سجل يان الأول

لمَّا سعى سوتشين داعيًا إلى التحالف

أراد سوتشين الانضمام إلى مجموعة التحالف الرأسي، فذهب إلى [الممالك الشمالية] حيث التقى ﺑ «سان أونهو»، وراح يعرض عليه فكرة الانضمام إلى المحور الرأسي، قائلًا له: «إلى الشرق من دولة يان تقع «تشاوتشيان» [الاسم الصيني ﻟ «شبه الجزيرة الكورية»] و«لياودون»؛ وإلى الشمال «لينخو»، و«لويان» وإلى الغرب: «يونجون»، «جيووان»، وإلى الجنوب يقع نهر «خوطو»، وبحر «إيشوي»، والمساحة الإجمالية تبلغ أكثر من ألفي لي مربع، ولديك من المقاتلين (لابسي الدروع والخوذات) مئات الألوف، ومن المركبات الحربية سبعمائة عربة، ومن الجياد الحربية ستة آلاف فرس، وفي مخازنك ما يكفي استهلاك عشر سنوات من القمح والذرة، وعلى حدود بلادك الجنوبية يوجد جبل «جيشي» ومنطقة «إينمن» بمنتجاتهما الوفيرة، وعلى الحدود الشمالية يمتد مناخ ملائم لزراعة التمر والكستناء، وعلى الرغم من أن العدد الجم من شعبك لا يعمل في الزراعة، فإن محصولكم من التمر والكستناء يسد حاجة الناس، ولديكم منه — كما يقول الناس — مخزن طبيعي، والأجواء العامة يسودها الاستقراء والهناء والرفاه، (داخليًّا وخارجيًّا) وليس هناك أي تهديد بالتمرد أو الانقلاب العسكري، ولم تبدر عن القادة العسكريين بادرة توحي بالتمرد ومن ثم فلم يوقَّع حكم بالإعدام ضد أيٍّ من القادة، وليس في الممالك جميعًا من يفوق دولة يان في مزاياها وجودة أحوالها. فهل يدرك جلالة الملك السبب في تميز البلاد بهذا الهدوء والاستقرار والسلام؟

إن السبب فيما تنعم به يان من نجاتها من ويلات الحرب، وغزو القراصنة وهجوم المعتدين هو قيام دولة جاو على حدودها الجنوبية كالسائر الذي يصد عنها المخاطر والنازلات. وقد وقع القتال بين تشين وجاو خمس مرات، كان النصر فيها حليف تشين مرتَين، بينما تغلبت عليها جاو ثلاث مرات، ثم إن الحرب أنهكت كِلا الفريقَين المتحاربَين، وهنالك قمت (جلالتك) بمهاجمة مؤخرة قوات جاو، ولذلك فقد أمنت بلادك شر الاحتلال. (هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى …) فإذا قامت تشين بمهاجمة يان، فستُضطر إلى عبور مناطق ينجون و«جيوان»؛ ثم المرور من أرض «دايدي»، «شانكو»، ثم تطأ بأقدام مُشاتها طريقًا طوله عدة آلاف «لي»، وحتى إذا قُدِّر لها أن تستولي على مدن دولة يان، فسوف تضع في اعتبارها استحالة الاحتفاظ بها والدفاع عنها، وهكذا فمن المُسلَّم به تمامًا عجز دولة تشين عن إلحاق الأذى بدولة يان.

وإذا أرادت دولة جاو أن تهاجم يان، فلن تمضي عشرة أيام بعد صدور الأوامر ببدء الهجوم حتى تدخل إلى منطقة «دون يوان» قوات تبلغ مئات الآلاف من المقاتلين، فتتمركز في ذلك الموقع (حينًا) ثم تعبر نهر خوطو وبحر إيشو حتى تصل إلى عاصمة يان خلال أربعة أو خمسة أيام. ولذلك فيمكن القول إنه لو أرادت تشين مهاجمة يان فستضطر إلى الدخول في اشتباكٍ قتالي على بُعد ألف لي من حدودها، أما إذا قررت جاو ذلك فسيكون ميدان القتال قريبًا جدًّا بالنسبة لها.

ولعمري، فليس أسوأ من خطة تتغافل عن الخطر القريب، وتنشغل بالقلاقل البعيدة؛ فلذلك أتمنى يا مولاي أن تدخل مع دولة جاو في حلف المحور الرأسي وأن تعمل على إقامة جسور الود والصداقة معها، واعلم أن يان ستظل في مأمنٍ من كل مكروه ما دامت في حِلف مع الأمم في رباط ووحدة.»

الجزء الثاني من الفصل نفسه

رد ملك يان قائلًا: «إن بلدنا صغير جدًّا، يكاد يتماس غربًا مع تشين القوية الجبارة، ويقترب من حدود جاو وتشي في الجنوب، وهذان الأخيران بلدان على درجة كبيرة من القوة، وإذ جمعتني الظروف الطيبة وإياك، فقد أُتيح لي أن أتعرف — من خلالك — على خطة التحالف الرأسي، فأنا أتفق معك في هذا وأرجو قبول بلدنا عضوًا في التحالف، دعمًا للاستقرار والأمان.» وكان أن أجزل جلالته ﻟ سوتشين العطاء ووصله بالهدايا الفاخرة، وقام لتوديعه في سفرة إلى دولة جاو.

لمَّا كان «ليدوي» ناقمًا على سوتشين

كان ليدوي ناقمًا للغاية على سوتشين، فلمَّا كان هذا عائدًا إلى دولة يان، فقد أرسل من أراد الدفاع عنه وتوضيح موقفه لأمير «فن يانجون» [لقب ليدوي] قائلًا: «تبدو دولة جاو وقد حازت قدرًا من الأهمية بعدما تفسخت دولتا يان وتشي. فإذا اتحدتا، فلن يبقى لدولة جاو أي قدرٍ من الاعتبار. (وهكذا …) فإن ذهابك الآن إلى دولة تشي لن ينفع جاو بشيء، وأظن أن خطتك التي تتبعها تكاد تكون مستحيلة التطبيق.» فقال له ليدوي: «من قال لك إني أريد لدولة يان أن تتَّحد مع دولة تشي؟» فأجابه: «إن من يسيطر على الشأن السياسي في دولة يان هو «سوتشين»، إلا أن يان دولة ضعيفة، لا تضارِع قوة تشي عند حدودها الشرقية، ولا توازي دولة جاو قوة ومكانة، في الغرب؛ فكيف لا يكون لها نصيب في الوحدة مع دولة تشي — شرقًا — وتبقى بمعزل عن الصداقة مع جاو — غربًا؟ وكيف تتَّخذ من سوتشين موقفًا غير ودي، ثم تتوقع منه أن يعمل على حماية دولة ضئيلة وضعيفة ومعزولة عن باقي الممالك مثل دولة يان؟ فمثل هذا الأمر يفرض بطبيعته، التحالف بين يان وتشي.

وبالإضافة إلى ذلك [فهناك حقيقة معروفة للجميع، وهي أنها دولة ليست — في الحقيقة — إلا بقايا دولة؛ ذلك أنها بعد اجتياح تشي لأراضيها في ٣١٤ق.م. قتل حاكمها]، وقام «شاو» حاكمًا عليها — بعد هزيمتها المروعة — واستمدَّ العون من الدول الأخرى، بما بذله من المال والكنوز والصلات الوفيرة، وبلغ سُدة الحكم والجاه بما عكف عليه من الإمساك بزمام الأمور وإدارة شئون البلاد؛ ولذلك (وبناء على كل ما تقدم …) فإني أرى (لو كنت مكانك) وجوب المصافاة مع سوتشين وإقامة الصلات الودية معه، سواء رأيت فيه ما يُقربك إليه أم يُحنقك عليه؛ وبذلك تُثير بذور الشك بين يان وتشي فيعظم قدر دولة جاو.

وإذا ثار في قلب ملك تشي الشك حول سوتشين، فسوف تجني الكثير من الثمار وتربح القدر الوفير من الدعم والمساندة.» ونزل ليدوي على هذا الرأي، وأوفد مبعوثًا إلى سوتشين للعمل على إقامة الصلات الودية.

لمَّا وقعت معركة شواندي

لما اسْتَحرَّ القتال في معركة شواندي، كانت الكسرة على قوات دولة يان في مرتَين متواليتَين. ولم تخرج دولة جاو لدعمها ونصرتها. وهنالك تكلم قورن مع الملك «شاو» — حاكم دولة يان — قائلًا لجلالته: «أرى أنه من الأفضل التنازل عن أجزاء من الأراضي إلى دولة تشي للمصالحة معها، وعندئذٍ، فستتحرك دولة جاو بكل سرعة لنجدتك. فإذا لم يحدث هذا، صار زمام القوة والنفوذ في يد دولة تشي، إبَّان انتصارها، وهذا سيرغم دولة جاو — في المستقبل — أن تعترف بطاعة وسيادة دولة تشي.» فوافقه ملك يان على وجهة نظره، وأوفد «قورن» للتنازل عن بعض الأراضي لدولة تشي طلبًا للمصالحة والسلام. فما إن بلغ هذا الخبر مسامع دولة جاو، حتى دفعت بقواتها لنجدة دولة يان.

لمَّا كان زمن حكم الأمير

لمَّا كان الأمير «أون» قائمًا على عرش دولة يان، فقد تم زفاف ابنة الملك هوي — حاكم تشين — إلى أحد أمراء دولة يان [صار ملكًا فيما بعد فدخل بها وصارت زوجته من وقتئذٍ]، فلما مات الأمير «أون»، خلفه على عرش البلاد (الأمير الزوج) وتسمَّى ﺑ (الملك «إي»). وانتهز الملك «شيوان» حاكم دولة تشي ظروف تشييع الجنازة في يان وإعلان الحداد، فهاجم البلاد واستولى على عشر مدن.

وذهب سوتشين لمقابلة ملك تشين ليُكلمه في شأن دولة يان، (فلما مثل بين يدي جلالته) ركع عند أعتابه مرتَين وهتف له بالأمنيات الطيبة، ثم ما لبث أن رفع رأسه إليه (وحدَّثه بكلمات تحمل معنى المواساة والتعزية، على حين لم يكن هناك ما يستدعي أجواء الكآبة والأحزان) فأسرع ملك تشي إلى سيفه فجرده، وصاح فيه آمرًا إيَّاه بالانصراف فورًا، قائلًا: «ما الذي دهاك حتى تلقي علينا كلمات التعزية والرثاء، بعد أمنيات السعادة والهناء؟» فأجابه سوتشين: «إن المرء إذا جاع لا يملأ جوفه بالسم؛ لأنه قد يسد فراغ بطنه إلى حين [هكذا] ثم يودي بالطاعم إلى التهلكة.»

