سجل دولة جونشان
لمَّا أراد أمير دولة وي إبادة دولة
أراد الأمير «أونهو» — أمير دولة وي — القضاء التام على دولة جونشان، فتكلم «شانجوان تان» [أحد وزراء دولة جاو] مع الملك شيانغ، حاكم جاو، قائلًا لجلالته: «إذا تمكنت دولة وي من ابتلاع دولة جونشان، فلن تقوم لدولة جاو، بعدئذٍ، قائمة؛ فلماذا لا تُحاول أن تتقدم إلى الأمير أونهو طالبًا الاقتران بابنته «كون ويشين» زوجة لك، على أن تفرض عليها الإقامة الدائمة (الإجبارية) بدولة جونشان مما يحفظ على هذا البلد وجودَه وبقاءه دون مخاطر.»
لمَّا قام كونسونيان بتنصيب الملوك الخمسة
قام كونسونيان بتنصيب ملوك الدول الخمس: تشي، وجاو، ووي، وهان، وجونشان وكانت جونشان هي آخر دولة تم تنصيب ملكها على يدَيه، وتكلم ملك تشي إلى حاكمَي وي، وجاو قائلًا: «أشعر أن من دواعي الإحساس بالعار أن يتم تنصيبي ملكًا على المنصة نفسها التي شهدت تولية حاكم جونشان، وكم أتمنَّى أن أشترك معكما في مهاجمة بلاده، ونزع اللقب الملكي عنه.» فلمَّا ترامت أنباء ذلك الحوار إلى أسماع ملك جونشان، تولَّاه الفزع، فاستدعى كبير وزرائه [المدعو «جاندن»] وقال له: «قد تم تنصيبي ملكًا شرعيًّا على البلاد، إلا أن ملك تشي صرَّح أمام حاكمَي جاو، ووي بأنه يشعر بالعار إذ جرى تنصيبه معي في نفس المكان، ويتدبر السُّبل لمهاجمتنا، وكل ما أخشاه هو أن تتعرض البلاد للتدمير الشامل وخطر الإبادة، ولستُ أعبأ باللقب الملكي قدْر انشغالي بمصير الوطن، وليس غيرك ألجأ إليه في هذه المحنة وأطلب إليه الرأي والمشورة (… والنجدة).» فأجابه «جاندن» قائلًا: «فأطلب من جلالتكم، إذن، أن تُمدني بعدد وافر من المركبات والهدايا السخية، على أن تأذن لي بالذهاب لمقابلة تيانين».
وهنالك قام حاكم جونشان بإيفاد جاندن إلى دولة تشي، حيث التقى بتيانين [رئيس وزراء تشي] وقال له: «بلغني أنكم تريدون نزع اللقب الملكي عن حاكم دولة جونشان، وأنكم تُدبرون مع دولتي وي وجاو الخطط لمهاجمة البلاد، وأرى أنكم جميعًا مُخطئون في ذلك؛ لأنه بمجرد أن تبدأ الدول الثلاث في الإغارة على جونشان الضعيفة الضئيلة، فلن يسعها إلا الخضوع لأوامركم والرضوخ لإملاءاتكم حتى لو كان الأمر يتعلق بما هو أفدح من نزع اللقب الملكي. (هذا من جانب، أما من جانب آخر …) فإن وطأة القلق والخوف إذا اشتدت على دولة جونشان، فلا بد أنها ستفقد لقبها الملكي، وكيانها المستقل لمصلحة دولتي وي وجاو، وتُصبح مجرد دويلة خاضعة لهما، وحينئذٍ، لن يزيد دورك عن أن تكون [دولة تشي] راعي أغنام للدولتَين (هي ترعى وتشقى وهم يحلبون وينعمون) أي أن مثل هذا الوضع لن يُثمر أي نفعٍ لدولة تشي، أفليس الأفضل من هذا كله، أن تتنازل دولة جونشان عن لقبها الملكي لصالح بلادكم وحدَها اعترافًا بطاعتكم وولاء لسيادتكم؟»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
