سجل يان الثالث

لمَّا قامت الدول الثلاث بمهاجمة دولة

قامت الدول الثلاث: تشي، وهان، ووي بمهاجمة دولة يان، فأرسلت هذه أميرها إلى دولة تشو تستصرخها لنجدتها، فأوفد ملك تشو كبير قادته العسكريين (الملقَّب ﺑ «جينيان») على رأس حملة لإنقاذ البلد المنكوب، فلما حل المساء وحان مبيت المقاتلِين أصدر جينيان أوامره لقادة فيالق الميمنة والميسرة باختيار الأماكن المناسبة لتمركز القوات وإنشاء المُخيمات، فلما توغلوا في الأنحاء المُحيطة ووضعوا علامات على الأرض في الأماكن التي رأوها مناسبة لإقامة المخيمات ذهب إليهم جينيان وتطلع إلى العلامات التي فوق الأرض، وثار غاضبًا، وصاح فيهم، قائلًا: «كيف يقع اختياركم على أماكن قريبة من مجرى السيل؟ إن هذا ليس بموضع مناسب!» وأمرهم بالانتقال إلى مكان آخر. وفي اليوم التالي هطلت أمطار غزيرة، وتدفَّقت أودية الجبل بأنهار السيول، فجرفت في طريقها كل شيء، حتى العلامات التي اختطَّها الرجال لإقامة الخيام، وهنالك اقتنع القادة العسكريون (بصحة تقدير القائد العام)، إلا أن قوات تشو لم تتمكن في ظل تلك الأوضاع من إنقاذ دولة يان، بل بادرت إلى مهاجمة إقليم «يون شيو» التابع لدولة وي، ولمَّا تم لها احتلاله، قامت بإهدائه إلى دولة سونغ، وعندئذٍ، وقع الرعب في قلوب الدول الثلاث (تشي — هان — وي) فتراجعت عن مهاجمة يان، غير أن قوات تشو لم تتمكن من العودة إلى بلادها (وقد أصبحت قوات دولة وي ملاصقة لجناحها الغربي، بينما كادت قوات تشي أن تطبق على الجانب الشرقي للقوات) فما كان من جينيان إلا أن قام بفتح ثغرة في الجناح الغربي وجعل العربات والخيول تقوم بتحركات نشيطة في هذا الجزء، وفي المساء أوقد الشموع الكثيرة والمشاعل التي انتشر ضوءها على المدى، وصار جينيان يرسل مجموعات (استطلاعية) صوب معسكرات جيش دولة وي، إلا أن دولة تشي استشعرت أن هناك شيئًا مريبًا يجرى في الخفاء، ووقع في ظنها أن دولتي يان وتشو تتآمران مع دولة وي ضدها، فحركت قواتها مبتعدة لتتمركز في أماكن أخرى، فكان هذا التصرف من قوات تشي بمثابة ضربة قاصمة لدولة وي التي وجدت نفسها بغير حليف، من ثم تخاذلت عن مسعاها في مهاجمة دولة تشو فانسحبت هي الأخرى، تحت جنح الليل. وكان أن عادت قوات تشو إلى ديارها سالمة.

لمَّا سافر كبير وزراء تشي إلى دولة

سافر «جانشيو» (كبير وزراء تشي) إلى دولة يان، بخصوص موضوع رهينة السلام، وفكر جلالة ملك يان في أن يطيح برأسه، فتسرب شيء من ذلك إلى نفس جانشيو ففر هاربًا، ولمَّا أوشك على الخروج من الحدود، قبض عليه ضابط الحراسة، فقال له «جانشيو»: «ما كان ملك يان ليقتلني، إلا لأن أحدهم أخبره بأن معي جوهرة ثمينة، وقد طمع جلالته في اقتنائها، لكنها — على أية حال — ضاعت منى ولم أعد أعثر لها على أثر والمشكلة أن جلالة الملك لا يُصدقني؛ فإذا ما بَدَا لك أن تحملني على الذهاب إلى جلالته، فسأقول له إنك استوليت على الجوهرة بالإكراه وابتلعتها، ولا بد من أن جلالته سيقتلك، ويشق بطنك ليستخرج الجوهر الكريم. وبالطبع، فأنت من حقك أن تسعى للحصول على تقدير الملك لجهودك وتنال عظيم المكافأة، لكنك لستَ مطالبًا بدفع ثمن باهظ لذلك، واعلم علم اليقين أني لو متُّ فأنت مقتول في كل الأحوال؛ لأنهم سيقطعون أحشاءك أشلاء متناهية الصغر (بحثًا عن الذهب)» فتوجس الحارس خيفة، وأطلق سراح «جانشيو».

لمَّا أوفد ملك يان رئيس الوزراء إلى دولة

أوفد ملك يان، رئيس وزرائه (ليفو) بهدية فخمة ومائة مثقال من الذهب إلى ملك جاو، وذلك بمناسبة عيد ميلاد جلالته، وبعد ثلاثة أيام من الاحتفالات والأفراح الغامرة وكئوس الخمر المترعة، عاد ليفو إلى ملك يان ليقدم تقريره عن الزيارة، قائلًا لجلالته: «لم يعد في دولة جاو الكثير من الشبان، إذ مات معظمهم في تشانبين، كما أن إخوتهم وأبناءهم لم يبلغوا مبلغ الحلم ولن يقدروا على حماية بلادهم إذا دهمها الخطر …) فهذا هو الوقت المناسب لمهاجمتها.» فاستدعى الملك (أحد النبلاء ويدعى بلقب: أمير شانكو، وكان قد لجأ إلى دولة جاو، فترة من حياته، ولما عاد إلى يان أنعمت عليه بذلك اللقب واسمه الأصلي …) «يوجيان» وسأله قائلًا: «ما رأيك في موضوع مهاجمة دولة جاو؟» فأجابه: «من المعروف أن دولة جاو ذات دروب ومسالك شتى وطرق اتصال مفتوحة (مع مختلف الممالك) وأهلها ذوو تجربة ودربة في فنون القتال والمعارك، فلا تخض معها الحرب.» فسأله الملك: «فماذا إذا تقدمت إليهم بضعف قواتهم؟» فرد الرجل: «لست أوافقك على ذلك أيضًا!» فسأله جلالته: «فما رأيك إذا استعملت عليهم ثلاثة أضعاف قواتهم من الجنود والعتاد؟» فلبث النبيل يُردِّد الإجابة نفسها، فغضب الملك للغاية، بينما كان باقي الوزراء الذين بجانب الملك يرون أن مهاجمة جاو — على العكس — جديرة بأن تؤتي ثمارها، فما كان من جلالة الملك إلا أن دفع بقوات تعدادها ستمائة ألف مقاتل لمنازلة جاو، ثم أرسل «ليفو» على رأس قوة قوامها أربعمائة ألف مقاتل للإغارة على إقليم «هاو»، كما بعث «تشينغ شين» [كبير وزراء دولة يان] لقيادة قوات قوامها مائتا ألف مقاتل لضرب منطقة «دايدي» ومن جانبها، فقد أرسلت دولة جاو «ليانيو» على رأس جيش من ثمانين ألف جندي للتصدي لقوات «ليفو» في إقليم هاو، كما أوكلت إلى «يوشن» مهمة التصدي ﻟ «تشينغ شن»، وذلك بعد أن دفعت، تحت قيادته قوات مقدارها خمسون ألف مقاتل فانهزمت دولة يان شر هزيمة، وهرب القائد «يوجيان» إلى دولة جاو.

