سجل يان الثاني
لمَّا طلبت دولة تشين من جلالة الملك
طلبت دولة تشين إلى الملك شاو، حاكم يان، الذهاب إليها (على عجل) فقرر أمره على الذهاب إلا أن سوداي اختلف معه في ذلك، بل منعه منعًا صريحًا من تلبية طلبها، قائلًا لجلالته: «قد خسرت دولة تشو أرضها، على الرغم مما كانت قد حصلت عليه، (عاد إلى سيادتها) من أراضي منطقة «جيدي» وكذلك هلكت دولة تشي، على الرغم مما سبق أن حازته من أرض سونغ، ثم إن هاتين الدولتين تشي وتشو لم تعتبرا أن حصولهما على تلك الأراضي سبب كافٍ يدعوهما للذهاب إلى دولة تشين لتقديم الاعتراف بالسيادة لها، لماذا؟ لأن كل البلاد المنتصرة تصبح قذًى في عين تشين، فلا تلبث إلا أن تمقُتها وتنظر إليها بكل البُغض والكراهية. إن سياسة تشين التي ترمي إلى السيطرة على الممالك التي فوق الأرض: [حرفيًّا: «التي تحت السماء»] لا تهدف إلى نشر لواء العدل والرحمة، بل إلى تحقيق السيادة المطلقة والطغيان والاستبداد، وفي سبيلها إلى هذه الغاية، فقد صرحت بنواياها إلى تشو، قائلة لها، دون مواربة، ما نصه: «إن قوات «شودي» سوف تمخر عباب الماء وتسرع بحذاء الشاطئ، حتى تدخل نهر اليانغتسي، مستغلة في ذلك ارتفاع المد إبان شهور الصيف، وفي خلال خمسة أيام ستصل إلى «إينغ». أما القوات المتمركزة في «هانجون»، فسوف تنطلق بحرًا من منطقة «طاباشان»، وتنتهز فرصة المد النهري في شهور الصيف، فتسافر عبر نهر «هان» حتى تصل بعد أربعة أيام إلى «أوتشو»، بينما نقوم نحن (ملك تشين) بحشد القوات في منطقة «أودي» [تنطق كما في «أوديب»] ثم ننطلق صوب الشرق لمداهمة أرض «صودي»، فلا يكاد السياسي النجيب يجد وسيلة للتخطيط (السريع لمواجهة الموقف الداهم) ولا الشجاع يجد وقتًا للانفعال والتحمس، فأنطلق إلى أهدافي كوثبةِ الباشق أو كانقضاض النسر المُتحفز، بينما يبقى جلالة ملك تشو لحين انتهاء الأمراء من ضرب «هانكو»؛ أليس هذا أفضل كثيرًا بالنسبة لكم (وأكثر نأيًا عن مغبة الحوادث؟).» وبسبب ذلك فقد بقي ملك تشو، يقوم على خدمة مصالح تشين مدة سبعة عشر عامًا.
كما قد سبق لملك تشين أن قال بصراحة تامة، ودون مواراة، لدولة هان: «سوف أنطلق بالقوات من منطقة «ساوتشي» حتى أبلغ في مسيرة يومٍ واحد، ما يُمكِّنني من قطع الطريق الرئيسي في «تايشين» ثم أنطلق بالجيش من «إيانغ» حتى أصل إلى «بينيان» فأنزل على الدول الست بعد مسيرة يومَين، (كما تنزل العاصفة) فأزلزل أركانها، ثم أُخلف ورائي دولتي جو كلتيهما مُتجهًا إلى أرض «جنغ» مما يمكنني — بعد خمسة أيام — من مهاجمة بلادكم فلا أدع فيها حجرًا قائمًا على حجر.» ووقع في روع دولة هان أن الأمور يمكن أن تمضي على هذا النحو حقًّا، فذهبوا إلى تشين وقدموا إليها الخضوع والطاعة.
الجزء الثاني من الفصل نفسه
كما أن ملك تشين تحدث بنفس اللهجة الصريحة إلى ملك وي قائلًا: «سوف أهاجم منطقة «آني» لكي أقطع طرق المواصلات الرئيسية في «نيوجي» ثم أقطع خطوط المواصلات بين هان وتايشين، ثم أتقدَّم من منطقة «جيدي»، فأحاصر دولتي جو (الشرقية والغربية) وأنتهز فرصة ارتفاع المد في النهر في هذا الوقت من السنة، فأنطلق في المراكب أخوض إلى الأمام، تسبقني السهام الطائرة عن قوسي، وتردفني الرماح والنصال المُدببة حتى يتم لي الاستيلاء على مصب نهر «شينزي» وهنالك تكون مدينة طاليان قد وقعت في قبضتي تمامًا، فأشق نهر «بايما» وأتقدم حتى تستسلم لي منطقة جيانغ (من أعمال وي)، ثم إذا بلغتُ مصب نهر «شوشيو» فستكون دولة وي قد خسرت منطقتي «شيودي» و«طونشيو»، وإذا حاربت في البر، فستكون لي الغلبة على «هيني»؛ أما إذا هاجمتكم من البحر فسوف أدك حصون طاليان دكًّا شنيعًا.» ولم تلبث دولة وي، وقد هالها أن تتحقق تلك الخطة، أن هُرعت إلى أعتاب تشين تعلن الخضوع والطاعة. وأرادت تشين مهاجمة «آني»، لكنها قدرت أن دولة تشي سوف تهب لنجدتها، فتنازلت لها عن أرض سونغ، وكان أن تحدث، حينئذٍ، ملك تشين، قائلًا: «إن ملك دولة سونغ يسلك قبيح المسالك والسبل اللاأخلاقية؛ فقد بلغني أنه يصنع دُمى خشبية شبيهة بي، لها نفس ملامحي، ثم يصوب عليها بسهامه متخذًا منها هدفًا للرماية، والمسافة بين أرضنا ودولة سونغ بعيدة جدًّا، فيصعب عليَّ مهاجمتها، فاخرج إليها وارفع عليها سيفك، فإذا بسطتَ فوقها نفوذك، فسوف تُحقق لي رغبتي، كأنني أنا الذي استوليتُ عليها.» وبعد أن تم لدولة تشين احتلال «آني» وقطع طرق المواصلات بمنطقة «نيوجي» (أخذت تنظر إلى الأمر من زاوية مختلفة …) وصارت تعتبر ما قامت به تشي من غزو سونغ جريمةً لا تُغتفر[!!]
الجزء الثالث من الفصل نفسه
وكذلك بَدَا لدولة تشين أن تهاجم «هان»، لكنها — في الوقت نفسه — كانت تتحسب لاحتمال أن تقوم الدويلات بمساندتها، فألقت إليهم بدولة تشي فريسةً يُقطعون أوصالها، قائلة لهم: «سبق لدولة تشي أن وقَّعت معي المواثيق والاتفاقيات أربع مرات ولم تفِ في واحدةٍ منها بعهدها، بل قادت الدويلات الستِّ لمهاجمتي أكثر من مرة؛ لذلك فلن تُظلنا وإياها سماء واحدة؛ فإما تشي ولا تشين، أو العكس، وبالتالي فلا بد من دحرِها، بل لا مفرَّ من إبادتها. فلمَّا تم لها الاستيلاء على مناطق: «إيانغ»، و«شاوتشي»، وقامت باحتلال منطقتي: «لين» و«شي»؛ اعتبرت أن ما قامت به الدول الست من مهاجمة وتدمير تشي عملًا إجراميًّا وجناية عظمى. ولما فكر ملك تشين في شن الغارة على دولة وي ظن أن دولة تشو يمكن أن تقف إلى جانبها (فتحبط مسعاه) فما كان منه إلا أن ألقى إليها (الطُّعم … المتمثل في …) «نانيانغ»، قائلًا لها: «أفكر جديًّا في قطع العلاقات مع هان؛ لذلك فقد رأيت أن مهاجمة منطقة «جونلين» وإغلاق ممر «مين»، يعد تصرفًا على قدر كبير من الأهمية، فإذا استطعت أن تبادر إليه، فستنظر إلى الأمر بوصفه أمنية غالية قد تحققت على أيديكم، ولئن رأيتم في هذا نفعًا وغنيمة، فكأننا نحن الذين أصبنا الغنيمة وفزنا بها.» وسارعت وي إلى تنحية تحالفاتها جانبًا، وعقدت الوحدة مع تشين التي عادت بعد قليل، تعُدُّ ما قامت به تشو من إغلاق ممر «مين» خطأً فاحشًا تؤاخَذ عليه.»
