سجل الدولتين: «ويه» و«سونغ»
لمَّا قامت دولة تشي بمهاجمة سونغ
قامت دولة تشي بمهاجمة دولة سونغ، فأرسلت هذه رسولها «تصانزي» إلى تشو، تستصرخها لنجدتها، وبَدَا أن الأمر يروق لملك تشو؛ إذ أبدى استعداده لتقديم المؤازرة التامة والمساندة الكاملة لها؛ للتعجيل بإنقاذها، واستدار «تصانزي» عائدًا إلى دولة سونغ، وقلبه غارق في الهموم، وكان أن قال له الحوذي، سائق مركبته: «على الرغم من أنك فزتَ بما أملته من الوعد بإنقاذ البلاد، فإن ملامحك تنطق بالقلق، فهل لي أن أسألك عن السبب في هذا؟» فأجابه: «دولة سونغ مجرد إقليم ضئيل المساحة على عكس ما تتميز به دولة تشي من الاتساع المُتناهي والمنعة والغلبة. وعندما تقوم مثل هذه الدولة الضعيفة، الضئيلة باستثارة غضب تلك القوة الجبارة، فلا بد من أن الأمر لن يصير سهلًا أمام حاكمها — أو أي حاكم آخر مكانه — ومع ذلك، فقد لاحظت علامات الابتهاج على وجه ملك تشو وأنا أكلمه، وإحساسي يُنبئني بأنه سيدعنا نواجه تشي وحدَنا؛ ومن شأن ذلك أن يستنزف قوى تشي ويُصيبها بالإنهاك، وهو ما ستعود فائدته على دولة تشو بالتأكيد.» وبعد وصول تصانزي إلى سونغ، قامت دولة تشي بالإغارة عليها، فاحتلت خمسًا من مدنها، دون أن يوفِّي ملك تشو بوعده، ولم يتقدَّم لإغاثتها.
لمَّا صنع لوبان آلة حربية لمهاجمة
قام لوبان [أحد أشهر الصنَّاع المهرة في العصور القديمة] بصناعة آلة حربية قتالية لدولة تشو، لكي تستخدِمها في هجومها المزمع على دولة سونغ، فما عرف بذلك «موتزي» [فيلسوف، قديم، عاش في دولة سونغ، إبان عصر الدول المتحاربة] قام وقصد طريق السفر إليه، مُتجشمًا صعاب الطريق، حتى تهرأت كعوب قدمَيه وانتثرت الثآليل في رجلَيه، فلما التقى مع لوبان، ابتدره بقوله: «بلغني، وأنا في دولة سونغ، ما أصبتَ من شهرة ومجد وصيتٍ ذائع والآن، فقد جئتُ إليك راجيًا أن تمدَّ لي يد العون لاغتيال أحد الأشخاص.» فأجابه: «لكني كنت طوال عمري، امرأً فاضلًا، أنشد الرحمة والحكمة، فكيف أقتل الناس؟» فردَّ عليه موتزي، قائلًا: «بلغني أنك صنعت سُلمًا صاعدًا إلى السماء [هكذا] استعدادًا لمهاجمة دولة سونغ، فما الذنب الذي جنته لتستحقَّ ذلك؟ إن الزعم بأن المرء فاضل رحيم، في حين أنه يُعين على الإعداد لعمليات هجومية ضد دولة أخرى، معناه أنه لن يكتفي بقتل بضعة أشخاصٍ وإنما سيعد العدة لاغتيال الجمِّ الغفير من الناس. وإلا ففيمَ الحكمة والرحمة والفضل في مهاجمة دولة سونغ؟» فأقر لوبان بصحة قوله، فطلب إليه موتزي أن يصحبه ليُرتب له لقاء مع ملك تشو، فلما مثل مع موتزى بين يدي جلالته، قال له: «أريد أن أسأل جلالتك عن رأيك في رجلٍ يُعرض عما يملكه من عربات ذات زينة وبهاء وألوان ومتانة، ثم يطمع فيما لدى جاره من مركباتٍ قديمة مُحطمة، وما رأيك في رجل يخلع ملابسه الحريرية المُطرزة البديعة، فيستولي على ثياب جيرانه الخشنة المهلهلة، ثم ما رأيك فيمن يعاف طعام بيته الشهي، طيب النكهة والمذاق، ليسرق صحاف جاره من حثالة الطبخ ونخالة المائدة؟» فأجابه ملك تشو: «هذا رجل مريض بداء السرقة.» فقال موتزي: «إن مساحة دولة تشو تبلغ خمسة آلاف «لي» مربع، بينما لا تزيد مساحة سونغ عن خمسمائة «لي» مربع؛ فذلك أشبه شيءٍ بما بين العربة المزدانة بالألوان البهية المنظر، والأخرى المحطمة زريَّة الهيئة؛ ثم إن دولة تشو تنعم بما لديها من حدائق غنَّاء، وبحيراتٍ رائعة، مثل بحيرة «يونمن» المشهورة بحيوانات البحيرة والأسماك والأيائل، والجميع يعرف ما تغلُّه بلادكم من الثروة السمكية الهائلة التي يزخر بها نهر اليانغتسي ونهر هان من الأسماك والسلاحف والتماسيح وغيرها؛ فهي أغزر البلاد ثروة وأكثرها موارد طبيعية، ومنتجات بشرية، لكن دولة سونغ تفتقر إلى مثل تلك الثروات كما هو معروف لدى الكافة؛ فذلك أمر قريب مما بين أسمطة الطعام الشهي وفتات المائدة. ودولة تشو تزخر بأنواعٍ من الأشجار العالية والغابات نادرة المثال على حين أن سونغ تخلو من مثل تلك المزايا الطبيعية وهذا قريب الصلة مما ضربت به المثل من العُمق بين الملابس الحريرية المطرزة والأسمال الخشنة البالية، وإنما قصدتُ من ذلك كله أن أشير إلى ما بين مهاجمة تشو لدولة سونغ وبين ذلك المثال من أوجه الشبه الكبير.» فأجاب عليه الملك، قائلًا: «هذا قول صدق، ومنطق لا مراء فيه، فاعلم أنَّا لن نُهاجم سونغ أبدًا.»
لمَّا قام كونسونيان على رأس قوات لمهاجمة
لمَّا قام كونسونيان على رأس حملة عسكرية لمهاجمة دويلة «هوانغ» واضطُر أن يسلك طريقًا مارًّا بأراضي دولة «ويه»، فبعث رسولًا إلى ملكها، يقول له: «هل يصح أن تكون قواتنا في طريقها مارة بأطراف بلادك، دون أن ترسل وفدًا من عندك لتقصِّي الأحوال ومتابعة مجرى الأمور؟ واسمح لي بأن أسأل جلالتك عما إذا كان قد بدرَتْ منِّي إساءة في حقكم؟ إن مدن دويلة هوانغ قد صارت على وشك السقوط في أيدينا، فحالما ننتهي من غزوتنا لها، فسنقصد أسوارك ونقتحم عليك مدنك بجيشٍ جرار يعيث في أنحاء بلادك.» وأسقط في يد حاكم «ويه»، وسارع إلى تجهيز ثلاثمائة غرارة من المال [هكذا]، وثلاثمائة مِثقال من الذهب الخالص، وأرسلها مع مبعوث خاص، فاعترض طريقه «نانونزي» [كبير وزراء دويلة ويه] وقال لجلالته: «لو أحرز كونسونيان النصر على دويلة هوانغ، فلن يهاجم بلادنا، وحتى لو لم ينجح في مسعاه، فلن يفكر في الإغارة على «ويه»؛ ذلك أنه لو انتصر على مدن هوانغ، فسوف يلمع اسمه ويذيع صيته، وهو بطبيعته من ذلك النوع الذي يتيه على رفاقه وزملائه بما أحرز من الظفر على أعدائه، ولذلك فسوف يُهمل شأن باقي رجال الحاشية، مما يؤلِّب عليه صدور القوم، ويُثير كراهيتهم ضده فينشطون في الوشاية به، وبالطبع، فلن يقعد كونسونيان، وهو صاحب الإنجازات الباهرة، في انتظار ما يمكن أن يوجَّه إليه من انتقاد ولوم وتأنيب، ومهما بلغت به درجة الحماقة، فلن يقع فيما يزيد الموقف سوءًا. (هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى …) فهو إذا لم يستطع تحقيق النصر على دويلة هوانغ، فسوف يفرُّ هاربًا، بقلب واجس إلى دولة وي، وحتى إذا عاد إلى بلاده، فسوف يقبع خائفًا وسط هواجسه المريرة، حذر ما يمكن أن يصيب من اللوم واللعنات فكيف يُجازف بالوقوع فيما يمكن أن يُفاقم من أزمته حينئذ؟» وحدث أن تمكن كونسونيان من النصر على هوانغ، ثم ما لبث أن عاد إلى بلاده، دون أن يتعرض لدولة ويه بشيء، بل حتى دون أن يجازف بالمرور من أراضيها.