الجزء الثاني من الفصل نفسه

وعاد ملك يان يسطر خطابًا إلى يوجيان يُعبر له فيه عن اعتذاره، قائلًا: «أعترف بغفلتي وجهلي وتقصيري إذ لم آخُذ برأيك مما دفعك إلى مخافتنا واتخاذ ملاذك لدى الآخرين، وقد اتضح بما لا يدع مجالًا لأي شكٍّ مدى ما يعتور آرائي من غفلةٍ وسطحية وضيق أفق، وقد نويت أن أُصحح ما وقعت فيه من أخطاء، وتمنيتُ أن تُساعدني في هذا الأمر، لكن يبدو أنك لن تُصغي إليَّ لذلك فقد أوفدت إليك رسولًا يشرح وجهة نظري فاستمع إليه وأبلغني برأيك وتقديرك. إن المثل السائر يقول: «إن الرجل الفاضل لا يسهل عليه قطع علاقات الأخوة والصداقة، كما أن الذكي العاقل لا يسارع إلى اجتلاب العداوة والبغضاء.» إن الجميع يدركون مدى ما كنت تتمتع به من عظيم مكانة واحترام لدى جلالة الملك الراحل (فأرجو أن يكون بيني وبينك القدر نفسه من المودة والتبجيل) وكم أتمنى أن تقيل عثرتي وتتغاضى عن هفوتي، فلست أريد أن يكون ذيوع مثالبي على يديك أو أن يعرف الجميع تفاصيل أخطائي من خلالك، بل أرجو أن تكون منك النصيحة وقت التقصير والرأي السديد عند الميْل أو الانحراف عن جادة الصواب، فلا تكن أنت أول من يفضح سوأتي وينشر على الناس عيوبي ومثالبي، مع أني واثق تمامًا من أن الناس تدرك ما وقعت فيه من الأخطاء وأن الجميع يتهامسون فيما ارتكبت من الزلل، لكن الأخطاء ستصبح جرائم فاضحة إذا فررت إلى دولة يان (كما هو حادث الآن). معلنًا السخط عليَّ مُتبرمًا بي رافضًا البقاء في خدمتي.

وعلى أية حال، فلا بد من أن تعرف أن خروجك عن مقتضى الواجب سينال من إخلاصك وعهد الثقة الذي قطعته على نفسك وهنا، فإن الحكمة السائرة تقول: «إن الرجل ذا القلب المخلص، يتعفَّف عن أن يغنم مغنمًا مقابل الإساءة للناس، كما أن العاقل الحكيم لا يقيم صرح سمعته فوق أنقاض ما هدم من سمعة الآخرين.» ومن ثم كان ستر المخازي وحجب العيوب من صميم علامات الإخلاص، وكانت إقالة عثرات الناس من ألزم واجبات الفاضل الرحيم، أليس من بين أمنياتك الدفينة أن تتحلى الناس بهذه الصفات؟ ألا تكون أنت أول من يراد منه تحقيق تلك الأمنيات والتحلي بهذه الصفات، إذا ما خضتَ في سيرتي وكشفتَ ستر عيوبي طلبًا لمغنم عاجل، أو استجابة لنوازع نفس غير عاقلة، خصوصًا أنك نلت حظوة عندنا وترقَّيت في بلاطنا — منذ أيام الملك الراحل — وصار لك في عهدنا شأن ومكانة!

هنالك نقول: «إننا قد أكرمنا من أساء إلينا، وأننا قد ضربنا صفحًا عمن ارتكب في حقنا أبشع الأخطاء، بل إننا آويناه وولَّيْناه أرفع المناصب والدرجات.» ولئن كنت أتحمل أوزار أخطاء وعثرات، فأنت أيضًا مثقل بتبديد الثقة وعدم الوفاء، ولذلك فلست أراك قد أحسنتَ الاختيار ولا أصبت الوسيلة المثلى، إن حدود الأوطان بعض مما نُقيم حول أنفسنا وأهلينا من الجدران. إنها أشبه ما تكون بتلك الحيطان التي يلتئم وراءها شمل عائلة، وتحيط بالأفراح بقدر ما تواري من السوأة وعورات البيوت، ولا يمكن أن نتصور أفراد عائلة مُتحابين فيما بينهم (ويذيعون فضائحهم وسط الجيران) وليست هذه طريقة مقبولة ولا ناجحة (في حل المشكلات). ثم إنك في الوقت الذي لم تبدر فيه مني أدنى إساءة إليك أو حتى مجرد مشاعر بغيضة ضدك، سارعت إلى الفرار والهروب من البلاد، وهو سلوك خالٍ تمامًا من معنى الالتزام بواجب الإخلاص والثقة والمسئولية.

الجزء الثالث من الفصل نفسه

«وإذا كنت سيئ التدبير، ثقيل الفهم، فلست غشومًا بليد الذهن، مثل الطاغية تشو (سليل أسرة شانغ الملكية) ولئن كنت قد جربت شيئًا من الإحباط، فأنت لم تمرَّ بتجربة أشقَّ مما جرى على «شانرون» [أحد نبلاء آل شانغ، قبل الطاغية تشو نزع عنه خاتم الملك] ولم تعرف مرارة ما عاناه «جيه». ومع ذلك، فلم تكتفِ بتعرية أخطائي داخل البلاد، وإنما فررت إلى الخارج، إعلانًا لكل شعور عدائي واستجلابًا للبغضاء، وهو ما سوف يعود وبالُه عليك وحدك، فمثل هذا التصرف سيمسُّ قدرك، وينتقص من شرفك، ويحطُّ من منزلتك أمام الناس، أليس كذلك؟

لو كنت أبديت قدرًا من العدل والحكمة، وحافظتَ على شرف مكانتك ومنزلتك الكريمة فلربما أمكنني الصمود في محنتي، واحتمال ما نزل بي من وصمة العار، وهكذا فقد سعيت إلى اتهامي بنكث العهد في حين أضعت أنت معنى الإخلاص، وأذعت على الناس نقيصتي وجلبتَ لي العار، دون أن تكسب لنفسك الشرف (أي أنك ارتكبت خطأين بفعل واحد) والحكيم لا يتبع هواه في التشهير بالآخرين، فما بالك إذا كان يؤذي نفسه بإيذائه للآخرين أيضًا؟!

