَ ثمن ما أعطيتها إياه من قبل، وجلبت على نفسك كارثة لا مخرج منها، أما إذا أردت أن تُجاريها وتعطيها أرضك، لا أظنك تجد المزيد مما يمكن أن تتنازل لها عنه.
إن المثل السائر يقول … «لا يملك البطش إلا القوي الجبار، أما الصغار، فلا يملكون حتى ما يصدُّون به الأذى عن أنفسهم.» إن الإذعان المُطلق لمطالب تشين يدفع بقواتها إلى المزيد من احتلال الأراضي دون أن تجازف بخسارة أي شيء، وهذا بعينه هو ما يضيف إلى قوة تشين طاقة جبارة متجددة، ويضعف في الوقت نفسه من قدرة جاو، وهكذا فإن هذه الطريقة التي تزيد القوي (تشين) قوة، والضعيف (جاو) هزالًا واندحارًا، ستطيل من أمد الخطة التي تسير عليها تشين لاستلاب جاو قطعة إثر قطعة.
أضف إلى هذا أن المعهود في سلوك تشين أنها أشبه ما تكون بالذئب الضاري الذي لا يُقيم وزنًا للآداب والأخلاق، على أي نحو، حيث لا تتوقَّف الأطماع عند حد، بينما هي تُريد منك أن تعطي بلا حدود، وعندما تعطي من أرضك المحدودة لمن لا تقف أطماعه عند أية حدود، تكون النتيجة التي تصل إليها الأمور هي ضياع أرضك بالكامل؛ لذلك كله أقول: تلك كلمات يقولها مُخطط (سیاسي)، تنطوي على زيفٍ وخداع، وتتوارى تحت قناع (ومساحيق ملونة) وحذارِ، يا مولاي ثم حذارِ أن تتنازل عن قطعة من أرضك لدولة تشين.» ووافقه الملك على رأيه، وقال: «فنعم الرأي إذن».
الجزء الخامس من الفصل من نفسه
فلمَّا بلغ لوهوان من الأنباء ما بلغَه، دخل القصر الملكي والتقى بملك جاو الذي أخبره بما كان من حديث يوتشين، فقال له لوهوان: «ليس الموضوع على ذلك النحو، وما يقوله يوتشين محدود بوجهة نظره الضيقة التي تتركَّز على جانبٍ واحد فقط من الموقف كله، دون مُراعاة لباقي الجوانب التي كان يجب عليه أن يأخذها في الحسبان؛ ذلك أن قيام العداوة بين تشين وجاو سيتحول إلى نكبة حقيقية (فوق رأس جاو) وهو ما سيُثير موجة من الفرح والسعادة الغامرة بين الدويلات، لماذا؟ لأنهم سيقولون … «ها قد وجدنا من نلجأ إليه لإذلال دولة جاو، ها قد عثرنا على تشين القوية التي ننتصر بها على تلك الحمقاء الوضيعة!» فما بالك وقد لاقت قوات جاو الصعاب على أيدي تشين، مما دفع الجميع لتهنئة المُنتصر، والوقوف إلى جانبه صفًّا واحدًا؟ لذلك فالأسلم أن يُسارع مولاي بالتنازل عن الأرض طلبًا للمصالحة، وهو ما سيُثير الحيرة والارتباك في نفوس الممالك ويشيع في قلب تشين الاطمئنان والثقة، وإلا فستنتهز الدويلات فرصة غضب تشين وما أصاب جاو من الضعف لتنهال عليها فتمزقها شر ممزق، ولا أدري ما الذي يمكن أن تخطط له جاو للتعامل مع تشين، إذا كانت ستتبدد على أيدي الممالك، وتزول عن الوجود نهائيًّا، فانظر لنفسك الرأي السديد واحزم أمرك واتخذ قرارك على ضوء ما قد علمت ولا تجعلن الأفكار تتقاذفك في كل اتجاه.»
الجزء السادس من الفصل نفسه
فلمَّا انتهى إلى يوتشين ما دار بين الملك ومُحدِّثه قام فأسرع بدخول القصر وقابل الملك، وقال له: «قد بلغ الأمر ذروة الخطورة، يا مولاي، فالزم الحذر، لأنه من الواضح تمامًا أن لوهوان يعمل لصالح تشين! فهذا جيش جاو قد لقي الأهوال على يد قوات تشين، وصاحبنا (يقصد لوهوان) يقترح عليك التنازل عن أرضك طلبًا للمصالحة معها، وهو الأمر الذي — لو تحقق — فسيُثير الشك في قلوب الدويلات بدرجةٍ تفوق التصور، ولا أدري كيف يمكن أن يعرف الهدوء طريقه إلى قلب ملك دولة تشين، وسط أطنان الشكوك في كل مكان؟ بل إننا لو تصرَّفنا على هذا النحو لكان ذلك تشهيرًا صارخًا وتبيانًا لمدى الضعف الذي وصلت إليه جاو، أضف إلى هذا كله أن اقتراحي بخصوص عدم تسليم الأرض لا يعني اتخاذ قرار قاطع ومُطلق بعدم التنازل عنها في ظروفٍ مُحددة، فعندما تطالبك تشين بتسليمها المدن الست، يمكن لجلالتك بأن تهدي خمسًا منها إلى دولة تشي (لشراء صوتها المؤيد لموقفك) — ومن المعلوم — أن ما بين تشي وتشين من الكراهية والبغضاء يضرب بجذوره في أعماق سحيقة؛ بحصول تشي على المدن الخمس فستضم قوتها إلى صفك وتهاجم تشين من جهة الغرب بالتنسيق معك، وستكون على استعداد لفهم مراميك وأهدافك، حتى قبل أن تُصرح بشيءٍ منها على لسانك [هكذا] ومن ثم، تكسب من تشين ما خسرته مع تشي، وبهذه الطريقة نستطيع أن نُقيم علاقات ودية مع الدول الثلاث: وي، وهان، وتشي، ونتبادل المواقع مع تشين [بحيث نكون نحن الأقوى وهي الأضعف].» وهنالك أجابه ملك جاو، قائلًا: «هكذا، إذن، فلنمضِ على هذا النحو!» وعلى ذلك فقد أصدر جلالته الأمر إلى يوتشين بالتوجه شرقًا لمقابلة ملك تشي والتنسيق معه على مهاجمة تشين، فما كاد يرجع يوتشين من رحلته إلى تشي، حتى كانت تشين قد أوفدت مبعوثها إلى جاو لإجراء المصالحة السلمية، وهذا هو الخبر الذي ما إن سمعه لوهوان حتى قام وفرَّ هاربًا من دولة جاو.
