سجل هان الثاني
لمَّا قامت دولة تشو بحصار يونشي
قامت دولة تشو بحصار منطقة «يونشي» لفترة دامت خمسة أشهر، فأرسلت دولة هان إلى تشين ترجو منها النجدة، وظلت وفود الرسل تتوالى، حتى غصَّت بهم الطرقات، وعلى الرغم من ذلك، فلم تشأ دولة تشين أن تُحرك ساكنًا [حرفيًّا: لم تحرك أي قطعة من جيشها أسفل جبل شياو] فما كان من تشو إلا أن أوفدت مبعوثها «شانجين» إلى تشين، ثم إنه التقى بجلالة الملك هناك، وقال له: «إن دولة هان تنظر إليكم بوصفكم الستار الواقي والدرع الحصين والملاذ الحامي، وهي إذ تحتمي بكم تعرف قوة ومنعة جيوشكم الجرارة ومواكب الزحف التي تمضي كأسراب الشواهين بأجنحتها المشرعة وانقضاض صواعقها. وقد لاقت دولة هان اليوم من أمرها عسرًا، وواجهت شدة لا ارتفاع لها ولا مخرج منها إلا بكم، لكن جيوشكم لم تغادر سفح جبل «شياو» ولا تحركت لإنقاذها، وقد بلغني أنه إذا ما انفرجت الشفتان، تعرضت الأسنان لتيارات الهواء العاصف [إذا ما زالت عنا حمايتكم وقعنا في يد المحن، واستولى علينا الطامعون …] فأرجو أن تتدبر الأمر مليًا وتستقصي جوانبه بالتأمل اللازم!» وردت عليه الملكة (الأم) قائلة له: «قد وفد علينا الكثير من الرسل، لم أجد فيهم أحسن منطقًا، وأصح عبارة سوى «شانجين» …» ثم جرى استدعاؤه ليمثل بين يدي جلالتها، فلما أقبل إليها، ابتدرته قائلة: «كنت أقوم إلى جوار مليكنا السابق، وأُرتب له حاجاته وأرعى شئونه، فقد حدث ذات مرة أنه داعبني بأن داس على جسدي برجله، فما استطعت مُغالبته؛ لذهاب قوتي وخمود طاقتي، غير أنه عندما تمدَّد بجرمه كله فوق جسدي وجدتني قادرة على احتماله، ولم تخذلني قوتي، ولم أجد له أي ثقل، كذلك الذي كاد يفتت عظامي، أتعرف السبب في ذلك؟ إن السبب، وبكل بساطة أنه كان في المرة الثانية محل قبول وموضع احتمال مرغوب لما فيه من عوائد المتعة والنفع واللذة.
والآن، فأنتم تطلبون العون في حين عزت الأقوات، وقلت النصرة، وتضاءل عدد الجند؛ فليس من سبيل لنجدتكم، وحتى لو تصورنا أن ذلك ممكن، فإن تكاليف إنقاذكم من الخطر المحدق، ستكلفنا — يوميًّا — ما مقداره ألف مثقال من الذهب، ولن يعود علينا منها شيء من النفع أو المتعة بأي حال؟!»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
وأرسل شانجين خطابًا إلى ملك هان، (يُحيطه فيه علمًا بما جرى) فأوفد جلالته إليه «جان سوي» [«سوي» … تنطق كما في «التسويق»] وكان رجلًا معتل الصحة، لا يقطع في اليوم سوى بعض الطريق، فلما وصل إلى دولة تشين تكلم معه كانماو قائلًا: «ألم تشهد بنفسك خطورة الأحوال في دولة هان حتى تأتي متثاقلًا ومعتل الصحة؟» فأجابه: «أحوال دولة هان لم تبلغ بعد تلك الدرجة من الخطورة، وإنما صارت على وشك بلوغها الآن.» فقال كانماو: «(اعلم) أن تشين، بلد كبير ذو ثقل ومركز ورجال حكم نجباء، ولن يغيب عن فطنتهم ما إذا كانت دولة هان في مأزق أم لا، فكيف تزعم بأن الأمر لم يبلغ حد الأزمة؟» فأجابه جان سوي بقوله: «لو كانت هان قد بلغت حدود الأزمة وحافة الخطر — كما تقول — لكانت ارتمت راكعةً تحت أقدام دولة تشو وما كنت جئتكم ها هنا، أكنت أجسر على المجيء إليكم حقًّا؟» فقال كانماو: «كفى، لا تعد إلى ترديد هذا القول ثانية!» ثم إنه دخل إلى الملك، ونصح له قائلًا: «ما كان قون جون ليستطيع — وهو يمسك بزمام السلطة في هان — أن يواجه دولة تشو، إلا بالاعتماد على ما يمكن أن يتوافر له من قوات تشين، وإذ تقع «ونشي» تحت الحصار الآن، دون أن تتحرك قواتنا إلى (ما وراء) جبل شياو، فهذا يعني التخلي التام عن دولة هان، وهو ما يمكن أن يؤجِّج الشعور بالمرارة في نفس قون جون، فيهمل شأننا، ولا يكترث بالمجيء إلينا، وعندئذٍ يسارع «قونشو» بالذهاب «جنوبًا»، للتحالف مع دولة تشو وإذا ما تحالفت الدولتان، تشو وهان فلن تلبث أن تلحق بهما دولة وي، وهكذا تضع دولة تشو يدها في يد ثلاث دول فيجتمعون للتآمر ضدنا، وإذا ما سارت الأمور في هذا الاتجاه، تشكلت بالتدريج، ملامح أزمة حقيقية تنتظرنا في منعطفات، الطريق، ولا أدري أيهما أجدى لنا … أننتظر بدء هجوم لا نعرف ميعاده ولا ندرك ميقاته، أم نبادر بالهجوم؟» ووافقه الملك على وجهة نظره، وسيَّر الجيوش من تخوم جبل شياو إلى دولة هان لنجدتها.
