سجل تشين الأول
لمَّا هرب وزير دولة وي
هرب الوزير الأعظم لدولة وي إلى تشين فتكرم عليه الحاكم بتعيينه رئيسًا للوزراء، وأقطعه أراضي ومتاجر، فحصَّل من ذلك رزقًا وفيرًا، ونُصِّب شيخًا للتجار، فكان مثالًا للتاجر الأمين ورجل الدولة الذكي، ففرض سلطة القانون وجعل النزاهة والشرف والاستقامة طريقًا لا يَحيد عنه إلى نفعٍ ذاتي أو مغنمٍ خاص. وجعل الناس سواسية أمام أحكام القوانين دون مُحاباة لسليل عزٍّ أو صاحب جاه أو نفوذ أو سلطان، وكافأ كل ذي فضلٍ ومأثرة، فلم يُحابِ صديقًا أو ذا صلةٍ من رحم أو مصاهرة، وجعل سلطة التشريع نافذة حتى فوق ذي الرياسة والنفوذ، ولم يستنكف أن يضرب على يدِ مؤدِّب الأمير دون هوادة، فما إن مرَّ عليه الحول في منصبه، حتى عمَّ الانضباط والاستقامة كلَّ أنحاء تشين، وصار الناس يتحاكَون بأن المفقودات الثمينة كانت تظلُّ مُلقاة على قارعة الطريق حتى يعود إليها أصحابها يلتقِطونها بأيديهم ولو بعد أيامٍ من فقدها، دون أن تمتدَّ إليها يدٌ أو تطمع فيها نفس، بالغةً ما بلغت من القيمة.
وكان من جملة المآثر الجليلة أيضًا أن الجيش صار قوةً ضاربة، ارتعدت من هولها الممالك. غير أن الجدية والصرامة التي اتَّسمت بها سياسات شيخ التجار الوزير الأعظم كانت تتوسَّل في تنفيذ خططها بأشد الأساليب قهرًا وتجبرًا، لم يملك الناس معها إلا الانصياع والرضوخ، فلمَّا انقضت ثمانية أعوام لشيخ التجار الوزير الأعظم في هذا المنصب الذي رقَّاه إليه جلالة الحاكم، صارت الأمور مُستقرة في كل أنحاء تشين، وفكر حاكم البلاد أن يُوصي بتعيين الشيخ الوزير الأعظم خلفًا له على العرش الملكي، إلا أن الرجل استعفى واعتذر شاكرًا للملك حُسن الظن به إلى هذا الحد، ثم إن الأيام مرَّت، ومات الحاكم، وجاء من بعده ابنه «هوي» ملكًا للبلاد، وهنا خشي الشيخ الوزير أن يَلقى على يد القادم الجديد التنكيلَ والهوان، وفكر في العودة إلى وي.
وذهب رجل إلى الملك «هوي» وقال له: «إن نفوذ الشيخ الوزير يا مولاي قد بلغ حدًّا لا يمكن إغفاله ممَّا يمكن أن يُعرِّض البلاد لخطرٍ لا يعلم أحد مداه، ثم إنه أصبح مُحاطًا بشخصيات بارزة متنفذة، وكلهم من أشياعه المخلصين، ربما كان لهم من التأثير ما يمكن أن ينال من سلامتكم الشخصية، أما تجد الإعجاب بما استنَّه من قوانين وتشريعات مضرِب الأمثال بين الجميع؟! بل إنك لواجد مثل هذا الإعجاب بين أفراد الحاشية أنفسهم، هذا في الوقت الذي لا يتحدث فيه الناس بمآثركم الجليلة، وكأن الأمور انقلبت رأسًا على عقب، وصار الوزير يلمع بضوءِ الملوك، بينما يخفُت تاج العرش وينحدِر إلى ما هو أقل من منصبٍ وزاري عادي، ثم لا ينبغي أن ننسى يا مولاي أن هذا الرجل في الأساس، لا يزيد عن كونه مجرد عدوٍّ لبلادنا، وإني لأرجو أن يتَّخذ جلالة الملك بشأنه التصرُّف اللائق على ضوء هذه الاعتبارات.»
وحدث أن فشلت محاولة تسلُّل الشيخ الوزير إلى وي، وأُجبر على العودة إلى تشين، حيث أمر الملك بإعدامه.
لمَّا عمل سوتشين بنصيحة قائد القطاع الغربي
لمَّا رأى سوتشين من دولة جو الغربية أن يعمل بنصبحه «ليان هن» قائد القطاع الغربي من دولة تشين التي تتمثَّل في التحريض على اتخاذ سياسات مُعينة، فقد ذهب بنفسه إلى جلالة الملك «هوي» حاكم دولة تشين وقال له: «إن المرء ليُطالع في كل ركنٍ من بلادكم أعظم المزايا وأبهى الصفات، ففي الغرب تترامى مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة في الدويلات الثلاث التابعة لكم: يان، شو، هان، وفي الشمال تتوافر أفضل أنواع الجلود وأرقى سلالات الخيول، أمَّا في الجنوب فترتفع سلاسل جبال «أوشان» بموقعها الجغرافي الدفاعي المنيع، مثلما يُوجَد في الشرق أيضًا وادي «هانجو» وتلال «شياو» التي تقف كحاجزٍ صلب ضد أية محاولات للتسلل الهجومي إلى الداخل، هذا بالإضافة إلى وفرة المحاصيل وكثرة الأيدي العاملة وتوافر القوات المُدربة والمعدات الحربية، ومصادر الثروة والتطور والعمران، وطبيعة الأرض بحسب صلاحيتها للظروف الدفاعية والهجومية، الأمر الذي يمنح البلاد ميزةً سياسية هائلة؛ ومن ثم فإن جلالتكم تملكون فرصًا مواتية لضمِّ أراضي الممالك المجاورة خصوصًا أنك تحكم شعبًا مُطيعًا وقادة نُجباء، وبقلوبكم أوعية الحكمة وبواطن الفطنة والكياسة، مما يرفع تاجَكم فوق الأمم جميعًا سيدًا للممالك. ولتأذن لي جلالتكم في تحليل مزايا الموقع الجغرافي وأحوال الاستعداد القتالي لجيشكم.» وهنا قاطعه الملك قائلًا: «لكني أنا الذي أستأذنك في أن أخبرك بما سمعته ذات مرة من حكمة سائرة تقول: إنه لا يطير الطير إلا بأجنحة مشرعة، وأنه لا عدل مع قانون جائر، ولا طاعة لحاكم في بلدٍ ذهبت عنه الأخلاق الكريمة، وأنه لا تنصيب بغَير تهذيب، لا مجال للتكليف بمسئولية عامة دون إعداد وتدريب. والآن، وبما أنك تطرح موضوعًا غير ذي مناسبة، فلنؤجِّل الحديث فيه إلى وقتٍ لاحِق.»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
ثم واصل سوتشين كلامه قائلًا: «كنت أشك كثيرًا منذ البداية أن تقبل جلالتكم نصيحتي، وأن تأخذوا باقتراحي، مع أن مُطالعة التاريخ تُظهر لنا أمثلةً بارزة تثبت وجهة نظري الأصلية، فالتاريخ حروب متصلة على طول الزمان، منذ حروب الملك «شنونغ» ضد دويلة «بو» القديمة، وحرب الإمبراطور «هوانداي» ضد قبائل «تشيو»، ومعارك «تانياو» ضد «هوانجو»، وحرب «جو وانغ» — مؤسس دولة جو — ضد الملك شانجو — أحد الحكام الطغاة بأسرة «يين شانغ» — وكذلك المعارك التي شنَّها «تشي هوانكون» ضد الممالك حتى اشتهر بأنه أحد جبابرة التاريخ القديم، فهل كانت هناك وسيلة أخرى لضمِّ الممالك والدويلات سوى الحرب؟! صحيح أن هناك فترات من الزمن كانت فيها الطرق بين الممالك تعجُّ بالرسل والوفود والمكاتبات المتبادلة بين العروش والتيجان، وجرت الأقلام فوق الصحف بمعاهدات وتسويات سال مدادها ببليغ الكلام ومعسول الصياغات، وقامت ذات يوم الوحدة الكبرى والْتأم شمل إمبراطورية مترامية تحت السماء، ثم لم يمضِ وقتٌ طويل حتى امتدت بالطول والعرض خطوط مُتقاطعة بين الجميع، تعمقت بحدة الصراعات واتضح أن وراء رايات الوئام أسلحة ما زالت مشرعة النصال، ثم اعتلى خطباء السلام منابر الجدل واحتدم الشقاق وافترقت اتجاهات الطرق تحت أقدام الرسل، وأطلت رءوس التناقضات وتردَّدت أصداء الفتن، فاضطربت كل الأجواء، وتزعزع الاستقرار. وبرغم القوانين واللوائح التي صِيغت لدرء الفوضى، فقد كانت الظنون تطيح بكل مصداقية، وتُبودلت بين الأمراء الضغائن، والمشاحنات، فسقطوا في عين رعاياهم، وبرغم بلاغة الفصحاء فقد تدهورت الأحوال، بل كلما تألق سجع الألفاظ، ازدادت نيران الحرب اشتعالًا، وفيما انطلقت ألسنة الرسل والوسطاء بمعسول الألفاظ، توهَّج أوار الغضب، واتسعت دوائر القلاقل والاضطرابات. وكم تفاصحت الأفواه وامتلأت الآذان بما لم يُجْدِ نفعًا! بل راحت صفوف المُحاربين تتدفق إلى الميادين، في صلابةٍ وقوةٍ وبأس أشدَّ من متانة دروعها، فحاربَت وقاتلَت وانتصرت. أمَّا المكث في أروقة الأماني الجميلة انتظارًا لشروق شمس المجد والاستقرار، فهو التصوُّر الذي لم يكُن له على مرِّ التاريخ أية نتائج إيجابية، بل حتى الأباطرة الأقدَمِين، والملوك الثلاثة والجبابرة الخمسة، ما كانوا يستطيعون، في ظلِّ هذا التصوُّر، أن يُسجلوا مآثرهم في صفحة التاريخ، فلا مَعدى عن ارتداء درع الحرب ونزع قميص الحكمة والكياسة، فتلك هي الطريقة التي يَبني بها الملوك صروح أمجادهم.