والآن، فقد تبدو لك دولة يان ضئيلة وضعيفة، لكنها على أية حال، تربطها صلة مصاهرة مع دولة تشين القوية، وأراك قد طمعت في عشر مدنٍ من أرض يان، وقد نسيت أنك بذلك تجلب عليك كراهية تشين ومقتها الشديد (الذي لا قِبل لك به). فإذا أقبلت عليك دولة يان الضعيفة الضئيلة، تصُفُّ صفوف جيشها في فصيلٍ واحد مثل أفراخ النسور [هكذا]، ومن ورائها قوات تشين كالدرع الحامي والجناح الواقي، وقد جمعت لك عدة وافرة من آلات الحرب والرجال؛ أما يصير ذلك شبيهًا بما يتجرعه الظمآن من السموم وهو يظن أنه يروي غُلته!» فقال ملك تشي: «فكيف العمل إذن، وكيف يكون التصرف (في رأيك)؟» فأجابه سوتشين: «إن الحكيم إذا تدبر أمرًا، فاحتاط له كل الحيطة، كان كفيلًا بأن يُحيل الخبيث طيبًا، والنكبة النكباء إلى نفع واعتناء والانكسار المُهين إلى نصرٍ مبين. ولذلك فعلى الرغم مما لاقاه (قديمًا) أمير دولة تشين من هزيمة نكراء في موقعة دولة تساي [إشارة إلى ما حدث قديمًا من نشوب معارك بين دولتي تشي وتساي بسبب ضغائن بين حاكمي البلدين، فأعد أمير تشين الجيوش وهاجم تساي] لكنه كسب اسمًا وشرفًا ومكانة كريمة، فتحولت الهزيمة، على يديه، إلى اقتدار باهر. فإذا أخذت برأيي ونزلت على نصيحتي، فإني أرى أن تبادر فورًا إلى إعادة المحلات العشر إلى دولة يان، وتُقدم اعتذارك إلى دولة تشين، بأسلوب تراعي فيه مكانتها وتحترم سيادتها، ولا بد أنها ستعرف لك فضلك بكل الامتنان إذ تدرك أنك ما أعدتَ الأرض إلى يان إلا إكرامًا وتوقيرًا لسلطانها بين الأمم. ثم إن يان نفسها ستغدو أشد عرفانًا لصنيعك، وهكذا تكون قد تجنَّبت الإحن والعداوة والبغضاء وأقمت — بدلًا منها — المصافاة والود والعلاقة الطيبة. هذا، بالإضافة إلى ما ستبذله تشين ويان من الاعتراف بسيادتك ونفوذك، فيعظم شأنك بين الأمم، وتنهض النفوس بالطاعة لأوامرك في كل البلاد، والأمر كله لا يكلفك شيئًا سوى بضع كلمات من قبيل المجاملة الرقيقة، تخطب بها ود دولة تشين، في حين تكسب دعم ومساندة الممالك جميعًا، مقابل إعادة عشر مدن (إلى يان)، بل إن ذلك لهو السبيل حقًّا لبلوغ قمة السيادة الإمبراطورية تحت السماء، بالإضافة إلى أنه الطريق الذي تجعل به من نذير الكارثة بُشرى واعدة بالخير والسعادة، ومن الفشل المُخزي نجاحًا عظيمًا.» فتهللت أسارير الملك، وأعاد المدن إلى يان مُتبِعًا ذلك بوافر الصلات من الذهب والنفائس، حيث قدَّم شديد اعتذاره عما حدث (لكل من يان وتشين)، ثم إنه نزل على الطريق بين البلدَين وركع هاتفًا بأمله ورغبته في إقامة العلاقات الودية بينهما.

لمَّا وشى أحدهم لدى بلاط دولة يان

لمَّا ذهب إلى ملك يان من سعى في الوشاية بسوتشين لدى جلالته، قائلًا: «إن سوتشين واحد من أكثر الناس غشًّا ورياء تحت السماء (ومع ذلك …) فإن جلالتك تسرف في تدليله والتكرم عليه بالمراتب الرفيعة، وتبذل له الاحترام والتبجيل على نحوٍ مفرط وملحوظ، حتى بَدَا الأمر للناس وكأن جلالتك تتواضع كثيرًا مع من لا يستحقون، وتتنازل كثيرًا لتُصادق (واحدًا) من السفلة والأوغاد.» فلما عاد سوتشين من دولة تشي (أهمل الملك شأنه …) فلم يأمر بالاحتفاء به وإعداد ما يلزم لإقامته [كما قد جرت بذلك العادة!] فتكلم سوتشين إلى جلالته قائلًا: «كنت حين قدمت على بلادك من جو الشرقية، يا مولاي، مجرد زائر حقير الشأن، وضيع المنزلة، ليس لي ما يستحق الذكر في سجل المآثر، ومع ذلك، فقد خرجتَ جلالتك إلى مشارف العاصمة لاستقبالي، مما كان له أكبر الأثر في تعظيم شأني داخل القصر. ثم إذا عدت إليك اليوم وقد حققتُ إنجازًا طيبًا بما توصلت إليه من إعادة المدن العشر إليك، وتصفية أجواء الخطر التي كانت تحيط بدولة يان، أجدك غير عابئ بما حققتُ من إنجاز، وقد داخلك الشك والارتياب من جهتي، فلا بد من أن أحدهم أوغر صدرك، وألقى في روعك ما يجعلني موضع اتهام، لربما قد طعن فيَّ الطاعن بأني غير ذي ثقة، فلئن كان قد قيل لك شيء من ذلك، فهو أمر يُبشر بالخير على كل حال، واسمح لي أن أسألك إذا كنت توافق أن ألتزم مع جلالتك سلوك الصدق والنزاهة (التي جُبل عليها «ويشنغ» — أشهر من اتسم بالصدق، بين الناس جميعًا) وبمنتهى الأمانة (التي اتصف بها «بوييي») وخالص الطاعة والبر (على نحو ما اشتهر به «تسنغ سن»؟) فأجابه الملك بأنه يوافق بالطبع، وعندئذٍ قال له سوتشين: «(لكني) لو كنت أملك هذه الخصال ما استطعت أن أقوم على خدمتك.» ثم أضاف قائلًا: «(اعلم أني لو كنتُ جُبلت على البر والطاعة — مثل «تسنغ سن» — لما تركت أبي وأمي، بل كنت بقيت إلى جوارهما، أعمل على خدمتهما …) فكيف كان يمكن أن تُوفدني إلى دولة تشي؟ ولو كنت مثل بوييي في أمانته وزهده، لما أكلتُ وشربت، ولكنت أحجمتُ عن خدمة ملك وي بحجة أن مثل هذا العمل تشوبه الأغراض الذاتية، ورفضت مثل بوييي أن أكون أميرًا في البلاط الحاكم، وأقمت في الوديان والجبال [حرفيًّا: «جبل شويان»] فكيف كنت أملك — مع ذلك الزهد — أن أقصد إلى بلدكم [حرفيًّا: دولة يان الضعيفة، الضئيلة] البعيد، الذي يُحدِق به الخطر من كل الجوانب؟

ولو تصورت أني يمكن أن أكتسب خصال «ويشنغ» في الثقة وحفظ العهود، لكنت تصرفت مثله … (حيث ظل ينتظر الفتاة التي ضرب لها موعدًا للقاء، فلما تأخرت ولم تحضر في الموعد، ظل مكانه مُمسكًا بأحد الأعمدة أسفل الجسر، حتى فاض النهر فأغرقه وهو واقف مكانه منتظر فتاته) وما كنت أتيت مناصرًا لرفعه شأن دولتَي يان وتشين، وبذلت في كل جهدي، حتى صار بمثابة الإنجاز الأكبر الذي أعتز به كثيرًا!

ثم إن أولئك السالكين بخصال الإخلاص والثقة إنما يصدرون — في ذلك — عن رغبة في امتلاك صفاتٍ طيبة، وليس عن مراعاة حقيقية لمصالح الآخرين، ومن ثم فهو جهدٌ شخصي غايته اجتلاب الرضا عن النفس، وليس محاولة للارتقاء والتعلم والنهوض بإمكانات الترقي والتطور.

(ومن المعلوم …) أن الملوك الثلاثة الذين تعاقبوا على عرش المجد، والإمبراطوريات الخمس التي أخذ كل منها بنصيب وافر من الرقي والازدهار، لم يكونوا جميعهم يطمحون إلى إرضاء أنفسهم (… العمل لما فيه تحقيق غاياتهم الذاتية)، ومع ذلك فها أنت تريد أن تسلك ذلك الطريق (فهل يصح هذا، وهل هو مما يجدُر بك؟) وعلى أية حال، فلو كنت تستهدف الشعور بالرضا عن النفس … فلا أظنك تستطيع أن تدفع بقواتك أبعد من منطقة «إينغ تشو»، بل لا أعتقد بأنك يمكن أن تتجاوز حدود دولة تشو [هكذا] ولن تستطيع أن تمد عينيك وأذنيك [حرفيًّا: تتجسس على …] خارج أسوار بلادك.

وفوق كل ما تقدم، فقد فارقت والدتي وهي شيخة مُسنة، وحللت عليكم عاملًا في خدمة جلالتكم، وقد خلفت ورائي كل غرض في الرضا عن النفس، لا لشيء إلا (للعمل على النهوض بالأمم، وإيقاظ حافز التقدم والتطور) وهكذا فإن طموحاتنا وأهدافنا تختلف في هذه النقطة باعتبار أن جلالتك تسعى للرضا عن نفسك، أما أنا، فمجرد وزير يجتهد (في الحث على) التطور؛ فهذا هو ما يُطلقون عليه ما صفته: (… الإساءة إلى جلالة الملك بواسطة المزيد من الإخلاص والتفاني في حفظ العهد).»