وسأله تيانين: «فما العمل إذن، وكيف يمكن التصرف في رأيك؟» فأجابه «جاندن»: «أرى أنه عليك الآن أن تطلب لقاء ملك جونشان، وأثناء اللقاء تقر لجلالته باللقب الملكي الحائز له، مما سيُسعده كثيرًا، وعندئذٍ فسيقطع علاقاته مع وي وجاو، وهو الأمر الذي سيُثير غضبهما، فيهاجمان دولة جونشان التي ستتصاعد موجة الأزمة بها، وتتفاقم حدة المخاطر التي تُحاصرها ويصبح معلومًا للكافة أن الممالك لا تريد الاعتراف لها باللقب الملكي، وبالتالي فستكون عرضةً لكل ألوان المخاوف والظنون، ومن ثم فستُضطر إلى الاعتراف بطاعتكم، وهنالك يمكنها التنازل عن اللقب الملكي نزولًا على مطلب الانضواء تحت نفوذكم؛ لأن جلالة الملك سيجد نفسه مُستعدًّا للتنازل عن اللقب الملكي حفاظًا على مصلحة بلاده، وبالطبع فهذا أفضل لكم كثيرًا من أن تصبحوا مجرد رعاة غنم ترعون مصالح الدولتين وي وجاو.» فقال تيانين: «سمعًا وطاعة، والرأي ما قلت!» وقال جنشو [كبير وزراء تشي]: «ليس هذا بالرأي السليم أبدًا، وقد سمعت أن من تحدُوهم تطلعات متشابهة هم أكثر الناس تنافرًا، كما أن الآلام المُتناظرة توحِّد بين النفوس والمشاعر فانظر إلى الدول الخمس تجدها متفقةً جميعًا حول تبادل اعترافها لبعضها البعض باللقب الملكي، وعندما ترفض تشي الاعتراف لدولة جونشان بهذا اللقب، فسيكون القاسم المشترك بين الجميع هو قيمة الاعتراف لبعضهم بعضًا بالمكانة الملكية، بينما تُساورهم الظنون والمخاوف حول احتمال تدخُّل تشي في هذا الأمر (على نحوٍ غير مُرضٍ) أما إذا قمتَ بمقابلة ملك جونشان، واعترفت له بهذا اللقب الرسمي فستكون قد انتهكت سلطة وسيادة الدول الأربع الباقية، وتكون أيضًا قد أعطيت دولة تشي ميزة تتفوق بها على الآخرين، وإذ تفوز تشي وحدَها بعلاقات طيبة مع جونشان وتخسر علاقتها بالدول الأربع، فسوف تُصاب تلك الدول بخيبة أمل مروعة.
ومن ثم فلا بد لك، بادئ ذي بدء، للبلدين تشي وجونشان أن تعترفا بلقبيهما الملكيين بين بعضهما البعض، ثم تتعمَّد دولة تشي الاقتراب حثيثًا من جونشان، وهو ما سيؤدي بردود الفعل، إلى فتورٍ ثم انقطاع العلاقات مع باقي الدول الأربع. هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى، فإن قيام جاندن، (وعلى مدار فترة طويلة من الزمن) بتقديم الخطط وإهداء السياسات والأفكار إلى دولة جونشان، يجعل من الصعب تصديق فكرة أنه يمكن أن يُشير علينا بما يعود بأدنى قيمةٍ أو فائدة عملية.»
ومع ذلك، فلم يأخذ تيانين بوجهة نظره، وإنما قام باستدعاء ملك جونشان، واعترف له باللقب الملكي، وتحدَّث جاندن مع الدولتَين وي وجاو، قائلًا: «كيف كان يمكن لي أن أعرف نية دولة تشي في مهاجمة منطقة هدونغ (التابعة لكما)؟ قد كانت تشي — في بادئ الأمر — تشعر بالعار لمجرد أن تعترف ﻟ «جونشان»، باللقب الملكي، فإذا بها الآن تقوم باستدعاء حاكم جونشان، وتعترف له أثناء اللقاء الرسمي معه باللقب الملكي؛ ذلك — بالطبع — رغبة منها في استخدام قواته العسكرية (لمشروعاتها الخاصة) فأين هذا كله من مسارعتكم إلى الاعتراف لدولة جونشان باللقب الملكي للحيلولة دون التقائهما؟» ونزلت الدولتان وي وجاو على رأيه، وقامتا بالاعتراف لدولة جونشان باللقب الرسمي، بل وثقتا علاقاتهما معها، وكان أن قامت جونشان بالفعل بقطع علاقاتها مع دولة تشي إذعانًا لنفوذ وسيادة كلٍّ من وي وجاو.