لمَّا تمكَّن ملك وي من احتلال
تمكَّن ملك وي من اقتحام مدينة «هاندان» عاصمة دولة جاو، وما كاد يتم له ذلك، حتى استعد بالحشود للإغارة على دولة سونغ، فأرسل ملك سونغ إلى حاكم جاو يستحثه على سرعة التصرف، قائلًا «إن لقوات وي من البطش وشدة البأس ما قد علمتم، فإذا ما بادرت إلى مهاجمتنا، وصمدنا لها، فسوف نُعرض بلادنا وأهلينا لمخاطر جمة، وإذا تطلب الأمر المساندة في اجتياح أرض دولة جاو، فلا أظننا نوافق على ذلك، ومن ثم فنرجوكم صياغة أفكار معقولة ومناسبة، نستطيع الامتثال لها والعمل بحسب ما ترونه.» فأجابه ملك جاو، قائلًا: «هذا مفهوم تمامًا، فنحن نُدرك أن دولة سونغ لن تقدر على مقاومة قوات وي كما أن العمل على إضعاف جاو لصالح دولة وي، لن يعود على سونغ بأي نفع. وبناءً على ذلك فلست أدري ما هي الوسيلة الناجعة لصياغة قرارٍ مناسب وخطة معقولة للتصرف!» وهنا، قال له رسول دولة سونغ: «إن المرجو من جلالتكم، السماح لدولة سونغ بمهاجمة إحدى المحلات الواقعة على حدودكم الغربية على أن يتواصل الهجوم ببطء، ريثما تنقضي عدة أيام، وتصل بعدها فرق الدفاع والحماية التابعة لكم، فتقوم بتحصينها.» وهنا وافقه الملك على خطته. وعلى ذلك أقدمت دولة سونغ على مهاجمة إحدى القرى الواقعة على أطراف حدود دولة جاو، وحاصرتها؛ فتهلل ملك وي فرحًا، وراح يقول: «ها هي ذي دولة سونغ قد ساندتني أعظم مساندة في مهاجمة جاو.» وفي الوقت نفسه، كان ملك جاو يشعر بالغبطة، وهو يقول (لمن حوله): «أعرف وأثق أن دولة سونغ ستتوقف عند هذا الحد ولن تتقدَّم خطوة واحدة أبعد مما وصلت إليه!» فلما انتهت المعارك، وعاد الجنود إلى ثكناتهم، كانت دولة سونغ تشعر ببالغ الامتنان لدولة وي، كما أنها ما كانت تحمل إصرًا على دولة جاو؛ فلذلك ذاع مجدها وعلا قدرها وسط الممالك، بالإضافة إلى ما نالته من مزايا وما كسبته من مواقع.
لمَّا ذهب إلى كبير وزراء دولة سونغ
ذهب إلى «طايين» [كبير وزراء دولة سونغ] من قال له: «هذا ملك سونغ [الذي لم يبلغ الحلم، ما زال تحت الوصاية] يكبر مع الأيام، فإذا ما بلغ السن التي تؤهله لمباشرة مهام الحكم فلن تعود مسئولًا عن إدارة شئون البلاد، وأرى أن من الأفضل أن تطلب من دولة تشو تقديم تهنئةٍ ذات شأن لجلالته، تمتدح فيها أخلاق ولي العهد، وتشيد بما يتحلَّى به من الوفاء لأهله والبر بوالديه، وهنالك فسيصعب على جلالته أن ينتزع سلطة الإدارة السياسية من يد الملكة الأم، وبالتالي يستمر بقاؤك في منصبك فترة أطول.»