لمَّا قامت دولة تشو بحصار منطقة يونشي
قامت دولة تشو بحصار منطقة يونشي، فأرسلت دولة هان مبعوثها «لنشيان» إلى دولة تشين تستنجدها بمدد الجند، فأوفدت إليها «كونصون مي» [كبير وزراء تشين] وقال قون جون: «أتظن أن تشين ستمد لنا يد العون والنجدة حقًّا؟ أم تتخلى عنا وتُغضي عن مساعدتنا؟» فأجابه كونصون مي قائلًا: «قد تحدث ملك تشين بغير لَبس أو غموض، قائلًا: «اذهبوا لمهاجمة تشو، على أن تسلكوا طريق «نايجين» و«لانتيان»، وسوف ندفع قواتنا ونتمركز في منطقة «سانشوان» ونبقى هناك في انتظاركم، وهو ما سيحول دون التقاء الجيشين (في نقطة مركزية).» فسأله قون جون: «وما العمل إذن؟» فأجابه: من المؤكد أن ملك تشين يحاول الاستفادة من خطة تشانغي — التي وضعها منذ زمان — (ذلك أنه عندما …) قام ملك تشو بمهاجمة دولة وي، تحدث تشانغي إلى ملك تشين قائلًا لجلالته: ستقوم بمهاجمة وي بالاشتراك مع دولة تشو، مما سيرغم وي على الإذعان والرضوخ لدولة تشو، ولما كانت دولة هان حليفة لدولة وي فسوف تتلفت تشين حولها فلا تجد أحدًا معها، وهو ما يعني العزلة التامة، ولذلك فقد رؤي أن من الأفضل التظاهر بدفع القوات لدعم الموقف المعنوي لدى وي، وتعزيز صمودها وصلابتها.» وعندئذٍ، فمن المؤكد أن دولة تشو ستقوم بحصار منطقة بيشى.» وإذ تلمس مدى صمود وصلابة وي، فسيثور غضبها، ويشتعل في قلب ملكها أوار الغيظ والتحفز، وبالتالي تقوم الحرب بين وي وتشو (وتنتهز دولة تشين تلك الفرصة) فتنقض على أرض غرب النهر وتنتزعها لنفسها وتعود من ساحة القتال غانمة راضية.
والآن، فإن دولة تشين ستزعم [من باب التظاهر والادعاء] بأنها تسعى لإنقاذ دولة هان، بينما تتودُّد سرًّا إلى دولة تشو، وتحاول استرضاءها والتقرب إليها، وإذا ركنت إلى الاعتماد على قوة وصلابة تشين، فسوف تستهين بالحرب مع تشو، وقد أدركت تشو، على نحو خفي، بأن تشين لن تساعد هان، فسوف يسهل عليها أن تقف منك موقف الند للند، أما إذا كان لك النصر على تشو، فسوف تشارك دولة تشين في انتهاز فرصة ما حل بدولة تشو من النكبة الداهمة وتقطع لنفسها الأراضي، فتستولي على منطقة سانشوان وتكتفي بعد هذه الغنيمة بالإياب، لكنكم إذا لم تتغلبوا على تشو، فسوف تقوم تشين بسد طرق الوصول إليها وإرسال حامية للدفاع عنها، وساعتئذٍ فلن يمكنك أن تجد غوثًا ولا نجدة، وهو أمر لا أرضى عنه ولا أقبله بل أجده مرذولًا ممقوتًا.
وقد طالما تنقل «صماكان» [من دولة تشين] ذهابًا وإيابًا (بين تشين ومدينة «إينغ» عاصمة دولة تشو)، وكذلك تعددت اللقاءات بين، كانماو، وشاوشيان عند منطقة الحدود، وصدر عن الجميع ما يفيد بأن دولة تشو لن تعود إلى مهاجمة دولة هان أبدًا، وفي الحقيقة فقد كان في خلفية تلك الأحداث اتفاق وتحالف آخر.» ثم تحدث قون جون — وقد تملَّكه الذعر — قائلًا: «فما العمل إذن، ما دام الأمر كذلك؟» فأجابه «قونصون مي» قائلًا: «ينبغي عليك، أولًا، استقصاء الحدود الفعلية والجوانب الواقعية الحقيقية لحجم مقدرة وقوة دولة هان، ثم تقوم — بعد ذلك — بتقدير ومراجعة ما يمكن أن تُقدمه دولة تشين من مساعدة ودعم، على أن تضع خططك وحساباتك الذاتية بعين الاعتبار، ثم تجتهد في تدبر قدر المعونة المُحتملة من جانب تشانغي، والأفضل لك في كل الأحوال أن تعمل على إقامة الوحدة بين هان وتشي وتشو، ويومئذٍ، فإن دولة تشين سوف توكل إليك مسئولية إدارة شئون البلاد، تجنبًا لما يمكن أن تتعرض له من هجوم، وتلافيًا للخطر.
وهكذا، فسيكون تشانغي، هو الوحيد الذي ستزداد الهوة بينك وبينه، فتتباعد المسافات بينكما كثيرًا، دون أن تفقد مودة وصداقة دولة تشين.»
لمَّا قام قون جون بمساعدة الدولتين
قام قون جون (بالتوسط بين الدولتَين وي وهان) للمساعدة في تبادل الأراضي بينهما، ثم إن قونشو انتقده بشدة على هذا المسلك، ومع ذلك فلم ينصت إليه، فلما أوشك قونشو أن يغادر مغضَبًا، (استوقفه) «شيتي» [كبير وزراء أسرة جو الملكية] وقال له: «إذا مضيت في طريقك وغادرت إلى ما أنت ماضٍ إليه، فسوف تتم عملية استبدال الأراضي بنجاح، وساعتئذٍ، فلن تجد مبررًا لعودتك (إذا أردت أن تعود) فتصير هزأة الممالك، وتلقى وبال أمرك، وأرى من الأفضل أن تدع الأمور تسير في مجراها الطبيعي، (وذلك أنه …) عندما تُعيد دولة هان إلى وي أراضيها فإن الخاسر في هذه المبادلة هو دولة جاو؛ وإذ تقوم دولة وي بإعادة الأراضي المُستحقة إلى دولة هان فلن يقع الضرر في ذلك إلا على دولة تشو.
وليس عليك إلا أن تقص تفاصيل ذلك على دولتي تشو وجاو، وستجدهما في أشد الامتعاض والاستياء من ذلك المسلك المذكور آنفًا، وأتصور أن دولة جاو، ستدفع بقواتها — فور سماعها تلك التفاصيل — نحو منطقة «يانشانغ» أما دولة تشو، فسوف تنزل بقواتها عند مشارف «فان تشن»، وهنالك تفشل عملية تبادل الأراضي (التي يشرف عليها قون جون) فشلًا ذريعًا.»
