سجل جاو الرابع
لمَّا جاء إلى ملك جاو من رفع إليه مذكرة
قدِم على الملك «هوين»، حاكم جاو، من رفع إليه مذكرة رسمية باسم دولة تشي، وقال لجلالته: «كم تمنَّيت أن ألتقي بجلالتك ولو مرة واحدة كي أعرض عليكم خطة تستطيعون بها أن تُخضعوا لنفوذكم كل الممالك التي تحت السماء، وأنتم جالسون مكانكم حيث يبذل لكم الجميع الاحترام والتبجيل، ويأتونكم بأسمى دلائل العرفان وأفخم مواكب الولاء والإكبار، لكني أندهش إذ أقف ببابك دون أن تمنحني فرصة اللقاء بك فتدعني في أرذل وأسوأ حال. ولربما وقع في ظن السادة الوزراء أني لستُ بالرجل الذي يقدِر على الإتيان بإنجازٍ ذي شأن؛ مما قد يضع العراقيل في طريق لقائي بك وقد يكون السبب فيما ظنُّوه بي من عجز عن القيام بالمهام الجِسام راجعًا إلى رغبتهم في (الاستئثار بجلالتك دون أي مُساعدين آخرين قد تدفعهم الظروف إلى جانبك …) لما قد عقدوا عليه العزم من استخدام نفوذك وهيبتك وقدراتك العسكرية لتنفيذ مآربهم، فإن لم يكن هذا هو السبب، فلربما كان هناك ما يُعوِّلون على اللجوء إليه من الأطراف الخارجية (في قضاء مصالحهم) فإن لم يكن هذا هو السبب الحقيقي، فقد يكون حظهم من الذكاء والنجابة دون المطلوب. أما إن لم يكن ذلك هو المُبرر المعقول، فربما وطَّدوا نفوسهم على تصوير أحوال الممالك وشئون الدنيا من حولك في هيئة تملأ جوانحك رُعبًا، وتُثير في قلبك القلق والهواجس والمخاوف، بما من رؤاهم ووجهات نظرهم الملجأ الحصين والسياسة الأجدر بالتنفيذ. وأُقدِّم نفسي لسيادتكم كمواطن من دولة تشي، وباسمِها، أعلن لكم ولائي وطاعتي لجلالتكم، وإذ أضع خدماتي تحت تصرُّفكم بما يُمكِّنكم من دحر دولة يان، ثم التغلُّب على دولتي هان، ووي، والهجوم، بعد ذلك، على دولة تشين بحيث يتم محاصرتها وعزلها عن باقي الممالك. واسمح لي أن أُعبر لجلالتكم، باسم دولة تشي، عن أسمى آيات الاحترام والتعظيم لشخصكم الكريم، تقديرًا وإكبارًا واجبًا على شخصي، وعلى الممالك كافة، ولا أبالغ إذا قلت إن طاعتكم والخضوع لكم واجب يليق بكل إنسانٍ كائنًا من كان، وأنتهز هذه المناسبة، كي أهديكم قطعةً من الأرض باسم دولة تشي، ولا أدري إن كان هناك فوق الأرض من يبخل بما يملِكه من إقطاع على جلالتكم، بل لا أتصور البتة أن يبخل عليكم ملك بما ملك! وباسم دولة تشي آتيك من دولة يان وهان ووي بأمارات التمجيد العالي الشريف لمقامك الكريم فمن ذا يجسر على الرفض أو الإعراض؟
وإذ أذكر طرفًا مما أقدر عليه، فهذه لحظة مناسبة أتشرف فيها بتبيان وجه الاقتدار، ومجال الاستطاعة والمقدرة.
واذكر أن دولة تشي، إذ تبدأ الأمر كله بإبراز الاحترام لشخصك؛ فلا بد من أن باقي الممالك ستحذو حذوها في هذا السبيل، واعلم يا مولاي أن دولة تشي إذا أشاحت بوجه التبجيل عنك، فلن تجد من باقي الممالك إلا الإهمال والازدراء الشائن.
ولئن كانت دولة تشين، مع ما تملكه من القوة وما تتمتع به من النفوذ، تبذل لجلالتك الاحترام التقليدي، فهي تصدر في ذلك عن تقدير من لا يجد الدعم والمؤازرة من دولة تشي. وكذلك فإن دولتي وي، ويان تنظران نحوك بعين الاهتمام؛ لأنهما تعتبران نفسيهما محرومتَين من دعم ومساندة دولة تشي. وأظن أنك أنت أيضًا، يا مولاي، ستجد نفسك مضطرًّا إلى التودُّد إلى الممالك والدويلات إذا لم تجد المساندة التامَّة من دولة تشي. ولهذا فإن الذين ينصحون لك بالاستغناء عن طلب العون من دولة تشي ليسوا من الحمقى أو الأغبياء وإنما هم الذين لا يحملون لك أدنى قدرٍ من الإخلاص، فإن لم يكونوا كذلك، فربما كانوا يُخططون لاستخدام نفوذك وجيشك القوي لتحقيق مآربهم، فإذا لم يكن الأمر على هذا النحو، فعساهم دبَّروا أمرهم بحيث تسير الأحداث العامة في مسارٍ يؤدي مع الوقت إلى استهانة الناس بقدرك، والتقليل من شأنك، وهو ما يفرض عليك الأخذ بوجهة نظرهم وتطبيق أفكارهم وإذا لم يكن هذا صحيحًا، فربما كان السبب الأصلي أن مكانتهم ليست على المستوى المطلوب، ومن ثم، فأرجو — جلالة الملك — تأمُّل الأمور بدقة، وتقدير الوزن المهم للعون الذي يمكن أن يحصل عليه من دولة تشي باستقامة تامة.»
لمَّا استعدت دولة تشي لضرب سونغ
لمَّا أخذت دولة تشي أهبة الاستعداد لضرب دولة سونغ، أسرعت تشين فأوفدت «تشيجيا» [مراقب عام السجلات، وظيفة مُستحدثة في عهد الدول المتحاربة، القائم بها يمتُّ غالبًا بصِلة قرابة للملك] لمنع تفاقم الموقف، فقامت تشي بالتحالف مع دولة جاو للتنسيق معًا في الهجوم على سونغ، فثار الملك تشاو، حاكم تشين وحمِيَ غضبه، وانعقدت بينَه وبين جاو سحابات الكراهية. ثم إن «لي توي» قام بالانضمام إلى الدول الخمس، للاشتراك معها في ضرب دولة تشين، لكنه لم يُفلح في إنجاز غرضه، وحث قوات الدول المُتحالفة على البقاء في منطقة تشنقاو، بينما تواطأ، سرًّا مع دولة تشين (على أمرٍ في طي الخفاء) وكان يفكر في ضرب دولة وي، بالاشتراك مع دولة تشين، وهي الطريقة التي رآها مناسبة (من وجهة نظره) لإزاحة الكراهية المُترسِّبة في أعماق تشين، ولتحقيق نواياه في الحصول على إقطاع وافر من أراضي دولة تشي.
الجزء الثاني من الفصل نفسه
وهنالك اشتعل أوار الغضب في قلب ملك وي، وتملَّك منه الغيظ للغاية، وتصادف في تلك الآونة أن ذهب سوتشين إلى دولة تشي، والتقى بحاكمها، وقال له: «كنت قد تحدثت مع ملك وي بشأنك يا مولاي، فقلت له: «إن الدول الثلاث وي، وجاو، وهان، قد كابدت الشقاء والمِحَن على يد دولة تشين، ومن ثم، فإن الهجوم على هذه الدولة الآن بمثابة طوق نجاة لدولة جاو، التي لن يعود لها، على ظهر الأرض، بقاء إذا ما هاجمتها الدول الخمس، ثم إن رجلًا (غير عادي) مثل «لي توي» لن يجد على الطرقات إلا الموت إذا ما طردته تشين من أراضيها، ولذلك فإن ضرب تشين الآن، يُعَد إنقاذًا لذلك المسكين من السير في دروب المهالك. وها هي ذي جاو، الآن تستحث قوات التحالف على البقاء في تشنقاو، بينما تتواطأ في السرِّ لتوقِع بها في براثن دولة تشين، بل إنها أنجزت كل الترتيبات المُتعلقة بهذا الشأن، وقد دفع لي توي بدولة تشين إلى معترك الحرب مع وي لتحقيق مآربه الذاتية في الاستيلاء على أراضي الإقطاع بها، فما الذي جنيتَه أنت يا مولاي بعد طول خدمتك لدولة جاو؟
وفوق ذلك كله، فقد كنتَ يا مولاي الذي عبر نهر جانغ، ثم ذهبت بنفسك إلى هاندان والتقيتَ هناك بحاكم جاو، وبسطتَ شراع حمايتك فوق منطقتي «إيين»، و«تشن» من أراضي «وي»، وحملت فوق عاتقك مسئولية الدفاع عن دولة «قا» [تنطق كما في «قارون»] ومنطقة شيوي، وكنت تقوم كالطود الذي يدفع عن دولة جاو غائلة العدوان، فما الذي فعلته جاو من أجلك؟ ليس هذا فقط، بل إنك تفضلت فتكرمت على ولد «ليتوي» فأقطعته أرض «خيانغ» و«كومي»، وها هو ذا «ليتوي» نفسه يرد لك الجميل إذ يستحث دولة تشين على مهاجمتك للاستيلاء على منطقة «إيندي.»
والرجال تُمتحن بالتجربة، ولا يعرف ما للمرء من فضلٍ وكياسة إلا بمقارنته بأقرانه. وما ظنك لو أنفقتَ نصف ما تساعد به جاو في التحالف مع تشي، أليس هذا أفضل كثيرًا، بل يُجنبك مخاطر التآمُر ضدك؟! وأؤكد لك بأنه لن يضيرك شيء من العمل لمصلحة تشي وعلى الأقل لن تلقى مثل ما تجد مع الآخرين من العقوق والمهانة، ولن يُهدَر مالك أو تضيع أرضك سُدى. ولن تتأخر تشي عن أن تُعبئ قواتها بكامل عتادها في وجه كل من جاو، ويان (من أجل التحالف معك) وتنشر قواتها على نطاق يتجاوز ألفي لي مع مراعاة أن العمليات التي تستهدف الإغارة على المدن، ينجم عنها تعريض بلادك لمخاطر وصول بعض السهام المُتناثرة والحجارة المتطايرة إليها وسوف تتنازل لك (دولة تشي) عن إحدى المدينتَين اللتَين تستولي عليهما، وهي مدينة «خدونغ». بحيث لو فكرت دولة تشين، منذ تلك اللحظة، في ضرب دولة وي، فستكون قوات تشي قريبةً من حدودك باستمرار. وبالمناسبة، فهل لي أن أسألك يا مولاي عما ستُكافئ به تشي عن خدماتها لك؟
(أما علمت) بأن «هانون» [رئيس وزراء تشي السابق. وأحد الداعِين إلى التقارب مع تشين] يُقيم الآن في جاو، وهي تبعد بمسافة ثلاثة آلاف «لي» عن دولة تشي؟ (فإذا كنت تظن أن ثمة) ما يُثير الشك في موقف تشي، أو (ربما ما قد يقوم في ظنِّك من احتمال وجود تآمُر بين تشي ودولة تشين) فلا تدعنَّ مثل هذا الظن يتطرَّق إلى وجدانك.