إن شرف الجندي لا يتحقق إلا في ساحات القتال صونًا لحدود الأوطان، وشرف الملك في إقامة العدل أمنٌ وأمان للممالك والبلدان، أما الشعب الناطق بمائة لسان — ذو القوميَّات والقبائل والعشائر المُختلفة — فإنه يجتمع على كلمةٍ واحدة تحت التاج، طاعةً وولاءً، ولئن كان مُبتغَى خططكم الآن هو ضم أراضي الدويلات والإمارات وإخضاع القوات المُعادية تمهيدًا للسيطرة على زمام الأمور، وإقرار سياسات عادلة ورحيمة نحو أهل الممالك المُترامِية تحت السماء، فإن كل ذلك لا يمكن تحقيقُه دون قوة السلاح، وإن كثيرًا من أمراء العروش الحاكمة يغضُّون الطرف عن هذه المسألة المهمة بعد أن أضلَّتهم المواعظ الأخلاقية، وخلبَت ألبابَهم الكلمات المعسولة، حتي أوغلوا في ساحة اللجاج حول تصوُّرات واهمة. وهكذا، يبدو لي أن ما أطرَحُه على جلالتكم، يا مولاي، لن يلقى الاقتناع والقبول، فضلًا عن التطبيق.»
الجزء الثالث من الفصل نفسه
وقد حاول «سوتشين» كثيرًا أن يذهب إلى القصر الملكي ويسجل في دفتر التشريفات طلبَه للقاء الملك، أملًا في إقناعه بخطته، إلا أن مُحاولاته في هذا الشأن لم يُكتب لها النجاح، وتردَّت أحواله كثيرًا، حتى نفد منه المال، وتهرَّأت منه الثياب، وكان قبل ذلك مُنعمًا مترفًا ينفق عن سَعة، فما كان منه إلا أن غادر دولة تشين عائدًا إلى مسقط رأسه، وكان منظره على طريق الرحيل مثيرًا للشفقة، إذ بلِيَت جُبته، وتعرَّت لتكشف عن ساقَين ملفوفتَين بأعشابٍ جافة، وعلى ظهره جوال مملوءٌ كتبًا ذابلة الأوراق. لم يكن رجل في الدنيا كلها تبدو في وجهه علامات اليأس مثلما كانت تبدو على مُحيَّا «سوتشين»، إذ غارت عيناه وعلت الصفرة جبهته، ثم إنه وصل بلدتَه ودخل بيته، فلم تكترِث بعودته زوجته، ولا أقبلت عليه امرأة أخيه الأصغر بابتسامتها المعهودة، بل عبست وانزوت في ركن، دون أن تُعِد له الطعام، وتباعَد عنه أبوه، فحزن وقال في نفسه إن مكانته وسط أهله كزوج، وأخ، وابن قد تأثرت كثيرًا بفشله في مهمته بشأن إقناع الملك بالسياسات المقترحة، وراح يدرس ويتأمَّل ويُفكر، وانكب على كتب الخطط السياسية الكبرى يُطالعها في نهَم بالِغ ويُحلل تفاصيلها بعُمق، والطريف أنه كان يضع إلى جانب الكتب على الطاولة إبرةً طويلة مُدببة، حتى إذا غالبه النعاس تناولها وغرسَها في فخذه كي يُفيق ويواصل القراءة، ويُقال إن الدماء كانت تسيل خيوطًا طويلة وتسقط تحت قدمَيه لكثرة ما انغرست الإبر في لحمه، وكان يلوم نفسه قائلًا: «أمعقول أن تذهب إلى البلاط الحاكم بدولة تشين دون أن تعود محملًا بأصنافٍ من الهدايا الثمينة والعطايا الملكية الفاخرة، ولا حتى الألقاب الفخرية؟» ولم يكد يمرُّ عام حتى كان قد أتم دراسته في فنون الحرب، وقرَّر أن يُعاود محاولته في الترويج للفلسفات الفكرية الحربية مع القادة والحُكام الجدد، واتجه على الفور إلى دولة «يان» والبلاط الحاكم لدولتَي «جي» و«جاو» حيث التقى برجال القصر في كلتا الدولتَين، فلما التقى بحاكم «جاو»، في قصره المهيب، وتحدث إليه بقلب مفتوح، وكان اللقاء بينهما تسودُه روح الود، واغتبط ملك جاو كثيرًا بالحديث إليه، حتى إنه تكرَّم عليه بمنحِهِ لقب أمير مقاطعة «ووآن»، وأهداه مائة عربة عسكرية وألف قطعةٍ من المشغولات الذهبية ومائة زوج من اليشب وعشرة آلاف جرام من الذهب الخالص، وصار يتنقَّل بين الدول، وهدايا الملك بين يدَيه، ثم إنه عمل جاهدًا فيما بين الممالك لنسف أية خُطط يمكن أن تربط دولة تشين بباقي الدول، وذلك بهدف احتواء القوة المُتعاظِمة لتلك الدولة الجبارة.
وكان سعيه الحثيث لتحقيق هذه الغاية هو الذي أوصله إلى أن يحتل منصبه كرئيس وزراء لدولة «جاو» واستطاع من خلال موقعِه أن يقطع الصِّلات بين تشين وباقي الممالك، وهكذا فقد امتنعت ستُّ دولٍ مثلًا من السماح ﻟ «تشين» بالمرور بالقُرب من حصونها السياسية.
ويمكن القول إن الفضل في حشد هذا العدد من الممالك بما اكتمل لها من نفوذٍ وما تميزت به من رقعةٍ جغرافية واسعة وعددٍ هائل من السكَّان والقصور الحاكمة والأمراء والقادة، وكل ذلك يرجع إلى حنكة ودهاء سوتشين وما وضعه من خُططٍ طموحة وذكية كان من شأنها أن تجمع شمل الأمراء والحكام والقادة وتُوحِّد كلمتهم، دون إراقة نقطة دم واحدة أو حتى صرف[جراية] زائدة لجندي يتأهَّب لقتال، بل لم يُنادِ منادٍ للحرب، ولا خرجت في الساحات صفوف مُقاتلين ولا شُرعت رماح أو انتصبت في الأقواس سهام، ذلك لمَّا صار الحُكم لذوي الحكمة والفهم فقد عمَّت الثقة وانتشر الاستقرار في كل الأرجاء، فلذلك قيل: «إن الإدارة الناجحة داخل القصر تجب أنشط التحركات عند حدود الإمبراطورية».
وهكذا، فلما تأكدت براعة سوتشين، وتألق مجدُه، أنعم عليه جلالة الملك بخمسة آلاف كيلو جرام من الذهب الخالص، فصار من أكثر الناس ثروةً وعزةً وبأسًا، فكانت ترمح خيوله وتدور عجلات دورانه في فلك الحظ السعيد، والكل يخضع تحت بهاء نفوذه، حتى الدويلات الواقعة شرقي جبل «هواشان»، كانت بأمرائها وفرسانها وشعوبها تتجاوب مع أصداء توجيهاته مثلما تميل أعناق النبات حسب دوران الريح، وهو الأمر الذي استفادت منه دولة «جاو» إذ برزت هيبتُها ومكانتها للجميع.
ولم يكن سوتشين، في مبتدأ الأمر، سوى طالب علمٍ فقير ينكب على كتُبه في فناء بيت مُتهالك، ثم إذا به الآن يركب أفخر العربات، تقودها الجياد المُطهَّمة، وهو ينتقِل مسافرًا بين قصور الحكم يعرض أفكاره ووجهات نظره على رجال البلاط، فهو إذ يتكلم تصمت كل الأفواه، ولا يُوجَد من بين الناس من يستطيع أن يفوقه أو يُجاريه. وبينما كان سوتشين في طريقه ذات مرة ذاهبًا للقاء ملك تشو، مرَّ ببلدته ومسقط رأسه «لويانغ»، ووصل الخبر إلى أهله، فتهيئوا لاستقباله، وأقاموا الزينة فوق الجدران، وأحضروا المعازف لتصدح بالموسيقى والغناء، وبسطوا الفُرش والولائم، وركبوا طريقًا يبعُد مسافة ثلاثين ميلًا لاستقباله، وصاروا عند لقائه يتأمَّلونه بعيونٍ ملؤها الإعجاب، وسجدت له زوجة أخيه على قارعة الطريق تحية إكبارٍ وإجلال، فأخذ بيدِها وسألها مُتعجبًا عما دعاها إلى هذا الصنيع، وقد كانت فيما مضى تزوَرُّ عنه نفورًا وضيقًا، فأجابته بقولها إنها إنما تصرفت على هذا النحو، لأنه أصبح الآن في مكانة جديرة بالتقدير والاحترام ثم ابتسمت وأضافت إنه صار الآن أيضًا واحدًا من أكثر الناس ثراءً، وهذا أيضًا كفيل بإثارة الاستحسان والإكبار في النفوس. وعندئذٍ أجابها سوتشين قائلًا: «عندما كنتُ فقيرًا، كان أهلي يُنكرونني، أما وقد أثريت فقد أكبروني، وبالَغوا في تقديري، فكيف يمكن للمرء أن يتجاهل قيمة الثروة والنفوذ والهيبة والمكانة؟»
لمَّا التقى ملك تشين مع رئيس الديوان
التقى الملك هوي حاكم تشين برئيس الديوان الملكي، وقال له: «لا أرى إلا أن سوتشين يخدعني، ويؤلِّب عليَّ حُكام الدول الستِّ الواقعة شرقي جبل «هواشان» بما هداه ذكاؤه وفطنته البارعة إلى عقد تحالفٍ بين تلك الدول هدفه الإيقاع ﺑ «تشين» ولا بد أن دولة «جاو»، بما تملِكه من ثرواتٍ هائلة، وعدة وعتاد، سوف تسارع إلى استمالة الدويلات والإمارات الأخرى لمهاجمتنا، وسيكون رسولها المُقتدِر في تنفيذ هذه المهمة هو «سوتشين»، ولو أني أعرف أنه من المستحيل إلغاء الفروق الدقيقة في التوجُّهات والأفكار فيما بين الدويلات بعضها بعضًا، ويصعب بالتالي الانتهاء إلى فكرةٍ واحدة تتجمَّع حولها كل الآراء، مثلما يتعذَّر ربط كل الدجاجات بخيطٍ واحد دون أن يتسبب ذلك في فوضى هائلة. وإني ما بغضت أحدًا في حياتي قطُّ قدْر بُغضي ﻟ «سوتشين»، وكم طال كمدي بسببه، لذلك أفكر في إيفاد القائد العظيم «باتشي» إلى شرقي «هواشان» لتوضيح الأمور وتصحيح المفاهيم لدى الأمراء ورجال البلاط.» فقال له «هانشيوان» أحد وزرائه ما نصه: «لا أحبذ التصرف على هذا النحو يا مولاي، ولا أرى لك أن توفد قائد جيوشك في هذه المهمة إذا كنتَ قد نويت القتال، أما إذا كنت تبغي توضيح الأمور، وتسوية الخلافات وضبط النفس مع كل الأطراف فابعث إليهم برئيس وزرائك الفيلسوف الداهية «شانغي» (حيث هو الذي ساعد على تنصيبك ملكًا، وهو أيضًا فيلسوف ومفكر، ويستطيع استمالة الدول والممالك في صفك)». ووافقه الملك قائلًا: «نِعم الرأي إذن، وسآخُذ بما اقترحتَ عليَّ».