وأرجو منك شديد الرجاء، بألا تظلم ما كان فيما مضى من مآثر الفضل والخير (والأيام الطيبة) بسبب ما ذكرته لك من غفلتي وسقطاتي. وقد قيل إن «ليوشياهوي» كان يتولى منصبًا مهمًّا في دولة لو (فيما مضى من أخبار الزمان) وعلى الرغم من أنه خُلع من منصبه ثلاث مرات، فلم يفكر مرة واحدة في مغادرة البلاد، حتى ذهب إليه من قال له: «إن ذهابي إلى بلد لن يغير حقيقة الاستغناء عني، بل ستظل هذه الحقيقة ورائي أينما حللت، وما دام الأمر كذلك فالبقاء في بلادي أفضل كثيرًا من المغادرة.» أي أن طرده من منصبه ثلاث مرات لم يجعله متحاملًا على ما سبق له من أيادي الإنجاز والمآثر الجليلة.

ولم يحرص على ترك بلاده؛ مما حجب عنه الوشايات المغرضة أن أخطائي ما زالت طي الخفاء داخل الوطن، لكنها الآن أصبحت مُذاعة على الملأ خارج الوطن، ويقدح في سيرتي كل قادح، والمثل السائر يقول: «لا ينبغي للثناء أن يُجمِّل الوقائع ولا النقد الجاد أن يتحامل على الهنات وسفاسف الأمور، إن الحليم لا يقطع عُرى المودة بأيسر طريق، والذكي لا يجعل مآثره السالفة وراءه ظهريًّا.»

(ذلك أن …) تجاهل ما سبق من الإنجازات دليل على سقوط الهمة، كما أن إنكار مواطن الحظوة، علامة على نوايا البغض والكراهية، وتلك كلها من الظواهر التي تشوب سلوك وتصرفات المُبعدين من المسئولين والوزراء، ولا أريد لك أن تنساق إلى إبداء أي وجه منها. وأسألك: هل كنت تبغضني لو كنت تلافيت الوقوع في ذلك الخطأ؟ أرجو أن تغضي عما سلف من الجفاء، وأن تذكُرنا بكل خير، وأن تعود إلينا مشيرًا بالرأي وناصحًا أمينًا. وقد فكرت في أمرك، ورأيت أن إضمار نية الغدر والانتقام منك ونسيان ما سبق لك من فضل وأيادٍ كريمة، وإشاعة القيل والقال عنك، لن يشيد قاعدة مجد ولن يكون مأثرة تدعو للفخر ولا وسيلة ناجعة لتصحيح ما اختل. فإذا كانت نفسك تنطوي على شيء من تلك النوايا البغيضة فتمعَّن قليلًا واستعمل الفكر والروية، فإنما قصدت أن أطلعك على مكنون أفكاري، واستودعته في خطابي هذا إليك.» ومع ذلك، فقد ظل يوجيان ناقمًا على ملك يان عدم الأخذ بخطته التي وضعها له، وآثر البقاء في دولة جاو، ولم يعد إلى يان.

لمَّا قامت دولة تشين بضم جاو

بعد أن قامت دولة تشين بضم دولة جاو إلى حلفها، أمرت جيش جاو بالاتجاه شمالًا للتصدي إلى قوات دولة يان فلمَّا سمع ملكها بذلك، أوفد مبعوثًا إلى ملك تشين لتقديم التهنئة له [هكذا] وعند مرور هذا المبعوث عبر أراضي جاو، تم إلقاء القبض عليه، فقال الرجل: «قد تم التحالف بين تشين وجاو، وسوف يقوم بمهامه في إخضاع باقي الدول والممالك تحت سيطرته؛ ومن ثم فقد قبلت دولة يان بالعمل طبقًا لما أملته عليها جاو بوصفها حليفة ﻟ «تشين» (تتلقى منها المساعدة والدعم في الواقع …) فإذا قامت جاو بالقبض عليَّ وأنا ذاهب إلى تشين، فهذا معناه حدوث فجوة وقطيعة هائلة بينها وبين تشين، فإذا تبادر إلى باقي الممالك الإحساس بوجود مثل هذا الصدع بينكما؛ فلن تُسلِّم بالخضوع ولن تُذعن يان لأوامر جاو، بعد اليوم. وعلى أية حال، فقد كنت في طريقي مبعوثًا إلى تشين، أي أني لم أكن أعرف أو أوثر أية تدبيرات هجومية تقومون بها ضد يان.»

واقتنع ملك جاو بكلامه، فأفرج عنه، فلما التقى المبعوث بملك تشين، قال له: «قد علم ملك يان، على نحو خفي، بأمر انضمام جاو إلى حلفكم، فأوفدني إليكم بألف مثقال من الذهب تعبيرًا عن سعادته وتهنئة لكم بهذه المناسبة.» فرد عليه الملك، قال: «يا له من رجل منافق لا خَلاق له! (يقصد ملك يان) قد أمرتُ دولة جاو بمهاجمة دولة يان، هذا ملكها يُرسل لي بالتهنئة، أليس هذا بأمر عجيب؟!» فقال المبعوث: «قد بلغني أن دولة جاو كانت (قبل دخولها حلفكم) تتجاور في حدودها الجنوبية مع أرضكم، وكانت تشتبك مع جيرانها الشماليين، فكثيرًا ما أغارت هناك، على دولة يان وإقليم «تشي وانغ»، ومعلوم أن مساحة يان ثلاثمائة لي مربع، وقد ظلَّت على مدى عشر سنوات تتمسك بموقفها (المستقل) مع دولة تشين، وإذا كانت قد أحجمت عن مهاجمتكم والظهور عليكم؛ فلأنها ضئيلة الأرض والمساحة قليلة الإنتاج، وإذ أمرتَها جلالتك بضم أراضي يان، فاعلم أن البلدين سيوحدان جهودهما ويتساندان معًا، وينبذانك وحدك ويخرجان عن طاعتك، وأهمس في أذن جلالتك، بأنك ستجد نفسك في وضع مثير للقلق وقتئذ!»