الجزء الرابع من الفصل نفسه
لم يحدث أن فكرت تشين في تقدير دور ومكانة باقي الدول، إلا عندما وقعت في أزمة (الحصار) بمنطقة «لينجون» وحينئذٍ فقط، أبدت التقدير والاحترام لدولتي يان وجاو، فأعادت منطقة «جياودون» إلى دولة يان، وسلمت أرض «جيشي» إلى دولة جاو، وقامت بالتصالُح مع دولة وي وأرسلت الأمير «يان» رهينةً لضمان السلام بين البلدَين، ورافقت قوات وي بقيادة «كونسونيان» في حملاتها المتواصِلة ضد دولة جاو، فلمَّا لاقت قواتها انتكاسةً في منطقتي «ليشي»، و«مالينغ»، أبدت فائق الاهتمام والتقدير لدولة وي، فسلمتها إقليمي «إيا»، «تساي»، وبعد أن عقدت الاتفاقات الودية مع دولة جاو، بدأت تُمارس ألوانًا من الضغط على دولة وي، إلا أنها لم تستسلِم، ولم تتنازل لها عن أية أراضٍ. وهكذا يتضح أن دولة تشين كانت مُستعدة — تحت ضغط الحصار والأزمة الخانقة التي أحاطت بها — أن تسعى للمصالحة (لدرجة أنها أنابت الملكة الأم، و«رانخو» في إجراء مفاوضات التصالح …) فلما ظفرت بالنصر، خذلت رانخو والملكة الأم وجعلت من احتلال منطقة «جياودون» موضوعًا لانتقاد وفضح وابتزاز دولة يان، ثم استغلت ما قامت به جاو من احتلال «جيشي» لتوجيه اللوم العنيف لها، بل اعتبرت ما قامت به دولة وي من احتلال منطقتي «إيا»، و«تساي» تُكأَة لانتقادها، ثم رأت فيما أقدمت عليه دولة تشو من إغلاق ممر «مين» عملًا يستوجِب المؤاخذة (ولم تكتفِ بكل ذلك، بل …) وجهت اللوم لدولة تشي على ما أقدمت عليه من احتلال دولة سونغ. (وهكذا، اعتادت تشين أن تدور بكلامها من وجه إلى آخر مناقض له تمام التناقض …) حتى صارت الحرب أيسر لديها من تطريز منديل بالورود، لم تمنعها الوعود التي بذلتها الملكة الأم ولا المواثيق التي عقدها «رانخو» [أخو الملكة].
قد أراقت تشين دماء الضحايا الذين يُقدر عددهم بالملايين من أهل «سانجين»، وغيرهم في حروبها العديدة: بدءًا من حرب «لونجيان» و«آنمن» و«فنلين» وانتهاء بمعارك؛ «قاوشان» و«جاوشوان»، بل إن الأحياء الآن، من أهالي «سانجين» ليسوا إلا الثكالى واليتامى الباقين بعد الحرب، (والجدير بالذكر، أن …) نصف أهالي سانجين قد ماتوا في أحداث الاستيلاء على ما وراء نهر «شي»، وأرض «شانلو»، و«سانشوان» و«جيندي». إن أكثر ما يُحزنني ويحزُّ في نفسي، في الأمر كله، ما يحاوله الكثير من أهالي دولتي يان وجاو، من استرضاء دولة تشين، وعلى الرغم من كل تلك الأهوال والفظائع، التي وقعت على يدَيها، أملًا في الاعتراف بالسيادة والطاعة لها واستجلابًا لرضا ملوكهم.»
الجزء الخامس من الفصل نفسه
ولم يذهب ملك يان إلى تشين، وبلغت مكانة سوداي أضعاف ما كان يتصور من التبجيل والاحترام، وراحت دولة يان تجرى الاتفاق مع الدويلات للانضمام إلى التحالف الرأسي، وعلى الرغم من أن بعضها لم يوافق على دخول التحالف، إلا أن الجميع أبدى تقديرًا جليلًا (للدور الذي قام به سوداي في تنشيط كيان …) التحالف الرأسي. وقد عاش «سوداي» و(أخوه الأصغر) «سولي» عمرًا مديدًا، وبعد أن انقضى أجلهما، صارت الممالك تذكرهما على الأيام لما حظِيَا به من شهرة ومجد.
لمَّا حاول سوتشين إقناع فن نانجون
حاول سوتشين أن يقنع «فن نانجون» بالوحدة مع دولتي يان، وجاو لمهاجمة تشي، إلا أنه لم يُعمل بنصيحته، وذهب سوتشين إلى تشي ليعمل على تشويه صورة دولة جاو بكل الوسائل المُمكنة، جاهدًا في العمل على قطع العلاقات بينها وبين تشي، فلما تحقق له ذلك الهدف، أوفد مبعوثًا إلى دولة يان ليبلغ حاكمها، ما نصُّه: «قد أبلغني «هانوي» [وزير عظيم بدولة جاو] أن … أحد الأشخاص قد ذهب إلى «فن نانجون»، وقال له: «إن الوحيد الذي يعمل على إفساد العلاقة بين جاو وتشي، هو «سوتشين»، وهو أيضًا الذي أوعز إلى ملك تشي باستقدام «سوتشين»، وحال بينه وبين مهاجمة دولة سونغ؛ وكان هو أيضًا الذي تدبَّر الخطط مع دولة تشي، وقام بتوسيع نطاق الحملة الداعية إلى التحالف مع تشين والتآمر ضد جاو.
وكان سوتشين هو الذي دعا دولة تشي لتشكيل طاقم حراسة مسلحة لمراقبة الأمير «قون تسي»، رهينة السلام الموفد من دولة جاو؛ وإذا سمحت لي بأن أسدي إليك نصيحة مخلصة، فإني أرجو من دولة تشي ألا تقبل تكليف حراسة مسلحة بمراقبة رهينة السلام؛ لأنه لو حدث فعلًا أن قام على حراسة الأمير عدد من المُسلحين، فسوف أجعل عليك حراسًا مُسلحين يُراقبونك أنت أيضًا.» وكم كانت كلماته وقحة، تقطر ضغينة وسوء أدب. ومع ذلك، فلا عليك من ذلك كله، يا مولاي، ثم إني أعرف — مقدمًا — ومع ما يمكن أن تجلبه زيارة تشي من متاعب وتعقيدات من جانب دولة جاو، لكني خرجت لإنجاز هذا الأمر تحقيقًا لرغبتك. (واعلم) أني لو مت وانقضى أجلي، وانعقدت سحب الكراهية في أجواء العلاقات بين تشي وجاو، فسأبقى — حينئذٍ — على الرغم من موتي، قائمًا بين ظهرانيكم أو أصير كالميت الحي.
إذا تدهورت العلاقات وانقطعت بين تشي، وجاو، فسوف يحل الاضطراب والقلق والفوضى في كل الأنحاء، وكم كنت أتمنَّى أن أكون مثل جان مونتان [وزير التخطيط للملك شيانغ حاكم جاو]، ولو دعيت لأن أكون مثله؛ لاحتاجت دولتا تشي وجاو إلى من يماثل «جيبو» [داهية التخطيط السياسي].»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
قد تكلم فن يانجون مع كل من «جوهوان»، و«جاوسو»، [كلاهما من كبار رجال دولة جاو] فقال لهما: «كان ملك تشي قد وجه لي الأمر — بواسطة (المدعو) «قون يودان» — بعدم السماح ﻟ «هانمين» بالقدوم إلى دولة تشي، إلا أن الطلب قد أرسل إليه باستدعائه الآن؛ هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى … فقد صدر لي الأمر أيضًا بعدم إيفاد سوتشين في مهمةٍ رسمية تتصل بالشئون السياسية الكبرى، ثم ها هو ذا يمنحه الصلات الجزيلة والإقطاعات الواسعة، ويتَّخذه رئيسًا للوزراء، (… ليس هذا فقط، بل إن جلالته قام بتوطيد علاقاته مع دولة يان … وهو الذي سبق أن …) أمرني — من قبل — بعدم إقرار الوحدة معها؛ ولم يكن لي من بين رجال البلاط جميعهم، من أَعُده الملجأ والسند والملاذ، مثل «شونزي» [أمير دولة تشي كان رهينة لضمان السلام في دولة جاو] ثم إذا به أكثر تقلبًا من أبيه؛ وكان في مبتدأ الأمر يبغض سوتشين، ثم أدرك — مع الوقت — أنه لا يمكن أن يمسَّه بسوء، وصار الآن مُقتنعًا بأنه الحكيم الفاضل ذو الخلق العظيم؛ وإذ تصافيا وقام الود بينهما، قضي الأمر، ولم يعُد لي مَن أستند إليه، وأشد أزري به في دولة تشي!» وهكذا فقد اجتاحته نوبة من الغضب العارم. ولئن كان ملك تشي يُبدي التشكك في نوايا دولة جاو، فإن رجلًا — بمفرده — مثل فن يانجون، يستطيع أن يستثمر هذه المسألة فينقلب على دولة تشي ويكيد لها كل ألوان المكايد، فإذا لم يتم استغلال فرصة القلاقل التي تملأ الأجواء في الوقت الراهن، لبذر الشقاق بين تشي وجاو، فمن المُمكن أن تجد مشاكلها حلولًا، فيصفو الود بينهما وتقوم الوحدة محل الخلافات القديمة، فلا يعود المرء قادرًا على مُمارسة أي تأثير عليهما، ولذلك، فقد طالما ظننتُ — إن تحسنت العلاقات بين البلدين بالدرجة التي تسمح بقيام الوحدة بينهما — فسأكون مُستحقًا لأبشع عقاب، ولن يكفي الموت نفسه عقابًا لي، بل إن هجر ملذات الحياة والانعزال في الكهوف البعيدة لن يمحو عني مرارة الأشجان وحرقة اللوعة، وحتى لو رُقِّيت إلى رتبة الشرف العليا [أمير البلاد] فلن أشعر بالفخر والسعادة، وقد يظن الناس أني لو شعثت شعر رأسي وارتديت الأسمال ولطخت وجهي بالقار، وملابسي بالأقذار، أتشاغل عن ذلك بما أصابني من العار، كلَّا بل إن إحساسي بالخزي سيكون أكبر من كل ذلك وأفدح.