لمَّا قامت تشين بمهاجمة جاو
قامت دولة تشين بمهاجمة دولة جاو، فأسرع بينيوان بمخاطبة دولة وي يرجوها التدخُّل لإنقاذ جاو، فأرسل (الأمير) «شين لينغ» على الفور بقوات رابطت عند أدنى موقع من مدينة هاندان، وهنالك أوقفت تشين الهجوم، وفي تلك الأثناء تقدم يوتشين بطلبٍ إلى جلالته يرجوه فيه بالتكرم على بينيوان بمنحه إقطاعًا من الأراضي، وقال لملك جاو: «هو ذا بينيوان، قد استطاع أن يميط الأذى عن بلدَين، دون أن يُجنِّد جنديًّا في معركة، أو يكسر قصبة رمح في ساحة قتال، ولا يصح أبدًا (في عُرف الملوك) أن نحث الناس على بذل أقصى جهودهم، ثم نغمطهم حقهم في المكافأة، إذا ما اجتنبوا لنا أطيب الثمر.» فوافقه الملك شياوشين — حاكم جاو على رأيه، وشرع في الإجراءات اللازمة لزيادة الإقطاع الممنوح ﻟ بينيوان، فلمَّا بلغ هذا الخبر مسامع «كونصون لونغ» [رجل من جاو، وهو أحد أتباع بينيوان] أسرع إلى سيده بينيوان، وقال له: «أما ترى أنك نلت حظوة عند الملك، فأهداك الأراضي والضياع وأقطعك مدينة «طونو» [محلة بدولة جاو] لما قمت به من مآثر طيبة، وعلى الرغم من أن تلك المآثر لم تتجاوز مجرد أداء الواجب في ساحات القتال؛ فلا أنت قتلت قائدًا ولا أبدْتَ جيشًا ولا سحقتَ عدوًّا، وقد شهد تاريخ هذا البلد (جاو) الكثيرين من الأبطال الذين كانوا يفوقونك اقتدارًا وموهبة — ومع ذلك فلم يفوزوا بما فزت به — فلم تبلغ تلك المكانة إلا بفضل قرابتك لجلالة الملك؛ هو الذي أنعم عليك بكل تلك الأفضال حتى أقامك رئيسًا للوزراء في بلاطه، فاعلم أن قبولك الهدية دون كبير مأثرة، يوجب عليك التواضع والترفُّع، وكان أولى بك أن تعتذِر عن قبول المنصب الذي تشغله، بدلًا من التباهي بما تحمله من أختام تحمل شعار الدولة في حافظة رئاسة الوزراء. إن لهاثك وراء فضل زائد ومغنم إضافي فوق ما لدَيك من الأراضي والإقطاعات الكثيرة، دليل على شرفٍ لم تكن جديرًا به إلا بفضل صلة القرابة، أوصلتك إلى أن تكون موضع حظوة وتقدير، ولو كنت مكانك، لتصرفت على أنسب نحوٍ ممكن؛ وذلك بأن أرفض كل ألوان التكريم.» فقال له بينيوان: «سأعد كلامك هذا أمرًا واجب التنفيذ في الحال، وسأصدع بما رأيت وقدرت.» وكان أن رفض رفضًا باتًّا القبول بالإقطاع والإنعام الملكي عليه.
لمَّا قامت الحرب بين تشين وجاو في موقعة
وقعت الحرب بين دولتي تشين وجاو في منطقة «تشان بين»، ولم يكن النصر حليف جاو، بل فقدت قواتها ضابطًا عظيمًا من قادة الكتائب، فأمر الملك شياوتشن — حاكم جاو — باستدعاء لوتشان — رئيس الوزراء — ويوتشين، وقال لهما: «ساءت الأحوال جدًّا حتى إن الجيش لم يُحرز النصر المأمول، بل مات أحد القادة الكبار في ساحة المعركة فما رأيكما في تعبئة القوات بكامل أفرادها وعتادها ثم الهجوم بها على تشين دفعة واحدة؟» فأجابه لوتشان، قائلًا: «هذا لن يُجديك نفعًا، والأفضل منه أن ترسل ثقاتك إلى دولة تشين للتفاوض بشأن السلام.» بينما قال له يوتشين: «إن المتفاوضين بشأن السلام يتصوَّرون أنه ما لم يباشروا محادثات السلام فسوف تهلك القوات المحاربة، لكن الحقيقة هي أن القوة التي تمسك بزمام المصالحة الفعلية تكمن بيد دولة تشين (وهنا تكمن النقطة الحاسمة) فما ظنك — يا مولاي — بما تريده دولة تشين بجيشنا، أتراها تبغي تحطيمه أم الحفاظ عليه؟» فأجابه الملك، وقال: «إن تشين لن تدَّخر وسعًا في دحر جيشنا.» فقال له يوتشين: «فاعمل بما أقترحه عليك (ولو على سبيل الخروج من المأزق الحالي.) بأن تُرسل مبعوثًا إلى دولتي وي وتشو يحملان إليهما أثمن الهدايا دليلًا على المودة والثقة، وهما إذ تستقبلان مبعوثك، تعربان عن رغبتهما في مد جسور الودِّ بقبول هداياك الثمينة؛ مما سيُثير الشك لدى تشين إزاء جدية الدويلات في الانضمام إلى التحالف الأفقي، بل سيُصيبها الرعب من جراء ذلك، فتلكم هي الطريقة المُمكنة والمناسبة للشروع في مفاوضات سلمية.»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
ولم يأخذ ملك جاو بنصيحة الرجل، بل راح يُعِد لترتيبات مفاوضات السلام بمساعدة (الأمير) «بين يانغ»، وأرسل «جنجو» [أحد نبلاء دولة جاو] إلى دولة تشين التي استقبلته على الفور، وعندئذٍ، استدعى الملك يوتشين للقائه، وقال له: «كنت قد أرسلت بين يانغ إلى دولة تشين لعمل مباحثات السلام، فاستقبله ملك تشين (مما يدل على رغبته في إقامة علاقات سلمية) فما رأيك في هذه الخطوة؟» فأجابه يوتشين: «من المؤكد تمامًا أنك لن تقدر على إقامة السلام مع دولة تشين، وهو ما سيُعرِّض جيشك للدمار المروع على يد تشين. وقد علمت أن وفود الدويلات والممالك تتقاطر على تشين للتهنئة بانتصارها الباهر، ولا يعدو جنجو كونه مجرد رجل فاضل كريم، من أهل دولة جاو، وسوف يستغل ملك تشين، بمساعدة «إينخو»، زيارة الرجل إليهم ليطلع على كل وفود الدول المُهنئة عليه، ويجعلهم جميعًا يرَونه رأي العين، وسترد دولتا وي وتشو على إعلانك المصالحة مع تشين بحجب مساعداتهما لك؛ وإذ تدرك تشين امتناع الدويلات عن مساعدتك، فلن تواصل السير على طريق المصالحة معك، مما يعرض محاولة السلام بينكما للفشل.» وهكذا لم يتسنَّ لدولة جاو إتمام مشروعها للسلام مع تشين، بل مُني جيشها بهزيمة نكراء، وكان أن ذهب ملك جاو (صاغرًا) إلى بلاط تشين، فلمَّا قصد إلى الجناح الملكي لزيارة حاكم تشين تم اعتقاله، وهنالك بذلت تشين وعدها لدولة جاو بتحقيق المصالحة السلمية بين البلدين.
لمَّا قامت دولة تشين بحصار العاصمة
قامت قوات دولة تشين بحصار «هاندان» عاصمة دولة جاو، فأرسل الملك «آنشي» (حاكم دولة وي)، قائد الجيش «جين بي» على رأس قوة عسكرية لإنقاذ دولة جاو، إلا أن القائد المذكور لم يكد يصل إلى منطقة «طانين» [على الحدود بين وي، وجاو] حتى رابط هناك بقواته وقد أحجم عن التقدُّم قيد أنملة، لما كان يخشاه من قوة وصوْلة قوات تشين، فأسرع حاكم وي بإيفاد أحد القادة الأجانب المُقيمين في بلده، ويدعى «شين يوانيان» الذي انتهز فرصة تهاون القوات القائمة على حصار المدينة، وتسلل من إحدى الثغرات إلى داخل هاندان واستطاع أن يلتقي بالملك شياوشين حاكم جاو، عن طريق الترتيبات التي وضعها له بينيوان، فلما قابل ملك جاو، قال له: إن السبب في محاولة ملك تشين القيام بحصار بلادكم بهذه السرعة يكمن في أن ملوك كلٍّ من تشين وتشي [تحديدًا: الملك تشاو حاكم تشي والملك «مين» حاكم تشي] كانوا يتنافسون على الفوز باللقب الإمبراطوري، فلما صرف ملك تشي النظر عن هذا الموضوع حذا ملك تشين حذوه وأسقط من اعتباره مسألة اللقب بالاسم الإمبراطوري هو الآخر، غير أن دولة تشي راحت تضعف مع الأيام حتى وصلت الآن، إلى أضعف حالاتها، ولم يعد يحتفظ بالقوة سوى دولة تشين التي تسعى الآن لفرض سيادتها فوق الممالك. والجدير بالملاحظة الآن، أن تحركات تشين لا تهدف — في حقيقتها — إلى ضرب هاندان بحد ذاتها وإنما تتطلع إلى تحقيق السيادة المطلقة بصفتها إمبراطورية عظمى، فإذا أوفدت دولة جاو مبعوثًا إلى تشين لتُعرب له عن عظيم تقديرها واحترامها لجلالته، فسيقع هذا التصرُّف موقعًا طيبًا من نفسه، وسيبادر على الفور، إلى فك الحصار المضروب حول العاصمة هاندان.» غير أن بينيوان، بعد أن سمع هذا الكلام، تردَّدت الحيرة في قلبه ولم يتَّخذ أي قرار حاسم (بشأن هذا الموضوع).