الجزء الثاني من الفصل نفسه

وتكلم ملك يان فقال: «وكيف يمكن أن يكون في الإخلاص وحفظ العهد ما يوجب الأذى؟» فأجابه سوتشين: «ألا تعرف أن من الإخلاص وحفظ العهد ما يعود بسوء العاقبة؟ إن لي جارًا يعمل في إحدى الوظائف الحكومية ببلد بعيد، وحدث أن نشأت علاقة سرية بين زوجته وأحد الأشخاص، فلما عاد الزوج، وقع القلق والارتباك في نفس الرجل الآخر ذي العلاقة السرية، وقالت له الزوجة: «لا عليك، دعك من القلق، فقد أعددتُ له قدح الدواء (بعد أن أفرغت فيه السم).» فلما عاد الزوج بعد يومين، طلبت الزوجة إلى الجارية أن تذهب بالقدح إلى سيدها، وكانت الجارية تعرف أن الدواء مسموم وأن جرعة واحدة منه ستودي بحياة الرجل، فهي إن أعطته إياه، فهو مقتول من ساعته وإن أفشت إليه أمر زوجته، فسيطردها خارج البيت، فلم تجد إلا أن تتظاهر بأن قدمَيها تعثرتا، فانبطحت على الأرض فانكسر القدح، وصاح بها سيدها وضربها ضربًا مبرحًا، لكنها استطاعت بما فعلته أن تُنقذ الرجل من الموت المحقق، وتحمي الزوجة من الطرد والتشرد والضياع، وعلى الرغم من إخلاصها لأسيادها فلم تنجُ من آلام الضرب الموجع فذلك ما يقال له: «جناية المرء على نفسه باستجلاب حتفه بظلفه (اقرأ … بإخلاصه).»

فكذلك أجدني، بما قدمت يداي، أقرب شبهًا بما فعلته الخادمة من إلقاء قدح السم (فيما حدثتك به الساعة) وليس هذا بالشيء الغريب، فقد قمتُ على خدمتك واجتهدت في الإخلاص لك والتفاني في القيام على شئونك وتعظيم مكانتك، راجيًا أن يكون الإخلاص موجبًا لما فيه النفع والخير للبلاد، وها أنا ذا أجد عاقبة أمري قد انتهت إلى الخسران وأخشى أن يمتدَّ أثر ذلك إلى القادمين لزيارتك والعمل في خدمتك من الوزراء والخبراء، فعساهم (وقد عرفوا ما لحق بي) أن يحجموا عن انتهاج سبل الإخلاص والثقة والتفاني في القيام على شئونك وتعظيم قدرك، ثم إني — لمَّا سافرت إلى تشين (داعيًّا للخطط السياسية)، فقد تحدثت إلى المسئولين هناك بكل صدق وصراحة؛ فلم أخدع أحدًا ولم أتحايل بالغش والخديعة على أي فرد، فإذا تصادف أن ذهب إليها — من طرفك — من تحدثوا إلى المسئولين هناك بغير ما انتهجته معهم من الصدق والإخلاص، فلن أكون ملزمًا باتباع مسلكهم، حتى لو كانوا من الحكماء والقديسين …(أمثال «ياو»، و«شون»).»

لمَّا عمل تشانغي على هدم التحالف

عمل تشانغي (مراعاة لمصالح تشين) على هدم التحالف الرأسي والدعوة إلى التحالف الأفقي بدلًا منه، وكان أن تحدَّث إلى ملك يان قائلًا لجلالته: «من بين كل البلاد التي وثَّقت علاقتك بها، فإن جاو هي الأفضل على الإطلاق. وكان الملك شيانغ (حاكم جاو) قد زوج ابنته بأمير أرض «طاي» رغبة منه في ضم تلك المنطقة، وحدث أنه اتفق على لقاء صهره لدى المنطقة المنيعة بجبل «تشيجو». وهنالك فقد أمر العمال وأصحاب المهن بأن يصنعوا له قمعًا من النحاس (لصبِّ الخمر) على أن يكون مقبضه طويلًا للغاية، على درجة شديدة من الصلابة، بحيث يمكن استخدامه (إذا ما دعت الحاجة) للضرب والقتال. وجلس مع أمير طاي يشربان الخمر، وقد همس في أذنَي النادل قائلًا: «إذا ما لعبت الخمر بالرءوس، فهات لنا أقداح الحساء الساخن، ثم ارفع مقبض القمع وانزل به على رأس الأمير فاقتله وأجهز عليه.» فلما راقت الخمر وصفا الشراب واهتزت الرءوس بالنشوة، طلب الملك أطباق الحساء، فدخل الطاهي بأوعيته وأدواته، وما هي إلا لحظة حتى هوى بالمقبض الصلب على رأس الأمير، فصدع يافوخه، ونثر دماغه فوق الأرض، فلمَّا سمعت أخت الملك بخبر موته تناولت دبوسًا مريبًا كانت تشبكه في شعرها، فغرسته في عنقها فماتت منتحرة؛ ولذلك فقد (ظل أحد الجبال — حتى اليوم — يُسمى ﺑ «جبل موجي» [أي جبل الدبوس المدبب]) ولا يخفى سر التسمية عن الجميع، بما فيهم المُقيمين لدى سفح الجبل المذكور.

ما أشبه ملك جاو بالذئب المنهوم (الذي لا يرده عن الافتراس أي اعتبار) حتى تناءت الناس عنه، وتنكب طريقه السائرون، وهو أمر لا يخفى عن جلالتك (مثلما لا تخفى عنك أسبابه) فكيف بك وأنت تريد مصادقته وتوطيد الثقة معه؟ قد سبق لدولة جاو أن أعلنت الحرب على يان وحاصرت أسوار العاصمة مرتين على سبيل التهديد وإلقاء الرعب في نفس جلالتك، ولم تنسحب إلا بعد تنازلك لها عن عشر مدن، وقد توغل ملك جاو في منطقة «ميناشي» يريد السفر إلى دولة تشين؛ بغية إهداء حاكمها أرض «هجيان» (ما بين الأنهار) استرضاء لها، واعترافًا بطاعتها، فإذا عنَّ لك التغاضي عن خدمة تشين، فسوف تُرسِل جيشًا يقتحم (مناطق) «وينجون» و«جيوان» فيطرد قوات دولة جاو، تمهيدًا لمهاجمة يان. فمن ثم تفقد نفوذك فوق أرض «إيشوي» و«تشان تشنغ» [السور الأعظم] ثم إن ملك جاو، يبدو وكأنه مجرد موظف لدى بلاط تشين، وبالتالي فلا يملك قرار الحرب والهجوم (كيفما شاء، وحسب ما يحلو لجلالته …) فعليك بالإسراع إلى تشين معترفًا بطاعتها ومكانتها فتسعد بك وتتهلل بذهابك إليها وتصبح أثيرًا لديها، ربما أكثر من ملك جاو، الذي لا يكاد يملك من زمام أمر الحرب شيئًا، وهكذا، تجد دولة يان العون من الجهة الغربية (حيث تقع تشين الزعيمة القوية) أما في الجنوب فيكمن الخطر (حيث تقع الدولتان تشي، جاو)؛ ولهذا فأرجو أن تتأمل الأمر جيدًا.»

ثم ما لبث ملك يان أن قال: «نحن نقيم بأقصى أطراف البلاد (حيث الهمجية والوحشية أكثر انتشارًا) ورجالنا أشبه بالأطفال، (ليست لهم مهابة الرجال ولا أفكار الناضجين الذين تقودهم عقولهم نحو الوعي السليم والرأي الصحيح) وليس لهم من الحكمة ما يحسمون به أمر بلادهم وحياتهم، ولئن أتاح الحظ أن أستنير بحكمتك وأستمع إلى نصائحك القيمة، فاسمح لي بأن أطلب إليك المساعدة بشأن التوجُّه غربًا، لتقديم اعترافنا بسيادة دولة تشين، بالإضافة إلى ما قد نويته من إهدائها المدن الخمس الكائنة بالقرب من جبل هوان.»

لمَّا ذهب «كونتا» موفدًا إلى دولة

ذهب «كونتا» [من دولة جو، لكنه كان — وقتئذٍ — يشغل منصبًا حكوميًّا رفيعًا بدولة يان إلى دولة وي، موفدًا في مهمة خاصة لخدمة دولة يان، وحدث أن ملك وي لم يقبل منه ما جاء بشأنه (لم يأخذ بما عرضه عليه من خطط سياسية) بل إن جلالته حبسه عنده عدة أشهر، فذهب أحد الضيوف (النازلين — رسميًّا — لدى بلاط وي) إلى الملك، وقال له: «لماذا لم تنصت إلى مقالة مبعوث دولة يان؟» فأجابه: «لأن يان ما لبثت أن وقعت بها اضطرابات داخلية.» فرد عليه الضيف: «لمَّا أراد الملك طانغ (آل شانغ) مهاجمة الطاغية «جيه» (آل شيا) فقد كان يرجو وقوع اضطرابات داخلية في دولة شيا، فمن ثم كان وقوع مثل تلك القلاقل مُشجعًا للدول الأخرى على اقتطاع أجزاء من أراضيها، أما البلاد التي تتعرض لعدة اضطرابات خفيفة، فمن السهل مُساومتها للحصول على كنوزها وثرواتها النفيسة، وها هو ذا «كونتا» لا يفتأ يُردد جملة مفادها: مهما تطلب الأمر، فأنا على استعدادٍ لعمل أي شيء يُطلب مني مقابل إقناع ملك وي بالاستماع إلى آرائي، حتى لو تطلَّب الأمر أن أبذل لجلالته أنفس الجواهر، أو أن أحصل له على أي قدر من الأراضي … فلماذا لا تستدعيه بنفسك (وتستمع إليه؟)» فتهلل وجه ملك وي، وأمر باستدعاء الرجل، ثم سمح له بالعودة إلى يان.

لمَّا سافر سوتشين شمالًا لمقابلة

[في نسخة أخرى ورد ما نصُّه: «مات سوتشين، فأكمل أخوه مسعاه وسافر إلى يان.» … وهو تدوين غير صحيح وسيرة باطلة، والنص الصحيح هو ما نذكره فيما يلي … (المحققون)].