وفوق هذا كله فما زال هناك هاجس يؤرقني، وهو أن يكون العداء بين البلدَين مرهونًا بسني حياتي، فإذا مت، عادت المياه إلى مجاريها، وقامت المُصافاة بينهما، وعاد الود من جديد؛ فذلك أكثر ما يُثير دفائن همومي، ولو كنت أعلم أن في موتي قيام الحرب بينهما لرجوتُ الموت واجتهدت في طلبه بكل وسيلة.
قد هلك، في الغابرين، الملِكان الحكيمان «ياو»، و«شون»، ولم تشفع لهما الحكمة والفضل في أن يُخلَّدا، وقديمًا، مات الملكان المقدسان «يو» و«طانغ»، فلم ينقذهما من إسار الموت ما برعا فيه من رجاحة العقل وسلامة المنطق وسداد الرأي؛ بل ذاق الموت بطل الأبطال وأشجع الشجعان «منغ بن» كما لقي حتفه المصارع الجبار أقوى الأقوياء «أواهوا»، فهل يخلد أحد من الأحياء حقًّا؟ وهل يفلت من قبضة الموت حي؟ وهل لدى جلالة الملك أدنى شك في أنه من الأجدر السعي إلى تحقيق الأمنيات وإنجاز التطلعات في إطار ذلك المنطق الذي يتبع الحقيقة الحتمية؟
الجزء الثالث من الفصل نفسه
ليت المرء يهرب من هاهنا حقًّا. قد أتيت إلى تشي، عبر دروب ومسالك مشيتها بأرض وي وهان، وعملتُ كل ما في وسعى لإقامة الوحدة بين تشي وتشين، ثم حاولت قدر ما أستطيع ربط هذا التحالف بدولة جاو لدعم قوتها؛ بحيث تتهيأ الظروف التي تساعد على نشوب القتال بين تشي وجاو. (وعلى الرغم من هذا، فقد كنتُ أخشى أن أزج بدولة يان في هذا المعترك).
وقد تكلم فن يانجون مع جوهران، فقال له: «إن سوتشين ينقم على ملك يان أنه لم يتخذه رئيسًا للوزراء، ولم يمنحه رتبة أمير الدولة، ولهذا فلا أظنه يسعى لإقامة أي علاقات مع دولة يان.» وهكذا، فقد كانت شكوكه هذه هي التي دفعتني للتصرف على ذلك النحو الذي لن يزج بدولة يان إلى معترك الأزمات، وهكذا فليس جلالة الملك بحاجة إلى دفع القوات.
(وتحكي كتب التاريخ القديم أن …) «آيين» قد هرب مرتين من دولة شانغ [إبان حكم الملك طانغ] إلى الطاغية «جيه» [إبان حكم أسرة شيا الملكية]، ثم هرب مرتَين آخريَين من الطاغية «جيه» لائذًا بالملك طانغ [آل شانغ] وفي آخر المطاف، اشترك في معارك «منتياو» مساندًا للملك «طانغ» في صعوده إلى عرش الإمبراطورية (وكذلك) كان «أوتزي شيو» قد هرب من دولة تشو، فنزل على دولة «أو» [كان «أوتزي شيو» أحد كبار الموظفين بدولة تشو، إبَّان عصر الدول المتحاربة، وحدث أن الملك حكم بالإعدام على أبيه وأخيه، فاضطر إلى الهرب والتنقُّل بين الممالك، حتى ثأر لأهله، وشفى غليله] ثم إنه تطوع للقتال في حرب «بوجيو»، فشفى نفسه بالثأر لأبيه وأخيه. إن هروبي بين الممالك قد أحدث اضطرابًا شديدًا في العلاقات بين جاو وتشي (وهو حدث فذ من حوادث الأيام سيخلده سجل التاريخ) وفوق ذلك كله، فإن المرء ليتساءل حقًّا، عما إذا كانت قد خلت سيرة «أصحاب الإنجازات الكبرى» من تجارب الهرب والفرار؟ (ونماذج فرار أولئك العظماء كثيرة منها: …) كان «قوانجون» قد هرب إلى دولة لو، إبان الأزمة التي اجتاحت البلاد على عهد الأمير هوان (بدولة تشي) وهرب كونفوشيوس إلى دولة «ويه» عندما اندلعت القلاقل وعمَّت الفوضى أرجاء البلاد في فترة حكم «يانهو» [الفترة المتأخرة من زمن الربيع والخريف»، أيام حكم أسرة «جيسون»]، بل قد هرب تشانغي إلى دولة تشو، وفر «بايقوي» إلى دولة تشين؛ ولما كان وانجو رئيسًا لوزراء دولة جونشان، فقد ذهب في بعثته إلى دولة جاو التي مارست عليه ضغوطًا هائلة (لكي يسلمها أجزاء من أراضي جونشان) فما كان منه إلا أن أفلت هاربًا من أحد المعابر الحدودية، واعتبرته دولة سانجين واحدًا من الفرسان العظماء والنبلاء الشجعان، ومن ثم كان الهرب على إثر حدث عظيم بعيدًا كل البعد عن دلالات الجبن أو العار أو المهانة.» وأخيرًا، فقد بذرت دولة تشين الشقاق بين تشي وجاو؛ فاتحدت هذه مع دولة يان لضرب تشي، حتى أوقعت بها شرَّ هزيمة وأثخنت فيها.
لمَّا ذهب سوتشين إلى ملك تشي
سافر سوتشين لمقابلة ملك تشي في محاولة لإقناعه (بشأن مصالح دولة يان) وقبل أن يلتقي جلالته، بادر إلى مقابلة «شون إيكون» لمناظرته ومجادلته وشرح وجهة نظره، قائلًا: «كان أحد الباعة يعرض جوادًا أصيلًا للبيع، وظل يذهب إلى السوق ثلاثة أيامٍ متوالية، ويقف في ساحة البيع من الصباح الباكر، حتى المساء، دون أن يقصده أحد للشراء منه. فذهب لمقابلة «بولا»، وقال له: «لديَّ جواد من فصيلة ممتازة أريد بيعه، وظللت أقصد السوق ثلاثة أيام من أول النهار، دون أن أجد من يسألني، حتى عن الشعر، وكم أتمنَّى أن تأتي وتتطلَّع إليه وتدور حوله قليلًا تتفحصه مليًّا، ثم تغيب عني بعض الوقت، وتعود ثانية، ثم سلني عن السعر الذي أرضاه.»
فذهب إليه «بولا»، وأخذ يدور حول الجواد ويتطلع إليه، ثم ذهب لبعض شئونه، وعاد ثانية يتفحَّصه، وبالطبع فقد ارتفع سعر الجواد صبيحة ذلك اليوم، عدة أضعاف وقد جئت اليوم؛ لكي أدعو ملك تشي إلى مشاهدة وتأمل براعة أحد «الجياد» دون أن يكون معي جياد أخرى (معروضة في السوق)، فهل لديك استعداد أن تقوم بدور «بولا»؟ وبالمناسبة، فاسمح لي بأن أقدم زوجين من اليشب (الأحجار الكريمة) وألف مثقال من الذهب، على سبيل المكافأة.» فرد عليه «شون إيكون»، وقال له: «لك السمع والطاعة بكل الاحترام.» ثم دخل شون إيكون قاعة العرش، وقدم آراءه لجلالة الملك، شارحًا وجهة نظره، حتى اقتنع ووافق على اللقاء مع سوتشين، ثم ما لبث جلالته أن أعجب ببراعته أيما إعجاب.
لمَّا أُوفد سوتشين إلى ملك يان
قام سوتشين بإيفاد مبعوث من دولة تشي إلى الملك شاو، حاكم يان، ليقول لجلالته: «قمت ببذر الشقاق بين تشي وجاو، حتى صارت كل واحدةٍ معزولة تمام العزلة عن الأخرى، فما الذي يمنعك من الخروج بقواتك لضرب تشي؟ وعلى أية حال فاسمح لي بأن أعمل على بث الضعف والتخاذل في قلب دولة تشي.» وكان أن دفعت يان بقواتها فهاجمت تشي، واحتلت «سانجين». وأرسل سوتشين إلى الملك «مين»، حاكم تشي، من يقول لجلالته: «إن الهدف من مهاجمة كيان لدولة تشي، هو استعادة أراضيه المفقودة، وللعلم فإن قوات يان أصبحت الآن، عاجزة عن الحركة في منطقة «جين» بسبب ما أصاب القوات من تردد وضعف، فلماذا لا ترسل سوتشين على رأس قوات لمقاومة جيش يان؟ إن سوتشين ببراعته وفطنته، قادر على القيادة وهزيمة قوات يان المتهافتة المتردِّدة، بل هو أقدر على مهاجمة، يان في عقر دارها حتى يوقع بها أشنع هزيمة، وهنالك لن يكون أمام جاو إلا السمع والطاعة لجلالتك، وبهذه الطريقة تكون قد دمرت دولة يان وأخضعت دولة جاو، (بضربة واحدة).»