لمَّا قام تشي شوان بتوضيح كيفية
وقف تشي شوان [من أهل دولة هان] بين يدي ملك هان، وأوضح له كيفية استمالة دولة تشين للتحالف، قائلًا لجلالته: «اجعل قونشو على رأس حملة عسكرية قوامها مائة عربة بزعم ضرورة التوجُّه إلى دولة تشو، لمتابعة إجراءات تبادل أراضي سانشوان معها، ثم اطلب من قون جون [من جانب آخر] أن يقول لملك تشين: «قد سرت الأقاويل في «سانشوان» أن جلالتكم تريدون الاستيلاء عليها، حتى وقعت البلبلة والحيرة، وارتبكت الأحوال … بل إن ملك هان قد بلغت به الأحوال مبلغًا لا يدري معه كيف يعاين حقيقة الأمر، وعلى أي نحو يتصرف، فما رأيك في أن ترسل «شيانزي» [أحد نبلاء دولة تشين] ليقيم في دولة هان، باعتباره رهينة [لضمان استقرار الأحوال]، فلعل ملك هان يتأكد من أن جلالتك لا تسعى إلى ضم منطقة سانشوان بأي حال.» … هكذا تتمكن من إقناع ملك تشين بأن يرسل أمير الدولة رهينة مقيمة، وفي الوقت نفسه تجعل أمير تشين يشعر بالامتنان الخالص لنا.»
بعد أن وقعت معركة شيانلين
في أعقاب معركة «يانلين» تكلم «بيشان» [من أهل وي] إلى قونشو [رجل دولة هان] قائلًا: «أرجو ألا تدفعوا بقواتكم للاشتراك في الحرب، وسوف تقدر دولتا وي وتشو لكم هذا الصنيع، وتشعران بمزيد الامتنان، ثم إن دولة تشو تفكر في أن تقوم بتنصيب «قون تسيقاو» أميرًا على دولة وي، ولذلك فسوف تضطر إلى استخدام القوة والتقدم حثيثًا باتجاه وي (للتلويح بإمكانية التدخل المباشر …) فلماذا لا ترسل مبعوثًا إلى شاويان [قائد قوات تشو] لينصح له قائلًا: «لا يبدو أن الفوز سيكون نصيبك في هذه المعركة، فائذن لي أن أقوم مكانك في قيادة الجيش لمهاجمة دولة وي.» … ثم إنك لن تعجز عن أن تجد مبررًا للامتناع عن القتال، وهكذا، فسوف يذكر لك هذا الصنيع بكل الامتنان كل من أمير دولة وي، وشاويان، ملك وي.»
لمَّا قام قونشو بإيفاد مبعوث إلى
قام قونشو بإيفاد «فنجون» [من مواطني دولة هان] إلى دولة تشين، ولما كان يُخشى عليه أن يقع في الاعتقال فقد أرسل يوصي «يانشيان» بضرورة النصح لملك تشين، بأن يذهب ويقول لجلالته: «إن اعتقال «فنجون»، بهدف استرضاء «هانشن» [رئيس وزراء هان] لا يعد تصرفًا حكيمًا، والأفضل من ذلك أن تعمل على التقرب من «فنجون» نفسه، وتدعمه بما في خزائن تشين من المال، فينشر في الخافقين ذكرك ويذيع على الناس أنباء فضلك وكرمك، وعندما تنأى بنفسك عن سيطرة قونشو (ومحاولاته الدائبة على فرض سلطته وهيمنته) فسيمكنك أن تقدم المساعدة للأمير (المدعو؛ «جيسي» بحيث ترجح كفته في نزاعه على السلطة مع الأمير «جيو»).
ومن ثم تلهج الممالك بذكر مآثرك وتحمد لك فضلك العميم وكرم أخلاقك، وهو ما سيأتي على غير ما تهوى دولة هان فتفسد خطتها وتخسر ما أمَلت فيه.»
ذهب إلى قونشو من قال له
ذهب إلى قونشو من قال له: «لئن كنتَ تفكر في أن تستعيد «أوسوي» من دولة تشين، فلا يرهبنك ما تحاوله دولة تشو من إثارة القلاقل والاضطرابات في منطقة «خواي»، وأرى من الأفضل لك أن توفد إلى ملك تشو من يهمس في أذنه بالتحذير [ومن ناحية أخرى] ترسل إلى ملك تشين تطالبه بإعادة أوسوي. وإذ ترسل إلى ملك تشو رسولًا، فاطلب إليه أن يبلغ جلالته ما نصه: «قد أرسل قونشو رسولًا ذا مكانة وأهمية إلى دولة تشين يطلب منها باسم دولة هان إعادة أرض «أوسوي»، فإذا استجاب ملك تشين إلى طلبه صارت لدولة هان الكلمة النافذة والأمر المسموع لدى أقوى الممالك وأشدها بأسًا وأوفرها منعة وقوة، وعندما تستعيد دولة هان أرضها (المسلوبة) أوسوي، فسيمكنها أن تحد من نفوذ تشين، وإذ يتلاشى خطر هذه الدولة، سوف تتجه هان نحو دولة تشو بكل معاني الامتنان والعرفان، وتصير كأنها مجرد إقليم أو ولاية تابعة لدولة تشو.
أما إذا لم تستجب تشين إلى الطلب، فسوف تتفاقم العداوة بين تشين وهان، ويتنافسان على التقرب من دولة تشو.»
لمَّا تحدث المتحدث إلى قونشو
تحدث أحدهم إلى قونشو فقال له: «إذا ركبت، قاربًا، فانخرق ونفذ إليه الماء، وتعذَّر عليك إصلاحه، انقلب وغاص بك. فإذا اكتفيتَ بأن أصلحت الخرق، وأغضيت عن خطر الأمواج العاتية [حرفيًّا: «أهملت شأن الأمواج العاتية التي تحركها روح الانتقام» وقد ذكرت أسطورة قديمة أن أحد أمراء الدويلات قد انتحر غرقًا في نهر بسبب وشايات واتهام بجناية ارتكبها، وقيل إن روحه تلبَّست الأمواج وصارت تضرب بقوة كل قارب وسفين] اضطرب بك البحر وسقطتَ في القاع، فها أنت تظن بنفسك القوة الفائقة بالقدر الذي يتجاوز مقدرة شوكون، حتى أهملت شئون دولة تشين، فكأنك اكتفيت بترميم الثقوب النافذة في هيكل القارب، ونسيتَ أنك في غمرة الموج المتلاطم (الذي قد يجتاحك في أي وقت) فليتك تتأمل الأمر جيدًا، وتتبصر بالعواقب.»