فلما بَدَا لملك تشين أن الأمر يحتمل الصواب، دفع بقواته لمؤازرة دولة يان.

لمَّا ذهب الأمير إلى دولة تشين رهينة سلام

ذهب الأمير «دان» [أمير دولة يان] إلى دولة تشين ليقيم فيها رهينة سلام، ثم إنه هرب — فيما بعد — عائدًا إلى بلاده، فلما رأى عيث دولة تشين في أراضي الدويلات الست وإنزالها الهلاك بها واقترابها من منطقة إيشوي (وما قد يستتبعه ذلك من نتائج) جاشت نفسه بالقلق، وأفصح عن مكنون صدره لأستاذه «جيو»، قائلًا له: «إن يان وتشين ليستا متكافئتَين في القوة، فليتك تتدبَّر لي خطة ناجعة لمواجهة تشين.» فقال معلمه: «إن أرض تشين شاسعة تضرب في الآفاق، وللدولة من القوة والمنعة ما يحدوها على تهديد وي وهان وجاو، مُجتمِعين، أما بالنسبة لأراضي يان الواقعة شمالي نهر إيشوي. فمن الصعب البتُّ في أمرها (وإلى أي الفريقين تنتمي!) فما الذي يُجبرك على الاحتكاك بدولة وحشية مثل تشين، وهل لمجرد الإحساس بما قد يمسُّك من العار والتخاذل أمامها، تندفع إلى إثارة حفيظتها ضدك؟» فسأله الأمير: «كيف يمكن معالجة هذا الموضوع إذن؟» فأجابه أستاذه: «اذهب أنت الآن، ودعني أتأمَّل الأمر مليًّا.» وبعد فترة من الزمن كان قائد قوات تشين «فان يوتشي» قد هرب من بلاده [على إثر مشادَّة بينه وبين جلالة الملك، وتطاول فيها القائد على مليكه] لاجئًا إلى يان، فاستقبله الأمير دان فنصح له أستاذه «جيو» قائلًا: «ما كان يصح أن تتصرف على هذا النحو؛ فأنت تعلم جيدًا مدى ما يَصِمُ ملك تشين من طغيان واستبداد ووحشية، وهو يضمر لبلادك كل البغض والكراهية مما لا مزيد عليه ولا يملك المرء معه إلا أن ينتفض ذعرًا ويتوجَّس خيفة فكيف في ظل كل تلك الأحوال تتجاسر على استضافة القائد (الهارب) «فان يوتشي» في أرضك؟ لكأنك — بذلك — تلقي اللحم الطازج في طريق النمر الهائج (لفرط ما عانى من الجوع) فإذا وقع الافتراس فلا مفرَّ ولا منقذ! حتى لو كان لديك أمهر رجال السياسة ودهاة التخطيط [مثل «كوان تسي» و«يانين» (أبرع السياسيين القدامى)] فلن تجد مخرجًا من ورطتك، وبناء على ذلك، فأرجو أن تسرع بإخراج القائد المخلوع فان يوتشي إلى أرض «شيونو» [البرابرة والهمج، خارج الحدود] تلافيًا لما يمكن أن تتخذه دولة تشين من ذريعة لمهاجمة يان، وعليك أيضًا بعقد ميثاق مع الدول الثلاث الواقعة إلى الغرب منك (هان - جاو - وي) كما ينبغي أن تتحالف مع تشي وتشو — في الجنوب — مثلما يتوجَّب عليك عقد صلات المودة والصداقة. مع (قبائل) شيونو (برابرة الشمال). وبعد ذلك تستطيع أن تُقدر مواقفك وتجري حساباتك.» وهنالك قال الأمير دان: «هذه خطة تحتاج — سيدي المعلم — في تنفيذها إلى حقبة طويلة من الدهر، وقد ضاق صدري، جزعًا، وما عدت أطيق الصبر على تلك المعالجات طويلة المدى، هذا بالإضافة إلى أني قد وجدت الطريق مسدودة في وجه القائد «فان يوتشي» ولا أحد يريد استضافته، فلما قدم عليَّ شريدًا بغير مأوًى، وأناخ بساحتي أكرمت وفادته، ووطَّأت له الأكناف؛ وما كنت لأرد صديقًا تربطني به مشاعر الود عن النزول بأرضي، وما كان لي أن أُرسله إلى قبائل الشماليين حتى لو كان سيف التهديد والإجبار مشهرًا في وجهي؛ الموت لي — إذن — إن خذلته، بل أرجو منك أيها المعلم النابه أن تُدبر مخرجًا آخر غير هذا!» فقال له جيو: «يقال: إن بدولة يان رجلًا بارعًا في الخطط السياسية يدعى «تيانكون» وهو واحد من أحذق فقهاء مذهب التخطيط [قل … «السياسي»] معروف ببُعد نظره ودقة تدبيره وشجاعة شخصيته، فعليك باستشارته!» فقال الأمير دان: «فهل لك أن تساعدني في لقاء ذلك المدعو «تيانكون»؟» فأجابه المعلم بما يفيد السمع والطاعة.