لمَّا كانت سونغ وتشو دولتَين
كان ما بين دولتي سونغ وتشو رباطًا من العلاقات الأخوية، فلما قامت دولة تشي بمهاجمة سونغ، أعلنت تشو دعمها ومؤازرتها لدولة سونغ، وهو ما شجع هذه على توجيه دعوتها لدولة تشي بالجلوس على مائدة التصالح [بدلًا من التمادي في حربٍ لا تقدر عليها ما دامت تشو تقف إلى جانب سونغ] إلا أن تشي لم تُصغِ لتلك الدعوة. فتكلم سوتشين [بالإنابة عن سونغ] إلى رئيس وزراء تشي، قائلًا له: «أرى أن الأفضل لكم هو التصالح والمصافاة مع دولة سونغ، فمن شأن ذلك أن يُبرز مدى المباهاة والفخر الذي تشعر به سونغ حيال موقف تشو المؤيد لها اعتمادًا على ما تحوزه من قوة، ومن ثَم فسيشعر ملك تشو بشيءٍ من السخط والغضب من سونغ وربما يذهب في ذلك إلى حدِّ قطع علاقاته معها وتوثيق علاقاته بكم، والعمل على تحقيق مصالحكم، وإذا حدث التقارب والوحدة بين تشي وتشو، فسيسهل على تشي ضرب دولة سونغ بأيسر ما يمكن.»
لمَّا قام أمير دولة وي بقيادة القوات
قام أمير دولة وي [الأمير «شن» ولد الملك هوي، حاكم وي] على رأس حملة عسكرية لمهاجمة دولة سونغ، وكان مارًّا في طريقه بمنطقة «وايهوان» المتاخمة لدولة سونغ فالتقى به «شيوزي» [أحد أبناء هذا البلد] وقال له: «أعرف طريقة ناجعة لتحقيق النصر في مائة معركة، فهل يسمح لي سمو الأمير بأن أُطلعه عليها؟» فأومأ إليه بأن هات ما عندك، فقال شيوزي: «إنما أنا — في كل الأحوال — تابعك الأمين، الذي يتفانى لما يعود عليك بالنفع، سيدي الأمير. وقد رأيتك تقوم بنفسك قائدًا لحملة الهجوم ضد تشي (وأتصور أنك في غِنى عن ذلك ولا داعي لمثل هذا التحرك …) فأنت إذا أحرزت النصر، لم يُضف إلى ما تملكه شيئًا؛ (فلديك بلادك بأرضها الواسعة)، ولم يزد جاهك قيمة؛ (فأنت الملك القادم، مع الأيام …) أما إذا خسرتَ المعركة، فسوف تخسر معها دولة وي طوال حياتك، تلك خُطتي التي تحارب بها مائة معركة وتُحرز فيها مائة انتصار [حرفيًّا].» فنزل الأمير على رأيه، وأراد العودة إلى بلاده. وهنالك تكلم شيوزي فقال: «لا أظنك تستطيع العودة بسهولة، كما جئت؛ لأن الذين انتهزوا فرصة وقوع المعارك بغية تحقيق مصالحهم الخاصة، كثير جدًّا، وأكثر منهم هؤلاء الساعون وراء مآربهم الذاتية باستمرار، فلا أظنك تستطيع العودة بسهولة على النحو الذي يبدو لك.» فركب الأمير مركبته وطلب من القادة العودة إلى البلاد، فتكلم إليه الحوذي، سائق مركبته قائلًا لسموه: «إن العودة من حملة عسكرية دون سبب مفهوم تتساوى مع الانسحاب المُخزي، فلا مفرَّ من أن تتقدَّم في طريقك المرسوم سلفًا.» فما كان من أمير دولة وي إلا أن تقدم بقواته في طريق الهجوم، واشتبك مع قوات تشي، (بيد أن طعنةً أصابته …) فقُتل أثناء المعارك، فلم يفز بما كان يؤمِّل به من مُلك عريض في دولة وي.