سافر سوتشين شمالًا؛ لمقابلة جلالة الملك «تشاو» حاكم يان، وقال لجلالته: «لست، يا مولاي، سوى رجل بسيط من دولة جو الشرقية، وقد بلغني، على نحو خفي، ما تناقله الناس عن شريف توجهاتك وعظيم أفكارك التي تلائم طبائع البشر، وتنسجم مع فهمهم وأقدار عقولهم، ولمَّا كنت غفلًا ساذجًا لا أكاد أصلح لشيء، فقد ألقيت بالفأس والمنجل جانبًا، وهرعت إلى أعتابك السنية، متجاسرًا على طلب اللقاء بك، فلمَّا بلغت (العاصمة) هاندان، سمعت الأفواه تلهج بالثناء عليك، وبلغني ما أثار بي الشوق للحضور إليك فحزمت أمري، وثنيت عنان العزم إلى أبواب قصرك، فلما طالعت أحوال وزرائك والعامِلين مع جلالتك أيقنت أنك مكين الرأي، صائب الحكمة.» فرد عليه الملك، قال: «فما هي الطريقة التي تؤكد لك أن المرء مكين الرأي، صائب الحكمة (على حد قولك)؟» فأجابه: «قد بلغني أن الرجل السديد الرأي، ذا الحكمة والبصيرة السليمة لا بد من أن يتعلم من أخطائه، لا من شواهد أقداره وحُسن بلائه، ولتأذن لي بأن أذكر طرفًا مما وقعت فيه من أخطاء، فقد كانت دولتا تشي وجاو، من ألد أعدائك، بينما كانت تشو، ووي من أحسن أعوانك، وإذا بك — اليوم — تعترف بسيادة ونفوذ أعدائك وكارهيك، ثم تهاجم مسانديك ورفقاءك، وهو ما لا نفع فيه لبلادك، فتأمَّل قليلًا ذلك المسلك، تكتشف ثغراته وهفواته؛ وإذ لم يسبق لأحد من وزرائك مفاتحتك في ذلك وإبداء النصح السديد لك، لا أظنهم أخلصوا الخدمة والعون كما ينبغي.» فقال الملك: «(اعلم) أني لا أضمر أية نوايا لمهاجمة تشي وجاو.» فقال شوتشين: «لكن إثارة الشك لدى الآخرين دون سندٍ حقيقي من التخطيط ضدهم يعد مسألة على جانب كبير من الخطورة (وبالمقابل فإن …) تدبير الخطط ضد الآخرين (وترك الأبواب مفتوحة أمامهم للاطلاع عليها …) يعد من قبيل الحماقة الشديدة؛ كما أن اطلاع أطراف خارجية على تخطيط لم يدخل حيز التنفيذ، يُعتبر من أخطر المخاطر جميعًا.

وقد عرفت أنك لا تهنأ بأوقاتك، ولا يلذ لك طعام، لما يشغل تفكيرك من الرغبة في الانتقام من دولة تشي، حتى إنك قد أعددت درعك بنفسك [استعدادًا لساعة المواجهة] وأخذت تُخاطب السماء بأن تنتقم لك في الموعد القريب، وأمرت زوجتك أن تساعدك في إعداد الملابس المناسبة للقتال فهل هذا صحيح؟» فأجابه الملك: «ما دمت قد سمعت طرفًا من ذلك الخبر، فلن أخفي عليك شيئًا؛ فقد تعمقت الكراهية بيني وبين دولة تشي، وقد مرت عليَّ سنتان وأنا أفكر في الانتقام؛ وأذكر لك بوضوح وصراحة أنها خصمي اللدود؛ فلذلك أفكر في الانقضاض عليها، ولا يمنعني من ذلك سوى ضعف أحوال البلاد، وتواضع حجم قواتها، فإذا استطعت أن تقدم لنا يد العون في الانتصار على تشي، فسوف أطلق يدك في شئون البلاد (وأجعل بيدك زمام أمورها).»

الجزء الثاني من الفصل نفسه

وأجابه سوتشين، قال: «إن عدد البلاد المحاربة (التي تحت السماء) لا يتجاوز السبعة (الكبار الأشداء) الأكثر قوة — من بين الممالك جميعًا — ودولة يان هي أقلهم قوة ولن تكسب حربًا لو دخلتها منفردة، أما إذا كان لها السند الذي تتقوى به فلن تعدم الغلبة ففي الجنوب دولة تشو ذات الأهمية البالغة، وفي الغرب توجَد تشين بكل ما تنعم به من أنوار القوة والرهبة اللامعة، فلا تُخطئ مكانتها العين، وإذا اتخذت لك نصيرًا من المنطقة الوسطى، فهناك وي وهان، حيث لا تنقصان قدرًا وقوة، وبالإضافة إلى ذلك فلو كانت الدولة التي تنوي الاعتماد عليها تملك — حقًّا — مقومات الفوز بالمكانة الجديرة واللائقة بين الممالك، فسوف يعود عليك ذلك بكثير من التقدير أيضًا (وإذا تأملنا أحوال دولة تشي، الآن، لوجدنا أن …) حاكمها قد صار شيخًا مسنًّا، أهلكته الحرب — التي خاضها بمفرده — مع دولة تشو، لا سيما بعد قتالٍ دام أكثر من خمس سنوات، تبدَّدت فيها الأموال وحواصل الغلال، هذا بالإضافة إلى محاصرته لدولة تشين — غربًا — لمدة بلغت ثلاث سنوات، حتى نزلت بشعبه أسوأ الأزمات، وعانت قواته الإنهاك وعسر الأحوال، ثم إذا اتجه شمالًا لحرب دولة يان، عاث فيها وفي تخريبها مدة ثلاث سنوات، وقام بأسر اثنَين من أحسن قادتها العسكريين (ولم يكتفِ بذلك، بل قصد نحو الجنوب حيث …) اتجه بما تبقى من قواته لهزيمة دولة سونغ (القوية التي كانت تملك خمسة آلاف مركبة عسكرية). فاحتل نهر «هواي» وعشرين دولة تقع بين نهري هواي و«سيشوي» وكان ذلك كله من جملة ما طمح ملك تشي إلى تحقيقه، لكني لا أعرف كيف سيمضي في مشوار هجومه واحتلاله لأراضي الغير بعد أن أصاب الإنهاك شعبه، فتدهورت قواه وانحلت عزائمه! لا سيما وقد قيل إن طول أمد الحرب وكثرة المعارك تورث الناس الضنك والسأم، بالإضافة إلى ما تجنيه على القوات المتحاربة من الفتور والتعب.»

الجزء الثالث من الفصل نفسه

وقال ملك يان: «قد بلغني أن دولة تشين تتميز أرضها بوجود موانع طبيعية تتمثل في نهري جيشوى والنهر الأصفر، كما أن لديها المناطق الحدودية الآمنة بما قام بها من حصون دفاعية طبيعية مثل السور العظيم «وجيوفانغ» [الباب الدفاعي] فهل هذا صحيح؟» فأجابه سوشتين: «ما لم تسنح الفرصة الملائمة (ويكون المناخ الطبيعي مواتيًا وعنصرًا فاعلًا في الدفاع عن البلاد) فما فائدة الأنهار والبحار (بوصفها موانع طبيعية)؟ وإذا ضعفت روح المقاومة وانحطت الهمم والعزائم (لدى الناس) فما النفع في الحصون والأسوار والجبال والحدود الدفاعية الآمنة؟ وقد كانت المنطقة الواقعة غرب نهر جيشوي، فيما مضى من الزمان في مأمنٍ من الهجمات المعادية (بما أخذت من أهبة الحذر والحيطة ضد إمكانية الاختراق من جانب دولة جاو) وكذلك كانت المنطقة الكائنة شمال النهر الأصفر بعيدة عن كل نُذر الخطر، بسبب ما اتُّخذ من إجراءات للسيطرة على الفوضى الداخلية.

إن الطغاة والمُستبدِّين من حكام الممالك لن يكترثوا لتدبر الخطط الدقيقة، كما أن رجال الدول المُفككة والمُتداعية سيتكالبون على النهب والسرقة (دون أن يردعهم رادع)، فإذا كنت يا مولاي ستُهمل شأن إخوتك وتفرط في جانب الرحمة والعناية بأولادك وتسلمهم إلى دولة تشي بوصفهم رهائن سلام، وتقدم الهدايا النفيسة رشوة لرجال البلاط في تلك الدولة، فهي لن تنسى جميلك، وستقدر مسلكك بكل امتنانٍ ويسهل عليها — بعدئذٍ — الفتك بدولة سونغ، وهو ما يعني أيضًا، أنه سيُصبح من السهل على دولة يان أن تقوم بتدمير تشي.» وهنالك قال له ملك يان: «قد أدركت أخيرًا أنك تتصرف بإلهام وتقدير سماوي.» فرد عليه تشانغي قال: «إذا ما استفحلت الاضطرابات، في الداخل، واشتد التنازع وعمت الفرقة، عجز الجميع عن مقاومة العدوان الخارجي وليس عليك يا سيدي، سوى أن تحاول مقاومة دولة تشي، ومن ناحيتي، فسأحاول بشتى الطرق أن أزرع الفتنة والخلاف داخل دولة تشي نفسها، وفي عقر دارها، فتنبت عوامل الاضطراب والفوضى، ومن ثم تتهيأ الظروف لتدميرها، فلا تقوم لها، بعد ذلك، قائمة.»

لمَّا تولَّى الملك «كواي» العرش

بعد أن تولَّى الملك «كواي» عرش الحكم في دولة يان، وردت الأنباء من دولة تشي بأن سوتشين قد قُتل، وكان المذكور — أثناء إقامته بدولة يان — قد دخل في علاقة مصاهرة مع رئيس وزرائها «تسيجي»، وكذلك صار أخوه «سوداي» من أقرب الناس مودة لرئيس الوزراء، فلما مات سوتشين، أسرع الملك شيوان — حاكم تشي — بتعيين سوداي في وظيفة رسمية، وفي العام الثالث من حكم الملك «كواي» قامت دولتا يان وتشو، بالاشتراك مع الدول الثلاث: هان وجاو، ووي بمهاجمة دولة تشين، ثم إنهم لاقوا هزيمة منكرة، وانقلبوا خاسرين، وكان «تسيجي» وقتئذٍ، رئيسًا لوزراء يان، حيث كان مهيمنًا على الأحوال قابضًا على زمام الأمور، سائرًا بالبطش والاستبداد في الرعية (وفي ظل نفوذه ورئاسته) تم إيفاد سوداي إلى دولة يان، ممثلًا لدولة تشي، فلما مثل بين يدي ملك يان سأله جلالته قائلًا: «كيف حال الملك شيوان؟» فأجابه: «لا أظنه قادرًا على ارتقاء ذُرى السلطة النافذة فوق الممالك.» فلما سأله الملك عن السبب في قوله هذا، أجابه: «لأنه لا يثق في وزرائه.» وكان سوداي يقصد بذلك أن يحث ملك يان على الاهتمام بأمر تسيجي وتعظيم قدره، وهو ما انتبه إليه جلالته بالفعل، وأولاه ثقته. فلم ينس تسيجي هذا الفضل وبذل ﻟ سوداي الصلات والهدايا الثمينة [حرفيًّا: أهداه مائة مثقال من الذهب؛ علمًا بأن دلالة الأرقام في الصينية القديمة — وفي مثل هذا السياق — ليست حسابية وإنما بلاغية؛ فهو هنا لا يقصد مائة مثقال عدًّا، بل يريد معنى الكثرة البالغة] وصار يعمل بنصائحه ويمتثل لتوجيهاته.