لمَّا التقى الوزير لينغ بحاكم تشين
التقى الوزير «لينغ» بجلالة الملك «شاوشيانغ» حاكم تشين وقال له: «إن خطتي يا مولاي تنحصر في أن أعمل على أن تأتي كل تصرفات وسلوكيات دولة «تشي» على النحو الذي يخدم أغراض جلالتك، ذلك أني باتجاه الهجوم على دولة «سونغ» التي سوف تعاني هزيمةً نكراء، وحينئذٍ وبعد سقوط «سونغ»، دولة «جين» في خطر شديد يتهدَّدها، مما سيجعل بعض المدن التابعة ﻟ «وي» والغربية من حدودنا تسقط في أيدينا بمُنتهى السهولة، وبالطبع فإن كلًّا من دولتَي «يان» و«جاو» سوف تتأثران بما ترَيانه من إنجازات للاتحاد القائم بيننا وبين «تشي»، وبالتالي فلن تتردَّدا في أن تتنازلا عن أجزاءٍ من أراضيهما لجلالتك، ولمَّا كانت حليفتنا «تشي» تخشى بأس مولاي، فلا بد أنها ستُضاعف مظاهر الاحترام لجلالتك، ولا بدَّ أن شعورها بنفوذكم وإذعانها لمشيئتكم سيزداد بعد الهجوم على دولة «سونغ»، فلماذا تتردَّد جلالتكم في القبول بوجهة نظري القائلة بوجوب شن الهجوم فورًا على «سونغ»؟! وفي الحق يا مولاي، فإنه ما من سبب دعاني للإفاضة في شرح اقتراحي هذا على نحو مُفصل، إلا أني ظننتُ أن الأمر واضح لجلالتكم على النحو الذي أبديتُه آنفًا.»
لمَّا ذهب «شانغي» لمناظرة ملك تشين
أقدم شانغي على الملك «هوي» حاكم تشين، وقال له: «كنت قد سمعت أحدهم يقول يا مولاي إنه ليس من الفطنة أن يتكلَّم المرء بما لا يفهم، كما إنه ليس من الوفاء والإخلاص أن يدع المرء التكلُّم بما يفقَه من الأمور، أما إنه لا خير في وزيرٍ خائن لسيده ملك الملوك، ولا حياة لمن كتم عن مليكه خبايا الحقائق، وعلى هذا الأساس، فسوف أُفضي لجلالتك بكلِّ ما وعَيت. قد بلغني يا مولاي أن كل ما يقع بين البحور الأربعة سواء من الشمال أو من الجنوب، أي من دولة «يان» إلى دولة «وي» بما في ذلك دولتي «تشو» و«تشي» يقومون بتكتيل عناصر من قوى مُتفرقة في دولة «هانكو» لتوليف حشدٍ يتحرك إلى الغرب لتهديد تشين.
والحق يا مولاي أني عندما علمت بهذه الأنباء ضحكت في نفسي من غفلة أولئك الحمقى الذين لا يُقدِّرون حقائق قوتهم على نحو صحيح.
ومن المقرر أنه لا مفر لأية دولة في العالم كله من التفكك والانهيار في ثلاثة أحوال معلومة بدقَّة، والمؤسف أن الدول والممالك التي ترتِّب للهجوم على تشين، قد وقعت جميعها في تلك الأخطاء الثلاثة القاتلة، ولعلِّي لا أُبالِغ إذا قلت إن تلك قد صارت طبيعة قرارات الدول في زماننا. وقد بلغني يا مولاي أنه إذا هاجمت قوات غير منظمة تنظيمًا عاليًا قوات دولة أخرى شديدة الانضباط، حسنة القيادة، فإنها تُخاطر مخاطرة جسيمة، وإذا أقدمت قوات ذات نوايا عدوانية على الاشتباك بقواتٍ تتحلَّى بأهدافٍ خلقية وصادقة ومشروعة، فهي تعرض نفسها للفناء، وحين لا يكون في عتاد القوات المهاجمة سوى الظلم والبطش والعدوان بمواجهة جيش سلاحه الإيمان بقضية وطنه، فالمُعتدي عندئذٍ هالك لا محالة. والآن، فإني أنظر إلى الإمارات والدول التي تتحداكم بالقتال، فأجد أنها تعاني نقصًا في الادخارات المالية واختلالًا رهيبًا في مخزونها من الحبوب والغلال، وهكذا فإن أي محاولة سواء كانت لإعداد قوات هجومية وفيرة العدد، أو لتعبئة الجماهير، ستجد أمامها عددًا قد انتضى رماحَه، ثم إذا بها لا تملك في أيديها إلا الفئوس والمعاول، وهو ما يعني أنها على موعدٍ مع الفرار والتشتُّت عند أول شرارة للحرب، وساعتئذٍ، لن يملك أحد أن يلوم الشعب على التقاعس عن القتال، ما دام القادة أنفسهم قد عجزوا عن المبادأة الناجحة للقتال. إن أحدًا من الناس لن يرضى بأن تُزهَق روحه عبثًا وهو يرى بعينَيه عجز القيادات عن الاحتفاظ حتى بسلطة الثواب والعقاب، فلا هي كافأت المجتهد ولا عاقبت المقصِّر، وعندما تصدر دولة تشين إعلانًا عن رصد مكافآت سخية للمتطوعِين فيجب أن تراجع جدارة الاستحقاق بدقة، ويمكن القول — بعامة — إن الإنسان العادي الذي لم يشارك في أي قتالٍ منذ نعومة أظفاره لن يتردَّد أمام نداءٍ يطلب منه الدفاع عن أهله وقتال أعدائه إلا أن يُلبي نداء الزحف بغير تردُّد، وقد تبلغ به الجرأة حدَّ الاستهانه برماح العدو المشرعة فيقتحمها بكفَّين مجردتَين، أو يقفز فوق براكين اللهب بقدمَين عاريتَين. والنماذج التي تثبت قولي أكثر من أن تُحصى، أما مدى إصرار المُقاتل على الموت أو على الحياة، فتلك مسألة تتبايَن من فردٍ لآخر، وإن كنت أعرف أن أهل تشين مجبولون على الجرأة أمام المخاطر، وهذا واحد من الأسباب التي تدعو الناس ههنا على الاعتداد بالاندفاع الجريء واعتباره من الخصال النبيلة، وهكذا فإن جنديًّا واحدًا يستطيع أن يهزم عشرة جنود من أعدائه، وعشرة مقاتلين يقدرون على أن يهزموا مائة، ومائة يدحرون ألفًا، وألف يقدرون على عشرة آلاف، وعشرة آلاف يملكون المقدرة على إنزال الهزيمة بعدة جيوش مجتمعة. والآن، إذا نظرنا إلى الظروف الطبيعية لدولة تشين نجد أن أرضها تتميز بالتوازُن بين المرتفعات والمنخفضات، وأن مساحتها كبيرة لا بأس بها، وجيشها من أفضل الجيوش عدة وعتادًا، وأضف إلى كل ذلك ما أصدرته الدولة من إعلان عن المكافآت الكريمة لمن أحسن البلاء في القتال. والخاصية المنيعة لجغرافيتها، فإن كل ذلك يرد العدو عن التفكير في الهجوم، فإذا وضعنا تلك النتيجة بالموازنة مع تطلعات باقي الدول للهيمنة، نجد أن مقدرة تشين على ضمِّ وابتلاع أراضٍ كثيرة للغير، هي التي تمنح فرصًا هائلة لجيش تشين بالهجوم وإنزال الهزيمة الفادحة بالآخرين، وهو ما يعني في وجهة نظرٍ ما، إمكانية السيطرة على مساحاتٍ هائلة من الأراضي واستصلاحها بما يُحقق فوائد جمة، ويدخل ضمن دائرة الإنجازات التاريخية في سجل دولة تشين. أما إذا أُصيبت القوات بالإعياء والتفكُّك وعسرت أمور الحياة على الشعب، ونضب الادخار، وتصحَّرت الأراضي، وأوشك مخزون الغلال على النفاد، وتعنَّتت الدول المجاورة من الجهات الأربع، وذبُلت أصداء المهابة والجاه، فلن يكون هناك سوى سببٍ واحد وراء كل ذلك، ألا وهو تقاعُس المُخطط السياسي عن الوفاء التام لقضية بلاده.»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