فنزل ملك تشي على رأيه، وقال ﻟ «سوتشين»: «قد بلغت قوة يان مشارف أرض جين، وسأرسل إليها القوات لشن الغارة عليها، وأريد منك أن تقوم على رأس الحملة نائبًا عني.» فأجابه سوتشين، قائلًا: «لست أُجيد توجيه وقيادة القوات، فكيف لي أن أهزم قوات يان! ليتك تُرشِّح لهذا الأمر قائدًا غيري، فلربما حاقت الهزيمة بجيشك إذا جعلتني قائدًا له، وقد أقع في قوات دولة يان، فيتعذَّر إنقاذ الموقف (إذا ما خسرنا المعركة).»
وقال ملك تشي: «فامضِ في طريقك، فأنت منا ما قد علمت وعلمنا.» وهكذا قام سوتشين على قيادة قوات تشي، ومضى حتى بلغ «جين تشن»، حيث دارت رحى المعارك التي انتهت بهزيمة تشي، وتمكنت قوات يان من الإحاطة برأس عشرين ألف مقاتل من خصومهما، وقام سوتشين بجمع بقايا الأشلاء وجثث القتلى ومخلفات القتال وكتب تقريرًا إلى الملك مين — حاكم تشي — جاء فيه: «قد استعملت يا مولاي من لا يُحسن الأمور، ووليت الأمر من لا يصلح له، ولا تستقيم الأحوال به؛ إذ كلفتني بمواجهة قوات يان فكانت النتيجة (وقوع الهزيمة فينا … بل) فقدنا عشرين ألف جندي؛ وهكذا فقد حق عليَّ أن ألقى جزائي بالإعدام، فاسمح لي بأن أعود لكي أقوم بتسليم نفسي إلى المسئول القانوني استعدادًا (وقبولًا) لما يصدر ضدي من عقوبات [تصل إلى حد الإطاحة بالرأس].» وأجاب الملك بقوله: «بل أنا المسئول (المذنب) الأول عما حدث، وليس لك ذنب فيما جرى.»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
وفي اليوم التالي، تواطأ سوتشين سرًّا مع دولة يان على ضرب «يانغ تشن» و«ليبا»، كما أرسل إلى الملك مين — حاكم تشي — من يقول له: «قد عجزت دولة تشي منذ أيام، عن تحقيق النصر في موقعة «جين تشن»، ولم يكن ذلك بسبب تقصير قوات تشي عن القيام بواجبها، وإنما هو الحظ وقدر السماء الذي شمل دولة يان برداء الحماية وحُسن الجزاء، فأرسل سوتشين لمقاومة يان للمرة الثانية، ولئن كان الجيش قد لقي على يدَيه الهزيمة في المرة الأولى، فلا بد أنه سيبذل قصارى جهده للثأر من أقداره وتعويض ما لاقاه آنفًا من الانكسار، ولعل النصر يأتي على يديه هذه المرة!»
ونزل ملك تشي على هذا الرأي، ودفع إلى سوتشين مسئولية (القيام بقيادة الجيش) مرة أخرى، لكنه اعتذر بشدة، ولم يلتفت الملك إلى اعتذاره ولم يقبل مُبرراته، وهكذا، سار سوتشين بقواته إلى «يانغ تشين» والتحم بجيش يان في أرض المعارك، حيث كان النصر المظفر من نصيب دولة يان التي أعملت السيف في رقبة أعدائها فقتلت (من رجال ومقاتلي تشي) ثلاثين ألف جندي وتردد همس الشك والحيرة والارتياب بين رجال دولة تشي، ووصلت مشاعر الاضطراب والتوجُّس بين الناس، إلى ذروتها. (وفي تلك الأثناء) كانت دولة يان قد أرسلت جيشًا تحت قيادة «يوي» لمهاجمة دولة تشي (في عقر دارها) ثم ما لبث أن أغار عليها فدمرها واحتل أراضيها.
لمَّا أرسل سوتشين رسالة إلى ملك يان
أرسل سوتشين من دولة تشي رسالة إلى ملك يان يقول له فيها: «كنت قبل مغادرة دولة يان قد أدركت أنه يجيء زمان يطل فيه المنافقون برءوسهم، ويبذرون الفتنة والشقاق، ولذلك كتبت تقريرًا إلى العرش، جاء فيه … لو تحققت لي، في دولة تشي، الرفعة والمكانة المرموقة، فسيظن وزراؤك ورجال دولتك بي الظنون، ويستريبون في أمري! أما إذا تدنى شأني وتراجعت منزلتي، فسيحتقرونني، وإذا صرت موضع حفاوة وحظوة فسينحون باللوم عليَّ في كل صغيرة وكبيرة، وإذا صدر عن دولة تشي أي تصرف ضار بمصالح يان، فسيجعلونني هدفًا لاتهاماتهم، وكذلك إذا بقيت دولة تشي بمأمنٍ من هجوم الدويلات، فسيقولون إني أضع لها الخطط الدفاعية، أما إن أغارت عليها كل الممالك، فسينضمُّون إلى تشي في التعريض بي، (وإذ أتأمل موقفي …) أجد أنني تحت رحمة ظروف تتهدَّدني بالخطر من كل جانب وفي كل لحظة، مثل كومة من البيض الهش مُضطربة ومتداعية … ثم إن جلالتك أجبت عليَّ — وقتئذٍ — قائلًا «لن أُنصت إلى افتراءاتهم ووشاياتهم؛ لأني أثق بك وأصدقك، ولذلك فسوف أستأصل أكاذيبهم، كما يستأصل المنجل أعواد الحشائش الجافة، وسيكون من الأحسن أن تبلغ مكانة مرموقة في دولة تشي، وأن تصير محل تقديرها، كما يجب أن تحرص على ثقة الناس بك. ولئن قُدر لي أن أعيش، فسيكون بمقدورك أن تفعل الكثير هكذا [حرفيًّا].»، ثم قلت لي أيضًا، يا جلالة الملك … «لا بأس من ذهابك إلى تشي مغادرًا دولة يان، ما دام الأمل منوطًا بك في النجاح وإنجاز الأمور على النحو الأمثل.» وقد قبلت التكليف بأن أعمل جاهدًا على أن أحوز ثقة دولة تشي بما يُمكِّنني من الترقي في الوظائف العُليا بها منذ خمس سنوات خرجت خلالها دولة تشي للقتال أكثر من مرة، لم يحدُث فيها أن هاجمت دولة يان، أما العلاقة بين تشي وجاو، فليست مُستقرة على حال، إذ تصفو حينًا (فتتحالفان معًا) وتتكدر حينًا آخر (فتنفصلان) فإذا لم تُرد دولة يان أن تتآمر مع تشي ضد جاو، فلا بد من أن تتحالف مع جاو ضد تشي التي تثق في يان لدرجة أنها لم تحشد على الجبهة الشمالية (على المنطقة الحدودية بينهما) قوات عسكرية ذات شأن، بل دفعت بمعظم القوات التي كانت متمركزة هناك للإغارة على بلاد أخرى، لكنك اليوم يا مولاي أصبحت تصدق ما يقوله لك «تيان فا» و«تسان» و«تشيجي»، وغيرهم؛ فتحشد الحشود لمهاجمة تشي، فتثير حفيظتها ضدك بحيث تتخذ الاحتياطات اللازمة، وتفقد ثقتها فيك، وفوق ذلك كله فقد أرسلت لي «شنغ تشين» [كبير وزراء يان] لتبلغني بما نصه: «أفكر في أن أسند مناصب عليا لمن يجيدون ويفقهون مهام عملهم.» فإذا كنت تبغي حقًّا، أن تسند المسئوليات الجسام إلى الأكفاء، فاسمح لي بأن أساعدك في ذلك، بحيث إذا كنت تفكر في التخلي عني لتعيين آخر مكاني، أكثر كفاءة واقتدارًا مني، فأرجو السماح لي بالعودة لتقديم تقرير وافٍ عن مهمتي لجلالتكم، وإذا استطعت أن التقي بك، سيدي الملك، فسأكون قد نلت حاجتي وحققت أملي.»