الجزء الثاني من الفصل نفسه

فذهب المعلم «جيو» إلى «تيانكون» وأبلغه بما سمعه عن سمو الأمير دان، قائلًا له: «أرجو أن تجد فسحةً من الوقت لمناقشة مسائل ذات شأن مع سمو الأمير.» فأجاب الرجل بأنه طوع ما ينصح به الأمير ثم قام وذهب إلى مقر سموه، فلمَّا التقى به ركع له الأمير ترحيبًا وتبجيلًا، وانتحى جانبًا ليفسح له الطريق، ثم ركع ثانية وهو يُشير له بالجلوس (بل إن سموه مد يده ومسح له على كرسيه) فجلس تيانكون مع الأمير، وحدَهما ولا ثالث، وكان أن تقدَّم منه سموه، وكلَّمه قائلًا: «إن دولتي تشين ويان ليستا متكافئتَين في القوة، ذلك ما كنت أريد أن أُنبهك إليه لتضعه نصب عينيك وتلتفت إليه في تقديرك للأمور.» فقال له تيانكون: «بلغني أن الجواد الأصيل، يستطيع في سِني صباه أن يركض ألف لي في لمح البصر، فإذا أدركته الشيخوخة، صارت حتى الخيول الهزيلة، تسبقه وتتخطاه. وما بلغك عني من الأنباء إنما يشير إلى ما كنت عليه أيام صباي من عنفوان وقوة، أما اليوم فقد وهن الجسم وذبلت القريحة، وعلى الرغم من ذلك، فالأمر جد ولست أريد أن أضيع وقت سموك ومصالح الوطن عبثًا، وأستطيع أن أدلك على رجلٍ صديق لي اسمه «جينكه» (وأظنه يُرحب بالعمل في منصب حكومي بارز) فعليك به!» فقال الأمير: «ليتك تُعرِّفني إليه.» فقال له الرجل إنه مطيع له في كل ما يأمر به، ثم قام وغادر مسرعًا، فودَّعه الأمير حتى الباب، وهمس في أذنه: «كل ما حدثتك عنه يعد من شئون الدولة العليا، وأتمنَّى ألا تذيع ما سمعت إلى الناس.» وخفض الرجل نظره وهو يضحك قائلًا: «إن هذا مفهوم بالتأكيد.» ومشى تيانكون إلى «جينكه» [تنطق بمقطعين، الأول كما في الهجين والثاني كما في مليكه] وهو محدوب الظهر وقال له: «إن ما يربطني بك يا سيدي من علاقة طيبة، لا يخفى أمرها على أحد، وهذا معلوم للكافة. وقد بلغ مسامع الأمير دان ما كنت عليه أيام صباي من العقل النابه والذهن المتفتح، لكنه لم يكن يعرف أن الشيخوخة رمتني بدائها [حرفيًّا: الجسد لم يعُد يطاوع الإرادة أو المادة لم تعد تطاوع الطاقة] لكني من حُسن الحظ، عرفت منه أن … يان وتشين ليستا متكافئتَين في قوَّتهما، وهو أمر يحتاج من العاقل الكريم الحذر والانتباه ولأني أعرفك تمام المعرفة، فقد ذكرتك عنده، وأتمنى لو استطعت أن تذهب إلى القصر لمقابلته!» فقال له جينكه: «سمعًا وطاعة.» فقال تيانكون: «قد بلغني أن الذكي الشريف، لا يُثير الشك في قلوب الناس، وقد حذرني سمو الأمير من إفشاء ما دار بيني وبينه باعتباره من أدق أسرار الدولة، ومعنى هذا أنه يستبطن الشك فيَّ وتساوره الظنون بشأني. فهذا دليل على أني لستُ أتصرف بالطريقة التي توحي بالثقة، أو أني لا أتمتع بالقدر الكافي من مظاهر الإباء والشهامة والفروسية.» وأراد تيانكون أن يُثير مشاعر جينكه، وهو يوعز إليه على نحو خفي بما انتواه من الانتحار، قائلًا: «أرجو أن تسرع إلى لقاء الأمير، وقل له إني متُّ، لعله يطمئن إلى أني لن أفشي السر لأحد!» ثم طعن نفسه ومات منتحرًا.

الجزء الثالث من الفصل نفسه

وذهب جينكه للقاء الأمير، دان، وأخبره بأن السيد تيانكون قد قتل نفسه تأكيدًا للعهد الذي قطعه على نفسه بعدم إفشاء السر، فركع الأمير ذاهلًا، وخفض رأسه وهو يتلو تلاوة الأسى على الفقيد، وتحدَّرت دموعه على وجهه، وظل راكعًا فترة من الوقت وقال بعدها؛ «ما طلبتُ إلى السيد تيانكون أن يحفظ السر، إلا أملًا في نجاح الخطط المتعلقة بشئون الدولة العُليا، وقد قصد بموته أن يضمن عدم إفشاء الأسرار وهو ما لم أكن أريده، ولا قصدت الإشارة إليه.»

فلمَّا استقر جينكه في مجلسه، قام الأمير دان واقفًا وغادر كرسيه، ثم سجد على الأرض، قائلًا: «لم يكن يعلم السيد تيانكون مدى ما أُعانيه من أهوال، ولا ما قاسيته من الشدة حتى طلبته وطلبت كل من أستطيع أن أتحدث أمامهم عن مكنون صدري، فالسماء تتدارك بلادنا برحمتها، ولا تتخلى عنها في ضعفها ووقوفها وحدَها في وجه الصعاب، لا سيما وقد استفحل طمع دولة تشين، واتسعت شهيتها للنهب والسلب بلا حدود، وها هي ذي قد أسرت ملك هان، وفرضت سيطرتها على أراضي الدولة، ولم تكتفِ بذلك، بل دفعت بقواتها صوب الجنوب لمهاجمة واحتلال دولة تشو، ثم ناوشت دولة جاو في الشمال بعددٍ من قواتها. وكان «وانجيان» قد هاجم منطقتي «جانغ» و«بيه» بقوات تَجاوز مقدارها مئات الألوف من المقاتلين وكذلك دفع «ليشين» بقواته نحو تاييوان» و«ويونجون»، وإذا عجزت دولة جاو عن مقاومة عدوان تشين، فسوف تستسلِم لها وتذعن بالخضوع لمشيئتها، وإذا ما حدث ذلك، فسوف تقع الأهوال على رأس دولة يان التي لا تحوز الكثير من المساحة، والتي عانت الكثير من نكبات المعارك، وعندما أفكر في الأمر بعُمق، أجد أن كل ما هو متاح لنا من القوة لن يكفي لصد عدوان تشين، علمًا بأن كل الدويلات خضعت لسيطرة تشين، ولم تجسر واحدة منها على الدخول في حلف المحور الرأسي إلى جانب يان وأحيانًا أتأمل المسألة برمتها من زاوية شخصية بحتة وبتقدير ذاتي جدًّا وأقول لنفسي: «إننا لو تمكنا من اختيار أشجع رجل من بين الممالك كافة وأرسلناه إلى تشين، بحيث أظهرنا لها مدى ما يمكن أن تمنحه إياها دولة يان من الاعتبار وما تحققه لها من المصالح، فلا بد من أن مسعى ملك تشين في اجتناء كل الثمرات والاستيلاء على كل ما تطوله يده سيسير في الطريق الذي نريده له.» وإذا استطعت، فعلًا، أن أمارس نوعًا من الضغط والسيطرة على ملك تشين، بحيث أرغمه على إعادة أراضي الدويلات المسلوبة إلى أصحابها، على النحو الذي استطاع به «تساومو» أن يفرض إرادته على ملك تشي، فسيكون هذا أعظم إنجاز على الإطلاق، فإذا لم تفلح هذه الخطة، انتهزنا الفرصة وقتلنا الرجل.