لمَّا أوفدت دولة تشي مبعوثها إلى هان
قامت دولة تشي بإيفاد جوسوي [أمير أسرة جو] إلى هان، لحثها على تنصيب «هانراو» على شئون الحكم، ونبذ قونشو وإقصائه خارج السلطة، لكن جوسوي أحس بالقلق، وقال: «(من المعلوم) أن قونشو تربطه علاقات طيبة مع أمير أسرة جو، فكيف يستقيم أن أذهب الآن في بعثةٍ رسمية إلى هان لتزكية «هانراو» وإقصاء قونشو، (أما سمعتم بالمثَل السائر الذي مفاده …) «عجبًا لمن يكظمون الغيظ في الخفاء، ثم يُنفِّسون عنه جهارًا وعلى ملأ.» ولئن كان قونشو يضمر الحقد والضغينة لدولة تشي، فهذا ما لا تملك دونه أي رد فعل، لكنها ستقطع الكثير من الروابط الودية — بسبب ذلك — مع أمير أسرة جو الملكية، فتترسخ الكراهية في النفوس.» وتكلم شيشي [أحد أعضاء الوفد المرافق للبعثة إلى هان] قائلًا: «فلتذهب في مهمتك الرسمية، وسأفكر في طريقة تجعل قونشو مبجِّلًا لقدرك عارِفًا بمكانتك.» فما إن وصل جوسوي إلى هان، حتى اضطرم غيظ قونشو، فذهب إليه شيشي وقال له: «لم يكن جوسوي راغبًا — في حقيقة الأمر — في المجيء على رأس هذه البعثة، لكني أنا الذي اضطررته إلى ذلك، أمَّا تردُّده في الحضور، فمبعثه حرصه على مصلحتك واعتبار مكانتك، وما كان لي أن أحثه على المجيء إلا لأجلك، والنظر لما فيه تمام النفع لك.» ورد عليه قونشو، قال: «فاشرح لي القصد من قولك هذا إذن.» فأجابه: بلغني أن أحد رجال دولة تشي لديه كلب نبَّاح، ولطالما زجره ولم ينزجر، حتى ضجَّت الناس منه بل إنه هجم على المارة وأنشب فيهم مخالبه وأسنانه، وجاء أحد الضيوف وطلب أن يزجُره بنفسه، فوقف قريبًا منه وحدَّق فيه طويلًا وصاح فيه بلطف، فلم ينبح عليه، بل انصاع له، فزجره ثانية، فنهاه عن عض المارة ومطاردتهم.
وقد عرفت أن جوسوي كان قد قام على خدمتك زمنًا طويلًا فيما مضى، وها هو قد جاء موفدًا، رغم أنفه، في هذه البعثة، ولذلك فسوف يكتفي بأن يعرض أفكاره والهدف من مجيئه — بكل بساطة وهدوء (… وبغير اكتراث، تقريبًا) — ولا بد من أن ملك هان سيفهم أن دولة تشي [حرفيًّا: ملك تشي] لا تُعير هذا الشأن اهتمامًا بالغًا، ومن ثم، فلن تكترث بالرد عليها.
واعلم أنه لو لم يأتِ جوسوي في هذه السفارة، لجاءك شخصٌ آخر، ولربما كان هذا الآخر على غير ما ترغب، وعلى غير صلةٍ طيبة بك، ولعله أراد أن يسترضي «هانراو» ويمد يد الفضل مما كان يمكن أن يحثه على النهوض إلى بلادكم في عزم والتحدُّث بين يدي الملك بلغةٍ حاسمة وكلام جادٍّ وإرادة وافرة، بحيث يفرض سرعة الرد والاهتمام من جانب جلالته.» … وعندئذٍ قنع قونشو بما أبداه من الحجة، وأبدى ﻟ «جوسوي» الاحترام والإجلال، ثم إن ملك هان، لم يكترث — فعلًا — بأن يزكي هانراو، أو أن يرفعه درجة عالية في مراتب الحكم والسلطة.
(١) لمَّا قدَّم قونشو يد العون
قدَّم قونشو [رجل دولة هان] يد العون لكل من الأميرين «جيو»، و«جيسي» للاستيلاء على السلطة، وذهب جنشيان موفدًا — باسم ملك تشو — إلى دولة هان، (وكان أن تصرف فيما هو موكول إليه) فقضى بالتنازل عن «شين تشينغ» و«يانغ رن» ﻟ «جيسي»، تزكية لموقفه في الصراع على السلطة مع قونشو، (وهو ما كان يختلف عما يريده الملك …) فغضب ملك تشو، وأراد إنزال العقاب ﺑ جنشيان، فتكلم هذا قائلًا: «ما كنت لأتصرف في مضمون الرسالة المطلوب توصيلها، ولا كان لي أن أهدي الأرض إلى جيسي إلا لمَا رأيت فيه مصلحة البلاد، فائذن لي جلالتك بأن أفصح عن وجهة نظري في ذلك، فالأمر كله يتَّضح في أن حصول جيسي على منطقة «شين تشينغ» بكل سهولة ودون أية تكاليف، بالإضافة إلى نجاح «يانغ رن» في صراعه على السلطة مع قونشو، كل ذلك كفيل بأن يدفع …) دولة وي للانقضاض على دولة هان، التي ستجد نفسها في مأزق وكارثة، فتسرع بتسليم مصائرها ليد جلالتك، وعندئذٍ تترقَّب من يُطالب بمنطقة شين يانغ أو يطلب تسليم (الأمير) «يانغ رن»! فإذا لم يكن النصر حليف هذا الأمير ليخرج سالمًا مُعافًى فلا بد أنه سيلجأ إليك ويحتمي بك، فانظر يومئذٍ في كيفية التعامل مع مسألة تسليم الأرض (شين تشينغ).» وهنالك وافقه ملك تشو على رأيه وبَدَا منه الصفح الجميل.
(٢) لمَّا قدَّم قونشو يد العون
[يتضح أن الفقرة الأولى في هذا الجزء تتفق مع السابق عليه مباشرة (المترجم).]
قدَّم قونشو يد العون لكل من الأميرين «جيو»، و«جيسي» في نزاعهما على السلطة وتكلم جنشيان [مسئول خاص عن شئون الولاة والأمراء؛ منصب رسمي في فترة الدول المتحاربة فقط] مع جيسي، قائلًا له: «من الأفضل أن تنتهز فرصة عدم هجوم دولة تشي عليكم، فتُنحي قونشو (عن السلطة).» فأجابه: «مستحيل؛ لأن ذلك من شأنه قيام حرب أهلية، وهو ما سيؤدي إلى تقطيع أوصال البلاد.» فرد عليه جنشيان، قائلًا: «هذا أمر، إن لم تفلح في إنجازه على الوجه الأكمل صارت حياتك في خطر، فما لهذا وتقطيع أوصال البلاد (وما شأنك أنت بأحوال البلد بينما الخطر مُحدق بك؟)» إلا أن جيسي لم ينصت إليه، ولم يأخذ برأيه، وكان أن قامت قوات تشي باحتلال دولة هان، فاضطر جيسي إلى الفرار خارج البلاد.