لمَّا فكر كبير وزراء يان في إقامة الوحدة مع
لمَّا تدبر «شن سوي» [كبير وزراء دولة يان] إقامة الوحدة بين تشي ويان، فقد اتخذ العدة لإرسال أخي الملك؛ ملك يان الأصغر إلى دولة تشي ليبقى بها رهينة سلام، ووافق ملك يان على هذه الإجراءات، إلا أن الملكة الأم غضبت لمَّا سمعت بما حدث، وثارت قائلة: «إن شن سوي هذا ليس بالرجل الذي يَقدر على إدارة شئون البلاد وتصريف أمورها، وهذا واضح جدًّا (فيما يتعلق بالشأن السياسي)، لكن ما باله يريد أن يُفرِّق بين الأم وولدها؟ ألا فليعلم أن الأم (التي يظنها قد شاخت وضعفت) سوف تنتقم أشد الانتقام.» وأراد شن سوي أن يزورها، فقال له ملك يان: «على رسلك، فالملكة ما زالت ثائرة، ولا أريد أن تقابلها، وهي في هذه الحال فانتظر بعض الوقت.» إلا أن شن سوى أقنع جلالته بأن الأمر بسيط (ولا بأس من أن يقابلها، في كل الأحوال)، ودخل إلى القصر الملكي وقابلها، وقال لها: «فيمَ نُحول جسدك يا مولاتي؟» فأجابته: «إن ما أطعم منه على مائدة جلالته من لحوم الطير بأنواعها يكفي لمضاعفة وزني واكتناز جسدي بالسمنة المُفرطة، لكنه الهمُّ الذي أصابني مذ عرفت بأمر ذهاب ولدنا الأمير إلى تشي رهينة سلام.» فقال لها: «إن الملوك (أبناء السماء [هكذا]) يُحبون الناس أكثر من حُبهم لأبنائهم، (أما بالنسبة لجلالتك …) فأنت لا تُبدين من الحب لأولادك القدر الملحوظ، والبنون منهم — خصوصًا — لا ينالون من عطفك الشيء الكثير (هذا فيما يبدو لي على الأقل …)» فاندهشت الملكة وسألته في استغراب: «وما السبب في قولك هذا؟» فأجابها: «لأنك أهديت ابنتك يوم عرسها ألف مثقال من الذهب وأقطعتها أرضًا مساحتها مائة لي، وبالغتِ في تعظيم أمر زواجها للغاية، وإذا جاء الدور على الملك، اليوم، لكي يقوم بتكريم سمو الأمير، فإن المخلصين من وزرائه والأكفاء من شيعته يقولون لجلالته لا يستحق الأمير أي تكريم؛ ما دام لم يأتِ عملًا جليلًا، أو مأثرة عظيمة فلما همَّ جلالته بإرسال ولده رهينة سلام، أملًا أن يثبت سموه، جدارته بما أعده له من التكريم، تأتين جلالتك فتصدِّينه عن ذلك القصد، وتُعيقين بلوغه مراتب الجدارة والشرف؛ فلذلك أدركتُ أنك لا تُحبين الذكور من أبنائك، ثم إن سمو الأمير لن يلقى الاحترام والتقدير إلا بفضل جهدكما (وبقائكما على قيد الحياة) أما عندما يحين يوم صعوده إلى العرش — بعد جلالتك بأجيال طويلة، وبعد ذهاب مولاي الملك بآماد جليلة — فلن يكون في سجلِّه ما يزيد عن أفضال العامة والدهماء (بل سيكون أدنى منهم مرتبة)؛ لذلك، فإن لم ينتهز سموه الفرصة لينال الرفعة والمكانة المنشودة (بفضل مآثره) في ظل إنعامكم الجليل فلن يلقى تكريمًا بقية حياته.» وهنالك قالت الملكة «ما كنت أعرف أنك تحسب الأمر من هذه الناحية، وعلى هذا القدر!» وسارعت جلالتها بإصدار الأوامر بتجهيز ما يلزم الأمير في سفره من المواكب والعربات والملابس وسائر ما يلزم من الأدوات.»
لمَّا أراد الملك شاو مهاجمة تشي
أراد الملك شاو، حاكم، يان مهاجمة تشي مع أمراء الدويلات وحدث أن جلالته استدعى أحد الموظفين العاملين في بلاط سان الملكي (من أبناء دولة تشي) وقال له: «أريد مهاجمة تشي مع أمراء الدويلات، وسوف أصدر الأوامر ببدء الهجوم في أي ساعةٍ من ساعات الليل أو النهار، وعندئذٍ فلا بد من أن تتظاهر بمُجادلتي في هذا الشأن ومراجعة المسألة برمَّتها، وسأبدو كمن يرفض كل الاعتبارات التي تحول دون بدء القتال، وهكذا، فستنتهز أنت الفرصة لمغادرة يان إلى تشي، فإذا فشلت محاولة الهجوم، وأردت أن أعقد السلام مع تشي فسيتم ذلك بواسطتك، وعن طريق ما تقوم به من خدمات لدولة يان.» وكان من المتعذر، في ذلك الوقت، توازي القوى بين الدولتَين يان وتشي، ومع ذلك، فقد كان ملك يان يميل إلى معاودة الاتصالات السلمية مع تشي، فوقع في الخلط والارتباك واضطربت تقديراته بدرجة كبيرة.
لمَّا وقعت المجاعة بدولة يان
وقعت المجاعة بدولة يان، فاستغلت دولة جاو الفرصة وقامت بمهاجمتها، فأوفدت دولة تشو أحد قادتها العسكريين إلى يان، على أن يمر في طريقه بدولة وي، وهناك، حانت له فرصة مقابلة «جاوهوي» [أحد أبناء دولة جاو ممن يعملون في بلاط دولة وي] فقال له (وهو يحادثه): «إن أفضل وسيلة لإزالة أسباب الكوارث هو أن تعمل جاهدًا لتفادي وقوعها من الأساس، ففي هذا إنقاذ لأرواح الناس وتجنيبهم ويلات الخطر، إن الآراء التي طرحها — في أيامنا هذه — «أوتسي شيو» و«قونجي تشي» لم تلقَ الاهتمام من جانب جلالة الملك، أما (السيدان الجليلان) «جوتشيو»، «جان منتان» فقد حصلا على أفضل الصلات الجزيلة وأعظم آيات التكريم من جلالته؛ ولذلك فقد ترسَّخت في أذهان المُخططين السياسيين قاعدة تقوم على دراسة وبحث الطرق الكفيلة بإزالة الكوارث والنكبات، بدلًا من العمل على تجنُّبها وتلافي وقوعها أصلًا.
وأرى أن أودِّعك في طريق سفرك ببضع كلمات أقولها لك (لتعقلها وتعمل بها) أفضل من أن أبذل لك الصلات الجزيلة والمال الوفير، فاسمع ما أقول واحفظه، واسع في أن تقنع به ملك جاو؛ إذ تقول له: «كانت دولة أو، فيما مضى، قد هاجمت تشي بسبب ما وقع بأرضها من المجاعة، هذا مع أن مثل هذا الهجوم على تشي قد لا يكتب له النجاح والظفر، وقد استطاعت دولة ضعيفة (مثل دولة يوي) أن تُحرز السيادة فوق الأمم، بما أحسنت استغلاله من خمود قوة دولة أو، فهاجمتها وعاثت فيها، وكان من أمرِها ما قد صار على النحو الذي ذكرته لك. وإذ تُقدِم على مهاجمة يان بسبب ما أصابها من القحط والمجاعة فليس الأمر بالسهولة التي تظنها … فقد لا تحرز ما تبقى من النصر، بل قد تستغل دولة تشين (القوية) الفرصة فتهاجم دولة جاو فتجعل منها (وهي الضعيفة) نموذجًا مكررًا مما وقع آنفًا لدولة أو (ذات العدة والعتاد) في حين تجني دولة تشين (القوية) ما قد سبق أن حازته دولة يوي (الضعيفة، حينئذٍ …) من تسنم ذُرى السلطة (الإمبراطورية) فوق الأمم والممالك، فتأمل الأمر جيدًا!» وكان ذلك هو ما ذكره مبعوث دولة تشو إلى ملك جاو الذي تقبل الأفكار بصدر رحب وسعادة ظاهرة وأمر بإيقاف حملة الهجوم على يان. فلما سمع ملك هذه الأخيرة بالأنباء أعلن مكافأته لقائد دولة تشو حيث أقطعه مساحة من الأرض.»