الجزء الثاني من الفصل نفسه

وتحدث «لوماوشو» [كبير وزراء يان] إلى ملك يان فقال لجلالته: «أرى أنه من الأفضل أن تجعل ﻟ «تسيجي» السلطة العُليا في ترتيب شئون الدولة؛ فما استحق (الإمبراطور المقدس) «ياو» أن يوصف على مر التاريخ، بالحكمة والفضل، إلا لأنه أطلق يد «شيو» في شئون الممالك، وعلى الرغم من أن المذكور امتنع عن قبول المنصب، فإنه تنازل له عن الحكم مخلدًا اسمه بالذكر الجميل (… أي أنه على الرغم من التنازل له عن إدارة شئون البلاد، فإنه بقي محتفظًا بالسيادة على مر التاريخ.) وأرى أن تجعل ﻟ «تسيجي» السلطة المطلقة فوق البلاد، وهو ما سيرفضه (أدبًا وحياءً) فيشيع لك الذكر بحُسن التصرف والحكمة والكياسة، مثلما شاعت سيرة الحكيم الأول «ياو».» فما كان من ملك يان، إلا أن قام بتسليم زمام السلطة ليد تسيجي، الذي عظمت مكانته وتنامى نفوذه، فذهب إلى ملك يان من قال له: «لمَّا قام الملك الحكيم «يو» بتقليد السلطة ﻟ «بويي»، فقد أمر له بمن يقوم على خدمته في ترتيب شئون الحكم وعين «تشي» مساعدًا رسميًّا له، فلمَّا شاخ «يو» وتقدمت به السن، اقتنع بأن المذكور (تشي) لا يصلح لشئون الحكم، ولا يملك مؤهلات الترقي ليكون مسئولًا، فيما بعد، عن تسيير دفة السياسة العليا في البلاد، وعلى ذلك فقد أوكل زمام السياسة العليا ﻟ «بويي»، فذؤب عليه قلب تشي، فجمع إليه أشياعه، فتربصوا ﺑ «بويي» حتى قتلوه، واستولوا على السلطة (وأما بالنسبة لما أريد قوله لك …) فإني أرى أنك قد أوكلت شئون الحكم — اسميًّا فقط — إلى تسيجي، لكن النفوذ الحقيقي ما زال بيد سمو الأمير.» وعلى إثر ذلك، فقد قام ملك يان بسحب الخاتم الرسمي الخاص (بالراتب الممنوح للمسئول الرسمي) وسلمه ليد تسيجي، الذي أعلن لنفسه اللقب الملكي، وباشر بنفسه ترتيب شئون الحكم، وكان ملك يان (الرجل العجوز) قد شاخ جدًّا وعجز عن القيام بمهام سلطته، فاكتفى بمنصبٍ وزاري، على حين أسند النظر في شئون البلاد العليا إلى تسيجي.

الجزء الثالث من الفصل نفسه

وقام تسيجي على إدارة السياسة العليا في يان، فما كادت تمر ثلاث سنوات حتى اضطربت الأحوال، وعمَّت الفوضى كل الأرجاء وعانى الأهالي كل ألوان الضنك. وأخذ القائد العسكري البارز «شيبي»، مع سمو الأمير «زيبين» يُعدَّان العدة لمهاجمة تسيجي، فذهب «تشوزي» [رئيس وزراء دولة تشي] لمقابلة الملك شيوان — حاكم تشي — وقال لجلالته: «ما رأيك في أن تنتهز هذه الفرصة، فتهاجم دولة يان، فما أظن إلا أنك مُنتصر.» فأرسل الملك إلى الأمير زيبين مبعوثًا، يقول له: «قد بلغني أن سموك تقوم بمراجعة شئون الحكم في البلاد وأنك على وشك إلغاء نظام «السلطة الخاصة» وإحلال نظام «السلطة العامة» محلها، بالإضافة إلى مراجعة وضبط اختصاصات الوزراء والملك وتصحيح اللوائح المتعلقة بسلطات الملك والأمير، (وأبلغك) بأن بلادي ضئيلة الحجم، محدودة المساحة (ولا تملك مثل ما لديكم من المزايا) ومع ذلك فيسعدني أن أعرب لسموكم عن استعدادنا للعمل وفق مشورتكم والاقتداء برأيكم [حرفيًّا: «بأوامركم].»

وكان الأمير في تلك الأثناء يُعد أتباعه لأمرٍ مُهم، ويحشد الحشود وينظم الأتباع بينما كان القائد العسكري شيبي يحاصر القصر الملكي ويهاجم «تسيجي» الذي لم يستسلم، فحشد القائد العدد الغفير من الأهالي واقتحم بهم القصر وهاجم «تسيجي»، ثم حدث — فيما تلا ذلك من الأحداث — أن القائد شيبي لقي مصرعه، وجرى التنديد به وتكريسه علنًا، واستمرت الفوضى العارمة تجوس أنحاء دولة يان طيلة أشهُر، وزادت حصيلة القتلى عن عشرات الألوف، ولقي الناس الأهوال وكابدوا ما لا مزيد عليه من المحن والشدائد، وتفرقت الأهالي أيدي سبأ.

الجزء الرابع من الفصل نفسه

وذهب «منكا» إلى الملك شيوان — حاكم تشي — وقال لجلالته: «هذه هي الساعة المناسبة لمهاجمة دولة يان، (وما أشبه الليلة بالبارحة) إذ كانت تلك — أيضًا — هي الساعة التي انتهز توقيتها كل من: الملك «أون» والإمبراطور «أو» فهاجما (الطاغية) تشو (فيما مضى من أحداث الزمان البعيد) ولا ينبغي أن تُخطئ الفرصة السانحة.» فأرسل ملك تشي القائد العسكري «جانزي» على رأس قوات تشي، وقام بمهاجمة يان مستندًا، في ذلك إلى مظاهرة حاشدة من تأييد أهالي دولة تشي المقيمين بشمالي البلاد، ولم يُبدِ مقاتلو دولة يان أي حماسة تُذكَر في النهوض لرد العدوان، بل إنهم لم يغلقوا أبواب المدن (الرئيسية) ولقي الملك كواي — حاكم يان — مصرعه خلال الأحداث وتم النصر لدولة تشي (حيث أخضعت البلاد تحت سيطرتها) ومات تسيجي بين من لقوا حتفهم.

لمَّا طلب أخو سوتشين مقابلة ملك تشي

كان المدعو «سولي» (أخو سوتشين الأصغر) قد طلب مقابلة ملك تشي بخصوص المسائل المتعلقة برهائن دولة يان، ولمَّا كان جلالة الملك يبغض سوتشين، فقد أراد أن يعتقل أخاه الأصغر سولي، ويلقي به في غياهب السجن، فما كان من رهائن دولة يان إلا أن قدَّموا الاعتذار لجلالة الملك — باسم سولي — وطلبوا إليه الصفح عن المذكور وانتهى الأمر على ذلك، ثم إن الملك أقرَّه رسولًا لشئون الرهائن (من رعايا دولة يان) ولمَّا كانت هناك علاقة مصاهرة بين تسيجي، رئيس وزراء، يان، وبين سوداي، فقد فكر رئيس الوزراء في أن يستغل هذه العلاقة للاستحواذ على زمام السلطة في البلاد، ومن ثم (كخطوة عملية نحو تحقيق هذا الهدف …) فقد أرسل سوداي إلى دولة تشي بصفته مسئولًا عظيمًا عن شئون الرهائن، ثم إنه عاد من تلك المهمة ليرفع تقريره إلى دولة يان، والتقى بجلالة الملك كولي فسأله: «أتظن أن في مقدور ملك تشي أن يظفر بمكانة عظيمة من النفوذ فوق الممالك؟» فلمَّا أجابه بالنفي، سأله الملك عن السبب في ذلك، فأجابه: «لأنه لا يثق في وزرائه وكبار رجال دولته.» ولهذا السبب فقد أوكل الملك شئون الإدارة الحكومية إلى تسيجي، وبعد ذلك بفترة وجيزة تنحى عن العرش، فوقع الاضطراب في البلاد ودبت الفوضى في كل الأنحاء، وقامت تشي بمهاجمة يان وقتلت الملك كواي، وذبحت تسيجي، فساندت الأهالي الملك شاو وأنهضوه إلى عرش الحكم. وهكذا، فلم يجرؤ كل من سوداي وسولي على دخول دولة يان وما لبثا — في آخر المطاف — أن عادا إلى دولة تشي، فأحسنت استقبالهما وأكرمت وفادتهما.

الجزء الثاني من الفصل نفسه

وكان سوداي قد مرَّ في طريقه بدولة وي التي أسرعت إلى اعتقاله — رعايةً لمصالح دولة يان — فأرسلت دولة تشي إلى ملك وي تقول لجلالته: «كانت دولة تشي قد ألحَّت في طلب إقطاع أجزاء من أراضي سونغ للنبيل الماجد «جين يانجون» [أخو الملك تشاو حاكم تشين غير الشقيق] إلا أن دولة تشين رفضت هذه الطلب، ولم تكن تُنكر أن في اتحادها مع دولة تشي وحصولها على أراضٍ من دولة سونغ ما يمكن أن يعود عليها بالفائدة، لكن كل ما في الأمر هو أنها لم تكن تثق في ملك تشي، ولا في سوداي. أما وقد حلَّ الجفاء محل الودِّ بين البلدَين وي وتشي؛ فلم يعد ممكنًا لدولة تشي أن تخدع دولة تشين.

وإذا قُدر لدولة تشين أن تولي ثقتها لدولة تشي، وأن تقوم بينهما الوحدة، وأن يحصل الأمير جين يانجون على أرض دولة سونغ فلن يكون هذا في مصلحة دولة وي، وعلى ذلك؛ فإني أرى أنه من الأفضل أن تُرسل سوداي إلى تشي، وهو ما سوف يُثير الشك في قلب دولة تشين، فتنزع ثقتها من سوداي، وإذ يتعذَّر قيام الوحدة بين تشي وتشين، وتتطور الأحوال على وتيرة هادئة، دون أية أحداث طارئة، بين الممالك، تتهيأ الظروف وتحين الساعة الملائمة لضرب تشي.» وعلى إثر ذلك، فقد أصدر ملك وي توجيهاته إلى سوداي بسرعة الذهاب إلى دولة سونغ التي احتفت بمقدِمه وأكرمت ضيافته.