لمَّا أفرخ العصفور نسرًا جارحًا في زمن الملك
(جاء في الحوادث …): أنه لما كان زمن الملك «كانغ» — حاكم سونغ — متوليًا زمام الحكم فوق عرش البلاد، أفرخ أحد الطيور الصغيرة نسرًا جارحًا، في عشه الذي ابتناه فوق أحد أضلاع سور المدينة، فاستدعى الملك أحد مؤرخي البلاط الملكي [الموظف المسئول عن المدونات التاريخية والعرافة والكهانة في الوقت نفسه] وطلب إليه النظر في الطوالع وفنون العرافة للوقوف على ما ينبئ به قدر الأيام المخبوءة طي الغيب، فأخبره المؤرخ بما مفاده «الرمز فيما حدث من أن عصفورًا يفرخ نسرًا جارحًا، يشير مؤكدًا إلى تسنُّم ذُرى الملك والرفعة فوق الأمم، فتلك نبوءة قيام الإمبراطورية الكبرى على يديك.»، فتهلل وجه الملك بالبِشر، وكان أن دفع قواته لمهاجمة دولة «تنغ» فأبادتها، وكُتب له النصر، أيضًا على «هوايبي»، وامتلأت نفسه بالثقة الغامرة، وتطلع إلى تحقيق الحلم الإمبراطوري بأسرع ما يمكن، فأطلق سهامه في قلب السماء وضرب بسوطه بساط الأرض [هكذا حرفيًّا، دلالة على تمرده وثورته على كل المبادئ المستقرة] وحطم آلهة الأراضي الخصبة والمزارع الوفيرة، بل أشعل فيها النيران، قائلًا: «سأُخضع كل الجان والمردة فوق الأرض لإرادتي وسلطاني.» وصب جام غضبه وسيل شتائمه على كل المسئولين والوزراء — صغيرهم وكبيرهم — الذين تجرءُوا على النصح له باتباع سبل الرشاد، وصار يخرج إلى الناس وهو يُغطي رأسه بقبعة غريبة الشكل، ليس لها حاجز يَقيه حر النهار، بدعوى أنها الزي المناسب للشجعان والأبطال، والأغرب من هذا أنه أصدر أحكامًا تقضي بشق ظهر كل ذي حدبة، وبتر ساق كل سابح في النهر ساعات الصباح الباكر (وبالجملة، فقد الْتاثَ عقله وتشوَّش ذهنه للغاية) حتى بات الناس في رهبةٍ منه، فلما ترامت أنباء تلك الأحداث إلى دولة تشي، بادرت إلى مهاجمة سونغ، ففر الناس وولَّوا الأدبار، حتى صارت البلاد بلْقعًا خاليًا ودورًا بلا ديَّار، وكان الملك كانغ قد هرب من القصر، وأقام في منزل أحد كبار الوزراء، ثم ما لبث أن وقع في قبضة رجال دولة تشي، فقتلوه وانتهى أمره، وكان مثلًا لمن رأى بعينَيه البُشرى الطيبة دون أن يسلك لتحقيقها طريقًا طيبًا، فانقلبت سعود المُنى نحوسًا مريعة.
لمَّا أراد جيبو مهاجمة دولة «ويه»
أراد جيبو أن يغزو دولة «ويه»، فأرسل إلى حاكمها أربعة خيول برية وقطعة من اليشب الأبيض [نوع من الحجر النفيس]، مما أثار البهجة في نفس الملك، فجاءه الوزراء يُهنئونه، إلا نانونزي، إذ كان الوحيد الذي ارتسمت على وجهه علامات القلق، فسأله ملك ويه: «الجميع فرحون وأنت وحدك تبدو مهمومًا حزينًا، فما السبب؟» فأجابه: «أن يتلقى المرء تكريمًا بغير مأثرة ويُعطى هديةً سخية دون إنجاز وجدارة، فهذا أمر يستدعي استقصاء الأسباب والبحث في أغوار التفاصيل، ثم إن الأغرب من ذلك أن ترسِل إليك دولة كبرى أربعة خيول وقطعة من اليشب الكريم، وهذه هدية لا تُقدمها دولة صغيرة، فما بالك بدولة عظمى لها قدرها ومكانتها بين الأمم، فتأمَّل هذا بعمق وانظر ماذا ترى!» فذهب ملك ويه وأخبر قائد حرس الحدود بما سمعه من نانونزي، وأمَّا ما كان من أمر جيبو، فإنه حشد جنوده وانطلق ليُباغِت دولة ويه بالهجوم، لكنه ما إن وصل إلى المنطقة الحدودية حتى تراجع سريعًا وألغى كل خُططه الهجومية، قائلًا لمن حوله: «هو ذا رجل حاذق أريب في هذا البلد، أدرك مسبقًا ما اعتزمناه من خطط هجومية ضدها، فاتخذ أهبة الاستعداد.»