وإني إذ أتطلع إلى أحوالك اليوم، أجدك قد اتخذت شوكون رئيسًا للوزراء وأقمت علاقات ودِّية حميمة مع هانشيو [قائد عسكري بدولة جاو، وكان قد عقد خطة سرية مع شوكون المذكور آنفًا، لضرب تشي] وعاملت «يوشانغ» بكل الود والاحترام والتبجيل، وجعلت منه ضيفًا مُقيمًا من الدرجة الأولى، فهل من المعقول أن يثور لدى جلالتك الشك في موقف دولة تشي؟»
فلمَّا سمع ملك وي ما قصصته عليه وحدثته به بَدَا عليه أنه أُفحِم، فلم ينطق بشيء، وإني لعلى ثقةٍ بأني لو طلبت إليه أن يبذل لجلالتك الطاعة والاحترام لما تردَّد لحظة واحدة، ولا يخفى تمامًا أن ملك وي حانق على دولة جاو، وكل ما أرجوه من جلالتك أن تضبط نفسك، وتكظم غيظك، كلما ترامى إلى سمعك شيء عن تصرفات دولة وي غير الودية نحوك، كما أرجو أن تأذن لي أن أعمل على تحويل ضغائن دولة وي لترتد إلى نحر دولة جاو، على أن تبدي جلالتك الاحترام والتقدير إلى دولة جاو على نحوٍ خفي غير مُعلن فيتعذَّر على دولة تشين اكتشاف تقديرك البالغ ﻟ جاو؛ لأنها لو اكتشفت ذلك فستعمل من جانبها أيضًا على تقدير واحترام مكانة ودور جاو.
(ومن المُقرر) أن دولتي تشي وتشين كلتيهما تبذلان الاحترام والتقدير لدولة جاو، مما أعرف مقدمًا، أنه سيفرض على كل من: يان، ووي، وهان، إبراز أسمى علامات التقدير والاحترام لها بل سيردها جميعًا عن محاولة منازلتها وإذ تتبع الدول الخمس إرادة جاو، وتعمل على التودُّد إليها، فلا بد أن هذه الدولة ستقود حليفاتها (من دول المحور الرأسي) للتحالُف مع دولة تشين، وهو ما سيمنحها مكانةً أسمى وأسبق لمكانة تشي؛ لذلك فقد فكرتُ في أن أدعوك إلى استخدام قوة الدويلات في تهديد الأمراء والإمارات المختلفة، على أن تلجأ إلى إقناع قيادات الدويلات واستمالتهم بالدهاء والحيلة وسحر الكلمات وفنون الأقاويل بحيث تتمكن من استخدام قوات جاو لتهديد كلٍّ من: وي، وهان ولك — حينئذٍ — أن تبعث بي إليهم لأقنعهم بالمنطق والحجة والبلاغة الساحرة، كما تستطيع أن تعمل على استخدام قوات جاو، وهان، ووي لتهديد تشين، ثم ترسل رئيس وزرائك «شوين تسي» إلى تشين لتعمل على إقناعها بما تُخطط له، في حين تقوم بتعبئة قوات الإمارات والدويلات المُختلفة لتهديد دولة تشو؛ لكن على أن تبعث إليها فورًا «هانون» ليحاول استمالتها بفنون القول والدعاية؛ وهكذا تعمل الدويلات جميعًا على كبح جماح دولة تشين، بينما تقوم كلها على خدمة أهدافك ومصالحك وهى تدين بالخضوع والطاعة لك، دون أن تجرؤ على التآمُر مع بعضها البعض في طيِّ الخفاء وبعد أن تتوطَّد العلاقات البينية مع الجميع تستطيع جلالتك أن تختار أو أن تنبذ (من بين البدائل المطروحة) كما يروق لك.»
لمَّا أعدت العدة لغزو سونغ
أعدت دولة تشي العدة لضرب سونغ، غير أن دولة تشين تدخلت، سرًّا، فحالت دون وقوع هذا الهجوم؛ وهو الأمر الذي دفع تشي إلى التحالف مع جاو التي رفضت الإذعان إلى طلبها، فسارعت تشي بإرسال سوتشين ليعمل على إقناع «لي توي» بالقيام، معًا، بمهاجمة سونغ على أن يتم البت في الإقطاع الذي سيُهدَى إلى ليتوي، بعد الانتهاء من المشروع المشترك بين الدولتَين.
وتكلم سوتشين مع الملك «مين» حاكم تشي، فقال له: «إن السبب الذي يجعلني متمسكًا باستخدام قوات الدول الثلاث لمهاجمة تشين لا يرتبط بمصلحة تشي في تدمير تشين وإنما يتعلق — أساسًا — بما يُراد به تسهيل الهجوم على سونغ.
ثم إن القصر الحاكم في سونغ قام بتسليم السلطة إلى الأمير الجديد خلفًا على العرش، وكنت لمَّا اقتربت من القيادة الجديدة (لاحظتُ ما اضطرَّني إلى الدعوة إلى) تقوية الدفاع؛ ومن ثم فإني أرجو منك سرعة سحب القوات داخل البلاد لتخفيف العبء عن الجنود والأهالي، والعمل على إراحتهم والتقاط أنفاسهم.
ثم فوجئنا الآن، بخبر وفاة أمير دولة سونغ، ويبدو أن كل من كانوا يُصادفونه، مُستعدون لملاقاة الموت في ساحة القتال، فإذا ما قُمنا بمهاجمتهم مرة ثانية، فسوف تدبُّ الفوضى في أنحاء دولة سونغ، خصوصًا أن أمير البلاد موجود بالخارج في اللحظة الراهنة، فهذه فرصة مواتية لاحتلال أرض سونغ.»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
«وقد ذهبت في محاولة لدعوة «فن يانجون» (للعمل بما أعرضه عليه من خطط) بما يعود بالنفع على البلاد. وقد قلت له: «قد طال بك العمر، وبلغت من السن عتيًّا، وقد حان الوقت لكي تحصل على مكافأتك من إقطاع الأرض، وبهذه المناسبة، فليس على الأرض جميعًا أفضل من أن يكون إقطاعك في أرض سونغ.
إن أرض تشين ليست لك؛ لأن أهل تشين مشهورون بالجشع والطمع لما في أيدي الغير، أما أراضي وي، وهان فتكاد تتلاصق مع أرض تشين، وهو ما يجعلها غير آمنة لإقامتك؛ فإذا تأمَّلنا أرض كل من يان وتشو، وجدناهما بعيدتَين جدًّا، نائيتَين عن العمران، وأسوأ منها جميعًا أرض دولة جونشان المُجدبة القاحلة؛ وهكذا فليس هناك أفضل ولا أنسب من أرض «طاو» فهي فرصتك التي إذا خسرتها، فلن يعوضك عنها شيء.
إن دولة سونغ مثقلة بالآثام، بالدرجة التي تجعل مشاعر تشي ضدها مشحونة بالبغضاء والاستفزاز، ومن ثم فإن هجومك على سونغ وأن تعيث فيها تحطيمًا وتدميرًا، سيجعل تشي مُمتنَّة لك عظيم الامتنان، وبالتالي فإن فرصة قيامك بتحديد ما تُريده من إقطاع لنفسك على النحو الذي تُقرره بمُطلق إرادتك، فرصة لا تتكرَّر في العمر كثيرًا».»