لمَّا أراد الأمير «تشانقو» إقامة الوحدة بين
أراد الأمير «تشانقو» إقامة التحالف بين قوات يان وتشين وجاو ووي، وذلك لمهاجمة تشي. وكان أن قامت القوات بالاستيلاء على سبعين محلة، أخضعتها لإدارة دولة يان بوصفها أقاليم إدارية تابعة للحكم المحلي، وظلت ثلاث محلات من أقاليم دولة تشي لم يتم الاستيلاء عليها بعد. وفي تلك الأثناء تُوفي الملك شاو، حاكم يان، فخلفه على العرش الملك «هوي»، ولجأ أهل تشي إلى خطة لنشر الإشاعات وبذر الشك والريبة في صفوف أعدائهم، وصار الملك الجديد (الملك هوي حاكم يان الجديد) يستريب في «يوي» فأحل محله «تشي جيه» (قائدًا عامًّا للقوات) فهرب يوي إلى دولة جاو حيث خلعت عليه، وبذلت له الصلات، وأقطعته أرضًا ونال لقب أمير «وانجو»، لكن تيان دان (المسئول الكبير بدولة تشي) استطاع أن يلقي عليه شِباك خداعه، وهزمت قوات يان شر هزيمة، واستعادت دولة تشي أقاليمها السبعين وأسقط في يد حاكم يان وندم للغاية على ما فرط منه، وصار يخشى ما يمكن أن تقوم به دولة جاو من انتهاز فرصة ما أصاب قواته من الإنهاك، فتُجند «يوي» في صفوفها وتهاجم يان، فأرسل جلالة الملك من طرفه مبعوثًا التقى ﺑ «يوي» وعاتبه عتابًا خفيفًا ثم قدم له التبرير والاعتذار قائلًا: «إن جلالة الملك يضع البلاد كلها أمانة بين يديك، سيدي القائد، وجلالته يُقدر لك أن تثأر له وترد له اعتباره وتهزم دولة تشي. فمن ذا — فوق الأرض — يمكن أن يذكر مثل هذه الأفضال والمآثر الجليلة، بل كيف لجلالته أن ينسى مثل هذا العمل المجيد؟! لقد توليتَ العرش خلفًا لحاكمٍ كان قد تخلى عن رجال دولته ووزرائه؛ فلما جئت مكانه ورثت أسوأ ما خلَّفه لي من سوء الفهم الكامن في أعماق رجال الحكم، (ومثلًا …) فما كان لي أن أُعين تشي جيه (مكانك) قائدًا للجيش، إلا بسبب غياب القائد الأصلي خارج البلاد لمدة طالت أكثر من المعتاد [حرفيًّا: على مدى أيام تعاقبت عليها الشمس، وهبَّت في أنحائها الريح]، فلما بعثت إليك أطلب إليك العودة، لتستريح من العناء، وتشير علينا بالمعهود من سداد رأيك، أسأت الفهم وظننت أن ثمة جفاء بيننا، فأغضيت عن دولة يان، لائذًا بدولة جاو، وبالطبع فأنت تملك — ولك الحق — أن تُقرر شئونك الشخصية كيف شئت؛ لكني أسألك، أيها القائد العسكري، كيف يمكن أن ترد الجميل للملك الراحل إذ بذل لك التقدير اللائق بك؟»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
وكان أن أرسل النبيل «وانجو» رسولًا من عنده بخطابٍ إلى ملك يان قال له فيه ما نصه: «لم أكن بالرجل الذي يستحق أي تكريم؛ فلست ذا موهبة فذة ولا اقتدار باهر، وبالتالي، فلا أستطيع أن أسير على النهج الذي علَّمني إياه الملك الراحل، بحيث أتأقلم مع طريقة تفكير الوزراء ورجال الدولة من حولك، كما أني أخشى أن يطاح برأسي. ولئن كنتُ قد هربت إلى دولة جاو؛ فلأني قد ارتكبتُ أخطاء في حقك، وأسأت إلى فطنتك وإحسانك، ومن ثم فإني أتحمَّل وزر وجريمة خيانة الأمانة والثقة ولا أجد جرأة الدفاع عن نفسي، والْتماس الحق فيما صدر عني، وقد جاءني رسولك الذي حملته عتابًا وتذكيرًا بما اقترفته من أخطاء، وأخشى ألا يفهم القائمون على خدمة البلاط الملكي سبب محاباة الملك الراحل لبعض وزرائه (وأنا واحد منهم …) كما أخشى أن يغيب عن تقديرهم مدى الإخلاص الذي بذلته لجلالتك؛ فلكل ذلك آثرت الرد بخطاب مخطوط، وقد علمت أن الملوك الحكماء، لا يتكرمون على الثقات والأصفياء بالصلات والإقطاعات حسب أهوائهم وكيفما شاءت أنفسهم؛ فلا ينال التكريم إلا صاحب مأثرة، ولا يحظى بالمنصب الرفيع إلا أكثر الناس جدارة وتفوقًا. وهكذا كان القادر على ملاحظة ذوي الجدارة والكفاءة، وإسناد المسئوليات الجسام إليهم هو الملك الحكيم، وكان من يصادق الناس حسبما عرف وأدرك من خصالهم (الحسنة) هو السيد الذي ذاعت شهرته في الآفاق وتَخلَّد ذكره بين الممالك، وبعد، فعندما أتأمل الأحوال بما تعلمت، أجد أن الملك الراحل كان — في اختياره وترشيحه العناصر الجديرة بالمناصب العليا — يتسم بصدر رحب، من ذلك أنه طلب الختم الرسمي [المتعلق بي] من ملك دولة وي، واستقدَمَني إلى يان للمثول أمام (لجنة الفحص والاختبار) وأثنى عليَّ وامتدح خصالي للغاية، وذكرني فيمن عنده من الضيوف، وجعل لي مكانة خاصة فوق المسئولين الرسميين واستشارني (دون أبيه وأمِّه وإخوته) وتناقش معي في شئونٍ مهمة، وجعل لي مرتبة (قريبة من درجة النبالة) لذلك فقد نشأت على ما علَّمني إياه، واعتبرت أن الالتزام بالأوامر والتعليمات يمكن أن يُعفي المرء من التعرض للمساءلة والعقاب، فلذلك امتثلت للأوامر (وقتئذٍ) ولم يكن في مقدوري الاعتذار.
الجزء الثالث من الفصل نفسه
قد صدر لي الأمر من الملك الراحل، بما نصه: «إن العداوة والبغضاء بيني وبين دولة تشي متأصِّلة وعميقة الغور، ولا أبالي بما تُعانيه بلادي من الضعف وتردي أحوال الاستعداد العسكري، ولسوف أجعل من تشي هدفًا (أصبُّ عليه جام غضبي) وأسلط عليه هجومي.» فأجبته، قائلًا: «لكن دولة تشي لديها من مواريث الزعامة ومفاهيم [اقرأ: تعاليم ومبادئ] السيادة والسيطرة الشيء الكثير، وتاريخها حافل بالمنجزات والانتصارات، بالإضافة إلى خبرتها في ميادين القتال ومهاراتها الهجومية. فإذا كنت تريد الإغارة عليها، فلا بد من أن تحشد الدويلات جميعًا في التخطيط لهذا الموضوع، ولو أني أرى أن أفضل ما يمكن أن تفعله الآن، هو أن تقيم جسرًا من العلاقات الودية مع دولة جاو (فهذا أجدى لك …) ثم إن تشي قد احتلت مناطق: «هوايبي»، و«أرض سونغ» مما تودُّ دولتا وي وتشو الحصول عليها، فإذا ما استجابت جاو لخطتنا وعقدت معنا التحالف والصداقة وتجاوبت معنا كل من وي وتشو؛ وبذلتا كل جهدٍ ممكن من جانبهما، فقامت الدول الأربع دفعة واحدة بمهاجمة تشي، أمكن تدميرها.»
وعندئذٍ، قال الملك الراحل: «هذا هو الرأي السديد!» وكان أن تلقيتُ الأمر شفاهة وأخذت الاستعداد المناسب [حرفيًّا: أعددت الأختام الرسمية] وأوفدني جلالته إلى الجنوب، حيث نزلت مبعوثًا على دولة جاو، ثم عدت إلى الوطن وقدمت تقريرًا عن البعثة، وتلا ذلك دفع القوات ومهاجمة تشي. (وكان من جملة الحوادث) أن عادت إلى السيادة الوطنية، أراضي «خابي»، وذلك بفضل الهداية السماوية وحكمة وبصيرة الملك الراحل، ثم ما لبثنا أن تمكنَّا من الاستيلاء على «جيشان». وكانت قوات دولة يان المرابطة عند نهر «جيشوي» قد تقدمت — طبقًا للأوامر الصادرة لها — للهجوم على تشي، فهزمتها شر هزيمة، ولمَّا كانت تلك القوات شديدة البأس موفورة الحمية والحماس، فقد تقدمت، ظافرة، حتى بلغت عاصمة تشي، فهرب الملك إلى منطقة «إيندي» لائذًا بها التماسًا للسلامة والأمان (لا أكثر ولا أقل) واستولت قوات يان على مجوهراته وأمواله وعرباته العسكرية، ومقتنياته الثمينة ودروعه (وكان من أبرز المقتنيات ميقات اسمه «طالوقون»، ثم نقله إلى القصر الملكي بدولة يان) كما أمكن استعادة الآنية المقدسة [حرفيًّا: «باودينغ»] التي كانت دولة تشي قد استولت عليها من القصر الملكي فيما سلف من الزمان. وجرى عرض الأدوات والمقتنيات الثمينة في معرض خاص بدولة يان. بل إن بعضًا من المحاصيل والنباتات التي ترعرعت في أرض «جيشيو» (عاصمة يان) كانت مجلوبة أصلًا من غابات البامبو بأرض «أون» [هكذا، حرفيًّا:] (وبالجملة) فلم يكن هناك إنجاز بطول الممالك وعرضها يفوق ما قدمه الملك الراحل، منذ عصر الأباطرة الخمسة (في التاريخ القديم) وقد رضي جلالته بما حققه من مآثر وقنع بتحقيق آماله وتطلعاته، بدليل أنه لم ير، فيما قمتُ به من واجبات أدنى تقصير، مما استوجب التكرم عليَّ بإقطاعاتٍ كثيرة من الأراضي، فرفعني إلى القدر الذي أكاد أتساوى فيه بأمراء الدويلات والنبلاء الأمجاد؛ ولأني لم أكن ذا موهبة فريدة ولا مهارة فذة، فقد رأيت أنه ليس من سبيل إلا الامتثال للأوامر والتعليمات، وأن النجاة في الإفلات من ارتكاب الخطأ والوقوع في المحظور، فامتثلت للأوامر دون أدنى بادرة أو مجرد تفكير في الرفض أو الاعتذار.»
الجزء الرابع من الفصل نفسه
قد بلغني أن الملك الحكيم لا تفنى مآثره ولا تنقطع مسالك ودروب مجده، ومن ثم يخلد ذكره في التاريخ، ومن كان ذا بصيرة ارتفع سرادق شهرته وانتشر صيته في الآفاق وبقِيَت سيرته على مر الأجيال. أما ما اجتهد فيه الملك الراحل من إزالة آثار نكبة عارضة نالت من كرامته، ومحاولته القضاء على دولة كبرى (تملك عشرة آلاف مركبة حربية) وحيازته لما كان تحت سلطة تشي من المجوهرات والمقتنيات التي بقيت ثمانمائة سنة في مخازنها، وفترة حكمه كلها حتى يوم انقضائها، فقد ظل على الأيام وصية (رسمية [هكذا]) تُلقِّن الأجيال فصولًا من نصائحها، وتخاطب المسئولين والوزراء (قائلة) إنه في مقدورهم جميعًا الاهتداء بسيرة الملك الراحل والعمل بما نص عليه من بنود لإصلاح كل ما تعلق (بمواريث الأبناء والأمراء [هكذا]) وضبط شئونهم، والسير في شئون الناس بالإحسان ومراعاة العدل والرحمة معهم (فهي وصايا ملهمة على مر الأجيال) كما قد بلغني أيضًا أن النجاح لم يكن مصير كل اجتهاد بإتقان، ولا الخاتمة الحسنة كانت نهاية كل بداية طيبة.