لمَّا أراد جيبو أن يقوم بغارة مفاجئة
أرد جيبو أن يقوم بغارة عسكرية مفاجئة على دولة ويه، فأرسل إليها ولده باعتباره طريدًا، وعهد إليه أن يتظاهر بأنه لائذ بدولة ويه، مُستجير بالمُقام في أرضها، فتكلم نانونزي قائلًا: «إن المدعو «طاتسي يان» هو أكبر أبناء جيبو، وقد حاز القدر الأكبر من محبة أبيه وعطفه عليه، فليس ثمة ما يُتوقَّع من النفور أو التباغُض بينهما بالدرجة التي تؤدي بالولد إلى الهرب من وجه أبيه، فلا بد من أن وراء الموضوع أسبابًا كامنة.» وأرسل نانونزي أحد المسئولين لاستقبال الوافد الطريد عند المنطقة الحدودية، وقبل أن يخرج المسئول لأداء مهمته، انتحى نانونزي به جانبًا، وأوصاه قائلًا: «إذا وجدت «طاتسي يان» قادمًا في موكبٍ يزيد على خمس مركبات، فلا تدعه يدخل إلى البلاد.» فلمَّا وصلت الأنباء إلى جيبو بهذا الأمر، منع ولده من الذهاب إلى ويه.
لمَّا قامت دولة تشين بمهاجمة إقليم
قامت دولة تشين بمهاجمة إقليم «بودي» التابع لدولة ويه، فتكلم خويشان [من أهل ويه] إلى تشوليجي، قائلًا: «فيمَ هجومك على أرض بودي؟ ألِأجل دولة تشين (تقوم بهذا الهجوم) أم لصالح دولة وي؟ إذا كنت تريد بذاك مراعاة وجه النفع لدولة وي، فهي حقًّا، ستجني ثمرة الفائدة؛ أما إذا كنت تقصد خدمة تشين، فاعلم أنه لن يعود عليها بأدنى نفع؛ فهذه الأرض (أرض بودي) جزء أساسي من كيان دولة ويه، فمن دونها لا تقوم ﻟ «ويه» قائمة، فإذا وقعت تحت سيطرة دولة وي، فلا مفر من أن تخضع ويه لها. هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فإن السبب في عجز دولة وي عن استرداد أراضيها المُغتصبة منها فيما وراء إقليم «شيهو» هو ما أصابها من الضعف والانحلال، فإذا تصوَّرنا انضواء دولة ويه تحت نفوذ دولة وي واندماجها في كتلة أراضيها العامة، فلا بد أن يتبع ذلك بلوغ دولة وي درجة فائقة من القوة؛ بسبب ما انضاف إليها من مدد وقوة دولة ويه، لكن يجب ألا نُغفل المصير الذي يمكن أن تئول إليه المناطق الواقعة فيما وراء «شيهو»، قبل أن تملك وي زمام أمرها، ويتقوَّى مركزها من جديد، والمؤكد أن مصير تلك المناطق سيكون مرهونًا باحتمالات الخطر، هذا بالإضافة إلى ما سيقوم به ملك تشين من مراجعة تصرفاتك واستقصاء سيرة عملك، فإذا لاحظت أنك خدمت مصالح دولة وي على حساب دولة تشين (بل ألحقت بها بالِغ الضرر بسبب الحرص على ما فيه منفعة دولة وي …) فسوف ينحي باللائمة عليك ويُذيقك كأس الغضب المرير.» وسأله تشوليجي: «فما العمل، إذن في رأيك؟» فأجابه خويان قائلًا: «أقلِع عن مهاجمة أرض «بودي» ولا تُحاول الإغارة عليها ثانية، وائذن لي بالذهاب إلى الحامية العسكرية المُقيمة هناك لكي أخبرها — بالإنابة عنك — بضرورة التوقُّف عن القتال، وهو ما سيذكره لك ملك ويه ببالِغ الامتنان والتقدير.» فوافقه تشوليجي على رأيه، وقام خويان وذهب إلى محلة «بودي»، وقال للحامية المُتمركزة بها: «قد علم تشوليجي حجم الصعاب التي تكتنف الإغارة على محلة بودي، ومع ذلك فقد صرَّح، قائلًا إنه لا بد مُقتحم أرضها، عائث في نواحيها، غير أني استطعت إقناعه بالعدول عن ذلك، والاقلاع عن الهجوم.» فسجد له رجال الحامية سجدتَين، تحيةً وتقديرًا له، وأهدوه ثلاثمائة مثقال من الذهب، قائلين له: «إذا ما قُدِّر لجيش تشين أن ينسحب حقًّا، فسنعمل على أن يبذل لك الملك مكافأة لائقة.» وبالفعل، فقد حصل خويان على مكافأة مالية جزيلة (من أرض بودي) وعلا قدره وارتفعت مكانته لدى دولة ويه، كما حصل تشوليجي على مكافأة قدرها ثلاثمائة مثقال ذهبًا، وسحب قواته عائدًا إلى بلاده، بعد أن ترك انطباعًا عميقًا عند ملك ويه بكثير الامتنان والعرفان.