الجزء الثاني من الفصل نفسه
وتصادف أن كان العالم المشهور «لوجونليان» [أحد كبار علماء دولة تشي، ممن اشتهروا بنشاطهم في الأعمال الخيرية والإنسانية] يجوب دولة جاو في رحلة يطوف فيها بأرجاء البلاد فإذا به يشهد بنفسه قوات تشين وهي تضرب الحصار حول العاصمة هاندان، وبلغه مسعى دولة تشي في حث دولة جاو على إظهار دلالات التعظيم لدولة تشين والتصرف إزاءها بوصفها إمبراطورية كبرى، فذهب من فوره للقاء بينيوان، وقال له: «كيف ستتصرف في هذا الشأن وما هي ترتيباتك التي أعددتها لتنفيذ ما عزمتم عليه (من تضخيم دور ومكانة تشين)؟» فأجابه بينيوان: «لا أدري كيف ستواتيني الشجاعة على مناقشة هذا الموضوع وقد حضر ما ترى من المقتلة العظيمة التي أطاحت بالقوات المحاربة في ساحات القتال، بل قد ولغ ملك تشين في أرضنا وعاث فيها وحاصر مدينة هاندان، دون أن نملك القدرة على رد اعتدائه وإجباره على سحب قواته، فمن ثم أرسلت دولة وي إلينا القائد العسكري شين يوانيان يحثنا على التسليم بسيادة ونفوذ تشين، ومخاطبة حاكمها باللقب الإمبراطوري، وما زال المبعوث مقيمًا عندنا حتى اللحظة، لكني أؤكد لك بأني لا أدري كيف أفتح النقاش في هذا الأمر؟» وقال لوجونليان: «كنت أعتبرك أحكم رجل في الممالك وأنبل كريم فوق الأرض، لكني أدركت اليوم أنك لست كذلك، وكم أود أن تُخبرني بالمكان الذي يقيم فيه ضيف «ليانغ» [يقصد القائد المرسل من طرف «ليانغ» أي: دولة وي وكانت سميت بهذا الاسم إذ اتخذت عاصمتها «ليانغ» حاضرة الدولة القديمة، عاصمة كبرى لبلاطها الحاكم، وحيثما يرد اسم «ليانغ» فيقصد به دولة وي دائمًا!] فأريد، بعد إذنك، أن ألتقي به لأُلقنه درسًا لا ينساه، ثم آمُره بالعودة من حيث أتى.» فقال له بينيوان: «دعني، إذن، آتيك به ها هنا.» فلما ذهب بينيوان وقابل شين يوانيان، ابتدره بقوله: «قد حل علينا الآن ضيف من دولة تشي، يُدعى لوجنليان، فاسمح لي بدعوته للقاء سيادتك.» فقال شين يوانيان: «أعرف أن لوجونليان هذا من أعظم الناس خلقًا وسجايا في دولة تشي قاطبة، أما بالنسبة لي، فلست إلا ضيفًا لدى سيدي حاكم البلاد، ولم أحضر إليكم إلا مبعوثًا من قبله في مهمة عُهد إليَّ بأدائها، ولا أريد أن ألتقي بهذا اﻟ «لوجونليان».» فرد عليه بينيوان قائلًا: «لكني حدثته بما كان من أمر مُهمتك وأطلعته على التفاصيل.» وعندئذٍ وافق شين يوانيان على عقد اللقاء.
الجزء الثالث من الفصل نفسه
فلمَّا التقى لوجونليان مع شين يوانيان، ظل صامتًا دون أن يفتح فمه بكلمة، فبادره شين يوانيان، بقوله: «لاحظت أن المُحاصرين داخل المدينة يرفعون طلباتهم وتوسُّلاتهم إلى الأمير بينيوان، لكني إذ أتطلع إليك وأتفحَّص ملامح وجهك جيدًا، يبدو لي أنك عازف عن أن ترجوه أو أن تطلب منه إنجاز وعدٍ ما، أو قضاء أمر يشغلك، ففيمَ بقاؤك طوال هذه المدة داخل العاصمة المحاصرة دون أن ترحل عنها (كما فعل الكثيرون)؟» فأجابه لوجونليان: «قد أخطأ الذين ظنوا أن النُّسَّاك والزُّهَّاد الذين تركوا العيش ولجئوا إلى الحياة المُتقشفة مجرد مجموعة من المُنتحرين، فالواقع أن الكثيرين لا يفهمون تمامًا سِر مسلك أولئك الزُّهَّاد؛ إذ يظنون بأنهم يقتلون أنفسهم لأسبابٍ شخصية تتعلق بظروفهم الذاتية. وانظر إلى دولة تشين، مثلًا فهي قد تخلَّت عن قواعد الأخلاق والآداب داعية إلى القتل وسفك الدماء، بين الدويلات، وتجند الجنود وتُعبئ الجيوش بأساليب أقرب إلى الغش والخداع، بل تحكم شعبها وتسوس أمره بوصفه كتلة من الأسرى والعبيد، وهي إذ تبغي التسلط فوق الأمم بدعوى الحلم الإمبراطوري وتأسيس دولة كبرى، بكل وحشية، دون أدنى وازع من أخلاق أو ضمير، في محاولة لفرض أحكامها الجائرة فوق كل الدول، فلست أملك — أنا نفسي — إلا أن أُلقي بنفسي في البحر منتحرًا؛ وذلك لأني لن أتحمل أن أكون واحدًا من رعايا تلك الدولة، أما الهدف الأساسي من لقائي بك اليوم فهو انتهاز الفرصة للعمل على مساندة دولة جاو.» فقال له مُحدِّثه: «لكن، قل لي، كيف يمكن أن تساندها؟» فأجابه: «أفكر في أن أحث دولتي وي ويان على تقديم العون لها، أما تشو، وتشي فقد سبق أن قدَّمتا لها المساعدة فيما سبق.» فقال له شين يوانيان: «أما دولة يان فقد استجابت لدعوة دولة وي إيَّاها تعظيم دور دولة تشين والإقرار لها بمكانة الدولة الإمبراطورية، وبالنسبة لدولة وي، فأنا واحد من أهلها، فقل لي كيف يمكن لدولة وي أن تساعد جاو؟» فأجابه لوجونليان قائلًا: «ربما كان الواقع يشهد بأن دولة وي نفسها ما زالت لم تنتبه بالقدر الكافي لخطورة تعاظم دور ومكانة دولة تشين، فإذا استطعنا أن نُبرز له وجه الخطر في ذلك، فستقدم بالتأكيد على مساندة جاو.» فجادله شین یوانیان قائلًا: «لكن هلَّا أخبرتني بالخطورة الكامنة في تلقُّب ملك تشين باللقب الإمبراطوري؟» فأجابه: «حدث فيما مضى (من وقائع التاريخ القديم) أن سار الملك وي حاكم تشي، في بلاده بالعدل والرحمة، بل قاد أمراء الممالك والدويلات جميعًا، وذهب بهم لمقابلة ملك جو، وكانت بلاده، وقتذاك ضعيفة الشأن، تُعاني الفقر والحرمان فلم يعبأ أحد من الأمراء بزيارة الحاكم فيها، سوى حاكم تشي، هو الوحيد الذي وصل متأخرًا، مما أحنق عليه الأمير «شيان» حاكم جو الجديد، الذي راح ينعي الملك للضيف القادم متأخرًا، بقوله … «قد كانت وفاة جلالته حدثًا وفجيعة ومصيبة نكباء، دونها زلزلة الأرض وانهيار السماء، حتى إننا، ونحن الحاكم الجديد فوق البلاد قد عز علينا (النهوض إلى أعباء العمل) فظللنا إلى جوار جثمان الفقيد المُسجَّى في تابوته فوق حشيش الأرض، بينما يتهادى بطيئًا ركب أمير دويلتنا التابعة في الشرق حتى وصلنا متأخرًا عن موعده ومخالفًا ميعاده، فليس أقل من الإطاحة برأس المتأخِّر عن جمع الناس.» فغضب ملك تشي وأخذته العزة، وصاح فيه مزمجرًا: «خسئتَ … فإنما أنت عبد من نسل العبيد!» وانتهى أمر ملك تشي إلى أن صار هزأة بين القوم فسخروا منه بعد أن عابوا عليه سبه وقذفه للملك الراحل، بعد أن كان أول وأكبر الحافظين لمكانته إبان حياته، هذا على الرغم من أنه ما كان ليقدم على تلك الإساءة لولا ما أبداه له الأمير شيان من الغلظة والشطط. وبعد، فلا عجب أن يسلك الأمراء على نمط ومثال الأمير شيان.»