وواصل «شانغي» كلامه قائلًا: «دعني أقص عليك يا مولاي شيئًا من الحوادث الغابرة، ذلك أن التاريخ يُحدثنا عما أحدثته دولة تشي من تخريبٍ هائل للدول الواقعة على حدودها الجنوبية والشرقية والغربية والشمالية، وهي على التوالي: تشو، وسونغ، وتشين، ويان، وبينما كانت تقوم بشن الغارات على هذه الدول، فقد كانت من جانبٍ آخر تقوم بتحريض حُكام كلٍّ من وي وهان بإرسال حملات تأديبية إلى تشو وتشين، فلمَّا اتسعت مساحتها وزادت قوتها العسكرية، استطاعت أن تُحرز سلسلة من الانتصارات والغزوات الناجحة، وذلك بما أصدرَتْه من أوامر قيادية عُليا تُطالب الدويلات التابعة لها بالاشتراك في المجهود القتالي. وكان ذلك ضروريًّا لتجاوز عقباتٍ جغرافية وعوائق طبيعية كان يُمكن لها أن تقف في طريق الزحف العسكري لو أنها كانت تُحارب بمفردها. وهكذا دخلت دولة تشي خمس معارك كبرى وانتصرت فيها جميعًا. وفي الحق، فقد كان ذلك هو السبب في احتفاظها بهيبتها ونفوذها بين الدول، لأنه كان يَكفيها أن تُصاب بالهزيمة مرةً واحدة فقط حتى تتفكك وتنهار، فمِن ثم، أرى يا مولاي أن الحرب تتصل اتصالًا وثيقًا ببقاء ووجود بلدٍ كبير وقوي مثل بلدكم، ثم إني قد سمعتُ أيضًا قولًا أعجبني مفادُه أن من أراد أن يجتنب الكوارث العاتية، فينبغي عليه اجتثاث المصائب من مَنبتِ جذورها، وقد سجل لنا التاريخ ما قامت به دولة تشين من غزوٍ لدولة تشو في سالف الزمن، وبلغ من بأس قوات تشين أنها تقدَّمت حتى استولت على «إينغ دو» عاصمة تشو، ثم احتلَّت مناطق ذات أهمية سياسية أخرى حتى أرغمت حاكم البلاد على الفرار ناحية الحدود الشرقية والاختفاء في مجاهل مدينة «تشندي»، وكانت الظروف القائمة في ذلك الوقت تُشير إلى أن استمرار توغل القوات في أراضي تشو كان يعني سقوط الدولة بالكامل تحت سيطرة قوات الاحتلال، باكتمال السيطرة على أرضها يتوفر مورِد مُهم من موارد الدولة لتلبية حاجات الناس، وبذلك فإن مجموع المحاصيل الزراعية التي تُنتجها يمكن أن يكفي أكثر المطالب الشعبية إلحاحًا، هذا بالإضافة، طبعًا، إلى أن تشين في ظلِّ هذا الوضع كانت تستطيع أن تعمل على استنزاف طاقة دولتي «تشي» و«يان» إضافة إلى إضعاف النفوذ الأدبي للدول الثلاث: هان، جاو، وي، فإذا ما تمَّت هذه الخطوة، تحقَّقت لدولة تشين الزعامة فوق الممالك، واتجهت إليها الوفود الرسمية لجاراتها من الجهات الأربع، تحمل صكوك الولاء والطاعة، إلا أن شيوخ السياسة والتخطيط عندنا لا يضعون هذه التصوُّرات في حساباتهم، وبالتالي لا يتصرَّفون على النحو الذي ذكرتُه لجلالتكم، بل على العكس تمامًا، يُخططون لسحب القوات وعقد تسوياتٍ سِلمية مع «تشو» وهو ما يعطي الفرصة لهذه الأخيرة، كي تلتقِط أنفاسها، وتُعيد ترتيب أوضاعها الداخلية التي أشرفت على الانهيار، فتستعيد إليها الشاردين والهاربين وراء الحدود، وتستعين بالجميع في تشييد مؤسسات الوطن (الدولة) والسماء (المعابد)، ومن ثم تقوم — من جديد — بإخضاع الممالك المجاورة تحت نفوذها، وهو ما يُعطيها فرصة ذهبية تتمكَّن بها من تهديد تشين التي ستجد نفسها قد صحَتْ فجأة من نومٍ عميق، وقد ضاعت منها مقاليد الزعامة.
ولا بد من الإشارة إلى الميول الواضحة التي تبديها الممالك المختلفة للتحالُف فيما بينها والتي تمخَّضت عن توطين جيشٍ مشترك في منطقة «هوايانغ»، ومع ذلك فإن جلالتكم تستطيع أن تقوم بالقضاء على هذا الجيش المُتمركز هناك باستخدام الحيلة والدهاء، وهو ما يتطلَّب منكم دفع قوات باتجاه مدينة «واليان» لمُحاصرتها عدة أيام، وبعدَها تسقط في أيديكم ثمرةً يانعة، فإذا حدث ذلك، لا بد أن تسقط دولتا وي وجاو، بما يترتَّب على ذلك من آثارٍ وخيمة، أهمُّها وأبرزها وقوع دولة جاو تحت مخاطر هائلة تتهدَّدُها، وعندما يتسلَّط الخطر على عنق جاو تتوارى دولة تشين وراء حِجابٍ من عزلة، وتفقد كلَّ سند، والنتيجة الحتمية لذلك هي إمكانية الوثوب على الجبهة الشمالية والاستيلاء على الدويلتَين «تشي» و«يان»، ثم التحرُّك بعد ذلك إلى المنطقة الوسطى لإعاقة فرَص تطوُّر وازدهار الدول الثلاث: (هان، جاو، وي)، وتلك هي الخطوة التي لو تحقَّقت، لأصبح في يدِكم النفوذ والسلطان والقوة فوق الممالك جميعًا، ومن ثم تأتيكم الوفود من كلِّ صوبٍ لتقديم أسمى آيات الولاء والتبجيل، لكن المُشكلة تكمُن في أن رجال التخطيط لم يأخذوا بهذه الاعتبارات، بل قاموا بسحب القوات وعقدوا الصُّلح مع دولة وي التي استطاعت أن تستغلَّ الفرصة لتنهض ثانيةً من كبوتها فتُشيد معابدها ومؤسساتها بعد أن كانت على وشك الانهيار التام، وهكذا ضاعت — للمرة الثانية — فرصة الترقِّي إلى ذُرا المجد والوثوب إلى مكانة الدولة العظمى، وحتى عندما تولَّى «رانغ هو» رئاسة الوزراء منذ وقت غير بعيد، وأراد القيام بإصلاحات شاملة، فقد نجم عن ذلك أنه تورط في خطأ بالغ الخطورة وهو أنه استخدم قوات جيش واحد لخدمة أغراض بلدين مختلفين (دولة تشين، ودويلة تابعة)، فكانت النتيجة إنهاك القوات تحت ظروف مناخية بالغة الصعوبة خارج الحدود واستهلاك طاقة الجماهير في الداخل بغير جدوى، وهكذا أيضًا ضاعت — للمرة الثالثة — الفرصة في تحقيق مكانة سيادية متميزة لدولة تشين.