وبهذه الطريقة، تصبح السلطة العسكرية الكاملة في يد القائد العسكري الموجود خارج البلاد، بينما تسود الفوضى كل الأنحاء في الداخل، وتضطرم نفوس الأمراء والوزراء بالشك المتبادل، وعندئذٍ ننتهز فرصة تلك الفوضى العارمة، ونقوم بدعوة الجميع إلى الدخول في الحلف الرأسي، وهو ما يعني المواجهة الكاملة مع تشين تمهيدًا لتدميرها. تلك هي أمنيتي الكبرى، ومشكلتي أني لا أدري من الذي أستطيع أن أوكل إليه تلك المهمة. وبالطبع فإني أرجو منك — أيها السيد جينكه — التزام الحذر البالغ بشأن سرِّية هذه الأفكار.» وانقضت فترة طويلة من الوقت حتى تكلم الرجل، فقال: «تلك موضوعات تتصل بمصالح الوطن العُليا وأنا رجل متواضع الملَكات، ولا قِبل لي بتدبير تلك الخطط وتنفيذ السياسة المتعلقة بها.»

فتقدم منه الأمير، دان، وجثا على ركبتَيه، وراح يرجو جينكه (بل أخذ يلح في الرجاء …) بألا يعتذر عن قبول الاضطلاع بمسئوليتها، وظل به حتى وافق، ثم أنعم عليه بمنصب ودرجة «الوزير الأعظم» وأنزله أحسن مكان للإقامة وأخذ يتردد عليه يوميًّا للاطمئنان عليه، ثم إنه أغدق عليه الصِّلات الوفيرة من الذهب والمال والتقادم الفخمة والجياد والغيد الحِسان، ولم يدع له مطلبًا أو حاجة إلا قضاها له، تسكينًا لخواطره وتطييبًا لنفسه.

الجزء الرابع من الفصل نفسه

فلما انقضي زمان طويل، بَدَا جينكه غير مستعدٍّ للبدء في المهمة المشار إليها، وكان القائد العسكري لدولة تشين (المدعو «وانجيان») في تلك الأثناء قد هاجم دولة جاو، وأسر حاكمها واحتل أرض البلد بالكامل وتوغل شمالًا بقواته فعاث في الأنحاء واستولى على المزيد من الأراضي، وهاجم الحدود الجنوبية لدولة يان، فأُسقط في يد الأمير دان، فذهب إلى جينكه وأخذ يتوسَّل إليه قائلًا: «لا بد أن قوات تشين ستعبر نهر إيشوي إن عاجلًا أو آجلًا، وعلى الرغم من أني كنت أودُّ أن أقوم بخدمتك والتفاني في القيام على راحتك، فإني — بعد اليوم — لا أجد نفسي قادرًا على ذلك.» فأجابه جينكه، قال: «قد أوشكت أن أتحدث إليك حتى قبل أن تبادر أنت إلى الكلام معي، وكنت أودُّ أن أعرب لك عن استعدادي للتحرك، الآن، لكني إذا ذهبت إلى دولة تشين دون أن أقدم لها برهانًا دامغًا على صدق مقالتي، فلن يوليني أحد اهتمامه ولن ينصت لي الملك. وقد بلغني — بخصوص القائد الهارب «فإن يو» — أن ملك تشين قد رصد مكافأة مالية قدرها ألف مثقال من الذهب ومساحة (إقطاعية) هائلة من الأرض لمن يقبض عليه، فإذا استطعت أن أذهب إليهم برأس «فان يو» وخريطة توضح موقع أرض «طوكان» [الغنية الوفيرة المحاصيل (بأرض يان)] فلا بد أن ملك تشين سيلقاني متهللًا، وعندئذٍ تحين الفرصة (التي أردُّ فيها الجميل، شاكرًا فضل الأمير).» فرد عليه الأمير بقوله: «لكن القائد «فان يو» استجار بي بعد أن سدت أمامه الأبواب، ولا تُطاوعني نفسي أن أؤذي رجلًا مخلصًا تحقيقًا لرغبات ذاتية، فلتبحث عن طريقة أخرى، إذن؟» فلمَّا تيقن جينكه أن الأمير لا يقدر على الوفاء بهذه الخطة على هذا النحو. فقد ذهب والتقى سرًّا بالقائد «فان يو»، وقال له: «إن تشين تعاملك — كما هو واضح — بكل وحشية، حتى إنها نكَّلت بكل عائلتك وأقربائك وأفنتهم عن آخرهم، وقد سمعت أن المسئولين هناك أعلنوا عن مكافأة سخية لمن يأتيهم برأسك، فكيف ستتصرف الآن؟» فرفع القائد رأسه إليه وقد سالت من عينَيه الدموع، وقال: «كم لبثتُ أتذكر كل ذلك وتحاصرني الأفكار، حتى توجعني كل ذرة في كياني، لكني لا أجد وسيلة للانتقام.» فقال له جينكه: «عندي كلمة واحدة أقولها لك، فيها تكمن الفرصة الوحيدة لتخليص دولة يان من المخاطر المحدقة بها، كما تشتمل أيضًا على الطريقة المُثلى لانتقامك الكبير فما رأيك؟ إن كنت تود سماعها، فأعلمني بذلك!» فمال القائد «فان يو» نحوه متسائلًا: «فما هي تلك الطريقة؟» فقال له: «المطلوب (بل المرجو) أن تُقدم رأسك إلى ملك تشين الذي سيبتهج كثيرًا بذلك، ثم يحتفي بي بكل ودٍّ وترحاب، فأثب عليه وأقبض بيدي اليسرى على ذراعه، وباليمنى أغمد الخنجر في صدره، فأنتقم لك، وأمحو العار الذي طال سمعة دولة يان، فهل تراك موافقًا على الخطة؟» فما كان من القائد فان يو إلا أن نزع صداريته حتى بان جانب صدره، واقترب من، محدِّثه، قائلًا: «ذلك بالضبط ما كنت أحاول أن أفعله، ولطالما فكرت فيه ليل نهار، فها قد حان الحين بعد أن قلت كلمتك الآن.» ثم طعن نفسه، فمات من ساعته، فلما بلغ الخبر مسامع الأمير، دان، امتطى فرسه في الحال وهُرع إلى موقع الحادث، ثم انبطح عند جثة القائد وهو يبكي ويكاد ينشق قلبه حزنًا وأسفًا عليه، لكن الحادث قد حدث، وانقضى القضاء والمقدور، وما عادت أي حيلة تغير من الأمر شيئًا، وكان أن اجتُزَّت رأس فان يو، ووضعت في علبة أعدت له بعناية فائقة.