لمَّا أوفدت دولة ويه أحد كبار موظفي القصر
أوفدت دولة ويه أحد كبار موظفي القصر للعمل في خدمة دولة وي، (فذهب الرجل وبقي في انتظار استدعاء الملك له لتوليته مهام منصبه …) لكنه ظل — في الانتظار — ثلاث سنوات، دون أن يتوجَّه إليه الاستدعاء الملكي، فأصابه القلق، فذهب إلى أحد الشيوخ العجائز الجالسين تحت شجرة السرو [«جالس تحت شجرة السرو» كناية عن رجل فاضل ذي علم وحكمة، مُتقدم كثيرًا في السن] ووعده بإهدائه مائة مثقال من الذهب إذا توسَّط لدى المسئولين في هذا الشأن، فلبَّى الرجل صريخه، وقام والتقى بملك وي، وقال لجلالته «بلغني أن دولة تشين قد خرجت بقواتها تريد القتال، لكن أحدًا لا يعرف وجهتها، ولا أي بلد تقصد الإغارة عليه، وعلى الرغم مما بين وي وتشين من علاقات دبلوماسية فإنهما لم تبلغا حدَّ المصافاة التامة، ولا أصلحتا ذات بينهما منذ وقت بعيد، وأرى أنه من الواجب الاهتمام بتقريب الصلة وتوثيق العلاقة مع تشين دون أية نوايا أخرى.» فنزل الملك على رأيه، مقتنعًا بكلامه، فقام الشيخ الجليل ومشى قليلًا وما كاد يبتعِد حتى عاد أدراجه، ليقول: «لكني أظنُّ يا مولاي، أن الوقت قد تأخر كثيرًا على القيام بتوثيق روابطك مع دولة تشين والعمل على تحقيق مصالحها.» فلما سأله الملك عن السبب في قوله هذا، أجابه شيخ شجرة السرو قائلًا: «إن المرء بحكم العادة، يستعجل مجلبة النفع واستقدام يد العون والخدمة، بينما يقوم متثاقلًا إذا جاء الدور عليه لخدمة مصالح الآخرين؛ وأراك يا مولاي (على العكس …) تتثاقل عند القيام بما فيه مصلحتك، فكيف تنهض بأعباء العمل لما فيه وجه النفع للناس، (أما كنت أولى بأن تنفع نفسك؟!).» فسأله الملك عما أدراه بذلك، وعلى أي أساسٍ يبني موقفه فيما يقول، فأجابه: «قد التقيت بالموظف الموفد من دولة ويه للعمل في الدوائر الملكية، وقال إنه قد بقي له ثلاث سنوات، منتظرًا أن تستدعِيَه، وهو باقٍ في الانتظار حتى اللحظة فمن ثم أدركتُ أنك لست متلهفًا على خدمة شئونك الداخلية.» وكان أن أسرع جلالته باستدعاء الموظف الكبير الموفد من بلاط دولة ويه.