ولأن «فن يانجون» يتَّسم بالجشع المُفرط، فلم يكن يتوانى عن التنسيق مع دولة تشي لضرب سونغ، على الرغم مما تحت يدَيه من إقطاعات هائلة. وأرجو منك أن تُبادر بشجاعة إلى مهاجمة سونغ، دون انتظار بدء تحركات قواتها، لعلك تُلاحظ الطريقة التي سيتصرف بها «فن يانجون» تجاهك، ولك أن تلجأ في ذلك إلى أسلوب التلويح له بإقطاعه أرض «طاودي» بحيث تجعل القوات تسير بمحاذاة حدود دولة يان، ثم تقوم بإجبار دولة جاو (على التحرك معك) وسأتظاهر من ناحيتي، بالاستعداد التام لتسليمه الإقطاع المُتفق عليه بكل نزاهة وإخلاص، وهكذا تسير الأمور في طريق النجاح والسداد بكل تأكيد، وفي تلك الأثناء، فإني أرجو منك أيضًا أن تتفضل بالتكرُّم على «رانغان جون» [أحد مواطني جاو ممن لا تتوافر لهم سيرة شخصية] بإقطاع من الأراضي، للعمل على دعم فرص نجاح الخطة الموضوعة، وبالطبع فسيتيسر لك ضرب سونغ، (مقابل دفع قطعتَين اثنتَين من الأرض فقط!) فهل يمكن أن تبخل بذلك؟ أما إذا لم تفلح في احتلال سونغ فهل تجسر كل من دولتي يان وجاو على التطلُّع إلى آمال خيالية فضفاضة أنك بهاتَين القطعتَين من الأرض تدعم رصيدي في التحرك بمحاذاة دولة يان على رأس القوات، بحيث أراقب عن كثب، تطورات الأحوال في جاو، بينما تقوم أنت بهدم دولة سونغ على عروشها الخاوية أصلًا، وتُقرر بإرادتك مصير الممالك التي تحت السماء؟»
لمَّا قامت الدول الخمس بمهاجمة تشين
لم تستطع الدول الخمس إحراز النجاح المأمول في مهاجمة ودحر دولة تشين، ومن ثم فقد أوقفت عملياتها القتالية في منطقة تشنقاو. وأرادت جاو عقد المصالحة مع تشين، وبَدَا على كلٍّ من وي، وتشو، وهان الاستجابة لتحرُّكات جاو. لم تشذ عنهم جميعًا سوى دولة تشي التي رأت لنفسها رأيًا آخر. وكان أن تحدث سوتشين في هذا الموضوع مع الملك مين، حاكم تشي، فقال له: «قمتُ بمقابلة فن يانجون، وكلَّمته فيما يعود عليك بالنفع قائلًا: «قد تشعَّث أمر الدويلات ودبَّت الفرقة بينهم فخضعوا بالإذعان لدولة تشين التي لن تتوانى عن احتلال سونغ ولا بد أن ويرانغ سينقم عليك حصولك على أرض «طاو»، وهكذا فسيصعب الحصول على «طاو» وسط أجواء مفعمة بجشع تشين وأحقاد ويرانغ. وإذا لم تقم بالمصالحة مع تشين، فسوف تقوم تشي بمهاجمة سونغ، وعندئذٍ، فلا بد أن دولة تشو ستشارك في الهجوم على سونغ أيضًا. بينما تقوم يان وجاو بتقديم الدعم المطلوب للهجوم. وإذ تقترب قوات الدول الخمس من سونغ وتوشك على احتلالها، فسيُصبح من المؤكد الحصول على منطقة «طاوي» في غضون شهر أو اثنَين. فإذا ما تمت المصالحة مع تشين بعد الحصول على أرض «طاو»، فلن يكون هناك ما يُثير قلقك مهما تبدَّل موقف تشين، أما إذا تيسر لك الحصول عليها وقت التصالُح مع تشين، فلا بد أن تحرص الدول الخمس على توثيق تحالُفها وتوطيد علاقاتها، فإذا أرادت هذه الخمس التحالُف مع جاو، فسيتحتم عليك أن تبذل كل جهد، وتُبدي كل عزم في العمل على الاتجاه شرقًا — بصحبة دولة هان — لإقناع ملك تشي بالتنسيق معكم لإقامة التحالُف الرأسي وهو ما سيفرض على تشي التغاضي عن استعادة «هانون» وإهمال شأنه تمامًا، وإذا ظهرت أي محاولة للتآمُر على التحالف القائم بين الدول، فستقوم قيادة قوات الدول الأربع بالقبض على المتآمِرين وضرب ومهاجمة الطرف المتآمر (على الميثاق المنعقِد بين الأطراف) فإذا حاولت تشين ضرب هذا التحالُف دون وجود أي محاولةٍ للخيانة، من داخله، فسينبغي على الدول الخمس العمل على إقصاء تلك الدولة وتوطيد علاقتها بالتحالف.
ثم إن مشاعر الشك تنتاب الدول الثلاث: هان ووي وتشي، وتعتمل في صدورها جميعًا إزاء بعضها البعض؛ فإذا ما عُقدت المصالحة مع تشين دون تحديد التزاماتها وثقتها في التحالف القائم بينها، فأخشى أن ينهار التحالف دفعة واحدة.
وساعتئذٍ، فلن يصعب قيام التحالف بين تشين وتشي، ولن يخلو الأمر من بعض الخلل في ميزان الأهمية والقوة بينهما، ومع ذلك ومهما كان مقدار ذلك الميل في كفة إحداهما دون الأخرى، فلن يختلف حجم الضرر الذي يمكن أن يصيب دولة جاو من جراء عودة التحالف بينهما، أضف إلى هذا أن الانقسام الذي سيتخلَّل صفوف الدول وسعيها جميعًا لإرضاء تشين، سيُطلق يد هذه الأخيرة في التحكم والسيطرة على الممالك كافة، فأي سياسة تُجدي في حكم الممالك، إذا ما وقع هذا الأمر؟ وبناء على ذلك كله، فأرجو أن تتَّخذ الاحتياطات اللازمة قبل فوات الأوان».
الجزء الثاني من الفصل نفسه
وإذا ما تسابقت الدويلات إلى أرضاء تشين والعمل على خدمتها، فسيكون لدى تشین ست طرق مختلفة للتصرُّف حيال ذلك الأمر وكلها ليست في صالح جاو.
ذلك أنه إذا ما جاهدت الدول للعمل على إرضاء تشين، فسوف يقبل حاكمها (بعودة) تشي المطلَّة على شواطئ البحار الكبرى، وسيعيد علاقاته بالدول المارقة عن تشين في الماضي، ليقترب بقواته من المنطقة الوسطى، مُتطلعًا إلى ما يمكن أن يعود عليه من مزايا اقترابه من دولة وي (… سانجين) فهذه طريقة من بين الطرق.
فإذا كانت خطة تشين على هذا النحو، ضارة بدولة جاو، دون أن تتمكن أنت، في نهاية المطاف من الحصول على منطقة «طاودي»، فستكون تلك إحدى نتائج واحدٍ من التحركات التي يمكن أن تسلكها تشين.
وإذ تسعى الدول لإرضاء عرش تشين، فقد يقبل ملكها أن يعود إليه هانون من محل إقامته بدولة تشي، ويقبل بعودة يانجون من دولة هان، ثم يعمل على تنصيب «ويهواي» رئيسًا لوزراء دولة وي، ويعمل على استعادة أقطاب العلاقة بمحور التحالف الأفقي (مثل) «وانغ بن»، و«هانطا»، حيث يعودون ليباشروا مسئولياتهم وأدوارهم في سياسات التحالف الأفقي، فتلك طريقة أخرى يستطيع الملك أن يلجأ إليها متى أراد.
هذا، وقد يبادر الملك إلى تلك الخطة التي تمثل ضررًا مُحتملًا ومخاطر فادحة على مصالح جاو، في حين تعجز أنت عن الحصول على أرض طاودي، فتكون تلك إحدى النتائج الناجمة عن لجوء تشين للطريقة الثانية كما حدثتك آنفًا.
أقول لك إذا تسابقت الدويلات إلى إرضاء تشين، فربما لجأ ملكها إلى القبول بالتحالف مع كلٍّ من تشي وجاو، فإذا تشكلت من الدول الثلاث كتلة متقاربة استطاعت أن تقود جيشًا إلى «وي» سعيًا للسيطرة على عاصمتها «آني»، فستكون تلك طريقة أخرى يمكن أن تلجأ إليها تشين وهي الخطوة التي قد ينجم عنها إذعان تشي وجاو (لإرادة تشين) وربما تُسارع وي إلى التنازل عن العاصمة آني قبل بدء الهجوم مما يزيد قدرة وطاقة تشين؛ وإذ تحصل تشين على أرض آني وتجني من خصبها ووفرة غلَّتها الشيء الكبير، وتتوطَّد عُرى الصداقة بينها وبين وي، فلا بد أن دولة هان ستسعى إلى بلاط تشين إذعانًا وتسليمًا، ومن ثم تعمد تشين إلى استغلال آني في تجهيز جيوشها لتدفعها صوب دولة جاو، فهذا أيضًا واحد من احتمالات التحرك المُمكنة في يد تشين، فإذا ما سارت على هدى هذه الخطة، وأحاطت المخاطر بدولة جاو، وفي هذه الحالة، فلن تستطيع أيضًا الحصول على منطقة طاودي، وبالطبع، فهنا تكمن إحدى النتائج المترتبة على الطريقة الثالثة التي يمكن أن تلجأ تشين إلى التخطيط لها.
إن تشين، وقد قصدت بابها الدول سعيًا لإرضائها وخدمة مصالحها تستطيع أن تقوم بتوطيد علاقاتها مع دولتي يان، وجاو، فتقوم على رأس الجيوش لمهاجمة تشي ثم تتحالف مع تشو، ومن ناحيةٍ ثانية، فيمكن أن تتحالف مع هان لغزو دولة وي، وهذه خطة مُحتملة كذلك، يمكن ﻟ تشين بمُقتضاها أن تُخضِع لنفوذها دولتي يان وجاو. وإذ تقوم هاتان الدولتان معًا بمهاجمة تشي، تسارع تشين بضرب وي، بناءً على تحالُفها مع تشو ثم لا يكاد ينقضي شهر أو اثنان حتى تصير دولة وي إلى العدم تحت جحافل الهجوم الذي تشنُّه عليها تشين، حيث ستبادر إلى احتلال العاصمة آني، ثم تقوم بإغلاق منطقة نيوجي [على الحدود بين هان، ووي، وطريق مُهم بين هان وجيرانها] وهو ما سيؤدي إلى إغلاق الطريق الذي يصِل بين هان وإقليم «تايشين» ويمكن لجيش تشين أن يواصل تقدُّمه بحذاء منطقتي «جيطاو» و«نانيان» فيهاجم دولة وي، ويقطع على هان طرق الاتصال مع الدنيا بأسرِها ويُحاصر جو الشرقية والغربية مما يعني حدوث انهيار داخلي لدولة جاو، وإذ تتصدَّع أركان دولة جاو تحت حصار تشين، فستسارع دولة تشي إلى الاستيلاء على جيشها وتمزيقه شر مُمزَّق، وهو ما يعني الخراب الهائل لدولة جاو، ووسط هذه الظروف، فلن يمكنك أبدًا الحصول على أرض طاودي وهذه هي الخطة الرابعة التي يمكن أن تُفكر فيها تشين.
عندما تسعى الدول بين يدي تشين إرضاءً لسياساتها وخدمة لمصالحها، فستسارع هي إلى تقوية علاقاتها مع «سانجين» [الاسم القديم لدولة وي] ثم القيام بعد ذلك، بمهاجمة تشي، وعندئذٍ تتهالك دولة جاو وتشرف على الضياع، إذ تكون خزائنها قد فنِيَت عن آخرها، بينما يكون جيشها قد تفتَّت على يد تشي، وهنالك تدخل تشين ظافرة إلى وي فتستولي على عاصمتها آني؛ فهذه أيضًا طريقة من بين الطرق التي يمكن أن تسلك بها دولة تشين، فتضطرُّك الظروف إلى مساندة دولة وي وهذا معناه أنك ستكون مُضطرًّا إلى استخدام قواتك التي أنهكها القتال ضد تشي، أقول: إنك ستُضطر إلى استخدام قواتك المُتهالكة؛ لأنك ما لم تؤازِر دولة وي في مِحنتها، فكيف تضمن عدم لجوء كلٍّ من وي وهان صوب الغرب للتحالُف مع تشين؟ وعندما تفرض تشين خُططها ووسائلها، فلن يمكنك، مدى حياتك، الحصول على أرض «طاودي»، وستكون هذه هي النتيجة المُترتبة على الخطة الخامسة التي قد تنتجها تشين.