لمَّا استعدَّت جونشان للاعتراف الرسمي المتبادل
استعدت الدول الثلاث: جونشان ويان وجاو للاعتراف المُتبادل باللقب الملكي، إلا أن دولة تشي بادرت إلى إغلاق منفذها البري في وجه رسول دولة جونشان، وصرَّحت قائلة: «كيف يمكن لدولةٍ صغيرة مثل جونشان لا يزيد ما تملكه من مركبات عسكرية على ألف مركبة، أن تتكافأ معنا ونحن دولة كبرى (ذات عشرة آلاف مركبة)؟!» بل اعتزمت تشي أيضًا أن تقوم بالتنازل عن أرض «بينغ» لكل من يان وجاو، استرضاءً واستحثاثًا لهما على مهاجمة جونشان، مما أثار قلق «لانجو» [رئيس وزراء جونشان] وكان أن تحدث «جاندن» إلى رئيس الوزراء المذكور، قائلًا: «ماذا يُقلقك من جانب دولة تشي؟» فأجابه: «لانجو»: «من المعروف أنها دولة كبرى ذات عدة وعتاد ([حرفيًّا]: ذات عشرة آلاف عربة عسكرية) ومن ثم فهي تنظر بعين الازدراء إلى جونشان التي لا تتكافأ معها في قوتها وعتادها، هذا بالإضافة إلى ما أبدته تشي من الكرم البالِغ إذ تنازلت عن أجزاء من أراضيها لاسترضاء دولتَي يان وجاو، ودفعهما لضرب جونشان، ومن المعلوم أن هاتين الدولتَين لا تحفظان عهدًا أو ميثاقًا، ولا تنظران إلا بعين الطمع في أراضي الغير فأخشى أن تنكصا عن مؤازرتنا، بما يعرِّضنا لأفدح المخاطر (من الزاوية العامة للأمور) أو تسلبنا الحق الملكي (في أقل القليل) فكيف يهدأ لنا بال؟» فقال له جاندن: «عليك أن تثق بأني سأبذل جهدي لأحمل الدولتَين يان وجاو على الإقرار بالحق الملكي لدولتكم، فتستقر الأحوال وتهدأ الأمور، فهل يكفي هذا لطمأنتك؟» فأجابه: «بل هذا عين ما أتمنَّى.» فقال له: «فما رأيك بأن تنصت لي وأنا أحدثك كما لو كنت أنت ملك تشي (وأن تُجادلني فيما أقول بلسانه) علَّني أجد الوسيلة (بهذا «الإعداد التمثيلي») لإقناعه.» فقال رانجو: «تفضل، قل ما عندك وأنا مُستمع إليك.»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
قال جاندن: «من الواضح أن ما تُبديه، جلالة الملك، من استعدادٍ للتنازل عن أجزاء من أراضيك لكلٍّ من يان وجاو، تحريضًا لهما على المضي قدمًا في حشد قواتهما لضرب جونشان، إنما يهدف (أساسًا) لنزع الحق الملكي عنها، ولا بد أن جلالتك سترد قائلًا: «نعم هو ذاك بالضبط.» ومن ثم فإني أجيبك قائلًا إن تصرفك هذا لن يكون مجرد تبديد للمُمتلكات والأموال، بل استجلابًا للمخاطر، فتنازلك عن أراضي بلادك لتلكم الدولتَين يمثل تقوية لأعدائك، وحض الجيوش على مهاجمة جونشان إشعال لفتيل الحرب وإعداد لساحتها بين متنافِسِين كثيرين، ثم إنك تخاطر بشيئَين مقابل لا شيء؛ لأنك لن تجني شيئًا مما تُدبره لدولة جونشان، وأعرض عليك خطة، إذا قبلتها فلن تكون بحاجة إلى التنازل عن أرضك أو تحريضٍ على حشد الحشود، بل يمكنك — بغير داعٍ إلى كل هذا — أن تسلب جونشان اللقب الملكي، بكل سهولة أيضًا، ولا بد أن جلالة ملك تشي سوف يسألني: ما خُطتك في ذلك وما تفاصيلها؟ وهنالك تكلم لانجو، فقال: «آه، صحيح، ما هي تلك الطريقة (من أولها إلى آخرها)؟» فأجابه جاندن: «فقط، عليك أن تُرسل مبعوثًا من طرفك إلى ملك جونشان، ليقول له: «ما أغلقتُ طريق المرور في وجه مبعوثكم إلا لِما لاحظته من حرصكم على تبادل الاعتراف باللقب الملكي على نحوٍ منفرد بتشجيع من الدولتَين يان وجاو، دون أن تحاولوا الاتصال بي وإطلاعي على شيءٍ من ذلك، فكان الطبيعي أن أُغلق الطريق في وجه الرسُل، أما إذا تفضل جلالة الملك مشكورًا بزيارتنا فسنبذل له المساعدة.» وهكذا فعندما تخاطب جونشان بقولك إنك مُستعد، على الفور، لمؤازرة مطلبها في الاعتراف بالحق الملكي، خصوصًا في وقتٍ تتوجَّس فيه خيفة من جدية مساعدة الدولتين: يان وجاو لها، فلا بد أنها ستتحاشاهما — على نحوٍ جادٍّ وإن بطريقة خفية — وتتلمَّس اللقاء مع جلالتك، وهنالك فستبادر الدولتان المذكورتان فور علمهما بتطورات الأحداث، إلى قطع علاقاتهما مع جونشان، إذ تثور ثائرة غضبهما، وهكذا يتيسر لك أنت أيضًا أن تقطع علاقتك مع جونشان بالمثل، فكيف إذن تستطيع دولة تم عزلها بالكامل عن كل عون ومساعدة ونصرة واعتراف وتأييد، بأن تحتفظ بالحق الملكي؟ فهل إذا سيقت مثل هذه الحجج إلى ملك تشي، تكفي لإقناعه؟» فأجابه لانجو: «بل إني واثق من أنه سيُصدق ويقتنع بكل حرف مما قيل، لكن تلك هي خطة تحقيق عدم الاعتراف باللقب الملكي، فماذا عن خطة الاحتفاظ باللقب؟» فقال له جاندن: «بل تلك هي خطة الاحتفاظ بالحق الملكي، باعتبار أنه سيتم نقل كل ما صدر عن ملك تشي إلى الدولتَين يان وجاو، بحيث يجري العمل على تحريضهما لقطع علاقتهما مع تشي، وتعميق صداقتهما مع جونشان، وعندئذٍ، فإن دولتي يان وجاو سوف تقولان، بضمير الحال، إن تنازل تشي عن أراضيها لنا لم يكن يهدف إلى إلغاء اللقب الملكي لدولة جونشان، بل كان يرمي أساسًا، لبذر الشقاق بيننا وبينها، لتستأثر (تشي) بالاقتراب منها دون الآخرين.
ومن ثم فسترفض الدولتان هذا العرض من جانب تشي — برغم سخائه».» فأبدى لانجو رضاه التام عن هذه الخطة قائلًا: «وإنها بارعة حقًّا.» ثم بادر إلى إيفاد جاندن إلى دولة تشي، حيث تكلَّم هناك بنفس الحجج مستخدمًا المنطق والأسلوب ذاته، فيما بعد فقد قامت جونشان بنقل ما دار من أحاديث إلى يان وجاو، فقطعتا علاقاتهما مع تشي، وبذلَتا وافر الدعم والمساعدة ﻟ «جونشان» وأقرَّتا لها باللقب الرسمي فانتظمت الأحوال واستقرت الأمور.
لمَّا ذهب كبير وزراء جونشان إلى دولة
سافر «سماشي» [كبير وزراء دولة جونشان] في مهمةٍ رسمية إلى دولة جاو، وقد حاول أثناء الزيارة أن يقنع المسئولين هناك، بأن يعملوا على توليته منصب رئيس الوزراء [لدولة جونشان] بكل حيلةٍ ممكنة، وكان أن أُطلِع أحد كبار المسئولين في دولة جونشان [هو المدعو: «قونصون هونغ»] على ذلك الأمر، بوسائل سرية، فلما كان جلالة الملك خارج القصر، في إحدى الجولات، ذهب برفقته سماشي، وكان ثالثهما — في العربة الملكية — قونصون هونغ الذي ابتدر الملك قائلًا: «ما رأيك فيمن تولَّى منصبًا ذا شأن ([حرفيًّا:] وزير في الحكومة) وراح يستغل منصبه سعيًا لتحقيق مآربه الشخصية في الترقي إلى مواقع وظيفية رفيعة المستوى؟» فأجابه الملك: «كنت دققْتُ عظامه، بل سحقتُها سحقًا، وأكلت لحمه بأسناني، [هكذا، حرفيًّا].» وهنالك، قفز سماشي من العربة وركع عند العارضة الخشبية الأمامية قائلًا: «قد علمت أن الموت آخِذ بناصيتي الساعة.» فلما سأله الملك عن سبب قوله هذا، أجابه: «لأنه قد حق عليَّ العقاب.» فاستحثه الملك على النهوض والقيام معه، قائلًا: «قم، تعال ها هنا، وليس ثمة مشكلة.» وبعد فترة من الزمن جاء رسول من دولة جاو يطلب من دولة جونشان تعيين «سماشي» في منصب رئيس الوزراء، وظن ملك جونشان أن وراء هذا الأمر مكيدةً دبرها «قونصون هونغ» للإيقاع بزميله «سماشي» لإلحاق الأذى به، فما كان من قونصون، إلا أن فرَّ هاربًا خارج البلاد.