وهنالك قال له شين يونانيان: «أرأيت ما كان من أمر ابن العبيد إذن؟ أرأيت وهم يتخذونه زعيمًا لهم وهم فوق العشرة من الأمراء يقبضون على مصاير الحكم ومراكز القوة التي لم يكن لدَيه، وقتئذٍ ما يُدانيها، أرأيت هل كانوا يعجزون عن معاداته؟ أو هل كانوا أقل منه دهاءً وحكمة؟ كلَّا، بل كانوا يرهبونه ويخشون بأسه.» فقال له لوجونليان: «فهل توافقني، إذا جاريتك في هذا الطرح، بأن نعتبر دولة تشين تُشبه دولة وي فيما صار سمةً وعلامة عليها من أخلاق وطابع العبيد؟» فرد عليه شين يونانيان بالإيجاب والموافقة على هذا الاستنتاج. فعاد لوجونليان يقول له: «فما دام الأمر كذلك، فسوف أجعل ملك تشين يدق عظام ملك تشي ويقطع أشلاءه إربًا، ويطرحها في القِدر فيطبخ منها وليمةً هنيئة للطاعِمين.» فغضب شين يونانيان، واكفهر وجهه وهو يقول في دهشة مُمتزجة بالغضب «أحقًا هكذا … قد بلغت الأمور شأوًا بعيدًا … فقل لي، إذن، أيها السيد … ما الطريقة التي سيستخدمها ملك تشين في تقطيع أوصال حاكم وي حتى ينضج لحمه وعظامه للآكلين؟»
الجزء الرابع من الفصل نفسه
فأجابه لوجونليان بقوله: «أما الطريقة فسأخبرك بها، فانتظر حتى أخبرك بهذا لاحقًا، لكن دعني أقص عليك شيئًا مهمًّا أولًا، فقد كان لإمبراطور تشو (آل شانغ) فيما مضى من الزمان ثلاثة من أعظم النبلاء (أعظم الرجال!) وهم: قويهو، وإيهو، والملك أون. وكان للقون قويهو ابنة رائعة الجمال، فأهداها إلى الإمبراطور تشو آل شانغ [آخر الحُكام في أسرة شانغ الملكية وكان ظالمًا غشومًا] فلم ير جلالته أية لمحةٍ من الجمال واعتبرها دميمة، وقبيحة المنظر (وغضب على أبيها) قويهو فغافلَه وقتله وقطع أشلاءه وطبخها في قدرٍ كبير للطعام، فسارع إيهو إلى التنديد به، وحمِيَ بينهما وطيس الجدال واللجاجة، فظلَّ به (الطاغية الغشوم تشو) حتى قتلَه هو الآخر، واتَّخذ من لحم جسده شرائح مُجففة [طريقة إعدام قديمة]، فلما سمع الملك أون بما وقع للرجُلَين، تنهَّد عميقًا وأطرق آسفًا (وهو التصرُّف الذي أغضب منه الإمبراطور) فأمر به فأُودع في أحد سجون منطقة «يوالي» مدة مائة يوم كاملة، وخطر للإمبراطور أن يتخلَّص منه بالقتل كسابقَيه.
وثارت الدهشة في النفوس، كيف يبدأ الأمر بأن يعترف لجلالته بالمكانة وفخامة العرش وأبهة الملك بوصفه إمبراطورًا متوجًا، ثم تأتي النهاية مأساوية مفجعة حيث ساحات الإعدام وتقطيع الأوصال؟ وقام الملك «مين» حاكم تشي وقصد الذهاب إلى دولة «لو» فتبعه رجل من أرض «هيويه» يقود عربة، تجرها الخيل وهو يحثها بالسوط اللاهب، وراح يتحدث إلى الرجل الذي من دولة لو، قائلًا: «على أي نحوٍ من الآداب وقواعد الأخلاق واللياقة ستُكرم وفادة حضرة مولانا الملك حاكم البلاد؟»، فأجابه: «نكرم وفادة جلالته بعشر بقراتٍ ومثلهن من الضأن والخنزير.» وعاد السائل يسأل: «من أي موطن انتقيتَ تلك الآداب في الحفاوة بمقدم مليكنا؟ إن مولانا الملك هو الإمبراطور الأعظم ابن السماء، فانظر إذا جاء ابن السماء [الإمبراطور] ليتفقَّد أحوال الممالك والدويلات، فإن الواجب يقضي حينئذٍ بأن يخرج الأمراء من قصورهم، ويسلموا إليه مفاتيح أبوابهم، ويلتزموا بإبداء مظاهر الاحترام والتبجيل، ثم يبسطوا له ولائم الطعام، ويبقوا إلى جواره، حتى إذا فرغ من الأكل عادوا إلى مزاولة مهام وظائفهم.»