لمَّا اشتدَّ المرض بالأمير وريث العرش
اشتدَّ المرض على الأمير، وريث عرش دولة ويه، فتكلم «فوشو» مع «إينشون جيو» [كلاهما من كبار وزراء دولة ويه] قائلًا: «أنصت لما أقول جيدًا، ثم اذهب إلى سمو الأمير وانقل له نصائحي وكلِماتي دون أن تنقص أو تزيد حرفًا واحدًا، وهنالك فستجد الأمير أشدَّ الناس إجلالًا لك وأحرصهم على مجالستك وتقريبك منه. إن ما يأتيه المرء من أفعال وتصرفات أثناء حياته يختلف كثيرًا عما يسيطر عليه قُبيل انقضاء أجله.» وقد كان أمير البلاد، في مُقتبل أيام حياته منغمسًا في لهو الأيام، صاحب ليل ونساء، وهكذا فقد أصدر أوامره، حينئذ، بتعيين كل من «شيتزو» و«نوبوا» [اثنان من الوزراء من ذوي الحظوة لدى سموه] في تلك الفترة من عمره، بناء على الانطباع الشخصي والهوى والميل الذي لا يستند إلى أُسس منطقية، حتى وقع في ظنِّ كبار رجال الدولة أنه قد أهمل شئون عمله وتفرغ لنزواته ومجونه (ملذاته وسهراته [حرفيًّا]) وبالتالي، فلم يكن هناك من يناقش معه شئون البلاد وأحوالها، وأريد منك أن تقول لسموِّه: «إن جميع تصرفاتك ليست على مستوى المسئولية، ولا مُبرر لها من منطقٍ أو حكمة، فهذا «شيتزو» يعيث فسادًا، وقد استبد بسلطانه أيَّما استبداد، لا سيما أن وراءه «نوبوا» يُعضده ويمدُّ له حبال البطش والعسف والجور، وهو ما سوف يؤدي إلى حرمان آل «قونصو» [العائلة الحاكمة] من أداء طقوس تقديم القرابين [للأجداد والآباء].» فلمَّا بلغت هذه الكلمات مسامع الأمير، فطن إلى مغزاها واقتنع بجدواها ثم سلَّم الخاتم الرسمي ليد «إينشون جيو» قائلًا له: «إذا قضيتُ نحبي، فلتضبط أنت شئون دولة ويه من بعدي.» فلما مات الأمير، عمل إينشون بوصيته، وقام على ترتيب شئون الحكم، وساند القون «تشي» [ولد الأمير الراحل] في تولي زمام الحكم، وعندئذ، أجبرت أُسَر وقبائل الوزيرين السابقين «شيونزي» و«نوبوا» على الرحيل عن البلاد.
لمَّا هرب شيومي إلى دولة وي
فرَّ أحد المُجرمين (ويدعى «شيومي»، من أبناء دولة ويه) إلى دولة وي — وذلك إبان حكم الأمير وريث عرش ويه — وكان أن عرضت دولة ويه مائة مثقال من الذهب مقابل إعادته، إلا أن وي رفضت هذا العرض، فعادت تعرض استبداله بإحدى محلاتها (وهي قرية تزوشي) وذهب جمع من الوزراء إلى وريث عرش ويه، ونصحوا له قائلين: «ليس من المُناسب أن تطلب تسليمك شيومي، مقابل قرية تقدر قيمتها بمائة مثقال من الذهب.» فأجابهم: «إن تحقيق الأمان والاستقرار ليس مرهونًا بحجم البلاد، كما أن الفوضى والانحلال ليس مرتبطًا بوزن بلدٍ مُحدد بين الأمم. وإذا تعلَّق الأمر بقيمة ما يُحدثه التعليم والتربية في بلدٍ من البلدان، فإن قرية تسكنها ثلاثمائة عائلة تنضوي تحت لواء سياسة رشيدة تُحقق الأمن والاستقرار أفضل كثيرًا من عشر مدن لا يردعها وازع من خلق أو استقامة أو حياء.»
لمَّا أُقيم حفل زواج لأحد مواطني دولة
أقيم حفل زواج لأحد مواطني دولة ويه، ولما جاءت العروس وركبت العربة المزينة، سألت الحوذي: «لمن هذه الخيول التي تقود العربة؟» فأجابها: «هي خيول مؤجرة خصوصًا لهذا الحفل.» فقالت له العروس: «فلا تضرب بعصاك الخيل الأمامية، بل اضرب الخيول الخلفية.» فلما وصلت المركبة إلى بيت الزوجية، جاءت الوصيفات ليصطحبنها إلى باب المنزل، فلما سارت معهن قليلًا، سألتهن: «أرجوكن أن تُطفئن وقود الأفران، لئلَّا يشعل الحريق المنزل.» وعندما دخلت البيت ورأت الجرن الحجري المُستخدَم في دق الحبوب، قالت لمن حولها: «ضعوا هذا الجرن تحت الشباك ليحول دون عبور المارة، في الطريق.» وراح الزوج يضحك بشدة، لما لاحظه في كلامها من عدم اتساق منطقي؛ ذلك أن كل ما قالته العروس، وعلى الرغم من أهميته لم يستدعِ الاهتمام اللائق بقدر ما استوجب الضحك والسخرية، لا لشيء إلا لأنه لم يتحرَّ الدقة واللحظة المناسبة والوقت الملائم والظرف اللائق.