وقد كانت تعاليم ووصايا «أوتسي شيو» — فيما مضى — موضع اهتمام وتطبيق على يد «هيلو»؛ فلذلك استطاعت جهود ملك دولة «أو» أن تمد سلطانه ونفوذه حتى عاصمة دولة تشو، في حين أن «فوتشاي» لم يسترشد بذلك النمط (ولم يلتفت إلى تلك الوصايا، بل إنه …) أهدى جلود الدواب إلى «أوتسي شيو»، وانتهى الأمر بأن وجدت جثة هذا الأخير — ذات يوم — طافيةً داخل جلد حمار سميك في مياه النهر. وهكذا، يتضح أن فوتشاي [ملك دولة أو] لم يكن يدرك قيمة آراء ووصايا الملوك الحكماء وما انطوت عليه من دروس مُستفادة تضيء السبيل أمام إنجاز المآثر العظيمة؛ لذلك نجده قد أغرق جثة أوتسي شيو، في النهر دون أن تطرف له عين أو يهتز له جفن، ندمًا أو استبشاعًا لذلك الجرم.
إن «أوتسي شيو» لم يدرك في وقتٍ مبكر، أن الملك لم يكن يملك نفس الرؤية والتسامح والتقدير، مما كان يتمتع به ومن ثم فلم يكن يستطيع أن يُغير من مسيرة القدر الذي أودى به غريقًا في النهر.
إن خطتي الأولى والرئيسية هي: تجنب الويلات والمهالك والحفاظ على سيرتي الحسنة، وما قدمت من سابق الإنجاز، استرشادًا وتأصيلًا لتعاليم ووصايا الملك الراحل، وأسوأ ما يمكن أن أُلاقيه وأبشع ما أخشاه هو أن تُثار ضدي الأراجيف والفتن أو أن تترصَّدني الوشايات الكاذبة، لطمس مآثر والمساس بسمعتي وكرامتي. ولا أظنني قادرًا على تجاوز حدود المنطق والقفز فوق أسوار المعقول وأنا أمام تجريم يُحاك ضدي، طي الخفاء، ومحاولة تجري على عجَل للإيقاع بي في تهمةٍ لا أعرفها، ومن ثم فلا أرى أنه بإمكاني الركون إلى مصادفةٍ عارضة جاءت بيد المقادير.
فمن الخطر الاعتماد على الحظوظ وعوارض القدر. وكنت قد عرفت أيضًا أن الملوك القدامى، كانوا إذا قطعوا علائق الود مع أحد من الناس، أمسكوا عن القدح فيه والتشهير به، وأن الوزير المُخلص إذا طرد من الخدمة التمس تبرئة ساحته، ولئن كنت غرًّا، بليد الذهن، عديم الموهبة والبصيرة، فقد حاولتُ كثيرًا أن أتعلم من الحكماء وأن أُنصت إليهم، ولستُ أخشى أن ينصت خاصة الملك وحاشيته والقائمون على خدمته إلى تمويهات ووشايات أضراب من الناس هنا أو هناك، دون إدراكٍ حقيقي لأسباب استبعادي من القصر، فلذلك كله — وختامًا — تجرأت أن أكتب لجلالتكم، ردًّا على خطابكم بخطابٍ مُحرر على ورق، راجيًا النظر بعين الاهتمام في الأمر كله.»
لمَّا أرسل أحدهم خطابًا إلى ملك يان
أرسل أحدهم خطابًا إلى ملك يان، قال له فيه: «إذا كنت لا تجد وسيلة للاعتماد على أسباب قوتك حماية لوطنك ودعمًا لبقائه ووجوده، فلا سبيل لك إلا العمل على الانضواء تحت حماية بلدٍ قوي دون أن تشغل نفسك كثيرًا بمسألة تدنِّي المكانة وضياع السؤدد وما إلى ذلك، بل إنك إذا استطعت بهذه الوسيلة أن تُمهد للاستقرار والأمن (طويل المدى) لبلدك، فما أحسنها من خطة سديدة ورائعة تُخلد ذكرك على المدى! أما إذا رأيت أن الاعتراف بطاعة دولة قوية لا يضمن الأساس المتين لمشروع بناء أمةٍ مُستقرة، فالأفضل أن تتحالف مع دولة ضعيفة [هكذا] غير أن المشكلة الباقية هنا، هي مع الدول الضعيفة يصعب التزامها بالتحالفات البينية، والتحرك بتنسيق (واحد ومشترك)، وهو مثار شعوري بالأسف لِما آلت إليه أحوال دويلات «شاندونغ».
إن السمكة ذات العينَين المتجاورتَين، لا يمكنها الحركة إلا حسب ما يتراءى لعينيها المتجاورتَين في جانب واحد من الرأس، وقد أطلق عليها القدماء هذه التسمية (ذات العينين المتلاصقتين) لأنها لا يمكن أن ترى الأشياء وتعيش وتتحرك إلا بعينين مُتحدتين ومتجاورتين. (وما يؤسَف له بالنسبة لحال الدويلات المذكورة هو أنها …) قد عجزت عن توحيد الجهود وتنسيق الخطى؛ بمعنى أنها كانت أقل استبصارًا مما لدى ذلك النوع من الأسماك المشار إليه آنفًا. (ولنضرب مثلا آخر …) فإننا عندما نتأمل عمل الحوذيِّين وقائدي المركبات، نجد أن ثلاثة من الحوذيِّين المتصارِعين فيما بينهم، لن يقدروا على تحريك المركبة عبر طريق مليء بالعقبات، لكنهم إذا استعانوا باثنين آخرين، تيسرت مشاقُّ الطريق، ودارت العجلات، إن ثلاث دويلات (في شاندونغ) تتَّخذ كل منها وجهةً مغايرة واتجاهًا مستقلًّا عن زميلاتها لن تستطيع الوقوف معًا بمواجهة دولة تشين، لكن الموقف يتغير تمامًا إذا تحالفوا — ثلاثتهم — مع دولتَين أخريَين، وإذ ذاك، يصير بمقدورهم منازلة تشين ودحرها. إن مشكلة دويلات شاندونغ أنها لا تعرف السبيل إلى الوحدة، أي أن تصورها لمواجهة الأزمة، يُعَد أدنى كثيرًا مما يمكن أن يملكه الحوذيون من مضاء عزيمة ونجابة.
إن رجلًا دخيلًا [من الشعوب الهمجية غير الصينية] إذا صادف مواطنًا من أهل دولة «يوي» على ظهر سفينة في عرض البحر، تتلاطمها الأمواج؛ فسيعاونه ويشد من أزره، ويصيران — وقت المحنة — يدًا واحدة على الرغم من تبايُن اللسان واختلاف الأفكار. إلا أن دويلات شاندونغ (ليست على هذه الشاكلة) وإنما هي أقرب شبهًا إلى ركاب سفينة يتشاجرون معًا، فإذا ما دهمتهم دولة تشين، عجزوا عن حماية أنفسهم ككتلةٍ واحدة وتجمُّع واحد من البشر، وهكذا يصبحون أقل مرونةً وذكاء من الرجُلَين اللذَين أشرت إليهما، فيما سبق.
فهذه الحالات الثلاث التي قصصتها عليك، لا تستعصي على أحدٍ من الناس، ومع ذلك؛ فإن قادة وحكام دويلات شاندونغ لا يدركون بداهتها ووضوحها، وهو أمر يحملني على الأسى والأسف، من أجلهم. فتأمل تلك الأحوال جيدًا وانظر فيها بإمعان وتدقيق.
الجزء الثاني من الفصل نفسه
إن اتحاد دويلات شاندونغ ينأى بقدرها جميعًا عن أن يتدنى، ويحفظ لها مركزها وهيبتها وبقاءها الدهر الداهر، ثم إن الدفاع عن الحدود الغربية لدولتي هان ووي، يُعد من أهم واجبات دولة يان (بحيث تجعل من هذا التحرك البند الرئيس في خطتها) وإلا تعرضت البلاد للخطر، ولاقى جلالة الملك — من جراء ذلك — أسوأ العواقب.