وكان أن أغلق أهل دولة لو باب بلدهم دونه وأحكموا قفل الرتاج، فلم يتيسَّر للملك «مين» العبور إلى عاصمة دولة لو، فأراد الذهاب إلى دولة «شيوي» ومنها إلى دولة «تسو»، فيسلك عبر أراضيها إلى غاية رحلته، وفي تلك الأثناء، تردَّدت الأنباء، فجأة، بموت ملك تسو، وطرأت للملك مين فكرة أن يدخل البلاد للتعزية في وفاة الراحل الكريم، وذهب أيهو إلى أمير البلاد، وقال له: «قد جاءكم ملك (عظيم المهابة) يُريد أن يقدم مواساته وتعازيه، وأرى أنه من اللائق أن تقوموا بوضع تابوت المتوفَّى في اتجاهٍ معاكس لمنصة التعازي؛ بحيث تنقلون التابوت إلى الجهة الشمالية من القصر، حتى يتمكن الزائر العظيم من إلقاء خطبة التعازي وهو مُتجه بوجهه صوب الجنوب [كما يليق بالأباطرة العظام، الذين يتَّخذون من الجنوب وجهةً مقدسة دائمًا]، وأجابه وزراء دولة تسو، في وقتٍ واحد قائلين: «بل لو حدث شيء من ذلك، فسيكون لزامًا علينا أن نقتل أنفسنا بسيوفنا (إذ إن ما تطلبه أمر تأباه نفوسنا).»
وهكذا عدل الملك مين عن فكرة دخول دولة تسو. والمُلفت في الأمر كله أن أولئك الوزراء لم يكونوا خير مُعين لسادتهم، وهم أحياء يتسنمون عرش الحكم، ولا كانوا مُقيمين للشعائر الجنائزية (التقليدية) على روح أمرائهم، بعد إذ أدركهم الموت [حرفيًّا: ولا كانوا ممن يضعون في أفواه المتوفِّين من الملوك حفنةً من الأرز وقطعة من الذهب … كما جرت بذلك عادات دفن الموتى قديمًا]، بل إنهم لم يتحمَّلوا أن يُرغمهم الملك مين على اتِّباع قواعد الآداب المُقررة في خدمة الملوك.
وإذ نتأمَّل الوضع اليوم، نجد أن … دولة تشين واحدة من الممالك الكبرى التي تملك العدد الوافر من العدة والعتاد [حرفيًّا: عشرة آلاف عربة عسكرية]. كما أن دولة وي هي الأخرى، لا تقلُّ عنها قوة؛ فهي تملك عشرة آلاف عربة مقاتلة، فكلاهما يملك نفس المقدار والمكانة ويقوم فوق عرشيهما ملوك ذوو ألقاب جليلة ومكانة معلومة، فإذا وقع في ظنك أن تدعو الدويلات إلى الخضوع لسلطان ونفوذ تشين، لمجرد أنها انتصرت في حرب، فاعلم أنك بذلك تطلُب إلى وزراء ومسئولي الدول الثلاث (سانجين) أن يمرِّغوا أنوفهم في حضيض المذلَّة، في دركات لا يتدنَّى إليها عبيد وجواري وبغايا دولتي تسو ولو. ليس هذا فقط، بل إنه إذا لم تؤخَذ تدابير سريعة للحيلولة دون بلوغ ملك تشين مرتبة القوة التي تُمكِّنه من التسمِّي باللقب الإمبراطوري، فسوف يعمل على استبدال الوزراء المُتنفذين، وسوف ينتزع السلطة ممن يرى أنهم غير جديرين بمناصبهم، فيمنحها لمن يعتبرهم أحق وأولى، بحكم ما امتازوا به من الجدارة، وسيغتصِب النفوذ ممَّن يُبغضهم، ويتكرَّم به على من يُحبهم أو يميل إلى تفضيلهم، وسيجعل من بناته ووصيفات قصره عبيدًا ومحظياتٍ (لرجال الحكم في بلاط) دولة وي، وسيبثُّهم داخل القصر الحاكم هناك، عيونًا تستطلع، وألسنة تُثرثر بالنمائم، فكيف لملك وي أن ينعم بالهدوء والاستقرار والسعادة؟ وأنَّى لك، سيدي القائد المغوار، أن تنعم بما كنتَ ترفل فيه بالأمس من رفيع الدرجة وبالِغ التكريم؟»
الجزء الخامس من الفصل نفسه
ثم إن شين يوانيان قام واقفًا وانحنى مُعتذرًا ﻟ لوجونليان قائلًا له: «كنت أظنك، في أول الأمر مجرد شخصٍ عادي مثل باقي الناس، لكني أدركتُ الساعة، بأنك ذو كياسة وحكمة، وأرجو السماح لي بالرحيل؛ فما عدتُ قادرًا على أن أواصل الحديث عن ضرورة تمجيد حاكم تشين ورفعِه إلى مصاف الأباطرة.» فلما بلغت أنباء ما دار بين الرجُلين من الحوار المذكور إلى مسامع قائد قوات تشين على جبهة القتال، بادر إلى الانسحاب بقواته مسافة خمسين «لي».
وتصادف، في تلك الأثناء، أن تقدم شين لينجوان على رأس قوات (من منطقة «جين بي») لمساندة جاو، حيث قام بالإغارة على قوات تشين التي اضطرَّت إلى الانسحاب والتراجُع عن حصار «هاندان»، وأراد بينيوان أن يضاعف المكافأة ﻟ «لوجونليان» بزيادة أراضي الإقطاع الممنوحة له، فاعتذر الرجل عن القبول، وانتهى الأمر دون أن يحصل لنفسه على أي لونٍ من المكافأة، فأقام له بينيوان مأدبة ودعاه إلى تناول أقداح الخمر معه، فلمَّا لعبت النشوة بالرءوس، قام بينيوان يتهادى حتى وقف قبالة لوجونليان، فأهدى له ما مثقاله ألف وزنةٍ من الذهب تحيةً وإكرامًا له، ورمزًا إلى أطيب الأمنيات له بطول البقاء، فضحك لوجونليان وقال له: «إن أثمن ما يُقدمه رجل الفكر لأهل الممالك هو أن يُجنبهم الضيق والعُسر، ويزيل عنهم كدر الأحوال، ويُخلِّصهم من العناء والمعاناة، بما يَلُم به شعثهم ويسدُّ به خللهم دون مطمع في هدية أو مكافأة فإذا تاقت نفسه إلى شيءٍ من هذا صار كالتاجر الباحث عن الربح، وهو ما لا أرضاه لنفسي ولا أستطيع احتماله.» ثم إنه قام فودع بينيوان ومضى في طريقه، ولم يلتقِ به، بعد ذلك أبدًا.
لمَّا ذهب إلى جانشيان من قال له
ذهب إلى جانشيان [أحد مواطني دولة وي، من الوطنيين المُتعصبين لبلدهم وكان كارهًا لدولة جاو]، من راح يشرح له الأهداف والخطط (السياسية) قائلًا: «كيف لك أن تنتظر من أهل دولة جاو الاحترام والتوقير لشخصك في حين أنك تحتقِر بلادهم، وكيف تنتظر منهم أن يبذلوا لك الحُب والمودة، بينما تُصر على أن تصبَّ كل مشاعر الكراهية والبغضاء فوق وطنهم؟! أما علمتَ بأنه مهما كان الصمغ دبقًا فلن يمكن أن يلصق شيئَين متباعِدَين كل البُعد، وبأن الريشة وهي أخف الأشياء وزنًا لا يُمكنها أن ترفع نفسها في الهواء فتطير بإرادتها ملء الفضاء؟ ومن ثم، فلم يكن للأشياء أن تصل إلى التحقق التام بوسائل بسيطة وسهلة إلا بالاعتماد على مُتَّكأ وسند يكفل لها الوصول إلى غاياتها. وها هي ذي دولة جاو تملك من العدة والعتاد [حرفيًّا: عشرة آلاف عربة عسكرية] ما لا يزيد عليه، ويحوط بها أخدود طبيعي يتمثَّل في نهر جانغ، وترعة «فو» (من ناحية الجنوب)، وعلى يَمينها يقع جبل تشان العالي ذو المُنحدرات الوعرة، وإلى يسارها تُوجَد مخازن الحبوب الكبرى بين الأنهار، وصوب الشمال تمتدُّ المنطقة العامرة بمحاصيلها ووفرة منتجاتها (الزراعية) وكتائب الجُند الهائلة العدد الشاكية السلاح، التي سبق لها أن ردت غارات دولة تشي القوية الجامحة، ووقفت في وجه محاولات دولة تشين الرامية إلى تحقيق أهدافها، فلهذا لا يوجَد ما يُبرر التحقير من شأن دولة جاو. لكنك بموقفك الذي تلزم فيه جانب التهوين من شأن تلك الدولة القوية ذات العدة والعتاد الحربي الجبار، وتعظيم شأن وي الدولة الضئيلة المساحة (الضعيفة المكانة) تدعوني إلى الحُكم على رأيك هذا بالضعف ومجافاة الصواب.» فوافقه جانشان على وجهة نظره واعتبر بكلامه، وصار كلما حلَّ بمكانٍ عام، أو تحدث على رءوس الأشهاد، ذكر الوجه الإيجابي لدولة جاو، بما في ذلك مزاياها الطيبة وعاداتها ومحاسنها الذائعة، وتقاليدها العظيمة.