وبعد، فما إن تجد تشين كل الدويلات التي تحت السماء تحتشد جميعًا للعمل على إرضائها وخدمة مصالحها، فلربما تنهج سياسة قائمة على البر والعدل والحكم الرشيد، فتمنح الدول التي أوشكت على الانهيار فرصة مُجددة للبقاء والازدهار، وتعطي الدويلات المُتهافتة المُتردِّية الأحوال، ما تحتاجه من الدعم والمساندة، وتشيع أجواء من الاستقرار والاطمئنان لدى الملوك والقادة الذين لم يرتكبوا خطأً ولاجناية، ولا بد وقتئذٍ، أنها ستعمل على إحياء دولة جونشان وتنغ، وهو ما يعني ارتباط دولتي سونغ وجاو بمصيرٍ مشترك وقدر متكافئ من التلاحم في القضايا كافة، فأين، ومتى، تجد الوقت والمناسبة للحديث ساعتئذٍ، عن مطالبك في أرض طاودي؟!
هذه هي النتيجة التي ستتمخَّض عنها الظروف عقب اختيار تشين للعمل بالطريقة السادسة المُمكنة والمُحتملة؛ لذلك كله، فلا ينبغي لك عقد مصالحة مع دولة تشين فتلك هي الطريقة التي تُمكنك من الحصول على إقليم طاودي بكل تأكيد.»
وهنالك استحسن فن يانجون منطقه وكلامه ووافقه على رأيه، وتراجع عن فكرة التصالح مع دولة تشين ثم إنه قام بالتحالف مع وي وتشي، وقام معهما على رأس جيش مُهاجم فاستولى على أرض طاودى.»
لمَّا قام لوهوان ليودِّع الملك قبل السفر
لمَّا أوشك لوهوان على السفر في بعثته الخارجية، تكلم مع الملك هوين، حاكم جاو، مودِّعًا إياه قبيل سفره قائلًا: «على الرغم من كل ما بذلتُه من جهد مضنٍ، وما أرهقتُ به ذهني من الأفكار، فلن يتسنَّى لي مقابلة جلالتك، حتى لو هلك عمری فلن ترى جثتی، حتى بعد مماتي.» فاندهش الملك هوين، وسأله: «ما معنى كلامك هذا، إن الأمر لا يزيد عن مجرد كتابة بضع مُراسلات مع تكليفك بتأدية الأمر المنوط بك مصحوبًا بالثقة والآمال المعقودة بنجاحك.» فرد عليه لوهوان قائلًا: «ألم تعرف بما حلَّ بالنبيل «تسيموي» في دولة سونغ؟ لقد قيل إنه رفض أن يتناول طعامًا يخلو من اللحم [كعادة النبلاء والأثرياء، قديمًا] مما استثار بعض أهالي دولة سونغ ضده، حتى نبذه ملك سونغ (وأهمل شأنه بالكلية) وقد علمت أن موقف ملك سونغ، هذا، من القون المذكور، يُعد أفضل كثيرًا مما بيني وبين جلالتك، بل إن من يكرهونني وينبذونني من الناس أكثر ممن استثارهم تصرف القون فهجروه، فلذلك لا أظن أن تجمعني الظروف بك مرة ثانية، ولا حتى بعد الموت نفسه.» فقال له الملك هوين: «فامض إذن إلى عملك بجدٍّ وعزم، واعلم أن بيني وبينك العهد والميثاق والقسم.» ثم انطلق لواهوان في مهمته الموفد لأجلها، وحدث أنه لما بلغ منطقة «جونمو» [من أرض دولة جاو] امتنع بها وأعلن العصيان على الملك، ثم سار حتى دخل دولة وي، وأسرع رجال الاستخبارات فأبلغوا ملك جاو بتقارير ذات صلة بذلك المسئول، إلا أن جلالته لم يُنصت إليهم، قائلًا: إنما عقدت مع الرجل عهدًا وميثاقًا.
لمَّا تكلم يوتشين إلى ملك جاو
تحدث يوتشين إلى ملك جاو، فقال له: «هل الطبع الإنساني الذي جُبل عليه البشر يدفع الناس للسعي إليك، أم يدفعك أنت للسعي إلى لقائهم؟» فأجابه الملك: «جرت العادة بأن يتوقع المرء أن يأتي الناس لزيارته، فما الذي يدعوك للسعي إليهم؟» فردَّ عليه يوتشين بقوله: «هذه دولة وي تتزعم التحالف الرأسي، بينما يعمل «فان تزو» [رئيس وزراء وي السابق] على إنجاح هذه السياسة بكل ما لديه من جهد، وتستطيع، يا مولاي، أن تقوم بإهداء دولة وي قطعة أرض مساحتها مائة لي مربع أو مدينة عامرة بالسكان (مقابل) أن تقوم بالتخلص من «فان تزو»، بتصفيته جسديًّا، بحيث ينفسح الطريق أمام دولة جاو لتتزعم حركة التحالف الأفقي.» وهكذا اقتنع الملك بكلامه وصدَّق عليه، ثم أرسل بالفعل من يتولَّى تسليم دولة وي ما مساحته مائة لي مربع من الأراضي (بشرط) أن تقوم باغتيال «فان تزو»، (فلما علم ملك وي) وافق على ذلك الشرط، وأرسل من يقوم بالقبض عليه، لكنه لم يقتُله.
الجزء الثاني من الفصل نفسه
فلمَّا مثل فان تزو أمام ملك وي، قدم له وثيقة رسمية مكتوبة، قائلًا له: «قد بلغني، يا مولاي، أن ملك جاو أراد أن يهديك أرضًا تبلغ مائة لي مربع مقابل التخلص مني، وأحسب أن التخلُّص من امرئ بريء مسألة بسيطة، تهون كثيرًا عندما يتعلق الأمر بالحصول على أرضٍ هائلة المساحة، حيث المَغنم كبير، والفائدة أعظم قدرًا، اسمح لي بأن أهمس في أذنَيك، فيما بيني وبينك بامتداح هذا المسلك، وعلى الرغم من ذلك، فهناك مسألة مهمة، وهي أن الأرض التي مساحتها مائة لي مربع، لن يتيسر لجلالتك الحصول عليها بأي حال من الأحوال، بينما أن الميت الذي فارق الدنيا لن يُبعث حيًّا مرة أخرى، وهو ما سيجعلك، يا سيدي، عرضة للاستهزاء والسخرية بين الممالك، وإذا كان لي أن أعرض عليك رأيًّا آخر فيما بيني وبينك، فإن الصفقة التي تعقدها مقابل رأس رجل حي أفضل كثيرًا من صفقة ثمنها رأس رجل ميت.
الجزء الثالث من الفصل نفسه
ثم إن فان تزو حرر خطابًا إلى الوزير الذي خلفه في رئاسة الوزراء المدعو شين لينجون قال له فيه: «إن دولتي جاو، ووي متعاديتان تتناطحان دائمًا وتشمِّران عن ساعد الحرب والقتال، وبينهما من سوء الفهم ما لا يزيد عليه، إذ يكفي أن يرسل ملك جاو برسالةٍ قصيرة للغاية إلى ملك وي، حتى يسرع هذا، بكل سهولة (وطيش) إلى قتل رجل بريء، مثلي، وعلى الرغم من أني لستُ بالرجل المعقود بناصيته مصائر الأمم، لكني — على أية حال — كنتُ رئيس وزراء وي قبل إعفائي من منصبي، ولئن كنت قد مسستُ دولة جاو بضرٍّ، فقد كان في سبيل مصلحة دولة وي، وهناك جوانب ينبغي النظر إليها، فمن ناحيتي، لست بالرجل الذي يمكن أن يتولى، الآن، أية مناصب داخل البلاد، وبالنسبة لدولة وي فهي لن تستطيع — خارج حدودها — حماية الأرض المشار إليها، لكنها في الداخل لن تجد خيرًا منك في حماية أمنها وسلامتها، وإذا قتلني ملك وي، مصداقًا لطلب دولة «جاو» ورجائها، فسوف تبادر تشين القوية الجبارة إلى الإغارة على جاو وسارت على نهجها وطالبت بأضعاف ما أعطت وتنازلت عن الأراضي ووقع عبء ذلك كله عليك فكيف يكون موقفك حينئذٍ، وكيف تستطيع أن تمنع تشين من التمادي في غيها؟» تلك هي مُعضلتك الكبرى التي لا أدري كيف ستجد مخرجًا منها.»
وهكذا فقد اقتنع شين لينجون بمنطقه، وأرسل على الفور تقريرًا إلى الملك. فأفرج عن فان تزو وأطلق سراحه.