لمَّا تكلم كبير وزراء جو الشرقية مع قونشو
تكلَّم «تشيمين» [رئيس وزراء جو الشرقية] مع قونشو فقال له: «لئن كانت دولة تشي قد طردت «جيسي»، إلا أن دولة تشو، فتحت له ذراعَيها وأكرمت وفادته، ثم إنها تفكر الآن في تحسين علاقاتها مع تشي، فلا داعي أن تطلب من ملك تشي أن يقول لملك تشو وهو يُحادثه، ما مفاده: «أرجو من جلالتك أن تطرد جيسي فيصير شريدًا بلا مأوًى.» … باعتبار أن من شأن العلاقات بين البلدَين أن تتوطَّد، وتقوم الوحدة بينهما، في حالة ما إذا استجاب ملك تشو لذلك الطلب، ولن يكون أمام جيسي إلا أن يهيم على وجهه في البلاد؛ أما إذا لم يستجب ملك تشو لما يرجوه منه حاكم تشي، فلن تنعدم تمامًا يد العون التي يمكن أن تقدمها دولة تشو لدولة هان، ولو سرًّا ومن وراء ستار.»
(١) لمَّا سعى قونشو في اغتيال جيسي
كان قونشو قد رتَّب مع أحد الأشخاص لاغتيال جيسي، فذهب إلى قونشو من نصح له، قائلًا: «ما كان يمكن لواحد مثل سمو الأمير «جيو» أن ينظر إليك بعين الإكبار والاهتمام إلا لأنه يخشى جيسي. فإذا قضى عليه الآن، فلن يبقى أمام الأمير جيو ما يؤرق أيامه القادمة، فيهمل شأنك ويحط من قدرك، وإذ يتطلَّع رجال دولة هان حولهم، فيرون جلالة الملك قد تقدم كثيرًا في السن، فسوف ينظرون إلى سمو الأمير «جيو» بوصفه الأقدر على تسلُّم زمام السلطة في البلاد، ويعترفون له بالطاعة ويتوجَّهون إليه بالتعظيم والإجلال، حيث سيحاول بكل جهده أن يستميلهم إليه ليُساندوه ويعضدوا شأنه في الداخل، وسيتزايد اهتمامه بك وتقديره لك، خصوصًا أن جيسي سيظل بالنسبة له، مصدر قلقٍ خارجي، يعمل له ألف حساب. وهكذا، فمن الأفضل ألا تقتل جيسي، بل أن تبقيه حيًّا؛ لتهدد به سمو الأمير الذي سيظل يُعظم شأنك حتى آخر يوم في حياته.»
(٢) لمَّا رتَّب قونشو لاغتيال جيسي
لمَّا رتَّب قونشو لاغتيال جيسي، وأمر به من يقتله، جاء إليه «صونهي» — مدافعًا عن جيسي قائلًا له: «ما كان ﻟ «جيسي» أن يثير القلاقل والاضطرابات إلا بالاعتماد على دعم «قون جون بن» (من داخل البلاد) ومساندة كل من: تشين وتشو، فإذا هممت بقتله الآن، رفعت عن كاهل سمو الأمير متاعبه المستقبلية، فيزدري شأنك وتسقط هيبتك من عينه، وإذ يلاحظ المسئولون الكبار أن جلالة الملك قد طعن في السن، وقد تقررت الخلافة لسمو الأمير فسوف يعملون، وإن سرًّا، على الاعتراف بطاعة سموه، ثم إن فقْد دولتي تشين وتشو لواحد مثل جيسي تساوي فقدهم لدولة هان، وبالتالي فسوف تعملان (خفية) على مساندة «بوين» الذي سيتحول إلى (نسخة مكررة من …) جيسي آخر؛ والرأي ألا تُقدِم على قتل جيسي، ثم إن «بوين» سيحتمي بك حذَر الموت ويلجأ إليك لائذًا مما يتهدَّده من خطر. وإذ يعجز كبار رجال دولة هان عن أن يَحولوا بين جيسي وبين العودة إلى البلاد، فلا بد أنهم يعجزون أيضًا عن أن يُساندوا «بوين» في إثارة القلاقل.
إن مساندة تشين وتشو ﻟ «جيسي» هي التي ستردع بوين وتكبح جماحه، هذا بالإضافة إلى أنه وقد فقد الدعم الخارجي المأمول من تشين وتشو، وخسر المساندة (الداخلية) من جانب قون جون والآخرين، فسيعجز عن إحداث الاضطرابات، وهو ما سيعود عليك بالنفع العميم.»
لمَّا تكلم أحدهم مع أخي الملكة
ذهب إلى «شين تشيجون» [أخو الملكة الأم بدولة تشين] قائلًا: «إن كلًّا من قونشو، وبوين قد بلغ بهما الخوف مبلغه، حذَر أن تقوم دولتا تشين وتشو برعاية جيسي، فما الذي يمنعك من التوجُّه إلى دولة تشو — باسم هان — للعمل على إعادته إلى البلاد بعد أن قضى شطرًا من الزمن هناك بوصفه رهينة سلام؟ فإذا استجاب ملك تشو لهذا الطلب وأعاد الرهينة إلى بلدها (دولة هان) فسيعلم قونشو وبوين أن دولتي تشين وتشو لا تكترثان بأمر بوين، وبالتالي فمن المؤكد أن تقوم الوحدة بين هان وكلٍّ من تشين وتشو، اللتَين ستدعمان هان بهدف الضغط على دولة وي، ثم إن هذه الأخيرة لن تجسُر على الاتجاه شرقًا للاتحاد مع دولة تشي، فينتهي الأمر بهذه الأخيرة، إلى أن تجد نفسها وسط عزلةٍ تامة. فاطلب مرة ثانية إلى دولة تشين أن تُوجِّه إلى دولة تشو مطالبتها بإعادة رهينة السلام إلى بلدة هان، فإذا لم تستجِب تكون قد عمَّقت من شعور الكراهية المتبادل بينها وبين دولة تشو، وإذ تتساند دولة هان على دولتي وي وتشي وتنظر بعين الكراهية نحو دولة تشو، فلا بد من أنَّ حاكم هذه الأخيرة سينظر لك بمزيد الاهتمام، ويُوليك منصبًا رفيعًا. وما دمت تجعل عمادك على ما تمدُّك به تشين وتشو من قوة وسند، بالإضافة إلى ما تُسديه لدولة هان من الأفضال الكثيرة والخدمات الجليلة، فسوف يبذل لك كل من بوين وقونشو الإجلال والتعظيم باسم دولة هان.»