لمَّا ذهب أحد رجال التخطيط لمقابلة
ذهب جنتون [أحد المُخططين (السياسيين) التابعين لدولة «جنغ»] لمقابلة ملك جاو، فقال له جلالته (أثناء اللقاء): «بما أنك واحد من رجال الجنوب المتضلعين في الآداب القديمة والحديثة، ومن ذوي المعرفة الواسعة والعلم المُحيط، فهل لديك شيء مما تنصحني به وتُعلمني إياه؟» فأجابه الرجل قائلًا: «إنما أنا رجل ساذج بسيط، نشأت وسط البراري الجنوبية، في بيئة جاهلة خشنة، أنأى ما تكون عن التحضُّر والتهذيب، فكيف لي أن أصير إلى مرتبةٍ تسمح لي بالنصح لجلالتك؟ لكنك ما دمتَ قد سألتني، فليس لي ألَّا أجيب (وأبدأ فأقول لك): إن والدي كان قد علَّمني فنون الحرب وأنا، بعدُ صبيٌّ صغير.» فقال له الملك: «لستُ أحب شيئًا من فنون الحرب.» فضحك جنتون، وقال للملك: «إنما الحرب لعبة يُحبها الدهاة والماكرون وقد لمست فيكم النفور منها، وكنت لمَّا تحدثت في الخطط الحربية ذات مرةٍ مع الملك شاو، حاكم وي، فوجئت به يقول لي: «لا أظنك تسلك مثل ما سلكه شيوي!» وهو الرجل الزاهد الذي لا يشغل نفسه بأمور العالم ومشاكله لدرجة أنه رفض الحصول على أراضٍ شاسعة تنازل له عنها (الملك المقدس) ياو، منذ زمان بعيد، أما جلالتك فقد قبلتَ ما ورثته عن الملوك الأقدمين من مكانةٍ وسطوة ومسئولية ولا بدَّ من أن جلالتك تريد للسلام أن يطوف بأرجاء المعابد، وأن تسلَم أرض بلادك من الاعتداء والضياع، وأن تُقام الصلاة وتُرفع القرابين لآلهة الأوطان والزرع والحصاد.» فردَّ عليه الملك بالإيجاب والتأكيد.
[فقال له الرجل]: (اعلم) أنه قد يكون هناك، من بين الناس، واحد ممن أغدق عليه الحظ ثروةً هائلة فصارت بيده الأحجار الكريمة، والمال الطائل، والثراء الوفير، ثم حكمت له الأقدار أن يبيت في العراء، دون أن تنطوي نفسه على شجاعةٍ ومهابة (مثل تلك التي اشتُهر بها البطل «منغ بن») ولا اشتملت خصاله على قوة وعزم وإرادة حديدية مثل تلك التي اتَّسم بها كل من «تشن شينغ» و«شينجي»، دون أن يتدرَّع بسلاح يَقيه صولة المُعتدي؛ فمثل هذا الرجل يُعرِّض نفسه للخطر الأكيد بطول بقائه على تلك الحال.
فهبْ أن دولة قوية ذات مطامع اقتحمت عليك بلادك بجُندها، تريد الاستيلاء على أرضك ووطنك، فإذا تفاهمت معها بالمنطق والحجة لم ترتدع ولم يكبحها زمام العقل، وإذا حاورتها بالجدل وأساليب الإقناع، تصامَمَتْ عن الانصياع لصوت العقل والحكمة، وهبْ أيضًا أنك (فوق كل ذلك) لست ممن يخوضون ساحات القتال ولا ممَّن تستطيع أن تصد أعداءك؟ (وأقول لك إنك في مثل هذا الموقف …) إن لم يكن لديك جيش يحميك، فسيتمكن عدوك [حرفيًّا: جارك الذي في الجوار] من تحقيق أهدافه ومراميه.» وهنالك قال له الملك: «فأرجو منك أن تتكرم عليَّ بنصائحك كي أفيد من علمك.»
لمَّا بلغ الوزير مكانة مرموقة في دولة جاو
بلغ الوزير جياشين [أحد الوزراء المقربين إلى القصر الحاكم في دولة جاو] مكانة مرموقة في دولة جاو، وكان [المفكر والفيلسوف السياسي الشهير، في عهد الدول المتحاربة، المدعو …] «قون تسيمو» مارًّا في طريق سفره بدولة جاو، فالتقى بالملك شیاوتشن، حاكم البلاد، فلمَّا عاد (الملك) إلى القصر وجلس في مقعده المُعتاد، نظر فوجد أمامه قطعةً من الحرير كان ينوي تسليمها إلى الحائك ليصنع له منها قُبعة، (وكان الحائك حاضرًا …) فلما نظر ورأى الضيف قادمًا، قام وانتحى جانبًا.
وتحدَّث الملك إلى الضيف القادم فقال له: «يا لها من مفاجأة سارة أن تُشرفنا بزيارتك، هذه المرة، حيث كنت تقود موكب العامِلين في خدمة الملك! وكم أتمنَّى أن أستمع إلى آرائك بشأن إصلاح أحوال الممالك.»
وتكلم الضيف القادم من وي (الوزير قون تسيمو)، قائلًا: «أحسب أنك لو بذلت لشئون الحكم مثل ما بذلت لهذه القطعة الحريرية من الاهتمام، فستنصلح أحوال الحكم في البلاد». فتكدَّرت نفس ملك جاو، من هذه الإجابة، وتبدَّت على ملامحه مشاعر الحرج والضيق، وقال: «إن الملوك السابقين قد وضعوا ثقتهم فيَّ، إذ لم يجربوا عليَّ تقصيرًا يحول بيني وبين إتمام ما بدءوه من المجد، فمن ثم مهدوا لي سبيل القيام على عرش البلاد بعدهم، فكيف لي أن أهمل شئون الحكم على النحو الذي تشير إليه بكلامك؟» فرد عليه قون تسيمو بقوله: «أولًا: فأرجو ألا تغضب، يا مولاي، من كلامي، وثانيًا: فاسمح لي بأن أشرح لك الأمر بوضوح.» ثم واصل كلامه قائلًا: «ما أريد أن أقوله هو أنه ما دامت قطعة الحرير هذه صغيرة للغاية، فلماذا لا تدع طبيب القصر يصنع لك منها قبعةً تضعها على رأسك؟» فأجابه الملك: إن الطبيب لا يُجيد صناعة أغطية الرأس.» فقال له: «وما يضير البلاد إذا فسدت قبعة الملك؟»
«وبالطبع فلن يضر البلاد شيءٌ إذا ساءت صناعة القبعة، ومع ذلك فقد بلغ اهتمام جلالتك بهذا الأمر أنك لن تدع أحدًا غير الصانع المُتخصص، ليعمل لك قبعة. وربما كان الأمر يختلف كثيرًا إزاء الحاجة إلى صانع مُتخصص في إصلاح أحوال الممالك، فها هي ذي البلاد تكاد تتحوَّل إلى خرائب يهجرها البشر ويُجافيها العمران، (وتتحطَّم المعابد) فلا يجد الملوك الأقدمون من يقوم عند مقابرهم بالشعائر والطقوس المُقدسة ومع ذلك يُصر جلالة الملك على القعود عن طلب الرجال المُكلفين بإصلاح الأحوال [حرفيًّا: الصناع المهَرة لرأب صدع البلدان]، بل يتركون مصائر الأمم في أيدي الفاتنات من النساء والصبايا الحِسان.