لمَّا أهدت دولة يان لقبًا من ألقاب الشرف
أهدت دولة يان إلى «رونغ فن»، وهو من مواطني دولة سونغ اللقب النبيل «قاويان جون» [قاويان: اسم مدينة] وأرسلته على رأس جيش كثيف لمهاجمة دولة جاو، وهنالك قرر ملك جاو إهداء المدن الثلاث: لو، وقاوطان، وبينيوان الكائنة في ولاية «جيطون»، بالإضافة إلى سبع عشرة محلة آهلة بالسكان إلى دولة تشي. وكان الطلب الذي تقدمت به؛ هو أن يتولَّى الأمير «آن بنجون» قيادة جيوشها لمقاومة عدوان دولة يان عليها، وفي هذه الأثناء التقى «جاوشي» ﺑ «بينيوان»، وقال له: «هل خلت البلاد من ذوي الموهبة والكفاءة، هل وصلت البشاعة والخطر إلى هذا الحد [… حتى نطلب أمراء الجيش من الدول الأخرى]؟ فها أنت تطلب الأمير آن بنجوان لكي يتولى قيادة الجيش، ثم تتنازل عن ثلاث مدن بإقليم جيطون وبضع قرى آهلة بالسكان، وتسلم كل ذلك ليد تشي، فتلك الأماكن كانت في الأصل غنيمة معارك حصلنا عليها بعد أن دارت رحى الحرب سجالًا بيننا وبين أعدائنا، ثم إذا بك تُهديها إلى دولة تشي من أجل مبادلتها بالمدعو آن بنجوان الذي تطلب مجيئه ليصير قائدًا عامًّا للقوات، فهل أقفرت ساحات الموهبة والكفاءة ووصلت الأمور إلى هذا الحد المُزري؟ يا للغرابة! لماذا لا تتَّخذني أنا قائدًا عامًّا للقوات؟ كم قضيت أيامًا من عمري في دولة يان تكفيرًا عن ذنبٍ جنيته، وتهمة ارتكبتها، وحدث أن أوكلت إلى تلك الدولة مسئولية القيام بوظيفة مدير إقليم «شانكو» حتى صرت خبيرًا بالمواقع ذات الأهمية في البلاد بما تسلكه دولة يان من ممرات مُهمة وحيوية بذلك الإقليم، حتى إنني أستطيع في خلال مائة يوم فقط، أي في فترة يستحيل على الممالك مجتمعة أن تقوم فيها بتعبئة شاملة للقوات، أن أمدَّ بساط الاحتلال فوق دولة يان، بطولها وعرضها، فما الذي يدعوك لكي ترجو دولة تشي وتلحَّ في الرجاء بأن تبعث لك آن بنجوان لتجعله قائدًا للجيش؟» فأجابه بينيوان، بقوله: «دع عنك هذه الأفكار؛ فقد تكلمت في هذا الشأن مع جلالة الملك، ولحسن الحظ، فقد أنصت لما قلتُه جيدًا، فلا تشغل نفسك بالتفكير، ولا تعُد إلى الحديث في هذا الموضوع.» فأجابه جاوشي: «لستُ أتفق معك في هذا، وما أظنك قد طلبت حضور آن بنجوان، إلا لأنك تعتقد بأن ما بين دولة تشي ودولة يان عداء مستحكم ودم مسفوك والأمر يبدو لي على غير ما قد قررت، وإذا افترضنا أن آن بنجوان رجل أحمق ساذج، فلن يصمد أمام رونغ فن، أما إذا كان حصيف الرأي نابه الذهن، فلن يُقدِم على اشتباكٍ مع دولة يان ولن يخرج آن بنجوان عن أحد هذين الموقفَين.
وحتى إذا قُلنا إنه لا بد، آخذٌ بواحد من هذين الاتجاهين، فنتأمَّل الاتجاه الذي يتصرف فيه آن بنجوان بذكاء ومهارة، ولنتساءل، على أي عنصر من عناصر القوة الكامنة في موارد دولة جاو يستند آن بنجوان في مهاجمته لدولة يان؟ وإذا اتفقنا على أن جاو دولة قوية ذات ثقل ومهابة، فمعنى ذلك أن تشي لن تقدر أبدًا على أن تصير دولة (إمبراطورية) كبرى.
وإذ يقوم آن ينجوان على رأس قوات دولة جاو القوية الجبارة، ليرد كيد قائد جيش يان فلا بد أن المواجهة ستطول زمنًا طويلًا، يبلغ عدة سنوات، مما یعني استنفاد طاقة المسئولين والموظفين ورجال الحكم وسط الثكنات العسكرية وتحت الخنادق حتى تتهرأ الرايات [حرفيًّا: تبلى قوة البلدين، بسبب طول المواجهات والاشتباكات بينهما، وعندئذٍ ينسحب آن بنجوان بقواته عائدًا إلى البلاد بعد أن يكون قد استهلك قوات البلدين معًا إلى الحد الأقصى، وهو أمر بالغ الوضوح].»
ولم يكد ينقضي زمان طويل، حتى هاجم آن بنجوان ثلاث مدن لا تتجاوز مساحة إحداها ثلاثمائة جانغ مربع، وهكذا فقد صدق حدس جاوشي، وسارت الأمور على نحو ما توقع تمامًا.
لمَّا قامت الدول الثلاث بغزو تشين
قامت الدول الثلاث: هان، وتشي، ووي بغزو دولة تشين وقامت دولة جاو بمهاجمة جونشان واستولت على منطقة «فوليو» وبعد خمس سنوات استطاعت أن تفرض سيطرتها بالكامل على قطاع نهر «خوطو».
وهنالك تحدث «رونكو»، و«صونتو» من دولة تشي إلى «شوهاو» [رئيس وزراء جاو] قائلين له: «من الأفضل في هذه الظروف أن تبادر إلى تسليم الأراضي المحتلة حديثًا إلى دولة جونشان. وهو ما سيدعو هذه إلى مخاطبة دولة تشي قائلة إن الدول الأربع ستُطالب «ويه» بالسماح لها بالمرور عبر أراضيها لمنع (القائد) «جانزي» من التقدُّم لمهاجمة الطريق الذي ستسلكه قوات دولة يان، وعندئذٍ (وإذ تترامى تلك الكلمات إلى أسماع دولة تشي) فلن تتوانى عن أن تقدم لها أرض «قودي» [بلدة صغيرة في تشي] هدية مقرونة بالتحية.
لمَّا أوفدت دولة جاو رئيس وزرائها
أوفدت دولة جاو رئيس وزرائها «جاوتشوان» لقيادة قوات التحالف الرأسي في هجومهم المزمع على دولة تشي، فبادرت هذه إلى التنازل عن أجزاء من أراضيها، بيد أن دولة جاو كانت قد أغضت طرفها عن رئيس وزرائها «جاوتشوان» وأظهرت له الازدراء والتحقير، وعندئذٍ تحدث «تشيمنغ» [وزير عظيم بدولة جو الشرقية] إلى ملك جاو (مدافعًا عن جاوتشوان) قائلًا: «لم تبادر دولة تشي إلى التنازل عن أجزاء من أراضيها، إلا لأنها تخشى انضمام الدول إلى التحالف الرأسي، وقد بلغني أن جاوتشوان قد أصبح الآن عرضةً للهوان والاحتقار — بينما قد لمع نجم جانشين [أحد القائمين على هدم وتخريب محاولات تشكيل تحالف رأسي] ونال شرفًا ومكانة مرموقة، وهو ما سيدفع تشي إلى عدم التنازل عن أراضيها (فتأمل ذلك، وانظر ماذا تفعل!)
واقتنع ملك جاو بوجهة نظره، وقام على الفور باستدعاء جاوتشوان، وبالَغ في تكريمه وتمجيد مقامه حتى رفعه مرتبة شريفة.»
لمَّا قدم تشانجان من دولة وي
(وعلى الرغم من أن) «تشانجان» يُعد في الأصل، أحد مواطني دولة وي، إلا أنه نال حظوةً عند الملك «دياوشيان» حاكم دولة جاو، حتى أنه عرض عليه، ثلاث مرات، أن يشغل منصب رئيس الوزراء وهو يرفض بإصرار، وعندئذ، تحدث تيانسي [كبير وزراء جاو] إلى هانشيان قائلًا: «أرجو أن تسمح لي بأن أذبحه وأحطم لك عنقه. [يقصد تشانجان] حتى إذا مات وزهقت روحه، فلا بد أن جلالة الملك سيقوم بإعدام جياشين، وهو في سَورة غضبه [كان جياشين محل حظوة لدى الملك، حاكم جاو، وكان ينافسه في مكانته، المدعو تشانجان، فإذا اغتيل هذا، فسيظن الملك أن قاتله هو جيانشين وذلك لما بينهما من المنافسة على التقرب من جلالته!].
وإذ يموت جيانشين؛ فلا بد أنك ستترقى إلى منصب رئيس الوزراء. أما إذا لم يمت صاحبنا، فستتعمق بينكما الصداقة، وتدوم بينكما مدى الحياة، وهو ما سيوجب عليك الامتنان له.»
لمَّا قام «فنجي» بتزكية صاحبه لدى البلاط الحاكم
قام فنجي لدى الملك شياوشين حاكم جاو، بتزكية صاحبه الأمير «لولينغ» [أخو الملك من أمه]، فقال له: (اعلم) يا مولاي أنك بطردك الأمير «لولينغ»، خارج البلاد تبدو كمن يحاول أن يرضي دولة يان.» فأجابه الملك: «لست أهتم ولا أضع نصب عيني سوى الأحداث والمبادئ، أما بالنسبة لدولتي يان وتشين، فكيف تظن أني أخشاهما، بينما أتصرف حيالهما دون أدنى اعتبار لأي شيء من هذا القبيل؟!» فردَّ عليه فنجي، قائلًا: «أما دولة يان فقد جندت يوتشين للدفاع عن موقفها ثلاث مرات، دون أن تطرده خارج بلادك، فكيف وقد قمت بطرد «لولينغ» لمجرد أنه تكلم منافحًا عن تشين مرة واحدة فقط. أليس هذا تحقيرًا من شأن دولة تشين القوية العظمى، وتعظيمًا لمكانة دولة يان الضعيفة المتهافتة!» فأجابه الملك شياوشين، بقوله: «بل إني أفكر حقًّا، في طرده، دون اعتبار لدولة يان.» فقال له مُحدِّثه «وعلى هذا النحو فإن الأمر سيبدو، إذن، كأن طرد لولينغ لا علاقة له بدولة يان، بل سيبدو أسوأ بكثير من هذا؛ لأنه سيتضمن معنى احتقار شأن دولة يان، وسيرى الناس فيه غلظةً ومجافاة لصلة الرحم، حيث سيقال بأنك طردت أخاك (من الأم) [فتسوء سمعتك وتفقد حماس يان] وأصارحك، فيما بيني وبينك، بأن مثل هذا المسلك غير صائب.»