الجزء الثالث من الفصل نفسه
لمَّا كانت دولة جاو تقع وسط دولٍ ثلاثٍ هي: تشي، هان، وي، على مساحةٍ من الأرض يشغلهاعدد وافر من السكان غير المتجانسين، إذ إنهم أخلاط من شعوب وقبائل شتى، فقد تميزت الحياة الاجتماعية للأهالي هناك بنوع من البساطة والتلقائية وشيء من نزق الطباع الذي يستعصي على الانقياد لسُلطة حاكمة، هذا بالإضافة إلى كثرة تبديل وتغيير اللوائح القانونية، وفقدان الثقة والمصداقية في عدالة الثواب والعقاب. ومن ناحية أخرى، فقد كانت الظروف الجغرافية تحُول دون قيام نظامٍ دفاعي قوي. أما الطبقة الحاكمة فقد عجزت عن أن تُعبئ طاقات الشعب بكاملِه، فلا هي استطاعت أن تُجنِّب البلاد ويلات الانهيار، ولا هي حثَّتِ الناس على توقِّي الخطر، بل قامت باستدعاء أعداد هائلة من الجنود وحشدتهم في مدينة «تشانغ بين»، وذلك تمهيدًا للاستيلاء على قطاع «شانغ وان» — التابع لدولة هان — وهنا يستطيع جلالة الملك أن يستعمل الحيلة والدهاء في تدمير هذا القطاع وإزالته من الوجود تمامًا، بحيث يتمكن من الوثوب إلى مدينة «ووآن» والاستيلاء عليها. وعندئذٍ، يتبدل ما كان بين حاكم جاو ورجاله من وئام، ويدب النزاع بين الأهالي والجنود والإدارة الحكومية. وهو ما سيجعل أهم مدينة عندهم (هان وان) في مهب الريح، دون دفاع متماسك، فإذا ما اقتحمتها جيوش تشين، وقامت بعد ذلك بإعادة تجميع وتعبئة قواتها ثم واصلت الزحف إلى الغرب مُتجاوزة بذلك الحصون المنيعة في «يانغ شانغ»، فسيُمكنها أن تُخضع مقاطعتي «داي» و«شانغ داي» وتتكون داي من ستة وثلاثين إقليمًا، أما شانغ داي فيتبعها سبعة عشر إقليمًا، وهو ما يعني أن تشين ستحصل على غنيمة ثمينة دون أن يرفع جندي سلاحه أو أن يُشمِّر مدني عن ساعده. وهكذا تسقط كلتا المقاطعتين في يد تشين بغير قتال، وتقع كل من مقاطعتي «دونيانغ» — من أرض جاو — و«خوي» في حوزة دولة تشي، وكذلك تئول المناطق الواقعة شمال بحيرة «شونهو» لملكية دولة «يان». وحسبما هو حاصل فإنه إذا تم الهجوم على جاو، فسوف تتعرَّض دولة هان للمخاطر، ونتيجة لذلك تُصبح كلٌّ من وي وتشو في وضع يُعرِّض استقلالهما للمخاطر، وهكذا فإن خطوةً واحدة يقوم بها الملك ستؤدي إلى القضاء على هان، وإيذاء وي، وإخضاع وإضعاف هيبة ونفوذ تشو، وشي، ويان، فإذا أمكن تدمير خزان «بايما» فإن فيضانًا هائلًا سينطلق من عقاله ويُغرق دولة وي عن أسرها، بل يمكن لمِثل تلك الخطة أن تسحق الممالك الثلاث وتحالف قوى الدول الست، وليس على مولاي بعد ذلك سوى أن يجني قطوف المجد، فيعظُم سلطانه فوق الممالك، لكن العقبة تكمُن في عجز خبراء التخطيط عن تصور تلك الترتيبات، بل كما أشرت آنفًا، سارعوا إلى سحب القوات وعقد الصلح مع دولة جاو، مما ضيَّع على الجميع فرصة تحقيق المجد والمكانة العظمى لدولة تشين وملِكِها بين الدول، حتى اهتزَّت صورة بلادكم في عين الجميع وصارت دولةٌ على وشك التفكك والانهيار مثل دولةِ جاو تُوقِع بكم في أحابيلها ودهاليز مكرِها وخداعها، فما كان ممكنًا لكل ذلك أن يتم لولا غفلة المُخطِّطين وجهلهم، هذا من جهة، أما من جهةٍ أخرى، فقد تجلَّت الآن حقيقة على مرأى من الجميع ألا وهي أن دولة جاو التي كان ينبغي لها أن تسقط وتندحِر، قُدِّر لها أن تبقى وتنهض من كبوَتِها، ودولة تشين التي كان من المأمول لها أن تعتلي ذُرا المجد والسطوة، تراجعت وتقهقرت كثيرًا عما كان ينبغي لها أن تبلُغه، فالحاصل أن الجميع أصبح يُدرك مستوى التخطيط المُتدنِّي في تشين. هذه واحدة، ثم إنه لمَّا حدث استنفار للحشود العسكرية للهجوم على مدينة «هان وان»، اتضح عجز القوات عن تحقيق هذا الهدف، ففشل الهجوم، ودبَّت الفوضى وسط الجنود، حتى إن بعضهم نزع دروعه وألقى سلاحه وفرَّ هاربًا من الميدان تحت سمع وبصر الجميع، مما أعطى انطباعًا سيئًا عن مدى الإعداد القتالي لقوات تشين. تلك هي المسألة الثانية، أما المسألة الثالثة فتتمثَّل في أنه بعد أن تقرَّر أن تتمركز القوات المنسحِبة بالقرب من مدينة «لي تشنغ» أصدر جلالة الملك أمره بحشد القوات ثانيةً للقتال وهو ما لم يكن مُمكنًا معه تحقيق أية مكاسب أو انتصارات على أي نحوٍ من الأنحاء، ولمَّا كان الجيشان المُتعاركان قد بلغ بهما الإنهاك مداه، فقد آثر كلاهما الانسحاب. وهكذا برزت أمام الجميع حقائق موقف تعكس الحالة المُزرية التي بلغتها قوة دولة في حجم تشين. إذن ففي الداخل، أدرك الناس جهل الخبراء السياسيين، مِثلما لمسوا في الخارج ضعف المستوى القتالي للجيش؛ فمن ثم أرى أنه ليس بالإمكان مواجهة قوات مُتحالفة تضم عددًا كبيرًا من الممالك، وذلك طبعًا يرجع إلى ما أصاب القوات من ضعفٍ وإنهاك بالإضافة إلى شظَف العيش الذي يُحيط بالأهالي من كل صوب، ونُدرة الادخار، وجفاف الحقول، ونضوب المحاصيل الغذائية. أمَّا على المستوى الخارجي، فقد بلغت عزيمة قوات التحالف حدًّا لا مثيل له من الثبات والصلابة، وهو الأمر الذي يتطلب من جلالة الحاكم إدامة النظر وإمعان الفكر والروية، ثم إني قد سمعتُ يا مولاي بأن توخِّي الحذر مَدعاة لحُسن التصرف، فإذا قرنت الحذر والانضباط دانت لك الممالك، وخضعت تحت سلطانك، ولئن كنتَ في شكٍّ مما أقول فإني أسوق لك شيئًا من وقائع التاريخ القديم؛ ذلك أنه لمَّا كان الملك «دوجوانغ» (حاكم دولة شانغ) وكان طاغية مُستبدًّا، ما زال بعدُ أميرًا حدثًا في السن، لم تعركه الحوادث، فقد خرج قائدًا لجيشٍ جرَّار قوامه ألف ألف مقاتل، وحدث أنَّ قوات المَيسرة ذهبت لتسقي الجياد عند وادي تشي، أمَّا قوات الميمنة فقد قصدت صوب هوان لتروي ظمأها بعد أن أجهدها المَسير، إلا أن المؤسف في ذلك كله أن بئر الوادي قد جفَّت وانقطع مجرى النهر، فلمَّا أقبلت ساعة القتال والتحم الجيشان: جيش الأمير، وقوات الملك «أوو» التي لم يتجاوز عددها الثلاثة آلاف مقاتل يرتدون حللًا عسكرية بيضاء حدادًا على وفاة أحد رجال الدولة، ثم إن القوات صمدت في المعركة التي دامت يومًا واحدًا فقط، واستطاعت أن تقهر جيش الأمير «جوانغ»، بل دخلت أرضه واحتلَّت عاصمة البلاد وألقت القبض عليه شخصيًّا بعد أن احتلَّت بلدَه واستعبدت شعبه، فكانت حالة مُثيرة للرثاء والشفقة بحق، وحدث أيضًا أن «جيبو» (أحد كبار قادة دولة جين) قاد جيوش ثلاث دويلات مُجتمعة ذاهبًا لقتال «جاو شيانزي» (أحد القادة الهاربين من دولة جين)، وقام جيبو بهدم جزءٍ من جدار سدِّ النهر، يريد إغراق طريده، فلمَّا انقضت ثلاث سنوات كاملة، وأصبحت المدينة على وشك السقوط تحت ضربات الهجوم العنيف، وذهب «جاو شيانزي» إلى العرَّافين والكهَّان وكان له اعتقاد شديد بحسابات الحظ ومعادلات الأبراج الفلكية، ثم إذا به يتخيَّر أكثر الأيام والساعات حظًّا في اتخاذ قراراته، وأوفد مُستشاره الشخصي في مهمة سرية خارج أسوار المدينة، فقام هذا الأخير بمهمته على خير وجه، إذ تسلل خفيةً دون أن يشعر به أحد، ولجأ إلى أسلوب الخداع الشهير ﺑ «فانجيان» أي زرع الأوهام والشكوك في قلوب الأعداء، وذلك لتخريب الاتحاد القائم بين هان ووي من ناحية، و«جيبو» من ناحية أخرى واستمال إلى صفِّه أهالي تلك الدولتَين، ليستخدمهم في صد قوات جيبو، بل القبض على جيبو شخصيًّا واعتقاله، مُظهرًا بذلك أعظم آيات الولاء والعرفان ﻟ «جاو شيانزي». وإذا تأمَّلنا حال تشين اليوم، ألفَينا التوازن الرائع في توزيع مساحتها، هذا مع الاتساع الهائل الضارب في آفاق الأرض ووفرة الجنود والمُقاتلين، ومزايا موقعها الجغرافي التي تتمتع بها دون سواها من الممالك والدول، بالإضافة إلى سيادة القانون وعدالة الأحكام والشرائع، فإذا قام التنافُس بين تشين وغيرها من الدول سعيًا للمكانة العُظمى والهيبة والهيمنة، صارت اليد العليا ﻟ «تشين»، ومدَّت سلطانها فوق باقي الدول والأقاليم والممالك. أما وإني قد غامرتُ بحياتي ووضعت رقبتي تحت حد السيف لا لشيء إلَّا رغبةً في لقاء وجهك يا مولاي كي أعرض عليك كيفية نص التحالُف القائم بين الممالك، وضرب دولة جاو، وتدمير هان، وحث كلٍّ من وي وتشو على التسليم والاعتراف بمكانتكم، وأخيرًا، كي أعمل على التقريب بين «تشي» و«يان» لإتمام آخر بندٍ في مشروع إقامة مملكة تشين الكبرى، التي يخضع لنفوذها كل جيرانها من الدول والممالك، وإني لأرجو أن يتفضل مولاي بأن يتَّخذ مما قلتُه آنفًا منهاجًا وخطةً للعمل، وإني على استعداد، إذا ما فشلت هذه الخطة في أن تؤتي ثمارها على النحو الذي أوضحته، بأن يُقطَع رأسي عقابًا رادعًا لجهلي وقلة فطنتي، وما قد أجلُبه من متاعب لجلالتكم بسبب الرعونة والطيش وسوء التدبير.»