لمَّا عمل سماشي رئيسًا لوزراء دولة
عمل سماشي رئيسًا لوزراء دولة جونشان ثلاث مرات مُتعاقبة، غير أن محظية الملك [المشهورة باسم: «إينجيان»] كانت تمقته وتستريب في أمره، فجاء «تيانجيان» [أحد كبار وزراء دولة جونشان] وقال لرئيس الوزراء: «لدينا مبعوث من دولة جاو، وفد علينا ليستطلِع الأحوال، أفلا تُكلمه في أمر تلك المحظية «أينجيان» (لعلَّه يذكرها عند ملك جاو؟) ولا بد من أن جلالة ملك جاو سيطلبها للمثول بين يدَيه، فإذا أرسلها له مليكنا، زال الخطر الجاثم، وانفضَّت الهموم؛ أما إذا لم يوافق جلالته على إهدائها إلى ملك جاو، فيمكنك أن تطلب من جلالته اتخاذها زوجة (رسمية)، ولا بد أنها — عندما تعلم بذلك — ستشكر لك صنيعك بكل الامتنان، وترد لك الجميل مضاعفًا.» وبالفعل فقد عمل سماشي على أن تتقدم دولة جاو بطلب استقدام المحظية «إينجيان» إلا أن ملك جونشان رفض الاستجابة لهذا الطلب، فقال له سماشي: «إن رفضك إهداء المحظية إلى ملك جاو سيُثير غضبه مما قد ينجم عنه تعقيدات ومخاطر لا حصر لها، ولذلك فأنت تستطيع أن تتدارك الأمر بأن تتزوَّجها رسميًّا، وهو ما لا يُعطي الحق، لأي فرد، بأن يتدخل في شئونك الشخصية، ولا يُعطي لأي إنسانٍ ذريعة للغضب؛ إذ ليس من المنطق أن تثور الحزازات في النفوس، لأن رجلًا يمنع امرأته ويحافظ عليها.»
وكان تيانجيان يرى أنه وحده، هو (رتب الأحداث على هذا النحو. حيث) طلب استقدام المبعوث من دولة جاو إلى جونشان، في محاولة لخدمة رئيس الوزراء «سماشي» (والعمل على خروجه من المأزق الذي وجد نفسه فيه) وخدمة إينجيان نفسها ورفض تدخل جاو في الشئون الداخلية في الوقت نفسه.
لمَّا قام الصراع بين المرأتين حول الفوز بموقع
تنافست المرأتان (المحظيتان) «إينجيان» و«جيانغ» حول الفوز بموقع الملكة الأم، وذهب رئيس الوزراء سماشي وتكلم مع والد إينجيان فقال له: «إذا تم لها الفوز فستكون لك الأراضي والإقطاعات الكثيرة، وستملك زمام السلطة والحكم، أما إذا كان العكس، فستكون حياتك في خطر، فإذا كان النجاح هو المرغوب، فلماذا لا يتم الحضور إلينا والتباحُث معنا؟» فركع الرجل، وقال: «ما دام الأمر هكذا، فأرجو أن تدُلَّني على الطريقة التي تُمكِّنني من التعبير عن أعمق معاني الامتنان والشكر.»