بعد أن استعاد الملك شاو أرض بلاده

بعد أن استعاد الملك شاو، حاكم دولة يان، أرض بلاده وهي حطام وبقايا دمار وأكوام مبعثرة، فقد باشر مهام منصبه، وكان أول ما أشرف عليه هو أنه (راح يعرض بنفسه …) الهدايا الثمينة والمكافآت السخية لكل ذي موهبة أو براعة (ليُساعده على) الثأر والانتقام من المُعتدين على بلاده، [بل إنه تنازل عن أبهة الملك، وذهب بنفسه …] للقاء «قاوي» [وزير التخطيط السياسي]، وقال له: «انتهزت دولة تشي فرصة وقوع الاضطرابات الداخلية ببلادنا فهاجمت العاصمة، وكان واضحًا أمامي مدى ما ينقص بلادنا من عناصر القوة وضعف مقدرتها عن المدافعة والتحدي، غير أني أرجو الآن أن أحشد معي الحكماء، ذوي النجابة لإصلاح أحوال بلادنا، بغية إزالة ما لحق بكرامة مليكنا الراحل من انتقاض لم يكن يليق به، فقل لي، إذن، ما الوسيلة لتعبئة قدراتنا بهدف رد الاعتبار؟» فأجابه «قاوي»: «الوسيلة المُثلى لذلك، أن يجلس الأباطرة مع المُعلمين الحكماء، وأن يلتقي الملوك مع الأصدقاء والرفاق، وأن يحتشد طلاب المجد (من رجال الحكم) مع الوزراء، بينما يجتمع [حرفيًّا: يوضع] أهالي البلد المنكوب بالاحتلال مع (موضع) الخدم والعبيد.

واعلم أنه ينبغي أيضًا التواضع والتفاني في خدمة كل ذي موهبة واقتدار. تطلع نحو الشمال، واطلب العلم الوافر، يأتك من يتفوقون عليك علمًا (مائة ضعف أو يزيد)، اخرج في طلب العلم أول النهار، واخلد إلى الراحة في مقتبل المساء، وليكن أول سعيك طلب النصح، وآخِر أمرك التأمُّل والاعتبار، يقصد إليك من يفوقونك معرفة (بما مقداره عشرة أضعاف …) وإذا شهدت الناس يطلبون العلم، فاطلبه يأتك من يتساوون معك في النجابة.

فإذا قعدت متمكنًا على مرفقيك [حرفيًّا: إذا اعتمدت بكف يدك على منضدة] وأخذت تُشير بيد الأمر والنهي، مُنتفخ الأوداج مصعرًا خدك، فلن يُقبِل عليك إلا الخدم والأتباع (السوقة من الناس)؛ أما إذا أطلقت لنفسك عنان اللعب والمجون، فلن يقصد مجلسك إلا العبيد والأرقاء، فتلك هي مأثورات شيوخنا الأقدَمين في استقدام النابغين والنجباء، واستجلاب ذوي الكفاءة. فإذا استطعت أن تُحسن اختيار الأكفاء، واستقدامهم من أنحاء البلاد المختلفة، وأن تذهب بنفسك لزيارتهم والوقوف على أحوالهم فيتسامع الناس، في أنحاء الممالك، بصنيعك هذا، ويرددون فيما بينهم أنك تزور الحكماء وأهل العلم من رعاياك، وعندئذٍ يُهرع إليك، من شتى البقاع، كل صاحب موهبة ومقدرة ونبوغ.»

الجزء الثاني من الفصل نفسه

وقال ملك يان: «فمن — في رأيك — الأجدر بإنفاذ العزم على زيارته؟» فأجابه «قاوي»، قائلًا: «قد بلغني أن أحد ملوك الزمان الغابر، أراد أن ينفق ألف مثقال من الذهب لشراء ألف جواد، وظل ثلاث سنوات يجتهد في تحقيق غايته، دون جدوى، وتصادف أنه التقى بأحد الموظفين المسئولين عن النظافة العامة بالقصر الملكي، وكان قد تقدم إلى جلالته، وقال له: «أرجو من جلالتك، السماح لي بالذهاب لشراء ألف حصان.» فوافق الملك على طلبه، وبعد ثلاثة أشهر كان الرجل قد استطاع أن يشتري الجياد الألف، إلا أنها نفقت عن آخرها (فما كان من الرجل إلا أن …) دفع خمسمائة مثقال فقط لشراء رءوس الجياد، ولمَّا عاد، أبلغ الملك بكل التفاصيل، فغضب جلالته بشدة، قائلًا: «ما أردتُ إلا الجياد الحية، فما النفع في رءوس جياد نافقة، ألهذا دفعت كل تلك التكاليف؟» فأجابه الموظف: «إذا كنت قد اشتريت رءوس جياد نافقة بخمسمائة مثقال من الذهب، فسيظن الناس أنك قادر على شراء أحسن الجياد (بأي ثمن) وهنالك فسوف تأتيك أحسن فصائل الجياد.» وما كاد ينقضي عام على تلك الواقعة، حتى بلغ عدد الأفراس الواقفة بباب القصر ثلاثة من أحسن فصيل.

فإذا كنت يا مولاي تريد أن تستقدم أكثر الناس نبوغًا واقتدارًا، فلا بد أنهم سيفدون عليك، مهما بَعدت بهم المسافات وطال السفر!» وحدث أن الملك شاو، حاكم يان، قد أمر ببناء قصر فخم لوزيره «قاوي» وأسكنه في أبهى مقام، وتردَّد عليه؛ لينهل من علمه الغزير، ويستزيد من نصائحه. (وتوافد النابغون على البلاد … حيث) جاء «يوي» [أحد أعظم وأشهر القادة العسكريين بدولة يان] من دولة وي، كما جاء «تسويان» [أحد أهم الفلاسفة في أواخر عصر الدول المتحاربة] من دولة تشي، وجاء جيوشين [من أشهر الموظفين بالبلاط الملكي لدولة يان] من دولة جاو، وأصبح النجباء والنابغون يتوافدون على البلاد من كل صوب، أما ملك يان (فقد سار في الناس بسياسة حسنة، ﻓ …) ما كان يهمل واجب العزاء فيمن توفي من الناس، ولا انقطع عن مواساة الأحياء، وكثيرًا ما تقاسم مع الناس حلو الأيام ومرِّها، فلما كملت له — في الحكم — عشرون عامًا، كان قد توطد عرشه وفاضت لديه ذخائر النعيم، وصار يرفل في اليُسر والرخاء. وترسخت عزيمة جنده، واحتدت نصال بأسِه، وهنالك أصدر الملك قرارًا بتولية يوي قيادة الجيش، ورتب أمره بحيث يشترك مع تشين، وتشو و(دويلات جين الثلاث) في التخطيط لمهاجمة دولة تشي. وحدث أنَّ هذه الأخيرة لقيت على يدَيه أسوأ هزيمة، وفر حاكمها — الملك مين — إلى خارج البلاد، وطاردت قوات يان فلول دولة تشي الهاربة حتى بلغت منطقة «لين تسي» واستولت على كنوز تلك الدولة ونفائسها، وعاثت في أرضها، حتى أحرقت معابدها وأتلفت مبانيها ومنشآتها الحكومية، ولم تنجُ من الدمار الشامل سوى مدينتَين اثنتَين فقط من مدنها، هما: «أينع»، «جيمو».

لمَّا قامت دولة تشي بمهاجمة سونغ

قامت دولة تشي بمهاجمة سونغ، فأوقعت بها الاضطراب ودفعتها إلى حافة المهالك، فأرسل سوداي خطابًا إلى الملك شاو، حاكم يان يقول له فيه، ما مفاده: «إن دولة يان تدخل في عداد الدول ذات التسلح الكبير بما تحوزه من عشرة آلاف عربة عسكرية، ومع ذلك فهي تسكت على ما تتحفظ عليه دولة تشي من رهائن، ولا شك أن ذلك من علامات التقليل من شأن يان وانتقاص سلطتها، (وهو أمر من شأنه أن يدعم من هجوم تشي على سونغ.) بالإضافة إلى أنه يرهق كاهل الناس ويُبدِّد الكثير من المال بغير طائل، ويؤدي إلى تدمير دولة سونغ، واحتلال منطقة «هوابي» بدولة تشو، ويزيد في الرقعة التي تحتلها تشي وتفرض عليها نفوذها؛ وباختصار، (فستكون النتيجة) تعظيم قوة العدو، وإضعاف طاقة بلادنا. وتلك النتائج الثلاث، تُعد أعظم المخاطر التي تواجهها البلاد، ولا أرى إلا أنك متغافل عن ذلك، بل إنك تتصرف على نحو يساعد على تفاقم الخطر، بما تُقدمه من مساعدة لدولة تشي تتجاوز الأزمة (في محاولة لكسب ثقتها) ولا أظن أن تشي على استعداد لبناء جسور الثقة القوية معك، بل العكس هو الصحيح، بمعنى أن كراهيتها لك ولدولة يان ستتعاظم عن ذي قبل، ولذلك، فإن وقوفك في صف دولة تشي يُعد مسلكًا خاطئًا من كل الوجوه، لا سيما أن إنهاك قوى شعبك وتبديد موارده المالية لا يعود عليك بأي نفع، ولا يُحسَب من بين مآثرك الجليلة، ثم إن تدمير دولة سونغ يوسع جبهة الأعداء ويزيد في مساحة التربص العدواني ويورث الأجيال مخاطر وأعباء (مواجهات متحفزة)، وإذا ما جمعت وزن وقيمة دولة سونغ إلى «هوابي» وجدت أنهما أقوى من دولة تملك العدة والعتاد [حرفيًّا: دولة ذات عشرة آلاف عربة عسكرية] فإذا ما استطاعت دولة تشي ضم هاتَين القوتَين إلى أرضها، فمعنى هذا أنك ستكون أمام دولة تشي مضافة إلى قوتها ومضاعفة بما انضم إليها؛ ذلك أن إضافة (منطقة مثل): «جيوي» بمساحتها البالغة سبعمائة لي مربع، إلى دويلتي «لو»، و«ويه» يساوي ما قلت لك آنفًا، إنه يناظر حصيلة قوة دولة ذات العدة والعتاد الهائل (… بل أكثر من ذلك على وجه التقريب) فإذا ما استولت دولة تشي على كل ذلك، فيمكن أن نتصوَّر أنها ضمت ما يوازي مساحتها وقوتها الأصلية (بالزيادة المضاعفة) أي أنك ستجد نفسك أمام تشي ضعف نفسها مرتَين تقريبًا. وعندما تصير تشي بهذا القدر، فسيصعب عليك أن تتوازن معها أو تتكافأ مع ميزان قوتها، ثم إن «يان» — وحدها — بمواجهة تشي مضاعفة مرتَين أو ثلاثًا، يجلب معه من المخاطر ما لا قبل لك به.»