لمَّا طلب خويان إلى قونجون أن يقول للملك
طلب خويان [من مواطني دولة هان] من قونجون — عند مغادرة جيسي دولة هان ذاهبًا إلى تشو — أن يبلغ ملك وي ما مفاده: اعلم أنه ما دام جيسي مقيمًا لدى تشو، فإن دولة هان لن تستطيع أن تخالف لها أمرًا ولا أن تتمرد عليها، ولماذا لا تحاول أن تساند سمو الأمير «جيو» فتطالب له بمكانة الأمير (ولي العهد) ثم تُرسل إلى ملك تشو من يقول له: «إن دولة هان قد عينت الأمير «جيو» وليًّا للعهد، متجاوزةً بذلك تعيين جيسي؛ بما يعني أن جلالة الملك يحتفظ لديه برهينة لا قيمة لها، والأفضل أن يُسارع جلالته بإعادة جيسي إلى بلاده.» فإذا ما رجع إلى هان، فسوف يُبادر إلى الثأر من دولة وي — معتمدًا على قوة ونفوذ هان — ويشكر لجلالتك صنيعك معه وأفضالك الجمة عليه.»
لمَّا هرب جيسي إلى دولة تشو
هرب جيسي إلى دولة تشو، ولمَّا كانت هذه تستعد للوحدة. مع دولة تشين، فقد أنعمت عليه بمنصب رسمي بارز، فذهب إلى ميرونغ من قال له: «ليس سوى دولة تشو هي وحدها التي تملك أن تفسد خطة قونشو، بينما تعمل على مساندة جيسي، (لكنه) قد فر هاربًا إليها، حيث ستتكرم عليه بمنصب رفيع المستوى إبان الوحدة مع دولة تشين، ولعله يوم يعود إلى هان تكون هذه الأخيرة قد صارت مجرد إقليم تابع لدولة تشو، والرأي (الذي أراه مناسبًا) هو أن تطلب إلى ملك تشين أن يتقدم بالتهنئة إلى «بوين» لتنصيبه أميرًا «وليًّا للعهد»، وإذا ما قدر لدولة هان أن تقطع علاقاتها الرسمية مع دولة تشو، فلا بد أنها ستسارع إلى الاعتراف بطاعة تشين، حيث ستحاول هذه مساعدتها للتقرب إلى وي، ولا بد أن البلدَين (تشي وتشو) سوف يقومان على خدمة أغراض تشين فيما بعد، وذلك — طبعًا — بعد ما تُلاقيان التدمير الشامل على يد تشين، باعتبار أن هذا هو النهج المعلوم في مشروع إنشاء إمبراطورية كبرى.»
لمَّا تكلم لنشيان مع أمير دولة هان
تحدث لنشيان إلى سمو الأمير «جيو» أمير دولة هان، فقال له: «بعدما هرب جيسي إلى تشو، فقد راح جلالة الحاكم، هناك، يفكر في إعادة تعيينه في وظيفة رسمية مرموقة حيث سيتولى إصدار الأوامر إلى أكثر من مائة ألف مقاتل في جيش تشو بالتمركز على مشارف منطقة «فان تشنغ» وكل ما أرجوه هو أن تدفع دولة تشو إلى الإسراع في إنشاء مدينة تتسع لعشرة آلاف نسمة إلى جوار إقليم «يونشي»، حيث ستخرج إليهم دولة هان بقواتها لتحول بينهم وبين ما يُزمعون عمله، ولا بد أنك ستكون قد تولَّيت أمر قيادة القوات، حينئذٍ، فما عليك إلا أن تساهم بقوات البلدَين هان وتشو في الوقوف إلى جانب إعادة جيسي إلى دولة هان، حيث سيشكر (هو نفسه) لك هذا الصنيع ويحمد لك تصرُّفك على هذا النحو، ولا بد أنه سيجعل لك زمام السلطة النافذة في كل من هان وتشو.»
لمَّا أوفدت دولة تشو مبعوثها إلى دولة
قامت دولة تشو بإيفاد مبعوثها «جينلي» [رئيس وزراء تشو] إلى دولة هان التي كانت قد أوشكت على إرسال «بوين» إلى دولة تشين، وهو ما كان يخشاه «جينلي»، فجاء إليه لنشيان، وقال له: «اعلم أنه بمجرد أن يصل سمو الأمير (بوين) إلى دولة تشين، فلا بد أنها ستقوم بتحديد إقامته، وتشرع في إقامة الوحدة مع دولة تشو، ليعملا معًا على إعادة جيسي إلى مكانته، وهكذا يخسر سموه موقعه (بوصفه «وليًّا للعهد»).»
لمَّا تم إقرار الأمير جيو وليًّا للعهد
تم إقرار الأمير جيو إلا أنه قُبيل التصديق على ذلك، تصادف أن أخاه الأصغر كان، وقتئذٍ، في دولة جو حيث أراد حاكمها أن يُرسل معه موكبًا شرفيًّا، يتكون من مائة عربة عسكرية لمُرافقته أثناء عودته إلى بلاده، لكنه كان يخشى أن يصل الموكب إلى دولة هان قبل أن يتم تنصيب الأمير جيو، ويبدو أنه تحدث في هذا الشأن مع كبير وزرائه «تشيمو هوي»، والذي قال له: «أرى من الأفضل أن ترسل معه مائة مثقال من الذهب وتراقب الأحوال جيدًا، حتى إذا تم تنصيب جيو بالفعل، فما عليك إلا أن تبلِّغه بأن تلك المثاقيل المائة مجرد منحة للقوات على سبيل سد النفقات؛ أما إن لم يكن قد تم تنصيبه، فأبلغه بأنها منحة لمقاومة التمرد.»