لمَّا فكر تشانغي أن يطلب إمدادات عسكرية
لمَّا فكر تشانغي أن يطلب قوات عسكرية من دولة تشين، وذلك للدفاع عن وي، فقد ذهب «زوشنغ» إلى كانماو (أحد القادة العسكريين بدولة تشين)، وقال له: «خذ بنصيحتي، وابذل له العدد الوافر من القوات، فإذا ما حدثت إصابات أو خسائر جسيمة في الأرواح، فستبدو دولة وي بهيئة الذي فرَّط في أمانةٍ من أغلى الأمانات، وعندئذٍ، فلن تستطيع أن تُعيد حتى القوة السالمة المُتبقية من الجنود إلى تشين، وبالطبع فلن يجسُر «تشانغي» أن يعود بصحبة أكفان الموتى، ولن يتحمَّل شعوره بأنه السبب في تعاسة أهالي الضحايا، وربما تعرض لأشد العقوبات قسوةً وشراسة، أمَّا إذا كان النصر حليفَه، فستعود القوات بكامل أفرادها إلى أوطانها، بينما سيظلُّ تشانغي هناك، وقد تملَّكه الزهو والفخر، وسكر رأسُه من نشوة الانتصار، ولربما شعر مع ذلك بالقلق من أن تظنَّ دولة تشين به الظنون، حيث يُقال إنه أكثر إخلاصًا وتفانيًا ﻟ «وي»، على حساب أية اعتباراتٍ أخرى، وبالتالي يتردَّد في العودة إلى تشين ولا بد أن تتذكَّر جيدًّا أنه إذا بقِيَ ها هنا، فسوف يترقَّى بفضل مواهبه إلى مكانةٍ أرفع بكثير مما تظن، على الأقل، فسيتفوق عليك في نواحٍ شتَّى ويعلو علوًّا كبيرًا.»
لمَّا تجادل تشانغي مع الجنرال صماتسو
اشتعل أوار الجدل بين «تشانغي» و«صما» (أحد كبار القادة العسكريين) أمام الملك «هوي» حاكم تشين، وكان «صما» يريد مهاجمة دولة «شو»، وكان أن قال له «تشانغي»: «أما كان يجدُر بك أن تفكر أولًا في مهاجمة دولة هان؟» وهنا أشار إليه الملك بقوله: «فليطرح كلٌّ منكما حُجته، وها أنا ذا أنصت وأتأمل!» فبادر «تشانغي» إلى القول: «أرى أن نتقرَّب إلى دولة وي أولًا، ونُعمِّق صِلاتنا الودية بدولة تشو، ثم نقوم بتجريد حملةٍ عسكرية إلى منطقة سانشوان، ثم ندفع بقواتنا لسدِّ مَضيق جبل «هوانيوان» و«كوشي»، وإغلاق الطريق الرئيسي المار بمنطقة «شونليو»، ولندع وي تقوم بعزل إقليم «نانيانغ»، وكذلك نسمح لدولة تشو بالاقتراب من «نانجين»، وهنا تتقدَّم قواتنا (جيش تشين) لمهاجمة «شين شنغ» و«إيانغ»، ونتوغل حتى نبلغ أطراف دولة جو الشرقية، ونتوقف ريثما نقوم بحرب نفسية تهدف إلى فضح مساوئ البيت الحاكم في جو، ثم نواصل الزحف لاحتلال أراضي كلٍّ من يوي وتشو، فإذا ما أدرك حاكم جو أنه هالك لا محالة، فسوف يُفكر جديًّا في التنازل عن الإرث الإمبراطوري المُقدس؛ وبحصولنا على هذه القطعة المقدسة المأثورة عن أسلافنا الأباطرة العظام، نستطيع أن نضبط النظم القانونية والتشريعات التي يعمل بموجبها أمراء الأقاليم، وأن نضع إحصاءاتٍ دقيقةً للسكان والخرائط المَسحية التي تمهد السبيل لإجراء ذلك الضبط، فنمُد سلطانها فوق كل الممالك، ويسجل التاريخ لنا أعظم مأثرةٍ يمكن أن نُحققها للبلاد جميعًا ألا وهي الوحدة الكبرى. أما بخصوص دولة تشو، فالأمر لا يستحقُّ أدنى اهتمامٍ؛ نظرًا لأن هذا البلد يقع في أقصى الغرب من الممالك جميعًا، بل هو موطن البرابرة والقبائل الهمجية، ولن يُجدينا نفعًا شنُّ الغارة عليها، بل نكون قد حمَّلنا الجيش والشعب والناس جميعًا ما لا يُطيقون دون فائدة، سواء غنِمنا أرض تشو أو حالت دونَنا وتلك الغاية أية عقبات. وقد قيل قديمًا يا مولاي: «إن طريق المجد يبدأ من بوابات قصور الحكم، أما طريق الربح فيمر من بين أسواق التجارة».
ولا ينطبق هذا القول على شيءٍ قدْر انطباقه على «سانشوان» ودولة جو، ذلك أنهما يُمثلان رمز المجد وسوق التجارة معًا، وكان من الأجدى بجلالتكم الانتباه بقدْر كافٍ لِما يُمثلانه من أهمية، بدلًا من استنفار كل قوَّتكم لأجل قبائل نائية عن العمران والتحضر، يقوِّض من أركان الطموح الإمبراطوري العظيم بما يُباعد من فرَص تحقيق المجد المأمول.»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
ثم تحدث «صماتسو» قائلًا: «الأمر على غير هذا النحو يا مولاي، واسمح لي بأن أَذكُر لجلالتكم، في هذا الصدد مقولة سمعتها منذ زمنٍ مفادها أن عماد ثروة الوطن، سعة مساحته وانفساح حدود أرضه، أمَّا مَكمن قوَّته الضاربة فيتمثل في سد حاجات الشعب، ولا يبلُغ البلد ذرا المجد والسؤدد إلا بإنفاذ السياسات العادلة، فإذا ما توافرت تلك الشروط الثلاثة، تحقَّقت للأوطان عزَّتها، وامتدَّ سلطانها فوق الممالك، أما وإن بلادك ضئيلة المساحة يا مولاي، وشعبك فقير، فلا أرى لكم إلا أن تُبادر إلى بلدٍ يسهل التعامُل معه، وأقترح أن يكون هذا البلد هو «تشو»، تلك الدويلة الواقعة في أقصى غرب الأرض، والتي تُمثل القبيلة الجامعة للبرابرة والهمج الساكنين في الأحراش، وهذا بالإضافة إلى ما حلَّ بها من تخريب على يد الطاغيتَين «جيه» (آخر ملوك أسرة شيا)، و«تجو» (آخر حكام أسرة شانغ)، فإن جلالتك إنما تُسيِّر إليها جيشًا يصرعها ويطرح رأسها تحت أقدامِه كما يطرح الذئب الشاة، فتستولِيَ على أرضها وتَضمُّها إلى أملاك دولة تشين الكبرى وتوسِّع حدودك إلى الآفاق البعيدة وتغنم منها ثرواتها، ثم تفيء على شعبك بالخير العميم، ولن يُكلفك الأمر سوى حُسن التنظيم والإعداد القتالي الكفء، دون أن تُحمِّل الناس ما لا يُطيقون، ثم إنك باقتحامك دويلةً ضئيلة بحجم تشو، ستُخرج بطلًا مُظفرًا في وقتٍ قصير نسبيًّا، دون اللجوء إلى أساليب وحشية تُسيء إلى سمعتك، وبرغم ما يمكن أن يقع في يدك من مغانم مهولة، فلن يراك الملوك ناهبًا ثروات الغير، فتلك فرصة نادرة للحصول على نفعٍ مادي ومعنوي دون واسطة التحرك القتالي، بل وربما تَجني من وراء ذلك أيضًا صيتًا وشهرةً، يُطيِّبان ذكرك وسط الممالك بمقولة إنك البطل الفاتح الذي لا يتهاون مع الطغاة والجبارين، ولا يسكت عن الاضطراب والفوضى، لكنك يا مولاي، إذا ذهبت اليوم لقتال هان، وجرَتْ عليها سيوفك، وأسرْتَ المزيد من رجالها وأمرائها، فلن يعود عليك ذلك إلا بالهوان والخسران وسط الممالك، هذا بالإضافة إلى أن القاعدة العامة في القتال تُقرر بأنَّ الهجوم على بلدٍ ليس محلًّا للتنازُع، مسألة خطيرة جدًّا. ولكي أوضح لك هذه النقطة الأخيرة، فلا بد أن أُذكرك بأن البيت الحاكم في جو يُعَد بيت ملوك وأباطرة منذ الأزل، وهناك علاقات صداقة بينهم وبين كلٍّ من دولتي تشي وهان، فإذا ما أدرك حاكم جو بأنه خاسر الإرث الإمبراطوري الأقدس، وكذلك شعرت دولة هان بأن نهر «سانشوان» مسلوب منها لا محالة، فسيتعاون البلدان معًا، ويتحالفان مع دولتي «تشي» و«جاو»، ثم يطلبان العون والدعم من وي وتشو، فإذا ما قررت جو أن تتنازل عن الإرث الإمبراطوري المُقدس لدولة تشو، أو أرادت هان أن تهدي النهر إلى يو، فلن يملك مولاي أن يفعل شيئًا إزاء هذا الأمر، فذلك هو ما أراه عين الخطر، نظرًا لأن مهاجمة دويلة مثل شو يختلف عن مهاجمة هان». عندئذٍ أجابه ملك تشين بقوله: «نِعم الرأي إذن، ذلك هو ما سآخُذ به».
ثم إن دولة تشين جرَّدت حملة عسكرية إلى تشو، فاحتلت أراضيها جميعًا في بضعة أيام، وما لبثت أن قامت بترتيب الأوضاع وفق هواها، وأجرت التعديلات المُلائمة، فغيرت لقب «ملك تشو» إلى «أمير الإقطاع»، ثم عيَّنت «شين جوان» في منصب رئيس الوزراء، وهكذا صارت تشو إمارةً تابعة لدولة تشين الكبرى التي لمع نجم بهائها، وقَوِيَت وعلت في الأرض علوًّا كبيرًا حتى خافت بأسَها كل الممالك.