الجزء الخامس من الفصل نفسه

ومنذ ذلك الحين راح الأمير دان يبحث عمن يأتيه بأقطع خنجر في الممالك كلها، فجاءوا إليه به من رجل بدولة جاو، يُدعى «شيوفو»، فعهد بالخنجر إلى الحداد ليسقيه بالسم الناقع، فلمَّا جربوه في جسد بعض الناس [هكذا!] ماتوا جميعًا في لحيظات معدودة، دون أن يُخلف الجرح سوى خيط ضئيل من الدماء. وهنالك تجهز جينكه للسفر، ورتب أمتعته، وذهب الأمير لتوديعه، وكان بدولة يان رجل هجَّام، يدعى «تشينويان» قيل إنه ارتكب أول جريمة قتل وهو بعد، دون الثانية عشرة من عمره، حتى خافه الناس وكانوا يخشون مجرد النظر في عينَيه. فاستدعاه الأمير، دان، وكلفه بأن يكون مساعدًا ﻟ «جينكه» وقت الحاجة (فلما أزف وقت الرحيل …) قعد جينكه ينتظر أحد مُرافقيه وكان يقيم بمكان بعيد، وطال الانتظار عدة أيام، دون أن يخرج المسافر إلى الطريق فاستبطأه الأمير دان، وظن به الظنون وفكر في أنه ربما أحسَّ بالندم، فذهب إليه ورجاه قائلًا: «قد تجاوزت الأجل المضروب للرحيل، فهل معنى ذلك أنك نكصتَ عما وعدت به وتراجعت عن السفر؟ إذا كان الأمر كذلك فاسمح لي بإيفاد (الهجَّام) تشينويان (بدلًا منك).» فثار جينكه غاضبًا واحتدَّ على الأمير، وهو يقول له: «إنما أنا ذاهب في طريقٍ لن أعود منه حيًّا، وأُمسك بيدي خنجرًا كي أدخل به بلدًا مشهورًا بالوحشية والبطش وسفك الدماء، فكأني داخل إلى غور لا تؤمن غائلته؛ فلذلك بقيت عدة أيام أُعد نفسي للسفر، وأردت أن يصحبني صديق لي، فجلست في انتظاره، وتجيء أنت وتظن أني تأخرت عن الموعد، فالوداع إذن، وليكن الفراق الساعة!» ثم قام وانطلق مسافرًا، فما وسِعَ الأمير دان وأتباعه إلا أن قاموا يتبعونه لوداعه وهم يرتدون الملابس والقبعات البيضاء [شارات الحداد] حتى انتهوا إلى ضفاف نهر «إيشوي»، وذهب جينكه وقدم القرابين لآلهة الطريق، وطلب منها الهداية في دروب السفر، ثم تخير لنفسه وجهة الرحيل، وكان صديقه «قاوجيان لي» يعزف على القيثارة، بينما يُنشد جينكه، على الأنغام لحنا من مقام شجي، فامتلأت نفوس السامعين أسًى وهو يغني:

«موكب من الرياح،
ينثر في الأسماع
همس دفقات النسمات،
فوق الطل البارد،
والنهر الحزين،
سيذهب البطل،
ولن يعود.»

وعندئذٍ تحول العزف إلى مقام مُتسارع يثير الحماس والحزم والإقدام، فاتقدت العيون ألقًا، والنفوس استثارة وتصميمًا، وهنالك انطلق جينكه في طريق السفر دون أن يلتفت خلفه.