لمَّا تقدم فنجي بطلب مقابلة
تقدم فنجي بطلب مقابلة ملك جاو، فرتب له الموظف المسئول عن شئون العلاقات الخارجية لقاء مع جلالته فلما مثل بين يديه ركع عنده بالتحية [بأن ضم قبضة يده اليسرى والذراع مبسوطة على امتدادها أمامه، ثم قبض عليها بكف يده اليمنى، وهو مطاطئ رأسه، وليس بوضع الكفين متقابلين ومتلاصقين أسفل الذقن، كما قد يظن كثير ممن لا يعرفون أحوال المجتمع الصيني القديم] وضم قبضة يده رافعًا إياها بالتحية، وأراد أن يتكلم، فارتاع وأُرتج عليه، فلما سأله الملك عما به، أجابه، قائلًا: «(يُحكى في الروايات المأثورة) أن أحد الضيوف قد زار (المدعو) «فوتزو» واقترح عليه ترقية أحد العمال وزكَّاه عنده، وبعد أيام التقى الضيف بالمضيف وسأله عما إذا كان العامل الموصى عليه قد قصَّر في شيء مما كلفه بأدائه، فأجابه فوتزو، قائلًا: «قد وقع العامل (الذي زكيته) في ثلاثة أخطاء: (أولها): أنه كان يفغر فمه ضاحكًا كلما لقيني، مما يعنى أنه يسخر مني ويهزأ بي (وثانيها): أنه ما كان يلقبني أثناء حديثي معه، «بالأستاذ» أو «المعلم»، وهو ما يعنى أنه جاحد، منكر فضل معلمه (وثالثها): أنه ثرثار مولع بالهذر من القول، قليل المروءة في غير مراعاة للآداب والأخلاق، مما أوقعني في الحيرة والدهشة من سلوكه الشائن المعيب.» فأجابه الضيف، بقوله: «… ليس الأمر كذلك، (دعني أفسر لك الأمر على الوجه الصحيح …) فهو إذ يضحك في وجهك كلما رآك يبشُّ بك من قبيل التودُّد والتلطُّف، أما عدم مناداتك بلقب «المعلم» فلأنه یری أنك أحق بلقبٍ أسمى وأعظم من تلك التسمية العادية المُبتذلة التي جرت على كل فم دون تمييز؛ أما ثرثرته وإقباله عليك دون تكليف أو تقيُّد بحدود المعاملات الصارمة، فهذا من قبيل السذاجة التي تنطوي على الشفافية والإخلاص، وتحكي مأثورات التاريخ القديم أن الملك الحكيم «ياو» كان قد التقى ﺑ (الملك القديس فيما بعد …) شون في كوخ خشبي (حقير). فبسط له حشية من القش فوق الأرض ليجلس تحت ظلال شجرة توت وارفة، وفى هذه البقعة التي تبدلت فوقها الظلال جرى انتقال العرش الإمبراطوري من «ياو» إلى «شون» وكان «آيين» قد التقى بالإمبراطور طانغ (آل أسرة شانغ الملكية) وهو يحمل على ظهره الإناء المُخصص لتقديم القربان المقدس، وتكرم عليه جلالة الإمبراطور بألقاب الشرف والمرتبة الاجتماعية المرموقة (الانضمام إلى طبقة نبلاء البلاط الملكي الحاكم).
ولولا العلاقة الحميمة (التي نشأت بين الضيف ومُضيفه في تلك الأمثلة المذكورة) لما أمكن قيام التفاهم الودي والصلات القوية، ولما تمَّت عملية انتقال مقاليد الحكم إلى أولئك النبلاء.» فاستحسن الملك كلامه واقتنع بمنطقه، فقال له فنجي: «هناك الآن بعض من الوزراء القادمين إليك من وراء حدودك، يودُّون تعميق التفاهم معك وتوطيد أواصر الصداقة، دون سابق معرفة أو ودٍّ مقيم، فهل تأذن في ذلك؟» فأجابه الملك: «فلنتكلم، وسأصغي لك بكل احترام وتقدير.» وهنالك أفاض فنجي في الحديث عن آرائه إلى الملك.
لمَّا التقى أحد الضيوف بملك جاو
نزل أحد الناس ضيفًا على البلاط الحاكم لدولة جاو، والتقى بجلالة الملك وقال له: «بلغني أن جلالتك تفكر في شراء بعض الجياد، فهل هذا صحيح؟» فلما رد عليه الملك بالإيجاب، قال الضيف: «فلماذا تأخرت طوال هذا الوقت دون أن ترسل أحدًا؟» فأجابه الملك: «لم أعثر بعدُ على رجل خبير بالجياد.» فسأله الضيف: «فلماذا لا ترسل جيانشين في هذا المهمة؟» فأجابه جلالته: «لأن جيانشين مشغول بإدارة شئون البلاد العُليا، هذا بالإضافة إلى أنه ليس خبيرًا في هذا الميدان.» فقال الرجل: «فما الذي يعوقك عن إرسال محظيتك (الأثيرة لديك) السيدة «جي»؟ [تنطق كما في «الجيزة»]» فأجابه: «إنما هي امرأة تسكن في القصر، ولا معرفة لها بمثل هذه الأمور.» فعلَّق الرجل، قائلًا: «وما الذي يعود على بلادك من الفائدة إذا اشتريتَ جوادًا أصيلًا؟ فقال الملك: «ليس ثمة فائدة تذكر!» فقال الرجل: «وما الضرر الذي يحيق بالبلاد إذا جاء الجواد على غير ما تشتهي؟» فقال: «لا يطال البلاد أدنى ضرر من ذلك.» فسأل الضيف: «إذا كان الأمر هكذا، بحيث إن شراء جواد أصيل أو عليل لا يمس مصالح البلاد بسوء ولا يعود عليها بأي نفع. بينما تنتظر جلالتك طوال هذا الوقت مجيء خبير عارف بأحوال الجياد، فلا غرو أن تصير إدارة شئون البلاد، والنظر في أولوياتها، محلًّا للعبث والاستهتار، حتى صارت البلاد خرابًا؛ ففسد الزرع واضمحل شأن الوطن [حرفيًّا: تزلزلت أركان عبادة آلهة الأوطان والمزارع] وعدمت معابد الأسلاف النذور والقرابين، ومع ذلك فلست تسعى ترقبًا لخبير يجيد إصلاح شئون البلاد (بدلًا من ذلك المدعو جياشين) ولا أدري ما الذي يدعوك إلى التصرف على هذا النحو؟» وهنالك صمت الملك ولم ينطق بشيء، وواصل الضيف كلامه، قائلًا: «إن الطريقة المأثورة عن «قويان» في إدارة شئون الممالك (تحظى بشهرة طيبة) حتى إن البعض يطلق عليها مُسمَّى «الشجرة القرحاء» (المُصابة في سوقها بالتقرُّح) فهل تعرف شيئًا من ذلك أو بلغك نبأ عنه؟» فلما رد عليه الملك بالنفي، واصل كلامه بقوله: «إن معنى التسمية ﺑ «الشجرة القرحاء» يشير إلى أولئك الملتفين حول الملك، يكيلون له المديح والإعجاب، وهم كثير؛ منهم الوزراء والمتنفذون والغيد الحِسان والمحظيات ونساء القصور، وكلهم يجيدون انتهاز فرصة وقوع الملك في براثن النشوة العارمة إثر سماعه لنفاقهم، خصوصًا أنهم يبدون أمامه متفانين من أجل سعادته، وعلى استعداد لجلب الدنيا كلها طوع بنانه إذا شاء، وإذا قدر لهم أن يرتقوا في مراتب السلطة وجعلوا لهم شركاء من المسئولين في دوائر الحكم المختلفة، بطانة سوء، يعيثون فسادًا بلا رادع، ولذلك، فعلى الرغم مما يسطع في الأجواء من نور الشمس وضيائها تظل مخابئ الفساد والعطب منزوية تحت الظلال، ومهما ترامت أصوات التحذير من جلالته إلى المغضوب عليهم والمارقين والملعونين، إلا أن الكارثة وأُسَّ البلاء كله يبقى لصيقًا به مستظلًّا بجناح حمايته.»
لمَّا قامت تشين بمهاجمة دولة وي
قامت تشين بمهاجمة دولة وي، واستولت على مدينة «نينغ»، فذهب أمراء الممالك والدويلات لتهنئة تشين بما حققته، وكذلك أرسل الملك «هوين»، وحاكم جاو وفدًا للتهنئة إلا أن الوفد لم يتمكن من مقابلة الملك، رغم محاولته المُتكررة للقائه ثلاث مرات؛ مما أثار غضب الملك هوين، فالتفت وقال لمن حوله: «ستلجأ دولة تشين بعد استيلائها على مدينة نينغ، وإظهار مدى ما تتمتع به من القوة، أن تقوم بمعاقبة كلٍّ من: تشي وجاو. وعلى الرغم من أن الفرصة أُتيحت لكل الدويلات والممالك أن تذهب للتهنئة فإن وفدنا لم يتمكن من ذلك رغم محاولاته المُتكررة (لترتيب لقاء مع الملك) وهو ما يعني أن تشين تُدبر لغزو جاو، فأشيروا عليَّ بما ترون.» فأجابوه، قائلين: «إن محاولة الوفد ترتيب لقاء، عدة مرات، دون النجاح في ذلك، يعني أن أعضاء الوفد نفسه ليسوا على المستوى اللائق، ولا هم مناسبون للذهاب أصلًا في هذه المهمة وليس هناك أفضل لإتمام اللقاء من ذلك المدعو «ليانغي» بما اشتهر به من فصاحة وبلاغة وقدرة على الخطابة والإقناع فليجرب الملك إيفاد المذكور لإنجاز تلك السفارة.
الجزء الثاني من الفصل نفسه
صدع ليانغى بأمر الملك الذي قام باستلامه منه شخصيًّا، وانطلق مسافرًا إلى مهمته، فما إن بلغ دولة تشين حتى رفع إلى الملك خطابًا رسميًّا جاء فيه ما يلي: «قد جاءك الأمراء من شتى أنحاء الدويلات يهنئونك بما قمتَ به من مدِّ رقعة الأراضي حتى بلغتَ بها تخوم منطقة «آني»، بل إن واحدًا مثل حاكم بلادنا لا يُخفي إعجابه بمسلكك فيما بينه وبين نفسه، وقد اعتراه القلق فلم يعُد يجلس آمنًا مطمئنًّا كسابق حاله خصوصًا أنه كان قد أوفد الوفود بالهدايا لمقابلتك، ثلاث مرات، وفي كل مرة يعجزون عن ترتيب لقاء بجلالتك؛ وإذ لم يتسنَّ لهم الحصول على قراركم باستدعائهم للمثول بين يدَيك، وما لم يكونوا قد ارتكبوا جرمًا أو تقصيرًا، فأرجو من جلالتك ألا تحول بينهم وبين سعادتهم وسرورهم بلقائك، أما إذا كان ثمة ما يشينهم من عيبٍ أو خروج على القواعد والآداب الشريفة، فأنزل بهم ما يستحقونه من عقاب.» وأرسل إليه الملك من أبلغه القول إن … «كل ما أطلبه من دولة جاو هو السمع والطاعة في كل كبيرةٍ وصغيرة فإذا ما أقرت لي بذلك صار من المُمكن استقبال الوفود والمراسلات والوثائق المرفوعة إلينا، وإلا فالأولى برُسلكم ووفودكم أن يعودوا إلى بلادهم.» فرد عليه ليانغي بقوله: «ما جئت بلادكم اليوم، يا مولاي، ولا قصدت أعتابك الجليلة إلا أملًا في الفوز بتحقيق أمنية غالية بقبول توجيهاتكم الكريمة وإشارتكم الحكيمة، فكيف يخطر ببالي أن أكون سببًا في الوقوف بين أيديكم موقفًا تتأزَّم به الأمور أو تتفاقم به الشدة وتعظم البلية والمحنة؟ ويسرني بالغ السرور أن أقف على ما تأمرونني به فأصدع بتنفيذه، على الفور، دون أدنى تردُّد وبغير مراجعة مبعثها الشك أو الحيرة.»