لمَّا راح تشانغي يكيد للوزير شوليجي
بلغ كيد تشانغي للوزير «شوليجي» أنه تظاهر بالتبجيل والاحترام البالِغ لمكانة الوزير، حتى إنه قام بترشيحه للذهاب إلى دولة تشو لمهمةٍ رسمية، بل سعى بكل جهده لدى حاكم تشو كي يتقدَّم بطلب رسمي لحاكم تشين للسماح له بتعيين شوليجي في منصب رئيس الوزراء، وكان من جُملة ما قال تشانغي لملك تشين: «إن الغرَض من إيفاد «شوليجي» مبعوثًا رسميًّا لدولة تشو؛ توطيد دعائم الصداقة بين البلدَين، فما بال جلالتك وقد استقرَّ به المقام هناك وحاز رضا حاكم تشو الذي طلب تعيينَه رئيسًا للوزراء، بل بلغَني أنه قال للحاكم هناك ما نصُّه: «إن كنتَ تُفكر جلالتك في الإيقاع ﺑ «تشانغي» في ورطة، أو أن تُسيء إليه أمام البلاط الحاكم في تشين، فدَعْني أُقدم لجلالتكم يدَ العون في هذا السبيل.» فلمَّا تأكد ملك تشو من صدق مقالته، سعى لدى جلالتكم للموافقة على تعيين شوليجي رئيسًا لوزرائكم في بلاط تشين، فإذا استجبتُم لهذا الطلب، فسوف تسمحون له بالتجسُّس لصالح تشو.» ثم إن ملك تشين اقتنع بهذا القول، وراح يُعِد للتنكيل ﺑ «شوليجي»، إلا أن الأخير فرَّ هاربًا من تشين.
لمَّا فكر تشانغي في التنازل عن هانجون
لمَّا فكر تشانغي في التنازل عن هانجون لدولة تشو، فقد توجَّه من فوره إلى الملك «هوي» حاكم تشين وقال له: «لا أرى يا مولاي إلا أن منطقة هانجون هذه هي مصدر كل المتاعب وأُس البلاء، فكأنها شجرة خبيثة غُرِست في أرضٍ طيِّبة، فلا الشجرة اقتلعت ولا المصائب أدبرت، أو كأنها ثروة يتنازعها أشقياء، الكلُّ يريدها لنفسه. ولئن تأمَّلنا الوضع الآن، وجدْنا أن القطاع الجنوبي من منطقة هانجون يقع ملاصقًا لدولة تشو، وهي تَعُدُّ هذا الجزء حيويًّا ومهمًّا بالنسبة لها، وهو الأمر الذي يُسبب بالِغ القلق لدولة «تشين».» وهنا تدخَّل «كانماو» ليقول لجلالة الملك ما نصُّه «إن حجم القلق يتناسب دائمًا مع مساحة الأرض محلِّ النزاع، وإني أرى يا مولاي أنه إذا ما تسبَّبت هذه الأرض في مشاحنات أو أدَّت إلى اضطرباتٍ في العلاقات بين الممالك، فلا بأس من التنازل عنها لصالح اتفاقات الصُّلح المتبادلة وإقامة علاقات طيبة بين الدول بعضها ببعض، ومع ذلك فلا أشك لحظةً في أن تشو لن تلتزم بمبادئ الود والصداقة، وأنها سرعان ما ستنقُضُ الصلح وتعود سيرتها الأولى، ولئن كان في مقدور جلالتكم اليوم التنازُل عن أرضٍ بهدف إقامة علاقات ودية مع تشو، فماذا لو تفاقَمَ التنازع والشقاق بين الممالك؟! هل ستجدون عندئذٍ ما تُقدمونه عربونًا للصداقة مع تشو؟!»
لمَّا قامت دولة تشو بالهجوم على وي
لمَّا أعدت دولة تشو العُدة لمهاجمة وي، ذهب تشانغي إلى دولة تشين، وقال ما نصه: «أرى يا مولاي أن أفضل موقفٍ يمكن أن تتَّخِذه جلالتك في هذه الأثناء هو أن تقوم بمساعدة «وي» بكلِّ طريقةٍ مُمكنة، حتى تبلغ غاية القوة، وتتمكن من إحراز النصر على عدوتها، فتظل تذكُر سابغ فضلك، وتنزل دائمًا على رأيك، وتعمل بنصيحتك، ثم إنك تستطيع أيضًا أن تحصل منها على مدينة «شيها» الواقعة بالقُرب من حدودك، أما إذا خانَتْها المقادير ووقعت في إسار الهزيمة، فسيكون استعدادها القتالي، عندئذٍ، في أسوأ أوضاعه، وهو أيضًا ما يُمكِّنكم من الحصول على المدينة بأيسر مُحاولة.» وبالفعل فقد أخذ جلالة الملك «هوي» حاكم تشين بنصيحة تشانغي، وقام بتجهيز جيشٍ من أفضل جنوده، بلغ عدد أفراده عشرة آلاف مقاتل، وجهَّزهم بمعدات القتال، بالإضافة إلى مائة عربةٍ عسكرية، وذلك لمساعدة دولة وي، وتقدَّمت القوات تحت قيادة شيشو (رئيس وزراء وي الأسبق)، وأحرزت النصر على قوات تشو، لكن جيش وي كان قد بذل جهدًا خارقًا أثناء القتال مما استنفد طاقته الضاربة، فاستولى عليه الإنهاك ودبَّت بين صفوفه الفوضى، وهنالك أدركت وي حساسية الموقف الذي وجدت نفسها فيه خاصة أمام قوة وتعاظم ونفوذ تشين الكبرى، فأقدمت على التنازُل عن مدينة «شيها» لدولة تشين.
لمَّا ذهب تيان شين بديلًا عن الخطيب المُفوَّه
ذهب «تيان شين» بديلًا عن الخطيب المُفوَّه ورجل الدعاية «تشين جين» وذلك في محاولةٍ منه لإقناع ملك تشين بإحدى السياسات المُقترحة، وكان أن قال للملك ما نصُّه: «أخشى أن يقع الملك في المحظور الذي وقع فيه قائد قبيلة «قو» ذلك أنه لمَّا أراد أمير دولة «جين» مهاجمة أرض «قو»، فقد أعدَّ العدة لكل شيء، ولم يمنعه عن تنفيذ خطته إلا وجود طبيب القبيلة «جو جيشاو»، ومن المأثور في كتاب (أخبار جو) عبارة ذات مَغزًى كبير، نصُّها كالتالي: «إن امرأةً بارعة الجمال، تملك من النفوذ ما لا يملكه وزير ذو دهاء وحنكة ودراية، ومن ثم فقد استعان الأمير بواحدةٍ من جنس النساء ذات حُسن ورقَّة وأنوثة لا مزيد عليها، فتمكن بواسطتها من إيقاع الفتنة والاضطراب بالخُطط السياسية لأعدائه. وكان طبيب القبيلة «جو جيشاو» قد أخلص النصح لرئيسه، إلا أن أحدًا لم يعبأ بما قال، فما كان منه إلا أن خرج من البلاد هائمًا على وجهه، فما لبث بعدها أن هجم أمير «جين» بقوَّاته على القبيلة فأوسعها تنكيلًا وبطشًا، فاستسلمت له سريعًا، ثم إن الأمير راح يُفكر في غزو دولة «ويو»، لكنه كان يخشى أيضًا من وجود رجلٍ داهية يقطن بين جنبَيها، ألا وهو الطبيب الرسمي الخاص بالبلاط الحاكم «كون جيشي»، وكان الطبيب الرسمي الشهير «شونسي» الذي عمل قديمًا ببلاط دولة «جين» يُكرر دائمًا مقولةً وردت في كتاب (أخبار جو) مفادها: «إن فتًى صغير السن قد يغلِب شيخًا مُحنكًا بدهائه وفطنته.» وهكذا فقد قرَّر الأمير إيفاد أحد الفتيان من موظفي القصر للإيقاع ﺑ «كون جيشي» (الطبيب الرسمي للبلاط الحاكم بدولة يو)، ولم يختلف مصير هذا الأخير عما لاقاه «جوجيشاو»، حيث وجد نفسه معزولًا عن البلاط الذي أصمَّ أذنَيه عن نصائحه، فرحل عن البلاد يهيم في الطرقات البعيدة، ولم يلبث الأمير أن وجد الفرصة سانحةً لشن غاراته على دولة يو، فلم يتوانَ عن ذلك حتى بلغ غايته، ودك الحصون، واستولى على البلاد بكاملها.» أما وقد أصدرت جلالتكم فرمانًا يُعلن للدنيا تنصيبكم إمبراطورًا لدولة تشين الكبرى، فإن دولة تشو ستقف لكم بالمرصاد، وتبذل كل جهدٍ للنيل من جلالتكم، ثم إنهم في تشو يعرفون الكثير عن أهم رجالِكم، فهم يُدركون مدى الجرأة والذكاء والنبوغ الذي يتحلَّى به «هوانمجون» أهم وأكفأ قادتكم العسكريين، ويُدركون أيضًا ما يتَّسِم به «تشين جين» من سعة الحيلة والدهاء، ومن ثَم فقد قاموا بتكليف «تشانغي» بالسفر إلى كلٍّ من الدول الآتية: وي، وهان، وجاو، ويان، وتشي، ومن المؤكد تمامًا أن مجيء «تشانغي» إلى تشين لم يكن الهدف منه سوى النيل من سُمعة وكفاءة «هوانمجون» و«تشين جين»، لذلك، أرجو من جلالة الإمبراطور عدم الإفراط في الثقة بذلك الرجل.» وبالفعل، فلم تكد تمضي عدة أيام حتى قدَّم «تشانغي» إلى جلالة الملك «هوي» حاكم تشين، الإمبراطور كتابًا يتضمن هجومًا على «تشين جين»، وتسفيهًا لخصاله، وهو الأمر الذي أثار غضب جلالة الملك، وأوقع في نفسه الشك في نوايا «تشانغي».