الجزء السادس من الفصل نفسه

فلما وصل جينكه إلى تشين حمل الهدايا الثمينة وراح يوزع منها على رجال البلاط والوزراء والحاشية، كما أغدق منها على «منجيا» الشيء الكبير [منجيا: أخو القائد العسكري العام بدولة تشين]، فذهب هذا إلى الملك وحدثه بشأن جينكه، قائلًا: «إن ملك يان يخشى نفوذ وسطوة جلالتكم، ولا يجد في نفسه المقدرة على مواجهتكم عسكريًّا، وهو يتمنَّى أن تعلن كل الدويلات والممالك طاعتها وخضوعها لكم، وكأنهم بضعة من وزرائكم وعمالكم بحيث يفدون عليكم لتقديم آيات الطاعة والولاء مثلهم في ذلك كمثل محافظي الأقاليم والمحلات التابعة لسلطانكم، ولا يُريدون إلا التقرب لكم بالهدايا اللائقة والقيام على خدمة معابد أسلافكم الأجلاء. ولمَّا كان ملك يان مترددًا في المجيء بنفسه للتعبير لكم عن كل تلك الأفكار، فقد تكرَّم بإرسال رأس القائد الهارب فان يو مرفقًا بخريطة لإقليم «طوكان» وذلك كله طي صندوق مُرسل إلى جلالتكم مباشرةً من البلاط الحاكم، تحت إشراف ملك يان شخصيًّا، وقد أوفد إلى جلالتكم، بهذا الشأن، مبعوثًا خاصًّا لمقابلتكم، ليشرح لكم، بالتفصيل فحوى الأمر برمَّته، وهو ينتظر الإذن من جلالتكم.» فلمَّا سمع الملك تلك الأنباء، ابتهج للغاية، وبلغ به السرور أشده، وأسرع بارتداء الملابس الملكية المقدسة، وأمر بتعيين تسعة مُرافقين للضيوف، على أن تتم المقابلة في قاعة القصر الملكي الكبير (بالعاصمة)، وجاء جينكه وهو يحمل بين يدَيه الصندوق الذي يحوي رأس القائد فان يو بينما حمل [الهجَّام المذكور آنفًا، المدعو]: «تشينويان» الصندوق الآخر المشتمل على الخريطة، فتقدَّما كلاهما (حسب المراسم الرسمية) حتى بلغا أدنى موضع من كرسي الملك (الدرجة الثانية من درجات السلم) وعندئذٍ بلغ الذُّعر مبلغه من تشينويان، فتلوَّن وجهه، حتى سرت الهمهمة والدهشة بين جموع الضيوف والوزراء، وعندئذٍ التفت جينكه نحوه ضاحكًا وتقدم إلى الملك معتذرًا إليه قائلًا لجلالته: «معذرة يا مولاي؛ فهذا رفيقي رجل بسيط من بلاد الشمال لا عهد له بالمثول بين يدي الملوك؛ فلذلك ارتاع على النحو الذي ترى فأرجو المغفرة وسعة الصدر وطول الأناة، ولتصبر عليه حتى تنفكَّ عقدة الرهبة أو ائذن له بالاقتراب منك ليؤدي بقية المراسم!» فقال الملك ﻟ «جينكه»: «أقبل أنت، وخُذ الوثائق والخريطة من يد رفيقك وسلِّمها لي.» فتناول جينكه الخريطة وتقدم بها نحو الملك، ثم فك الأربطة من حولها وفرد طياتها وما كادت تنفرد، صفحتها، حتى كان الخنجر في يد، واليد الأخرى تقبض على ياقة الملك، وقبل أن تصل الطعنة إلى جسده انتفض جلالته مذعورًا فانقطعت ياقة القميص، فأسرع إلى سيفه، لكنه لما كان في حال الاضطراب والارتباك فلم يتمكن إلا من الإمساك بطرف غِمده ولم يتيسر له انتزاعه، إذ كان مغلفًا بإحكام، ولحق به جينكه، فدار الملك حول أحد الأعمدة، وضج الحضور وارتبك الوزراء، وعمَّت الفوضى لورود ذلك الحادث على حين غفلة من الجميع، ولم يتمكن أحد من مقاومة المُعتدي؛ إذ كان من المعمول به في البلاط الملكي بدولة تشين وحسب اللوائح الرسمية، حظر دخول الأسلحة بكل أنواعها إلى داخل القصر، حتى المُدى القصيرة النصل لم يكن مسموحًا بدخولها لأي سبب من الأسباب، بينما كان أفراد الحراسة المسلحين، يقفون خارج القاعات الكبرى، وليس مسموحًا لهم بالدخول إلا بأوامر شخصية من جلالته، وفي تلك الأثناء، ومع احتدام الفوضى والارتباك، فلم يتيسر للملك استدعاء أي فردٍ من الحراس، ومن ثم فقد لحق به جينكه، والناس ينظرون حيارى، ولا يدرون ماذا يفعلون ولا كيف يُجابهون جينكه ويحُولون بينه وبين الملك سوى مصارعته بالأيدي. وفي تلك الأثناء، تقدم طبيب القصر «شياوجين» ورمى جينكه بعلبة كبيرة كان يحملها للطوارئ وكانت تحتوي على كميات من الأدوية والعقاقير، (فلم تُصبه بشيء)، لكن الملك تمكن من أن يدور وراء العمود الحجري الكبير وهو في غاية الاضطراب، وصار الوزراء وبعض القريبين منه يصيحون عليه: «دونك السيف سيدي الملك، اقلب عروته واضرب!» وهنالك استطاع الملك أن يسحب السيف من غمده، فضرب جينكه فجاءت الضربة على ساقه اليسرى فبترتها في الحال، فاحتمل جينكه الألم ورفع الخنجر تجاه الملك وأراد أن يُصيبه فوقع النصل في العامود، فتمكن الملك من ضربه عدة طعنات متوالية فأدرك جينكه أن قد حبط مسعاه، وعليه دارت الدائرة، فاستند إلى جسم العامود وصرخ صرخةً عظيمة مُختلطة بنوبات من الضحك المجنون المُتقطع ثم وقع على الأرض وهو يهذي قائلًا: «طاشت الضربة، وكنت أريد أن أخرج بك أسيرًا، لينتقم منك الأمير بنفسه ويستولي على أرضك.» وكان الرجال، في تلك اللحظة، قد أحاطوا به وقتلوه. بينما ظل الملك تائه الفكر مشوَّش الذهن فترة من الوقت.

ولما انقضت الفترة العصيبة حان أوان مكافأة من أبلى بلاء حسنًا، ومعاقبة المُقصر والمسئول؛ كلٍّ على قدر تفانيه وإخلاصه أو إهماله وتقصيره، واستقر الأمر على منح طبيب القصر شياوجين مائتي مثقال من الذهب وقال الملك: «إن هذا الرجل أكثر الجميع إخلاصًا لي، بما أقدم عليه وقت الحادث.»

الجزء السابع من الفصل نفسه

وصار قلب ملك تشين ذءوبًا على دولة يان وبات صدره مشحونًا بمقتِها، أكثر من ذي قبل، وأصدر أمره إلى القائد وانجيان بتوجيه ضربةٍ عسكرية ساحقة إلى يان.

(وكان أن تمكنت قوات تشين من دحر دولة يان) في عهد الملك «إينجن» ملك تشين، وذلك في الشهر العاشر من السنة الحادية والعشرين [أكتوبر من عام ٢٢٦ق.م.] واقتحمت القوات مدينة «جي» عاصمة دولة يان [مدينة بكين عاصمة جمهورية الصين الشعبية، حاليًّا] فاحتلتها، أما الملك شي حاكم يان [كان أميرًا لدولة جاو، التي احتلتها تشين عام ٢٢٨ق.م. فهرب إلى إقليم داي وأعلن نفسه ملكًا عليه ثم تحالف مع دولة يان — في الشرق — وضم الجيشَين معًا في قوة عسكرية واحدة] والأمير دان وبعض رجال الحاشية، فقد انسحبوا جميعًا على رأس قوة عسكرية منتخبة إلى منطقة «لياودون»، إلا أن قائد تشين: (المدعو: ليشين) ظل يطارد ملك يان الذي لجأ إلى مكيدة قديمة (كانت قد استخدمتها دولة جاو في الماضي) إذ قتل الأمير، وأراد أن يُقدم رأسه إلى ملك تشين، استرضاءً له، إلا أن جلالته ظل يُطارده ويُضيق عليه، فما كادت تنقضي خمس سنوات، حتى كانت يان قد وقعت بالكامل وانتهى أمرها، وتم أسر الملك شي. وفيما بعد، فقد قامت تشين بتوحيد الممالك كلها، وكان في الحوادث أن الرجل الملقب ﺑ «قاوجيان» — صديق جينكه — استخدم حيلة ماكرة لمقابلة ملك تشين؛ وذلك بأن ادعى مقدرته على العزف البارع على القيثارة ليطرب جلالته، وأتيح له بالفعل، أن يمثل بين يدي الإمبراطور الأعظم تشين شيهوانغ [أكثر الأباطرة الصينيين شهرةً عبر التاريخ إذ هو أول من وحَّد الصين الكبرى] وانتهز تلك الفرصة لينتقم لهزيمة بلاده، لكنه فشل في محاولته اغتيال الإمبراطور، فأُعدم وقُضي أمره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