لمَّا ذهب مبعوث دولة هان إلى دولة
ذهب «شيجي» موفدًا من قبل دولة هان إلى دولة تشو، فلما مثل بين يدي ملك تشو، بادره الملك بسؤاله قائلًا: «هل تتبع طريقة ما أو مذهبًا من مذاهب السحرة أو المنجمين أو الأطباء؟» فأجابه شيجي، وقال: «نعم، فأنا واحد من مريدي الشيخ «ليتس إيقو» [أحد مواطني دولة جنغ، اشتهر في زمن الدول المتحاربة بأنه أحد حكماء المذهب الطاوي].» فسأله الملك … «وما الذي تؤمن به (حسب ذلك المذهب)؟» فأجابه: «أومن بالاسم الصادق [«المدرسة الاسمية»، فيما يبدو].» فسأله الملك: «وهل ينفع الاسم الصادق في ضبط شئون الممالك؟» فلما رد عليه المبعوث بالإيجاب، سأله الملك ثانية: «من المعلوم أن دولة تشو تزخر باللصوص، فهل يعين هذا الاسم الصادق على مقاومتهم وتطهير البلاد منهم؟» فرد عليه الرجل بالتأكيد على صحة تلك النتيجة، فسأله الملك: «وكيف يمكن استخدام الاسم الصادق في مقاومة اللصوصية؟» فما هي إلا لحظة حتى سقط أحد طيور العقعق فوق سقف القصر، فقال شيجي: «هل لي أن أسأل جلالتك، ماذا تطلقون على هذا الطائر في بلادكم؟» فأجابه الملك: «نُسميه العقعق.» فسأله الرجل: «فهل يمكن أن نُسمِّيه الغراب؟» فلما رد الملك بالنفي، قال له شيجي: «إن لديك من كبار القادة والمراتب التنفيذية والإدارية العدد الجم [حرفيًّا: لديك من المراتب الاجتماعية: رتبة جوقو (عماد البلاد) ليني — صما (قائد الخيَّالة) ديانلي …] وكل من يشغلون تلك المناصب من جملة الذين أقسموا على النزاهة والالتزام بالأنظمة والقوانين والمقدرة على القيام بأعباء الوظائف، ثم ها هي اللصوصية تجتاح البلاد طولًا وعرضًا ولا أحد يستطيع أن يكبح جماحها، فهذا أمر عجاب يكاد يُشبه قولك إن الغراب يستحيل تسميتُه بالعقعق أو إنه من غير الممكن تسمية العقعق بالغراب!»
لمَّا تولى هانكوي منصب رئيس الوزراء
تولى هانكوي منصب رئيس الوزراء في دولة هان، كما تم تعيين «يان سوي» [تنطق كما في «السويد»] في منصب مرموق — حسب أوامر جلالة الملك — وكان كِلا الرجلين متباغضَين ومتحاسدَين. وأما بالنسبة ﻟ «يان سوي» فقد كان معروفًا بالعدل والاستقامة فيما يتعلق بالشئون الرسمية، فما كان يتردَّد في انتقاد هانكوي، علنًا، والتنديد بمسلكه دون مواربة، ومؤاخذًا إياه على تقصيره وأخطائه، فما كان من هذا إلا أن حنق عليه وزجره، وسبه سبًّا قبيحًا، وعندئذٍ أسرع يان سوي إلى سيفه فانتزعه من غمده، ووثب على غريمه يريد أن يقتله، لولا تدخُّل بعض الحاضرين فحالوا بين الرجلَين وصار يان سوي من وقتئذٍ، يخشى أن يغتاله خصمه، فهرب من دولة هان، وضرب في الآفاق متنقلًا من مكان إلى آخر على غير هدى، لكنه كان — في كل مكان يحل به — يبحث عمن ينتقم له من «هانكوي» فلما بلغ دولة تشي وجد فيها من كان يقول: «يوجد بأرض «جيدي» واحد من المُغامرين الأشقياء، ويدعَى «نيجن»، ولا يفارق جماعة من الأشقياء والسفاحين حيث يُقيم معهم ببطون المغارات لأن عليه دمًا وثأرًا وهناك من يترصد للفتك به.» فتتبع يان سوي أخباره وقصد إليه وتعرف عليه وصارت بينهما وشائج الصداقة والمودة، حتى سأله الشقي ذات مرة، قائلًا: «قل لي — بصراحة — في أي أمرٍ قصدتني، وماذا تريد أن أصنعه لك (بالضبط؟)» فأجابه: «إن الأيام والساعات التي أسعدني الحظ فيها بمرافقتك والقيام على خدمتك ليست بالكثيرة التي تسمح لي بأن أطلب منك شيئًا، خصوصًا أنه لم يعُد أمامي مُتسع من الوقت (كي أنتظر أي جدوى مما قد يعنُّ لي من المصالح!)» ثم إن سوي أعد مائدة الطعام، وصب كئوس الشراب، وناول قدح خمر لوالدة نيجن، وأعطاها كيسًا مقداره عشرة مثاقيل من الذهب [حرفيًّا: أعطاها وزنة «إي» من الذهب، وهو ما يساوي أربعة وعشرين «ليانغ»، أي ألف غرام (كيلو غرام) من الذهب] إكرامًا لها وتحية، فتعجب نيجن من سعة كرمه وسخاء هداياه وعزم على ألا يقبل منه شيئًا مهما زكت قيمته، بينما أصر يان سوي على قبول هديته، فرفضها نيجن، بأدبٍ جم، قائلًا له: «إن أُمي امرأة متقدمة في السن، وأسرتي بسيطة الحال، ولا أجد ما يسد الرمق إلا أن أجوب الطرقات بحثًا عن الكلاب لأقتلها؛ فهي حرفتي التي أقيم بها أودي، وقد أظل أعمل طوال الليل والنهار لأجد ما تتبلَّغ به الوالدة العجوز، وفي الحق فأنا لا أستطيع أن أقبل عطاياك الكريمة!» وانتحى به جانبًا يان سوي — مبتعدًا عن جمهرة الجالسين — وقال له: «إن لي ثأرًا أسعى وراءه، ولطالما طُفت الممالك وجبت الأراضي والبلاد حتى قدمت إلى دولة تشي وسمعت عنك وعن شجاعتك وشهامتك، فأقبلت عليك بتلك المثاقيل من الذهب لا لشيءٍ إلا للمساهمة في نفقات الطعام والشراب في محاولة للتقرُّب إليك واستمالتك واسترضاء خاطرك، فكيف يمكن (بعد كل ما لاقيت من كرمك) أن أطالبك بالمزيد؟» فقال نيجن: «ما كنت لأتنازل عن الكثير من تطلعاتي (في حياة كريمة) وأُعرِّض نفسي للكثير من الإهانات، وأُضطر إلى العيش طريدًا في أعماق المغارات، إلا لكي أعول أمي، السيدة المُسِنة. وأعرف جيدًا أني لن أجعل حياتي رهينةً لشيء أبدًا ما دامت أمي على قيد الحياة (فقد جندت كل طاقتي لرعايتها).» وكلما ألح يان سوي في عرضه، أصر الطريد نيجن على رفض الهدية، وكان قد حان وقت انتهاء استضافة يان سوي في تلك الآونة.
الجزء الثاني من الفصل نفسه
وانقضى زمان بعد زمان، وماتت أم الشقي نيجن، وانتهت مراسم العزاء، وتوارت ملابس الحداد، وعندئذٍ تحدث نيجن، فقال: «يا ويلتي، لستُ إلا فقيرًا معدمًا يسكن أعماق كهف (للمطاريد)، ولا أجيد حرفة سوى قتل الدواب، أما يان سوي، فهو واحد من النبلاء وشيوخ الدويلات، وقد تكلف مشقة الترحال حتى التقى بي، وجاءني ينشد المودة والتعارف لكنِّي لم أبذل له التقدير الوافي، ولا قابلته بما يستحقه من الكرم والتفاني، ثم إنه عرض عليَّ هدية سخية، دون أن أبذل له المأثرة التي كان جديرًا بها، ثم إذا به يتقدم بمثاقيل الذهب هدية لوالدتي، وعلى الرغم من أني رفضت الهدية، فإنه ظل على حُسن الصلة بي والتفهم لأحوالي.