الجزء الثالث من الفصل نفسه
وهنالك وافق الملك «شاو» حاكم تشين على اللقاء بالبعثة الوافدة من دولة جاو، قائلًا: «(إن أنسَ فلا أنسى ما حييت) ما قام به كل من «الفهد الجاوي» (نسبة إلى دولة جاو، ويقصد به النبيل «بين يانغ») وبينيوان من خداعي والاستهزاء بي، وكم أتمنى أن تعمد دولة جاو إلى هذين الرجُلين فتذبحهما ذبحًا، وهو ما لا معجز دونه، فإذا ظهر أن قتلهما أمر غير يسير، فأرجو السماح لي بقيادة أمراء الدويلات صوب هاندان حيث أقف عند أسوارها في انتظار ما تأمرون به.» فقال له: ليانغي: «إن الرجُلين اللذَين ذكرتهما يمُتَّان بِصِلة أخوية لملك البلاد؛ فهما أخواه الشقيقان تمامًا، كما هو قائم بين جلالتك وأخويك الصغيرَين «إيانغ»، و«جين إيانغ» ولا يجدر بالأخ أن يقتل أشقاءه … لا سيما أن سياستك القائمة على البر والتراحم ذائعة ومعروفة في أنحاء البلاد والممالك، وهكذا فقد عرف عنك البذل الكريم لأخويك في أمور الحياة المختلفة من ملبس ومأكل، فهما لا يرتديان إلا أفخم الثياب ولا يأكلان إلا أشهى طعام، لا يتميز أحدهما عن أخيه في شيء من ذلك، بل إنك لا تخص نفسك دونهما بأفخر رداء أو ألذ طعام، وقد قيل في المأثورات الذائعة من قديم إن … «العنقاء لن تحوم فوق عش امتدَّت إليه يد عابثة فأتلفت بيضها، ووحوش البراري لن تقرب أرضًا بُقِرت فيها بطون إناثها وذُبحت هنالك، بيد العدوان، صغارها.» ولنقل إن أعضاء الوفد سيأخذون أوامرك مأخذ الجد، ثم يعودون إلى بلادهم فينقلونها إلى قادتهم الذين سيتملَّكهم الخوف من العجز عن وضعها موضع التنفيذ، أفليس من المحتمل أن تتمخض الأحداث عن توليد انطباعات سيئة (وحزينة) في نفس أخويك «إيانغ» و«جين يانغ»؟»
الجزء الرابع من الفصل نفسه
فقال له الملك شاو، حاكم تشين ما نصه: «فما دام الأمر كذلك، فليصدر قرار باستبعادهم عن ممارسة أي سلطة عليا في البلاد.» فرد عليه ليانغ، قائلًا: «دعني أصارحك القول إن … إخوة مليكنا [من الأم] يكلفونه ما لا يطيق من الأمر، وكم بذل لهم النصح والإرشاد دون فائدة، حتى ثارت ضدهم النفوس في كل مكان، وإذا شئت أن تقوم بتخفيض رتبتهم ونزع بعض سلطاتهم بحيث يبقون بعيدًا عن الاشتراك في إدارة شئون البلاد تحقيقًا لرغباتك ما أمكن فعلى الرحب والسعة.» فسُرَّ ملك تشين بما سمع وابتهج أيَّما ابتهاج، وأقدم على الرجل فقبل هديته، وأكرمه بهدايا أثمن وأفخم، ووصله وأكرم وفادته.
لمَّا قامت دولة جاو بإيفاد ياوجيا
قامت دولة جاو بإيفاد «ياوجيا» للتفاهم بشأن التحالف مع كلٍّ من دولتي وي، وهان؛ إلا أنهما خانتا جاو بعد زمنٍ قصير ونكثتا عهدهما معها، وذهب «جيماو» إلى ملك جاو وتكلم معه (مدافعًا عن «ياوجيا») قائلًا: «إن ياوجيا هو وزيرك الأمين وأكثر معاونيك إخلاصًا، كثيرًا ما حاولَت كل من وي وهان الاستئثار به دونك، ولذلك أقدمتا على خيانة عهدهما مع جاو، بهدف إثارة غضبك ضده مما يدفعك إلى طرده خارج البلاد. فيتلقفانه ويحتفظان به لأنفسهما، فإذا ما أقدمت على نفيه الآن، يا مولاي، فكأنك تدفع الأمور باتجاه ما تنتظره الدولتان وتخططان للحصول عليه، بينما تكون قد وصمت بالعار والتهمة النكراء واحدًا من أخلص رجالك؛ ومن ثم فإني أرى من الأفضل، في هذه الظروف، العدول عن التفكير في طرده تعبيرًا عن كرم أخلاقك وسعة حلمك، فتكون بذلك قد عملت على إفساد خطة الدولتَين في اصطياد ياوجيا».
لمَّا كانت النصرة لقوات تشين على دولة تشو
أوقعت قوات تشين الهزيمة بدولة تشو في منطقة جبال «شينغ» وألحقت بجيشها وقائده «طان مين» الهزيمة والدمار التام، ووقع الرُّعب في قلب حاكم تشو، فأمر «شاوين» [رئيس وزراء تشو] بأن يصطحب معه الأمير، ولي العهد ويُحيطه بعنايته ورعايته الفائقة حتى يوصِّله إلى تشين حيث يصير رهينةً لإقرار وحفظ السلام (بين البلدَين)، وأراد الملك «أولينغ» حاكم جاو أن يفسد عليه هذه الخطة، فسارع إلى التحالُف مع دولة تشين، وأقام علاقات ودِّية مع دولة سونغ، ولم يتوانَ عن أن يرسل «تشوهاو» مُستشارًا في خدمة البلاط الحاكم هناك، كما أرسل «لوهوان» مستشارًا لدى دولة تشين.
وتمخَّض الموقف كله عن … فشل الملك «هواي» حاكم تشو، في زرع بذور الشقاق بين دولتَي جاو، وسونغ، بالإضافة إلى ذلك، فإن محاولات تصفية الأجواء بين تشي وتشو، لم تصادف النجاح، وانتهت إلى طريق مسدود.
لمَّا أرسلت دولة تشين في استدعاء الأمير
أرسلت دولة تشين في استدعاء «تشون بينهو» [أحد أمراء دولة جاو] (فما إن عبر من الحدود …) حتى قُبض عليه، وأمسى رهن الاعتقال، وتكلم في شأنه واحد من أهل تشين، يدعى «شيجوين»، وذلك بأن قصد إلى [النبيل الأعظم] «أوشينهو»، وقال له: «إن الأمير تشون بينهو، يُعَد أحبَّ الناس وأقربهم إلى قلب ملك جاو، إلا أن الموكل إليهم أمر خدمته [المُرافقين له] يحقدون عليه، وقد امتلأت نفوسهم حسدًا ومرارة، ومن ثم فقد تواعدوا بينهم بالتآمر ضده، قائلين: «إذا سِرنا بسمو الأمير إلى دولة تشين، فلا بد أن يُلقى به في غياهب السجن هناك.» وهكذا وضعوا خطتهم بحيث تقوده قدماه للوقوع في أسر دولة تشين.
وباعتقالك له، تُصبح ضالعًا في حَبْك أهم فصل في المؤامرة التي دبرها مرافقوه بالإضافة إلى إحداث القطيعة مع دولة جاو، والأفضل (من وجهة نظري) أن تدع الأمير تشون بينهو يعود إلى بلاده، بينما يمكنك أن تعتقل، بدلًا منه، كبير وزراء جاو (المدعو «بيندوهو»)، وإذ يعود الأمير إلى وطنه فستغدو له كلمة مسموعة لدى البلاط الحاكم، ولربما تكلَّم مع المسئولين هناك بشأن إهدائك مساحةً من الأرض تعبيرًا عن امتنانه لك، من ناحية، ومن ناحية أخرى راجيًا منك إطلاق سراح الوزير المعتقل لديك (بيندوهو).» فأجابه أوشينهو، بما يفيد اقتناعه بوجهة نظره.
وانتهز الملك فرصة عقد إحدى المآدب الرسمية، فدعا إليها تشون بينهو، وأغدق عليه الكثير من كرم الضيافة واحتفى به للغاية، ثم أطلق له حرية العودة إلى بلاده.