أما الملوك السابقون فقد كان من بينهم — مثلًا — جلالة الملك الحاكم الأسبق الذي كان يُولي كونسونيان مسئولية قيادة فرق الفرسان، ويُنصِّب مافوجون قائد الميمنة للعربات الحربية في ساحات القتال، وينطلق بهم على رأس قواته في صراع مع دولة تشين (أحرز فيه النصر الحاسم) بحيث كانت تلك الدولة الجبارة تخشى صولته وتتجنب قوة بأسه.
وقد أصاب الملوك من بعدهم ما أصابهم من التردُّد والتخاذل وإذ وصلت الحال إلى أن صار جيانشين (أحد وزرائك يا مولاي) يركب عربة تزدان بمظاهر الأبهة والفخامة، ذاهبًا إلى ساحة الصراع الحاسم مع دولة تشين؛ وهو الأمر الذي يُثير مخاوفي وهواجسي من أن تقوم دولة تشين بالقضاء التام على الراكب الذي نظنُّه عمادك وسندك ودرعك الذي تتدرع به.»
لمَّا كان أحد أمراء دولة ويه
كان لينقون (أحد أمراء دولة ويه) يؤثر كلًّا من «يونجيو» و«ميتسي شيا» بمحبته دون الآخرين، إلا أنهما استغلا ما اختصَّهما به الأمير من ودٍّ، وإيثار أسوأ استغلال فاستبدَّا برأيهما وقاما بين الأمير ووزرائه مثل ستار حائل، فأوقعا رجال الدولة في التخبُّط بعد أن انطلى خداعهما على الجميع، فتكلَّم «فوطوتشن» [أحد مسئولي دولة ويه] في ذلك مع النبيل لينقون، إذ قال له: «كنت قد حلمت في منامي بسمو الأمير وذلك منذ أيام قلائل.» فسأله لينقون: «كيف رأيتني في الحلم؟ فأجابه: «تمثَّلت لي في الحلم كأنك إله المواقد وأفران الخبز.» فثار لينقون غاضبًا حتى تغيَّر وجهه، وقال: «قد بلغني أن من يحلم بالملك أو الأمير فهو يتجلى له على هيئة الشمس في جوف السماء، لكنك تزعم لي اليوم بأن الأمير قد تمثَّل لك على هيئة إله المواقد، فلا بد أن تفسر لي الغموض في هذا الحلم وإلا أزهقتُ روحك.» فقال له مُحدِّثه: «إن الشمس، يا مولاي، تسطع في كبد السماء فوق الجميع، فلا يَحجبها، دون الناس، شيء. أما إله المواقد فيختلف كثيرًا عن ذلك؛ لأنه يستقبل القادِمين في أول الصف، ليستدفئوا بحرارة ودفء عطائه. وقد بدا لي أن هناك من يتصدَّرون الصف أمامك فيفوزون بدفء نعمتك؛ فتمثلت لي في الحلم على تلك الهيئة التي أخبرتك بها.» ففهم الأمير كلامه وقال: «لا بأس إذن!» ثم سارع في أول فرصة إلى إبعاد يونجيو وميتسي شيا، ثم قام بتعيين «صيكون قو» بدلًا منهما.
لمَّا ذهب إلى جيانشين من قال له
ذهب إلى جيانشين من قال له: «ما كان لك أن تجد موقعًا قريبًا من جلالة الملك فتقوم على خدمته إلا بما تميَّزت به من وسامة، وملاحة وجه رائع الحُسن؛ بينما أن ما فاز به (المدعو) «رونغ» من مكانةٍ قريبة من جلالته يعود الفضل فيه إلى ما يتميز به من ذكاء ودهاء.
(واعلم أن) الوسامة تتراجَع مع الأيام، في حين أن العقل الذكي يزداد حدةً ونبوغًا على مرِّ الزمان، فلا بد أنك ملاقٍ العُسر والشدة (في مُستقبل حياتك) «وهنالك سأله جيانشين عما يراه من مخرج له، فأجابه الرجل قائلًا: «إن فرسَين يتسابقان في حلبة رهان، سيُدركهما الإعياء بعد بضعة «لي» [كيلو مترات] بينما أن من يقود فرسًا واحدًا ويقبض بيده على لجامه لا يُصيبه الإعياء مطلقًا؛ فذلك لأنه يستطيع اختيار أقصر الطرق [حرفيًّا: لأن لدَيه متسعًا من الاختيار] وأقترح عليك أن تدع «رونغ» يمتطي حصانه بمُطلق اختياره الذي يقرُّ عليه قراره، وأن يقبض على زمام من النفوذ والسطوة وإذ يتولى مهام منصبه في العاصمة، هاندان، فدعه يمارس سلطاته في القيام على شئون الإدارة (في الداخل) بينما تقوم أنت بالتجسُّس على أحوال باقي الدويلات والأمراء (في الخارج)، وستُطالع عندئذٍ بعض الأمور التي لن يجد رونغ متسعًا لإبلاغها إلى جلالته بالتفصيل، فتسارع أنت لتملأ تلك الثغرة (بما عندك من معلومات) فيشتد الملك في مطالبته بالدقة وينهال عليه لومًا وتقريعًا، وهنالك تنهزم قوائم حصانه، وتتبدَّد قوته.» فتقدَّم جيانشين إلى مُحدثه بأخلص الشكر، داعيًا إياه إلى النصح له وتوجيهه، ثم دخل إلى ملك جاو وقدَّم له توصياته، فأوكل إلى رونغ وظيفة مرموقة، وولَّاه أدق المهام، لكنه (بمرور الوقت) أخذ يكيل له اللوم والتأنيب، فما كاد يمر على ذلك عامٌ واحد حتى هرب رونغ من القصر فارًّا بجلده.