وما أظن أن رجلًا فاضلًا عفيفًا مثله قد تجشم مشقة السفر عبر المسافات الطوال ليتصل برجل بسيط، فقير مثلي، إلا لأمرٍ انطوى عليه صدره، من مراراتٍ وإحن وشجون (تتقاذف منها العين شرَر الغضب، وتغلي منها مراجل الغيظ في الصدور [هكذا، حرفيًّا)] فكيف لي أن أقعد عن نصرته، وأحجم عن التحرك لتفريج كربه لا سيما أنه قد رجاني كثير الرجاء، فيما مضى أن أُسدي له خدمات؟ فما منعني عن تلبية طلبه إلا ما أصاب أمي من ضعف السن والشيخوخة، أما وقد انقضى أجلها، فسوف أثأر لذلك الرجل الفاضل.»
ثم إنه قام واتجه غربًا صوب «يونانغ» فلما التقى ﺑ «يان سوي»، قال له: «ما منعني عن الاستجابة لطلبك فيما سلف، إلا القيام على خدمة والدتي المُحتضرة، أما وقد قضت نحبها، فقد جئت إليك مُذعنًا لطلبك … فمن هو الرجل الذي تبغي أن تثأر منه؟» فحكى له يان سوي الحكاية من أولها إلى آخرها، قائلًا: «إن غريمي هو رئيس وزراء دولة هان (المدعو) هانكوي، وهو في الوقت نفسه، عم جلالة الملك، فهو ذو حسب ونسب وعزة في أهلة وحاشيته، وتُحيطه حراسة وافرة الجند، شديدة الحرص، وقد أوكلت به من ترصد لاغتياله، فلم تفلح المحاولة، ولحُسن حظي، فلم تشأ أنت أن تخذلني، فائذن لي بأن أجهز لك المؤن والعربات التي تحملك إليه، وأبعث معك المُرافقين الأشداء والأبطال الصناديد.»
وهنالك قال له نيجن: «إن المسافة بين دولتي هان، و«ويه» ليست بالبعيدة، وإذ نخرج لقتل رئيس وزراء (هو في الوقت نفسه، عم جلالة الملك) فليس من المقبول ولا من الممكن استصحاب الكثير من المرافِقين، فمع الكثرة تقع الهفوة ويزل اللسان، وإذا زل لسان ذاع السر، عندما تروج مثل هذه الأسرار، مُذاعة على كل لسان، فستخرج دولة هان كلها، صغيرًا وكبيرًا للثأر منك، أليس هذا من موارد التهلكة؟» ومن ثم فقد اعتذر الرجل عن قبول المُرافقين والخيول والعربات، وقام مودعًا فانطلق في طريقه، وقدِم على دولة هان لا يحمل إلا سيفه، حيث تصادف انغماس الناس في أجواء الاحتفالات الكبرى [التي أقيمت بمناسبة تبادل الأنشطة مع دول صديقة، وذلك في منطقة …] «دونمن» وكان ملك هان ورئيس وزرائه هانكوي على رأس الحضور في تلك الاحتفالات وسط عدد وافر من الحراس القابضين على سيوفهم المشرعة، وإذا ﺑ «نيجن» ينطلق كأنه حربة مصوبة، فاخترق الصفوف وصعد المنصة وأعمل سيفه في جسد رئيس الوزراء الذي انتفض مذعورًا فاحتمى (بالماجد الكريم) «هاناي»، فتناوله نيجن بالسيف ولم يُخطئه وكان قد أصاب «هاناي» أيضًا، وضجَّ الحاضرون واضطرب الناس، ووقع فيهم الهرج والمرج، وزأر نيجن بصوته صارخًا بصوت كالرعد يشقُّ عنان السماء، وزاد عدد قتلاه تلك الليلة، عن العشرة أفراد، ثم إنه ضرب وجهه بسيفه فشاهت ملامحه، وفقأ عينَيه وبقر بطنه بنصل حسامه، فخرجت أمعاؤه، ومات من ساعته.
الجزء الثالث من الفصل نفسه
وكان أن عرضت جثة نيجن وهي شوهاء في الأسواق، وأعلن — في دولة هان — عن مكافأة قدرها ألف مثقال من الذهب لمن يتعرف على صاحب الجثة أو يذكر اسمه، فلمَّا عرفت أخته بالأمر قالت: «كان أخي مثالًا للأخلاق الفاضلة وكريم السجايا والطباع الحسنة، ولا ينبغي أن أُخفي شخصيتي، أو أكتم عن الناس اسم بطل شجاع كريم مع إنه لم يكن يريد هذا وهو على قيد الحياة.» فذهبت إلى دولة هان، ونظرت إلى جثة نيجن وهي معلقة في السوق، وصاحت: «يا للروح النبيل! يا للبسالة والإقدام والشجاعة التي فاقت كل ذكر وتفوقت على كل مواريث البطولة منذ أيام «منغ بن» و«شياب» و«تشن جين» [أبطال أسطوريون]! ها قد مات أخي دون أن يخلد اسمه، ومات أبواي دون أن يتركا لي سندًا آخر، ولئن كان أخي قد تعمَّد تشويه جسده قبل موته، فلأنه كان حريصًا على ألا يتطرق لي الأذى بعده أو يمسَّني أحد بسوء، ولن يهدأ لي بال طالما كتمت نبأه عن الناس وأخفيت اسم بطل مجيد مثله.» ثم إنها احتضنت جثة أخيها والدمع يتصبَّب من عينيها وهي تقول: «هو ذا أخي الطريد المُقيم بكهف جيدى.» ثم إنها قتلت نفسها بجوار جثة أخيها.
وصارت الناس في كل من دولة جين، وتشو، وتشي، وويه وغيرها من البلاد يقولون: «لم يكن نيجن وحده هو البطل في هذه السيرة، بل كانت أخته أيضًا، فتاة ذات إرادة فولاذية وشجاعة نادرة!»
وما كان يمكن أن يخلد اسم نيجن وتتناقله الأجيال اللاحقة إلا لِما أبدته أخته من جسارة في مواجهة التهديد بتقطيع أوصالها، فما تردَّدت أن تلقى في سبيل تخليد ذكره أفظع مصير.