الجزء الثاني من الفصل نفسه

وعلى الرغم من أي شيء، فمن المعلوم أن الحكيم يستطيع أن يجعل من وجه الخطر واجهة أمان، ومن داهم النذُر بشير حظٍّ طيب، وبشرى واعدة بإقبال الزمان، كما أن العاقل هو وحده الذي يستطيع أن يُحيل الهزيمة إلى نصر، والإخفاق إلى نجاح باهر. وقد ذكر الناس أن أهل تشي يُجيدون تحويل الأشياء القديمة من مقتنياتهم وأدوات الحياة حولهم (مما تقادم به العهد) إلى آلات عملية جديدة (وغالية الثمن) بما برعوا في طلائها باللون الأرجواني [… فهذا مثال بارز لما يمكن تحويله إلى النقيض].

وقيل (في الحوادث) إن الملك قوجيان (حاكم دويلة يوي) كان لفترة من الزمن مقيمًا بكهوف وأغوار جبل «كوايجي» متخذا لنفسه منها حصنًا منيعًا، لكنه تمكن فيما بعد، من (النهوض من عثرته) والقضاء على دولة «أو» وتنصيب نفسه إمبراطورًا فوق الممالك، فهذه كلها أمثلة على ما يستطيعه الناس من تغيير النوازل المُهلكة إلى بشائر للحظ السعيد، ومن تحويل مرارة الهزيمة إلى حلاوة النصر. فهل تريد، يا مولاي، أن تسلك على هذا المنوال؟ وأرى أنك لو كنت تريد أن تحيل الهزيمة إلى نصر، والانكسار إلى صمود، فدع دولة تشي تفرض سلطانها فوق الأراضي البعيدة، وأن تُحرضها على ذلك، وتُثني عليها باستمرار، ثُم ترسل من عندك وفدًا للتحالف مع آل جو، (في محاولة لقطع العلاقات بين تشين وأذنابها) وبناء اتفاق جديد يقوم على «ضرب دولة تشين» باعتباره خطةً أساسية ذات أهمية فائقة، واستبعادها ونبذها من محيط العلاقات بين الممالك. وإذ تجد تشين نفسها خارج دائرة الاهتمام والتأثير، فسوف تُصبح عرضة للاعتداء وهنالك يستولي الرعب على قلب حاكمها.

قد ظلت تشين منذ خمسة عهود، توالي الهجوم والاعتداء على الدويلات، لكنها اليوم أضعف كثيرًا (بحيث تأتي في درجة القوة بعد تشين) ولا بد من أن القصر الحاكم هناك، سوف يعزم على أن يسد كل الطرق المفتوحة أمام دولة تشي، بحيث يوقعها في مأزقٍ لا مخرج لها منه، مهما كلَّفه ذلك من تضحيات.

فما دام الأمر كذلك، فما الذي يمنعك من أن تُرسِل (واحدًا من أفراد الناس العاديين) في محاولة للتأثير على تشين باستخدام فكرة الإيقاع بدولة تشي في ورطة لا مخرج منها، على أن يُقال لملك تشين (ما نصه): «إن دولتي جاو ويان، تريدان اقتحام دولة سونغ لتوسيع مساحة تشي في محاولة لاسترضائها، ولا مانع لديهما من أن يعلو شأنها ويعظم نفوذها وسلطانها أكثر مما يتمتَّعان به من مكانةٍ فلا غرو، إذن، أن يركعا عند أعتابها وتتراجع منزلتهما دونها، وهو ما لا يُجديهما أي نفع، (ولنتساءل …) عن السبب الذي يدفعهما إلى مثل هذا التصرف ويملي عليهما أن يسلكا في هذا السبيل، وهما تعلمان تمامًا أنه لا فائدة تعود عليهما منه.» وليست هنالك سوى إجابة واحدة، وهي عدم الثقة في دولة تشين وحاكمها. فلماذا لا تبادر الآن، يا مولاي، وترسل إلى دولتي يان وجاو من يحظى بثقتهما بحيث يقنعهما بالتحالف وتنسيق جهودهما معًا، فابعث «جين يانغ» أو «قاولين» إليهما، (وارقب الحوادث عن كثب …) فإذا دهمت الخطوب دولة تشين، فيمكن أن تطلُب إلى أحد الرجلَين أن يبقى بوصفه رهينةً لضمان السلام، وهي الوسيلة التي يمكن أن تُدخِل بها الطمأنينة على قلب دولتي جاو ويان؛ بحيث تنظران إلى دولة تشين بعين الثقة. وإذ يُصبح ملك تشين، سيدًا على المنطقة الغربية وملك جاو زعيمًا على المنطقة الوسطى، وحاكم يان مهيمنًا على المنطقة الشمالية، فسوف تنعقد للحكام الثلاثة ألوية السيادة المُطلقة فوق الدويلات والأمم؛ فإذا أبدت هان أو وي العصيان، هاجمهما ملك تشين، وإذا تمرَّدت دولة تشي قامت كل من يان وجاو بشن الغارة عليها. فمن ذا يجسر بعد ذلك على شقِّ عصا الطاعة؟

لا شك أن الجميع سيخضع بالإذعان، ثم إن الظروف ستدفع دولتي وي وهان إلى مهاجمة تشي، وتطالبانها بإعادة أرض سونغ وأرض «هوايبي» [التابعة لدولة تشو] وهو ما يمثل مكسبًا عظيمًا لكِلا الدولتين (إذا ما تحقق فعلًا وعادت الأرض المطلوبة!). إن إقامة الزعامات الثلاث هو الأمل الذي تصبو إلى تحقيقه الدولتان يان وجاو. وهو أيضًا الأمل الذي إذا تحقق، فإنهما سوف تتمردان على دولة تشي، وتتخليان عنها كما يتخلى المرء عن الحذاء المُهترئ البالي.

إن عدم إقامة الوحدة بينك وبين يان وجاو، يجعل دولة تشي تنجح في تقلد زمام السلطة العالية ويُصبح ملكها إمبراطورًا ذا شأن. وعندما تخضع له الممالك بالطاعة، وتأبى جلالتك أن تُذعن له، فسوف تتسبب بهذا المسلك في تعريض دولة تشين لخطر الهجوم، لكنك إذا سايرت باقي الدويلات في الخضوع لملك تشي، فإن مثل هذا التصرف خليق بأن يُقلل من شأنك، ويودي بسمعتك.

كما أن امتناعك عن الوحدة مع يان وجاو سيجلب عليك نفس النتيجة، ويُعرض البلاد للخطر، لكن اتحادك معهما يرفع كثيرًا من مكانتك ويُبجل قدرك، ويحمي البلاد بمظلة الأمان والاستقرار، (وبالطبع) فلا يمكن للعاقل الحكيم أن يُضحي بمكانته واحترامه استجلابًا للصَّغار والضعة، واستنفارًا للكوارث والنوائب.»

فما إن تُلقى مثل هذه الكلمات على مسامع ملك تشين، حتى تنغرس أشواك الألم في صدره ويغوص القلق كأسياخ الحديد في قلبه، فلماذا لا تبادر، على الفور، إلى إرسال أحد النجباء إلى دولة تشين ليبلغهم بتلك المقالة؟ ولا أظن أن ملك تشين يمكن أن يقعد عن مهاجمة تشي، بل سيُهرع إلى شن الغارة عليها. إن الاتحاد مع تشين يعد أرفع مستوى من العلاقات الودية والرسمية، ومهاجمة تشي هي الوسيلة إلى اجتناء المنافع الحقيقية. (فاعلم) أن احترام المستويات الفائقة من العلاقات الودية، والسعي لتحصيل المزايا والثمرات النافعة جزء أساسي من منهاج الأباطرة الحكماء.»

الجزء الثالث من الفصل نفسه

واعتبر الملك شاو، حاكم يان، أن خطاب سوداي جيد المعنى، سديد الفكرة رائع الصياغة، فتحدث قائلًا: «كان الملك الراحل [حرفيًّا: والدنا الملك السابق] ذا أيادٍ كريمة على سوداي، الذي ما كان يمكن أن يُغادر البلاد إلا بسبب ما حدث من قلاقل (على يد تسيجي) ولا بد لدولة يان أن تثأر لنفسها من تشي، ولذلك فلا غناء لها عن الاستعانة بما يمكن أن يقدمه سوداي من مساندة.» ومن ثم، فقد استدعى سوداي، وبذل له الصلات الوافرة، وأكرم وفادته. وراح يُعد معه خطط غزو دولة تشي، حتى تم له ذلك وأنزل بها هزيمة مدوية، ففرَّ حاكمها، الملك مين خارج البلاد.

لمَّا تحدث سوداي إلى الملك شاو

تحدث سوداي إلى الملك شاو، حاكم، يان فقال لجلالته: «لو كان بيننا الآن، رجل يقوم على خدمتك بكل البر والإخلاص [على نحو ما اشتهر به «سنغ سن» و«شياوجي»] وبمُنتهى الثقة [مثل «ويشن»] وغاية النزاهة والاستقامة [على غرار ما استقام عليه، كل من «باوجياو»، «شي تشيو] تُرى كيف كان يمكن أن يكون الحال؟» فأجابه الملك: «لو تحقق ذلك التصور لكان فيه الكفاية.» فأسرع سوداي بالرد قائلًا: «لو كان في ذلك الكفاية، لما كانت بي حاجة لخدمتك، وما كنت أستطيع أن أُنجز أمرًا ذا قيمة، سوى أن أذهب إلى أرض جو فأحرث الأرض وأسقي الزرع وأغزل الثياب وأتناول ما تيسَّر من الطعام.» فلما سأله ملك يان عن السبب في قوله هذا، أجابه: «لأن البارَّ بأبويه، المُخلص لأولياء أمره مثل «سنغ سن»، و«شياوجي»، ليس إلا ابنًا رحيمًا بالوالدين غاية أمره أن يَعولهما (لا أكثر ولا أقل من ذلك)، أمَّا الأمين الحافظ للثقة، الوفي بالعهد، فليس إلا مُخادعًا، بيدَ أن النزيه، طاهر الذمة المُتعفف عن الطمع فيما لا يملك، لا فضل له سوى الزهد والامتناع عن سرقة ممتلكات الآخرين، لكني أتأمل الأحوال جميعًا، وأجدني أكثر ميلًا لروح المبادرة ونوازع الطموح، وأرى أنه لا يمكن للمرء أن يجمع في نفسٍ واحدة بين النزاهة ورفعة الشأن، وبلوغ الحظوة والجاه العظيم، كما أنه يستحيل أن تمضي الثقة مع الحياة في طريق واحد، أما البر والرحمة والطاعة فليست سوى قواعد (أخلاقية) للتهذيب الذاتي، لكنها أبعد ما تكون عن دوافع وغايات المبادرة والطموح.»