لمَّا تحدث أحد رجال الحكم إلى الأمير
تحدث «كوشن شان» [أحد كبار رجال الحكم، في زمن الدول المتحاربة] إلى جيانشين، فقال له: «الغريب في الأمر أنه على الرغم من قيام جميع الدول بالانضمام إلى التحالف الرأسي [المناوئ لدولة تشين] فإن الناس لا ترى عدوًّا على الأرض، لدولة تشين سوى دولة جاو، فما السبب في ذلك؟
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى … فقد سخرت الممالك من دولة وي عندما قامت بقتل «لولياو» مع أن هذه الممالك نفسها لزمت الصمت، ولم تُعلق بشيءٍ عندما استعادت (دولة وي) منطقة ما بين الأنهار، فما الفرق بين هذين الحدثَين؟
وأرى أنك إذا تخليت عن مطالبك في منطقة ما بين الأنهار، وصانعتَ دولة تشين فأبديت لها التواضُع، وتظاهرت بالمرض، وبأنك قد تخليتَ تمامًا عن فكرة استعادة أراضيك منها فسيفهم «أون شينهو» ويُدرك تمامًا أن التحالف الرأسي لن يُحالفه التوفيق، بل لن يتحقق أصلًا. ثم دعني أقول لك بأنه حتى لو كان مقدَّرًا للتحالف الرأسي أن ينجح وتلتئم حوله الممالك، فما الذي يمكن أن يقلقك ويثير هواجسك إزاء عجزك عن استعادة منطقة ما بين الأنهار؟ أما إذا لم تنجح فكرة التحالف الرأسي، فما النفع الذي يعود عليك من استعادة تلك المنطقة؟»
لمَّا التقى المدعو هيشا بسمو الأمير
التقى هيشيا [أحد مواطني دولة جاو] بالأمير جيانشين فقال له سموه: «لم يعد أوشينهو يسلك معي حسب الأصول وقواعد الآداب المُقررة؛ وكان قد حدث أن أرسلت دولة تشين إلينا (في دولة جاو) بأحد مبعوثيها للعمل في البلاط الملكي، فتدخلت وولَّيته وظيفة حكومية في مكتب مساعد رئيس الوزراء، ومنحته رتبةً اجتماعية شريفة (ضمن الألقاب الرسمية الخمسة)، لكن أوشينهو تجاوز حدود الأدب واللياقة في معاملتي.» فقال له هيشيا: «قد نظرت فرأيت التجار أحسن حالًا وأفضل كثيرًا من الرجال القائمين على شئون الحكم في أيامنا هذه.» فغضب جيانشين وثارت ثائرته ورد عليه بقوله: «أليس في قولك هذا ازدراء سافر لرجال الإدارة الحكومية وتمجيد واضح للتجار؟ [الذين لم يكونوا موضع احترام وتقدير في المجتمع الصيني القديم!]» فأجابه: «لم أقصد شيئًا من ذلك، وإنما أردتُ القول إن التاجر الذكي لا يجادل الناس كثيرًا في أثمان السلع، ولكن ينتظر الفرصة المناسبة في يقظةٍ واهتمام، فيشتري بالسعر الرخيص عندما تنخفِض الأسعار، فلا يأبه لأي زيادة في أثمان السلع؛ ثم يبيع وقت الغلاء، فيربح مما اشتراه رخيصًا. وقد أُودِع الملك أون، حاكم جو، فيما مضى من الزمان داخل سجن ذي كوة صغيرة (ينفُذ منها الضوء بالكاد)، بينما اعتقل الملك أو [تنطق كما في «المسئولية»] لدى الباب الشمالي بمدينة «تشنغاو» ثم استطاع آخر المطاف أن يطيح برأس الملك [الطاغية] تشو [آخر ملوك آل شانغ] وعلق رأسه على صارية إحدى الرايات وكان ذلك — بحد ذاته — أهم إنجازات الملك أو.
وهكذا، فلست أوافقك على أن تناطح أوشينهو بما في قبضتك من السطوة والنفوذ، ثم تأخذ عليه قلة مراعاته للأصول والآداب واللياقة. فمن ثم أختلف معك كثيرًا ولا أوافقك فيما ذهبت إليه من آراء بهذا الصدد.»
لمَّا تحدث المدعو «ويجيا» إلى الأمير
تحدث «ويجيا» [أحد الأشخاص ممن ليست لهم ترجمة ذاتية] إلى جيانشين، فقال له: «حدث أن رجلًا نصب فخًّا لاصطياد الوحوش، فوقع في الفخ أحد النمور وصار يضرب بمخالبه ويجذب الحبال للفكاك من الشَّرك الذي وقع فيه، (وإذ أصابته من جراء ذلك، الجروح في يديه وقدميه) فلم يكن يبغي لنفسه حصول تلك الإصابات الدامية، ولا كان يعنيه ما قد تتعرض له مخالبه الضئيلة من الكدمات ما دام يريد أن يُحرر جسده الكبير من الأسْر؛ فعلى هذا المثال تأتي نتائج المُوازنات فيما هو نسبي بين المزايا والمساوئ.
وها أنت في بلدٍ هائل الحجم كبير المساحة، وليس مجرد جسدٍ لحيوان وحشي أو مخلوق عادي طوله «تشي أو بضعة تشي» [بضع بوصات] واعلم أن جسدك نفسه لا يزيد — في تقدير جلالة الملك — عن مجرد مخلب نمر (طوله بضعة سنتيمترات). فتأمل جيدًا وتدبر أمرك على هذا الأساس.»
لمَّا قامت دولة تشين بالإغارة على جاو
قامت دولة تشين بالإغارة على جاو، وكانت أصوات الأجراس الرنانة تُسمع في جنبات القاعة الشمالية [محل إقامة رجال الدولة]، وهنالك تحدث «شيبي» [أحد مواطني دولة جاو] فقال: «ما كان لدولة تشين أن تقوم بهذه الغارة على هذا النحو من الاستعجال؛ فها هم الأذناب والعناصر الموالية لها يُعطون الإشارة السرية المُتفق عليها (لدعوة جنودها للتقدُّم داخل البلاد بواسطة صوت الأجراس المسموع بوضوح) وأكبر الظن أن هناك واحدًا من بين الوزراء، يُحبذ الانضمام إلى التحالف الأفقي، وإذا أراد جلالة الملك أن يعرف من هو ذلك الوزير، فليطلُب الاجتماع مع الوزراء في الغد، وسيكون أول من يقترح على جلالته الانضمام إلى التحالف الأفقي، هو ذلك «العنصر المدسوس» الذي قام بدق الأجراس.» فلمَّا عُقد الاجتماع في صباح اليوم التالي، ظهر أن «جيانشين» كان هو المسئول الذي اقترح الدخول في التحالف المشار إليه.
لمَّا قصد المدعو شيابو إلى زيارة
قصد المدعو شياوبو، المواطن من دولة تشي إلى زيارة الملك شياوشين، حاكم جاو، الذي كان يؤثره جلالته ببالغ الود والمحبة، حتى إنه أقطعه أرض «طاي جونتاي»، فما كاد يقوم على ولاية هذه المنطقة بعضًا من الوقت، حتى ذهب إلى الملك من أبلغه بأن شياوبو يتآمر ضد البلاد، وكان الملك، وقت إبلاغه بهذا النبأ يجلس إلى مائدة الطعام، ثم إنه بعد أن أنصت جيدًا للخبر، وراح يواصل الأكل بنفس النهم، دون أن يبدو عليه أي أثر للانزعاج، وبعد هنيهة عاد الرجل المُبلِّغ ثانية واقترب من جلالته، فلم يُعِره أدنى اهتمام، وكان أن أرسل شياوبو، بعد ذلك، رسولًا إلى الملك، يقول له: «قد أرسلت دولة تشي قواتها لضرب يان وأخشى أن يكون ذلك الهجوم ستارًا لإخفاء الغرض الحقيقي المُتمثل في شن الغارة المفاجئة ضد دولة جاو؛ لذلك أقترح تجهیز حملة عسكرية وإعداد العدة للاشتباك في عمليات مضادة، هذا من جانب، أما من جانب آخر فما دامت الدولتان تشي ويان قد اشتبكتا في عدوان مُتبادل، فأرجو أن ننتهز الفرصة لإعداد قوات أقوم أنا بقيادتها، ثم أكمن في انتظار الطرف الذي أنهكه القتال (فأُقاتله) وأحصل على مزيد من الأراضي.»
ومنذ ذلك الحين صارت كل «العناصر الخارجية» المجندة في خدمة الملك شياوتشن (خارج حدود البلاد) لا يساورها أدنى شك في ثقة الملك بها.