لمَّا قدم تشانغي إلى جلالة الملك هوي
لمَّا قدم «تشانغي» إلى جلالة الملك «هوي» حاكم تشين، راح يُعدد المثالب التي وقع فيها «تشين جين» قائلًا ما نصُّه: «أما ترى جلالتك أن «تشين جين» يروح ويجيء بين بلادكم ودولة تشو، فهو دائم التنقل بين اللذَين لم يُفلحا حتى الآن في توطيد علاقات الصداقة بينهما، هذا بينما يحافظ هو نفسه على عهود الودِّ بينه وبين تشو، أليس في ذلك تضييع للمصلحة العامة سعيًا لمطمعٍ أناني؟! ثم ما بالك لو علمتَ أنه ينوي الرحيل من بلادكم قاصدًا الإقامة الكاملة في تشو؟! تلك أمور يا مولاي تستحقُّ من جلالتكم مزيد التقصي والمُراقبة لأحواله.» وهنا توجَّه جلالة الملك بالكلام إلى «تشين جين» ليقول له ما نصه: «أصحيح ما سمعتُه من ذهابك إلى تشو؟» فأجابه «تشين جين» بقوله: «لا أُنكر أن هذا صحيح تمامًا يا مولاي.» فقال له الملك ما نصُّه: «إذن، فقد صدَقَنا «تشانغي» القول في هذا الشأن!» فردَّ عليه تشين قائلًا: «الحق يا مولاي أن كلَّ الناس تعرف بأمر ذهابي إلى تشو، حتى عابرو السبيل في الطرقات يعرفون ذلك، ولا يقتصر الأمر على «تشانغي» وحده.»
ثم واصل ليقول: «كانت الناس فيما مضى تتخذ من سيرة الأمير «شياوجي» مضرب المثل في البر بالوالدين، حتى كانت كل الآباء والأمهات يتمنَّون أن يتَّخذوه ولدًا لهم، وكذلك قيل في «أوزدان» ما لا يزيد عليه من معاني الإخلاص والتفاني للوطن، حتى كانت كل القصور الحاكمة تحلم باستقدامه وتعيينه في أرفع المناصب. إن العبد الذي يبيعه مولاه وهو راضٍ عنه، لهو أعزُّ العبيد شأنًا، وإن الجارية التي إذا تنازل عنها سيدُها اشتراها جارُها لهي أحسن من كل الجواري، وكذلك فإن المرأة التي ما هجرها زوجها، إلَّا وجدت من يطلُب ودَّها من بين أهل نفس الدار المُقيمة بها، لهي أكرم الزوجات جميعًا، ولا يخفى عنكم يا مولاي أني أنوي الذهاب إلى تشو، لكن ما ظنُّكم برجلٍ يخون سيده، أيمكن أن يطمئن إليه وإلى إخلاصه ووفائه السادة الآخرون؟! أما وقد شاع أن جلالتكم تُريدون إبعادي عن القصر، فتُرى أين يمكن لي أن أذهب يا مولاي وليس أمامي سوى دولة تشو، وهي أقرب الجيران؟» وهنا تفكَّر الملك قليلًا ثم قال: «تريَّث وابقَ معنا، فأنت آمِن تحت سُلطاننا.» وأصدر جلالته فرمانًا بإبطال كل الإجراءات المُتعلقة بإبعاد «تشين جين» عن القصر.
لمَّا غادر تشين جين دولة تشو إلى تشين
وحدث أن غادر «تشين جين» دولة تشو عائدًا إلى تشين، وهنالك، تحدث تشانغي إلى الملك «هوي» حاكم تشين، قائلًا ما نصه: «لا أدري يا مولاي كيف يَصِحُّ أن يكون «تشين جين» هو وزيرك وموضع ثقة جلالتك، ثم إذا به يخون هذه الثقة وينقل أدقَّ أسرار بلاطك الحاكم إلى تشو؟ اسمح لي يا مولاي أن أقول لجلالتك إني لا أستطيع التعامل مع هذا الرجل بأي صفة وتحت أي وضع، بل أتقدم لجلالتكم راجيًا طردَه من القصر، وإذا بَدَا لجلالتك أنه يُزمع الرحيل إلى تشو، فلا مَعدى عن أن تأمُروا بالتخلص منه.» فأجابه الملك بقوله: «وكيف يجسُر تشين جين على الفرار إلى تشو؟» وقام الملك باستدعاء «تشين جين» فمثل بين يدَيه، فكلَّمه الملك، قال: «اصدُقنى القول، تفكر حقًّا في الرحيل إلى تشو؟ وكيف تحجب عنِّي قرارك هذا وأنا مليكك؟ أما كان يجدُر بنا أن نزودك بمئونة السفر، ونبذل لك ما تريد، ونجهز موكبًا يليق بمقامك عندنا!» فأجابه «تشين جين» بقوله: «الحق أني أفكر في الذهاب فعلًا إلى تشو» فقال له الملك: «هكذا كان تشانغي يقدر أنك على وشك الرحيل، فهذا أمر لم يغب عن حدسِنا على أية حال، وذلك أني أعرف تمامًا أنك لن تذهب إلى أي بلدٍ آخر.» عندئذٍ رد عليه «تشين جين» قائلًا: «الحق يا مولاي أني إذا خرجتُ من هذا البلد، فسأقصد عامدًا إلى تشو، لا لشيء، إلا لكي يصدُق عليَّ حدس جلالتك، وظنون «تشانغي» بي، فأنا في قرارة نفسي لا أنوي الذهاب إلى هناك أصلًا، لكني سأمر بذاك البلد كيلا أكذِّب تصوُّرك، احترامًا وتقديرًا لحدس أفكارك، لكن دعني أقصُّ على جلالتك حكاية رجلٍ كان يعيش في دولة تشو منذ زمان بعيد، وكان لهذا الرجل زوجتان، فذهب من وراء ظهره من راود زوجته الكبرى عن نفسها، فزجرته المرأة وطردَتْه شرَّ طردة، فلمَّا قصد ذلك الصاحب الخائن إلى الزوجة الصغرى، وجدَها طوع بنانه، وحدث أن تُوفِّي الزوج، وانتقل إلى رحاب السماء، فذهب رجل طيب ونصح للَّذي راود الزوجتَين، أن يتزوَّج بأيهما يريد لنفسه، فأجابه بأنه يريد أن يتقدَّم للزوجة الكبرى، فاستغرب الرجل الطيب وقال له: «كيف تطلُب امرأةً أهانتك وزجرتك عندما تقرَّبْت منها، بينما ترفُض الأخرى التي أحبَّتك ووافقت أغراضك؟» فأجابه المُراوِد: «بالطبع كنت أرجو أن أجد القبول لدَيها عندما راودتُها، لكني الآن وبعد أن أقترِن بها، فلا بد أني سأجِد عندها الإخلاص نفسه الذي تتدرَّع به لصدِّ الغوايات الخبيثة.» ثم إنك تعلم يا مولاي مدى الذكاء الذي يتمتَّع به حاكم تشو بالإضافة إلى ما تميَّز به رئيس وزرائه «جاويان» هو الآخر من فطنة ونجابة، ولا بدَّ أنهما سيرفضان بكل شدة أن يُبقياني بأرضهما أو يُقرباني من مجلسهما إذا ما علِما بأني أُذيع أسرار الممالك التي عملت بها، وأُفشي خبايا القصور بحُكم ما توفر لدي من معلومات إبَّان وظيفتي بالبلاط الحاكم، أفتظن جلالتكم أني أستطيع بعد كل هذا أن أذهب حقًّا إلى تشو؟!»
فلمَّا ذهب «تشين جين» إلى حال سبيله، وجاء «تشانغي» إلى الملك وسأله بما نصُّه: «ما زلنا لم نتحقَّق بعدُ من احتمال ذهاب «تشين جين» إلى تشو من عدمه؟!» فأجابه الملك بقوله: «الحق أني ما وجدتُ بين الناس جميعًا من هو أكثر دهاءً من هذا اﻟ «تشين جين»؛ ذلك أني باغتُّه بالسؤال عن موضوع ذهابه إلى تشو، حتى نظر إليَّ وتأمَّلني برهةً وأجاب بما مفاده أنه لا بدَّ ذاهب إلى هناك، فلم أدرِ بم أُجيبه، لكني قلتُ له على الفور إنه ما دام الأمر كذلك، فقد كان تشانغي على حقٍّ فيما رواه بهذا الآن، فردَّ عليَّ قائلًا إن كلَّ الناس تعرف أنه مسافر إلى تشو، وليس تشانغي فقط هو الذي تفتَّق ذهنه عن كشف المستور، ثم ذكَر لي شيئًا من أمثلةٍ شهيرة حول الوفاء الذي أظهره الأمير «أوزدان» نحو ملك دولة «أو»، ومدى تعلق الأمراء به وحُب الناس له، وإشادة الملوك بخصاله الجليلة، ورغبتهم في تقريبه إلى بلاطهم، وكذلك ضرب لي مثلًا حول وفاء «شياوجي» وبرِّه بوالديه، بالدرجة التي جعلت الآباء جميعًا يرجون أن يكون لديهم ولد مثله، وذكر شيئًا معناه أن الجارية التي يشتريها جارها من سيدها الذي باعها بالأمس، لهِيَ أفضل الجواري جميعًا، وأن المرأة التي طلقها زوجها، فوجدت من يطلب يدَها في الحال، تُعَد من أحسن النساء، وأضاف أنه ما لم يكن وفيًّا مخلصًا لي، فكيف يمكن لحاكِم تشو أن يُقرِّبه منه ويَجتبيه؟» وهكذا، فقد أُعجِب جلالة الملك «هوي» حاكم تشين بما قاله «تشين جين» واستحسن منطقه، فأقال عثرته، وتلطَّف معه، وعامله بالحُسنى.