قد توحدت الآن، الدول الثلاث: هان، ووي، وجاو؛ واتفقت كلمتها وتألفت عزيمتها. وهو الأمر الذي سيُثير حنق دولة تشين، ويدفعها إلى الانطلاق جنوبًا لمهاجمة دولة تشو، وإزاء تلك الأوضاع فستسرع دولة جاو بالاندفاع شمالًا لشن الغارة على دولة يان؛ أي إن ذلك الوضع (برمَّته) سيُصبح بمثابة ساحة تتباين مواقف الأطراف فيها، بينما تتشابه بشاعة النهاية الداهمة لجميع مرتاديها. ولما كانت دولة تشين قد لبثت تُواصل الهجوم دون هوادة على دولة هان (فقد أتيحت الفرصة لدولة …) جاو لتقوم بتدمير دولة جونشان عن آخرها، فإذا ما أرادت تشين اليوم أن تواصل هجومها ضد تشو، دون توقف، فلا بد من أنَّ يان ستلقى أسوأ مصير على يد دولة جاو. وأرى — في وجهة نظري المتواضعة — أنه من الأفضل لجلالتكم ضم قواتكم إلى جيش الدول الجنوبية الثلاث: هان، ووي، وجاو؛ والتنسيق معهم في الدفاع عن الحدود الغربية لدولتي: وي وهان، وإذا لم تتمكن دولة جونشان من التصرف على هذا النحو، بعزم ثابت وإرادة صلبة، فلن يكتب لها البقاء.» وكان بعد ذلك، أن تحركت دولة يان (في إطار هذه النصيحة) إذ قامت بضم قواتها إلى جيوش الدول الجنوبية الثلاث.
لمَّا تحدث سوتشين إلى ملك يان
تحدث سوتشين إلى ملك يان فقال لجلالته: «قد اتجهت دولة تشي جنوبًا وهاجمت تشو، ثم استدارت غربًا وأذاقت دولة تشين الهوان والمذلة، وساقت أمامها جيوش وي وهان، وألزمت قوات يان وجاو بالإذعان لها، حتى بدت وكأنها تسوق الجميع مثل قُطعان من الدواب وتنهال عليهم بالسياط اللاهبة، وإذا ما عنَّ لها أن تتجه شمالًا لمهاجمة يان، فلن يقدر أحد على مواجهتها (حتى لو كانت هناك خمس دول في حجم وقوة دولة يان) فلماذا لا تُسرع، يا مولاي، بإيفاد مبعوث سِري (ومُناظِر سياسي قوي الحجة) ليتنقل بين الدول (داعيًا لما تبثُّه فيهم من آراء) بحيث تضع العراقيل أمام قوات تشي، وتضع على كاهل أهلها أثقالًا من المصاعب الكفيلة باستنفاد عزمها وإفراغ طاقتها، فتضمن الأمن والسلامة لدولة يان على مر الأجيال.» ورد ملك يان بقوله: «لكني أحتاج لخمس سنوات لكي أُدبر شئوني وأحقق أهدافي.» فأجابه سوتشين: «بل أمهلك عشر سنوات كاملة!» فسُرَّ بذلك ملك يان، ومنح سوتشين خمسين مركبة، وأوفده سفيرًا لدى تشي، حيث التقى هناك بملكها، وقال لجلالته: «ها هي ذي دولة تشي تهاجم تشو، في الجنوب، وتقوم بمحاولة إخضاع دولة تشين — غربًا — ثم تسوق أمامها قوات دولتي وي وهان، وجنود كل من جاو ويان؛ كأنها تقود قطيعًا من الجياد وهي تلهب ظهره بضربات السياط. وقد بلغني أن الملك الحكيم (فريد عصره وزمانه، [هكذا، حرفيًّا:] ينبغي له أن يُبيد الطغاة والأمراء الجبارين وأن ينشر الاستقرار في ربوع الممالك، ويقمع كل فتنة ويزيل كل أسباب للفوضى وأن يضرب كل مستبد، سادر في غيه، ويرهب كل موطن للظلم والعسف والجور. وها هو ملك سونغ يعيث فسادًا في الأرض ويتحدى ملكوت السماء [حرفيًّا: يرمي بسهامه قلب السماء، ويلهب ظهر الأرض بسوطه] ويصب التماثيل على هيئة الأمراء، ثم يُقيمها في الطرقات والدروب ويضعها بجوار أبواب الحمامات العامة ودورات المياه [تحقيرًا لأصحابها، ومن ترمز إليهم] وينصب بعضًا منها وهي واقفة ممدودة الأذرع فيصوب عليها بوصفها أهدافًا للرماية، ويرميها بالحجارة على رءوسها، (فمثل هذا الرجل) نموذج بارز للعربدة والحماقة والصلف، ومع ذلك فإن جلالتك لا تخرج إليه لمهاجمته وتأديبه مما يعني أن ما اشتهر عنك بين الممالك من الحكمة ورجاحة العقل والشجاعة، وغيرها من الصفات الجليلة لن تُنجز لك المآثر العظيمة، ناهيك عن أن الموقع الذي تشغله دولة سونغ في المنطقة الوسطى من الممالك التي تحت السماء، يتميز بخصوبة أرضه. ثم إن الإقليم كله يجاور أرض بلادكم، وهكذا فإني أرى أن عشرة «لي» من أرض سونغ (تقتطعونها لكم) أفضل من مائة «لي» (تحصلون عليها من أرض دولة يان).
ومن ثمَّ فإن الهجوم على دولة سونغ، سيستظل بمظلة الحق والعدل (من الناحية الاسمية) لكنه، في حقيقته، يستهدف اغتنام المصالح وأوجه النفع العام، ففيمَ قعودك عن ذلك؟» ووافقه ملك تشي على رأيه، ودفع بجيشه لمهاجمة سونغ، وتمكن، في ثلاث مرات [هكذا] من دحر قوات دولة سونغ، وأخيرًا فقد وقع البلد كله تحت احتلال دولة تشي، ووصلت أنباء ذلك إلى ملك يان الذي بادر على الفور بقطع علاقاته مع دولة تشي، ثم قام على رأس جيش كثيف فهاجم تشي، وما كاد يدخل معها في معركة حامية الوطيس واشتباكين قصيرَين، حتى كان قد أنهك قواها، وأدال عليها وسجل في صفحة المجد سطور إنجاز باهر، طارت أصداؤه في الآفاق؛ ولذلك يقال: «إن منازلة دولة قوية اعتمادًا على ما يحوزه المهاجم من قوة وصلابة، يمكن أن يضعف كثيرًا من مقدار تلك القوة والصلابة، والسعي لتوسيع آفاق الطموح، بأمل مضاعف وتطلعات أكبر، كفيل بأن يضر بكل المطامح ويقوِّض أركان الأمل.»
لمَّا استعدت دولة جاو لمهاجمة
استعدت دولة جاو لمهاجمة دولة يان فتحدث سوداي (مدافعًا عن موقف دولة يان) قائلًا للملك هوي، حاكم جاو: «كنت وأنا قادم إليك، خلال الطريق، قد عبرت نهر «إيشوي»، وحدث أني رأيت عند الشاطئ، محارة البحر تفتح صدفتيها؛ لتنعم قليلًا بدفء الشمس، فجاء طائر الشنقب بمنقاره الطويل المُدبب فغمز المحارة وأطبق على جوفها المُكتنز باللحم، فضمَّت المحارة أصدافها وأطبقت بدورها على منقار الشنقب (آكل حيوان البحر) فقال لها: «لن تمطر السماء طوال اليوم والغد، فلن تجدي ماء يُرطب جسدك، فتهلكي.» فأجابته المحارة: «وستظل صدفتي مطبقة على منقارك طيلة اليوم والغد فلن تجد ما تقتاته فتموت.» وإذ بقيا كلاهما يتصارعان، دون أن يتنازل أحدهما عن تعنُّته وعناده، فقد مر الصياد بهما، ورآهما على هذه الحال فغنمهما معًا صيدًا سهلًا ووفيرًا.» وها هي ذي دولة جاو تستعد لمهاجمة يان، وعندما يطول أمد النزال بينهما، يبلغ الإنهاك مبلغه من الناس فيهدر من الطاقة ما لا يستعاض عنه، وأسوأ ما أخشاه أن تسلك دولة تشين، حينئذٍ، مسلك الصياد (في الحكاية المذكورة) فأرجو تأمُّل هذا الأمر ومراجعته بعناية فائقة.» فنزل ملك جاو على رأيه، وألغى محاولة الهجوم على يان.
لمَّا تنازعت كل من تشي ووي للفوز بالوحدة مع
تنازعت كل من دولتي وي وتشي للفوز بالوحدة مع دولة يان، وكان أن تحدث ملك تشي إلى ملك يان فقال له: «قد استطعت أن تفوز بيد العون من دولة جاو.» وجاء ملك وي، وتكلم أيضًا مع حاكم يان، قائلًا: «أستطيع أن أقول لك إني قد حزتُ مساندة وتأييد جاو.» وتحير ملك يان في أمره، فلم يقطع بقرار، ولم يدرِ، مع أي الفريقين يميل وإلى أيهما ينحاز! فتكلم معه سوتشين، قائلًا لجلالته: «قد بلغني أن من ثقلت هداياه وعظم مقدارها، في حين خفَّت نبرة كلماته، كان هو الطرف المحروم من دعم الممالك ومساندتها؛ بينما من تعاظمت كلماته وعلا صوته، (في حين …) تضاءلت هداياه، كان هو الطرف الآخر الحائز على دعم الدول والممالك حقًّا؛ وإني أرى أمامي هدايا دولة ليست بالشيء الكبير، مقابل نبرة صوتها الرنان، وكلماتها («من الوزن الثقيل» [حرفيًّا]).» فكان أن أقدم ملك يان على الوحدة مع دولة وي، واستطاع — في الوقت نفسه — أن يحوز دعم ومساندة دولة جاو. فكانت الكسرة على جيش تشي، فمُني بهزيمة شنيعة.