لمَّا تسلمت الملكة الأم زمام السلطة
ما كادت الملكة الأم تتسلم مقاليد السلطة في دولة جاو، حتى أسرعت دولة تشين بالإغارة على البلاد، فطلبت جاو من دولة تشي المساندة والدعم، فردَّت هذه بقولها: «لن نصدر أمرًا لأي فردٍ من قواتنا بالتحرك لمساعدتكم، إلا إذا أرسلتم لنا ولدكم الأمير «تشانغآن» رهينة لحُسن الجوار.» ولم تستجب جاو لهذا الشرط، إلا أن السادة الوزراء حاولوا إثناء الملكة عن موقِفها وأشاروا عليها بالتراجُع وبذلوا في ذلك غاية جهدهم، حتى تكلمت جلالتها إلى أقرب الوزراء منها مجلسًا، وقالت (في نبرة الواثق الجريء الذي يُدرك تمامًا ما يقوله …) «اعلموا جيدًا … أن من سيجرؤ، ثانية، على النصح لي بإرسال الأمير إليهم رهينة لضمان حسن الجوار … فسأبصق في وجهه، على رءوس الأشهاد.»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
أعرب الوزير الأعظم، المعلم الأكبر [حرفيًّا: المؤدب الأيسر أي المؤدب الجالس إلى يسار جلالته، وهو لقب شرفي يُمنح لأعظم الوزراء رتبة] «تشولون» عن أمله في لقاء الملكة الأم، فأجابت — في ترفع وإباء وغرور شديد — بأنها مستعدة لذلك، ولبثت تنتظر حضوره (فترة ليست بالقصيرة) فلمَّا دخل من بوابة القصر، هُرع إلى حيث كانت جالسة فلمَّا مثل أمامها، اعتذر طويلًا عن تأخيره قائلًا لجلالتها: «ما كنت لأقدر على الهرولة كي أصل في الموعد المُحدد، بعد أن أُصيبت قدمي بالداء الذي أبطأ عليَّ فرصة اللقاء بجلالتك؛ فلذلك أجد العُذر لنفسي فيما بدر مني، وما اضطرَّني إلى الإلحاح في مقابلتك إلا خشيتي على صحتك، ولشدَّ ما يُقلقني أن تَبَادر إلى علمي أن مكروهًا قد نال من صحتك الغالية.» فردت عليه بقولها: «لكني على ما يرام؛ لأني أستخدم العربة في كل تنقُّلاتي!» فسألها تشولون: «أما كان أجدر بجلالتك الإقلال من طعامك وشرابك؟» فأجابته، قالت: «ما عدت أقرب من الطعام سوى الحساء أتبلَّغ به ما يسد رمقي.» فقال لها: «ما عاد المرء في هذه الأيام، يجد شهيةً للأكل أو الشرب، لكني أرغم نفسي على التجوال يوميًّا مسافة لا تقل عن ثلاثة أو أربعة «لي»؛ وهو ما يفتح شهيتي للطعام مجددًا ويُذهب عني آثار الداء شيئًا فشيئًا.» وهنا قالت له الملكة: «فهذا ما لا أقدر عليه البتة.» وعندئذٍ سكن غضب الملكة وزال عنها ما كان يُظلل قسمات وجهها من آثار التبرم والضيق.
الجزء الثالث من الفصل نفسه
وهنالك قال لها «المؤدب الأيسر» الوزير الأكبر: «لي ولد يدعى شوتشي، وهو حدث صغير السن، ولا تبدو عليه مخايل النجابة، لكنه يملك عليَّ شغاف قلبي، حتى بلغت محبته عندي ما لا يزيد عليه، ولا سيما وقد صرت في سن الكهولة والضعف، ولطالما تمنَّيت أن أُلحقه بسلك الجندية ليصير ضابطًا ضمن فرقة الحرس الملكي، فلذلك تجاسرت وتجشمت كل عناء لألتقي بجلالتك وأبلغك بهذا الطلب.» فردت عليه قائلة: «فما دام الأمر هكذا، فلتُخبرني كم عمره إذن؟» فأجابها: «خمسة عشر عامًا، فما زال لم يشبَّ عن الطوق بعد، لكني أرجو أن أعهد به إلى رعايتكم قبل أن يُدركني الموت.» فقالت له: «أوَيبلغ حب الرجال لأبنائهم هذه الدرجة؟» أجابها: «بل يبلغ أضعاف ما يشعر به النساء في هذا المجال.» فضحكت الملكة وقالت له: «قد ظننت أن النساء يتفوقن على الرجال في محبتهن لأولادهن!» فقال المؤدب الأكبر: «كنت أحسب فيما تراءى لي من الظنون أن حُب جلالتك لابنتك «يانهو» [زوجة حاكم دولة يان فيما سلف] أشد من حُبك لولدك الأمير «تشانغان»!» فردت عليه، قالت: «غير صحيح بالمرة، بل إن حبي لسمو الأمير يفوق كل من سواه.» فقال لها: «أيًّا كانت درجة الحب التي يستشعرها الآباء نحو أبنائهم فمبعثها، في كل الأحوال، الأمل في مستقبلٍ آمن وحياة مستقرة، وأحسب أنك، وأنت تودِّعين ابنتك «يانهو» في يوم عقد قرانها، كنت تقبضين بكِلتا يدَيك على كعوب قدمَيها وتبكين، لما تتوقَّعين من طول الفراق بينكما، فهنالك يمتلئ القلب همومًا وأحزانًا، لكنها بعد أن سافرت بعيدًا، وبعد أن ظللت تفكرين فيها وفي مستقبل أيامها، كنت تقدمين النذور والقرابين في أن أمنياتك لها قائلة: «… لتهنأ في بيتها البعيد، فلا ترجع إليَّ أبدًا!» ألم يكن مبعث شعورك هذا الحرص على سعادتها في قادم الأيام، ألم تكوني في أعماقك، تأمُلين في أن تسعد بمستقبلها حيث يصير لها الأولاد والأحفاد الذين يكبرون مع الأيام ويعتلون سُدة الحكم أجيالًا بعد أجيال؟» فأجابته: «بلى، هو ذاك!» فواصل كلامه، قائلًا: «فلنعُد إلى صفحات التاريخ القديمة لنرجع إلى ما مضى من سيرة آل جاو، منذ ثلاثة أجيال مضت عندما أسسوا أسرة جاو الملكية التي اعتلت عرش البلاد وأورثت أولادها وأحفادها ألقاب التشريف ورُتب النبالة، فهل بقي أحد من ورثة تلك العصور يحمل رتبة النبالة حتى اليوم؟» فردت الملكة بالنفي القاطع، فعاد يقول لها: «ولندع آل جاو جانبًا ونتأمل حال الأسر الملكية الأخرى، التي أسست عروشًا حاكمة، وأقامت دويلات وأورثتها لأولادها وأحفادها، فهل بقي أحد منهم إلى اليوم في رتبة النبالة؟» فردَّت عليه الملكة قائلة: «كلَّا، لم أسمع بشيء من ذلك قط.» فقال لها: «وهل سمعتِ بأن أحدًا من ورثة العروش الحاكمة القديمة — فيما سوى آل جاو — قد ظل يحتفظ برتبة النبالة حتى اليوم؟» فأجابته: «لم يبلُغني خبر ذلك حتى الساعة.» فقال لها: «فمردُّ ذلك، فيما أظن، إلى ما لاقاه النبلاء القدامى من محن وكوارث عاجلة أطاحت بهم سراعًا أو عقبات كأْدَاء بقيت تؤرق أيامهم سنواتٍ طويلة حتى بلغت آثارها إلى أولادهم وأحفادهم من بعدهم، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بشدة هو: هل كان الأبناء والأحفاد جميعًا على الدرجة نفسها من الفساد والضعف حتى يُلاقوا المصير نفسه؟
كلَّا، ولكن الأمر ببساطة هو أنهم نالوا من رفيع المكانة والقدْر ما لا جدارة معه ولا مآثر جليلة، وجرى عليهم من الحظوظ والأموال الوافرة ما لم يبذلوا من أجله غاية الجهد، فحصَّلوا معه جلائل الأعمال، بل اكتسبوا فاخر المنال وعظيم القدْر دونما استحقاق من البذل والسعي والجهد الذي تتأتى معه الإنجازات الجديرة.
وها أنتِ اليوم تسعَين لتعظيم مكانة ولدك تشانغان، فتمنحين له موفور العطاء من الأراضي الواسعة والأموال الطائلة، دون أن تُعطيه الفرصة لينال فخر عطائه لوطنه، فيمد إلى بلاده يدَ البناء والإنجاز، لكن ما الأساس الذي يستطيع أن يستند إليه تشانغان في الزعم بمجد مؤثَّل حينما تطلُع الدنيا على نهار يومٍ يأتي بعدك بمائة عام؟
واسمحي لي، يا مولاتي بالقول بأنه ليس من الحكمة أن يكون تدبيرك لأمور ولدِك على هذا النحو من قصر النظر؛ فلذلك قلت إنك تكترثين لابنتك الأميرة «يانهو» أكثر مما تنظُرين به لشئون الأمير تشانغان.» وهنالك قالت الملكة: «إذن، فسأجعل الأمر لك في إرساله إلى الجهة التي تراها خيرًا له.» فما عتَّم الرجل أن جهز مائة عربة عسكرية وجعل على رأسها الأمير تشانغان، حيث أمره بالتوجُّه إلى دولة تشي ليبقى هناك رهينة لضمان حُسن النوايا. ثم ما لبثت قوات تشي أن بادرت إلى التحرك وفاءً بالتزاماتها.
الجزء الرابع من الفصل نفسه
أرسلت دولة تشين القائد «وانجيان» على رأس حملة عسكرية لمهاجمة دولة جاو التي بادرت إلى تعيين كل من «ليمو»، و«صماشان» لقيادة الجيش في عمليات الصمود ومجابهة الاعتداء. وقد استطاع القائد «ليمو» أن يصد جيش تشين ويثخن فيه، بل يبدِّد شمله ويرده على أعقابه، أكثر من مرة، حتى لقد تجاسر على قتل أحد القادة الكبار في جيش تشين ويدعى «هواني».
ووقعت الكراهية في قلب وانجيان تجاه ليمو، فراح يكيد له عند ملك جاو، مُستغلًّا في ذلك علاقته بالوزير المُقرب من ملك البلاد (ويدعى فوكاي) حيث أغدق عليه المال الوفير، وأقنعه بأن يذهب إلى الملك، ليقول له … «إن القائدَين الكبيرَين ليمو، وصماشان، يُدبران للتآمر مع دولة تشين ضد جاو، مقابل إقطاعاتٍ هائلة من الأراضي سيحصلون عليها لقاء تعاونهما معها.» فثار الشكُّ في قلب ملك جاو نحو قائدَيه ليمو وصماشان، فما كان منه إلا أن أرسل قائدَين كبيرَين ليحلَّا محلهما (وهما المدعوان «يان تسوي» و«جاوسون»، ثم ما لبث أن أطاح برأس ليمو، ونفى صماشان بعيدًا عن البلاد، فما كادت تنقضي ثلاثة أشهر على ذلك حتى تمكن وانجيان من انتهاز الفرصة لتشديد قبضة هجومه على جاو، بل استطاع أن يغتال قائد الجيش جاوسون، وأن يأسر ملك جاو وقائد جيشه «يان تسوي»؛ مما كان له أكبر الأثر في القضاء على دولة جاو نهائيًّا (فلم تقم لها من بعد ذلك، قائمة).