الجزء الثاني من الفصل نفسه

فقال له ملك يان: «ألا يكفي الإنسان أن يسعى للتهذيب الذاتي والتجمُّل بأحسن الأخلاق؟» فأجابه سوداي: «إذا اعتبرنا أن التخلق بالفضائل يكفي تمامًا، فلن تخرج دولة تشين بقواتها من الحدود الحصينة القائمة عند جبل شياو، ولن تقدم دولة تشي على تحريك قواتها من منطقة «إينغ تشيو» وكذلك أن تُبادر دولة تشو إلى دفع قواتها عبر نهر «جوجانغ» (وفي الحقيقة، فما كان …) للملوك الثلاثة [الأعظم شهرة في التاريخ القديم] أن يتلاحقوا على عرش الحكم، خلفًا في إثر سلف، ولا للأباطرة الخمسة أن يتداولوا لواء السطوة النافذة فوق الممالك، لو كانوا جميعًا مدفوعين لتحقيق التهذيب الأخلاقي والتحلي بالفضائل، ولو كان مثل ذلك المسعى للتجمل بالأخلاق مطلوبًا لذاته، وفيه كل غناء وكفاية، لكنتُ قد عدت إلى بلدتي (في دولة جو) أحرث الأرض وأزرع الحقول، دون أن تكون بي حاجة إلى المجيء إليكم وإزعاجكم بوجودي بينكم!

كانت دولة تشو فيما مضى من الزمان قد احتلت منطقة «جانو»، فما كان من أمراء الدويلات إلا أن هُرعوا لتقديم الطاعة لدى البلاط الملكي، ولما احتلت تشين منطقة جبل «شي»، أسرع أمراء الممالك إلى أعتاب القصر الحاكم لتقديم التحية والطاعة. ولولا أن قمت بسحب قواتك من أرض «شاندي» [بدولة جو] لما استدار الأمراء بعرباتهم ومواكبهم مُتجهين صوب بلد آخر (يقدمون له أسمى دلائل الطاعة والخضوع).

وقد بلغني أن القائم على ضبط شئون الحكم يبدأ بتأمل مساحة بلاده، ثم يُراجع مدى ما تملكه من قوة عسكرية، ليسلك بذلك أول طريق النجاح وإنجاز المآثر الباهرة. أمَّا أولئك الذين تنقصهم الدراية والوعي بترتيب شئون الحكم، فإنهم يعجزون عن تدبر تلك الأمور، ومن ثم لا يستطيعون تقدير قدراتهم القتالية، فلا يتحقق لهم إنجاز يذكر. (ومن الواضح تمامًا) أن جلالتك تفكر جديًّا في الاتجاه شرقًا لمهاجمة دولة تشي، تلك مسألة أدركتها بذكائي المُتواضع وتفكيري الضحل.»

الجزء الثالث من الفصل نفسه

وقال ملك يان «وكيف عرفت ذلك؟» فأجابه سوداي: «لطالما رأيتك تطلع إلى قمم الجبال متقلدًا سيفك، أو مُمسكًا رمحك، وعلى وجهك أمارات الترقُّب والتحفز؛ ففهمتُ مقصدك، واعلم أنه لا غنى للبطل الصنديد، أو حتى لرافع الأثقال والحديد، عمن يُسانده ويشد أزره. ثم إنه من الواضح أن دولة تشي يمكن أن تتلقى الضربة القاضية مما يُعجل بنهايتها المحتومة، لا سيما أن دولة سونغ، الواقعة إلى غربها، قد حشدت الحشود وعبَّأت القوات، هذا بالإضافة إلى أن قوات دولة تشو — الكائنة إلى الجنوب منها — ليست بالقدْر الذي يؤهِّلها لمساندتها بسبب ما أصابها من الإرهاق، بل يمكن كذلك احتلال منطقة «هجيان» — من أراضي تشي — بالكامل، وذلك على الرغم مما يُميز قواتها من التفوق والاقتدار، وما تحوزه من التسلُّح والقوة.» فقال له الملك شاو: «هذا عظيم جدًّا، وما دام الأمر كذلك، فاسمح لي بأن أُعيِّنك في منصب «الوزير الأكبر» وأبعثك على رأس القوات والخيَّالة [حرفيًّا: مائة عربة عسكرية وعدد وافر من راكبي الجياد] صوب دولة تشي — جهة الشرق — لتتكلَّم معها بالإنابة عني، حسبما تكلمت أنت به الآن عسى أن تستطيع زرع بذور الفتنة والخلاف (بين الأطراف المتصارعة) فما رأيك؟» فرد سوداي، قائلًا: «أعرف أنك ما كنت لتتكرم عليَّ بهذا الإنعام إلا لما أغدقت به عليَّ من العطف والود، وكم كنت أودُّ أن ينال قدرًا من هذا التكريم أحد من ذوي قُرباك أو من أولادك وأحفادك (الذين لا يقدرون على المشي)؟ فمن أكون أنا حتى تمنحني هذا التكريم دونهم جميعًا؟ إنني ما أقمت بين ظهرانيكم ولا بقيتُ في خدمة جلالتك إلا اجتهادًا في الإخلاص وحرصًا على الفوز بثقتك، وهو — وإن كان يُسعدني بما ألقاه على يديك من التقدير والتكريم، إلا أنه يُشقيني بما أخشاه من مقت حاشيتك وكراهية أتباعك.»

الجزء الرابع من الفصل نفسه

وأجاب عليه ملك يان، قائلًا: «منذ متى كان التفاني والجد وبذل كل الجهد وتبيان أوجه المهارة والبراعة، جالبًا للمقت والكراهية؟» فأجابه سوداي: «ائذن لي بأن أضرب لجلالتك مثلًا على ذلك؛ فممَّا يُحكى في القصص المأثورة عن وقائع حدثت بدولة تشو منذ زمان، في منطقة اسمها «شاندي»، أن أحد الموظفين الكبار. — من المتزوجين — اضطرته الظروف أن يغيب عن بيته ثلاث سنوات كاملة، وكان يعمل فيها خارج البلاد، فنشأت علاقة سرية بين زوجته وبين أحد الأشخاص، وكان لما انفرد بها ذات يوم قال لها: «قد أوشك زوجك على العودة، فما العمل إذن؟» فأجابته: «لا تخشَ شيئًا فقد أعددتُ السم في الدواء، وسأناوله له بعد أن يجيء.» فلما حضر بعد غيبته، أمرت الزوجة الخادمة أن تخلِط السمَّ بالدواء وتناوله إياه، فلما مشت بالكوب إليه وهي تعلم ما انطوى عليه طيُّ الخفاء، ناجت نفسها قائلة: «إذا أعطيته السمَّ مات، وإذا صارحته بحقيقة الحال، طرد المرأة الزوجة؛ فلا هذا بالرأي ولا ذاك، وإنما الأفضل أن أتظاهر بأني تعثرتُ في بعض الطريق، وأرتمي على الأرض فينكسر القدح وينتهي الأمر.»

وبالفعل فقد مضت الأمور على هذا النحو؛ إذ إنها تظاهرت بالتعثُّر، فوقعت الكأس وانكسرت، وقالت الزوجة (لزوجها وهي تُكلمه): «كنت قد أعددتُ لك قدحًا من خمر مُعتقة احتفاء بقدومك سالمًا بعد مشاقِّ السفر ووعثاء الطريق، لكن الخادمة كسرت الكأس وأراقت الشراب.» فما كان من الزوج الغافل إلا أن قام إلى الخادمة فقيَّدها وضربها. (والعبرة المُستفادة من ذلك …) أن التفاني في الإخلاص كاد أن يودي بالخادمة وهو السبب فيما لاقته من التعذيب، وها أنا ذا الآن أشق طريقي مسافرًا إلى دولة تشي مبعوثًا من جانبك، وأخشى أن يكون إخلاصي لك محلَّ سوء فهم من حاشيتك.

وقد بلغني (من مأثور القول) أنه: «ليس للأمير — الذي بيده زمام الأمور ومقاليد السلطة — أن يُذعن لنفوذ الوزير، ولا للفارس ذي الخيل والجياد أن يضع عنان فرسه بيد الجمهور، ولا الرجل البسيط — الذي لا يملك فرسًا ولا لجامًا — [هكذا] أن يذل عنقه لزوجة أو محظية.» فما بالك بأكثر الملوك رجاحة عقل وحكمةً ووعيًا وبصيرة؟ فائذن لي في الخروج الآن، وأرجو ألا تنساق وراء حجج أتباعك، وألا تجعل نفسك مطية أهوائهم.»

لمَّا تكلم ملك يان إلى سوداي

تكلم ملك يان مع سوداي فقال له: «ما أبغض مقالة المُخادعين والمنافقين!» فأجابه بقوله: «إن أهل دولة جو يحتقرون الخاطبة؛ لأنها تمدح الطرفَين، الفتى والفتاة كليهما، فتقول لأهله إنها أجمل بنت رأتها في حياتها. وتقول لأهلها: «إنه أوفر الرجال مالًا وثروة.» (لا مفرَّ من ذلك، لأن من المعهود …) في أعراف دولة جو السائدة، أنه لا يحق للفتى أن يختار لنفسه زوجته، ولا يمكن للفتاة أن تتزوج بغير وسيط، حتى لو أدركتها الشيخوخة، فهي لا تتزوج [حرفيًّا: لا تخرج من البيت] إلا بهذه الطريقة، ومن المُستحيل أن تتم زيجة بغير خاطبة، حتى لو ألقى المرء عن نفسه وعائلته قصائد المدح المطولة، أو ظل يتحدث عن مزاياه وخصاله الحسنة إلى أن تهترئ شفتاه وتتآكل أسنانه [هكذا حرفيًّا] من كثرة الكلام. ولا بأس من مجاراة العرف السائد، فهو على الأقل، يوفر الجهد والكلام بغير جدوى ما دامت الخاطبة ستقوم بالمطلوب على أحسن وجه. (وإذا كان الأمر كذلك في موضوع الزواج …) فما بالك بشئون الحكم، التي لا مفر فيها من التقيد بفنون القيادة ومهارات إدارة السلطة، وإلا تعقدت الأحوال، وتعثرت كل الدروب، فلا نجاح إلا باللجوء إلى طرائق الحكم وأحوال استخدام القوة والنفوذ. أما أن يَجني الإنسان ثمرات النجاح وهو قاعد مكانه، فهذا ما يُردِّده المُخادعون وحدهم.» فوافقه الملك على رأيه وقد اتضح له وجه السداد والحكمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