وذهب رئيس الوزراء إلى جلالة الملك، ورفع إليه مذكرة رسمية جاء فيها … «قد بلغنا ما يُفيد بأن هناك خطة جاهزة لإضعاف مركز دولة جاو، مقابل تقوية دور ومكانة دولة جونشان.» فاستدعاه ملك جونشان، وهو في غاية الابتهاج، قائلًا له: «أود الاطلاع على تلك الخطة التي تُوهِن دولة جاو وتُعظم قوتنا.» فأجابه، سماشي، قائلًا: «فائذن لي يا مولاي بالذهاب إلى دولة جاو لمراقبة أحوالها العامة والتعرُّف على طبيعة أرضها ومدى وعورة تضاريسها، ومستوى حياة الناس، ودرجة الثراء مقابل الفقر، والوقوف على كفاءة ووعي المشتغلين بالوظائف الحكومية، سواء من القيادات أم الموظفين، واستقصاء ومقارنة جوانب القوة والضعف بين البلدَين، ولستُ أستطيع أن أتكلم في شيءٍ من هذا الآن، دون تمحيص، فالمسألة جدٌّ ولا مجال لهذا القول.»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
والتقى سماشي بملك جاو، وقال لجلالته: «بلغني أن دولة جاو أكثر البِلدان حظًّا من فنون النغم والموسيقى، والنساء الفاتنات، لكني إذ حضرتُ اليوم إلى بلادكم وتجولتُ في أنحائها وتطلَّعت في الوجوه، أَنصتُّ إلى الأغاني الشعبية، لكني لم ألحظ شيئًا من علامات الحُسن أو الفتنة أو الروعة والجمال. لم أترك مكانًا، إلا دُرت في أنحائه، فلم أجد أجمل من المحظية «إينجيان» التي في قصرنا الملكي (بدولة جونشان)، إن الذين رأوها دون أن يتعرفوا إلى شخصيتها ظنوا أنها آلهة الجمال تنزلت على الأرض وليست هناك — من بين كلمات الوصف والبلاغة والتصوير — أساليب تفي بحقيقة صورة الجمال الأكمل، إن رائق بشرتها وبديع حُسن وجهها يفوق ما اشتُهر على طول الأحقاب والدهور من صفاء الحسن، ووسامة القسمات، وقد حبَتْها كنوز الملاحة بملامح أليق ما تكون بزوجة إمبراطور أو ملك عظيم.» وعندئذٍ بَدَا ملك جاو متأثرًا بما سمع، وسأله بصدْر منشرح: «فماذا لو طلبتَ مشاهدتها؟» فأجابه سماشي: «لئن كنت قد ذكرت من فائق جمالها، فلأن العين قد رأت واستملحت وعزَّ على الفم الصمت وحجب الكلام، أما ما تُبديه جلالتك من رغبة في مشاهدتها، فهذا ما لا أملك البتَّ فيه بكلمة وأرجو من جلالتك ألا تُذيع شيئًا مما تكلَّمنا فيه الآن.» وقام سماشي واستأذن في الانصراف، وقدم تقريره إلى ملك جونشان، قائلًا: «إن ملك جاو ليس بالعاقل الحكيم ولا قِبَل له بالسلوك المهذب القويم، بل هو صاحب نساء يميل إلى التهتُّك والخلاعة، قائدُه الهوى وليس آمِرَ العدل والحكمة، وحاديه الطمع والاستبداد، وقد بلغَني أنه مفتون بالمحظية إينجيان، ويطلبها لمسراته.» فتغير وجه الملك وثار غضبه، فقال له سماشي: «إن جاو دولة كبرى، وما يطلبه ملكها، فسيحاول الوصول إليه بشتَّى الطرق؛ فإذا امتنعتَ جلالتك عن تلبية مطلبه، غضبت عليك آلهة الزرع والحصاد [آلهة الأوطان — قديمًا—] وجلبت عليك شر الكوارث. غير أنك لو استجبت لطلبه فسوف تهزأ بك الدويلات والممالك.» فسأله الملك عما يحسُن أن يفعله في مثل هذا الظرف، فأجابه: «أرى أن تجعل من إينجيان زوجة رسمية للعرش الحاكم، حسمًا لأطماع دولة جاو، ولم نسمع في سِيَر الملوك أن أحدَهم طلب زوجة الآخر، وحتى لو ساورته الرغبة في الحصول عليها فهو وشأنه ما دام لن يجد من يُصغي إليه.» وعندئذٍ أصدر ملك جونشان قرارًا باتخاذ المحظية إينجيان زوجة للبلاط الحاكم وانخرس لسانُ ملك جاو ولم يعُد يُكرر مطلبه القديم.
لمَّا أراد ملك جاو مهاجمة جونشان
أراد الملك أولينغ — حاكم جاو — مهاجمة دولة جونشان وأوفد كبير وزرائه «ليتس» لتقصِّي الأحوال (وحدث أنه التقى بالملك أولينغ، وقال له): «تستطيع أن تبادر بالهجوم الآن، وإلا فستسبقك إلى ذلك باقي الممالك، ويأتي دورك في آخر الصفوف.» فسأله الملك عن السبب في قوله هذا، فأجابه: «قد بلغني أن ملك جونشان، يركب عربته الملكية، وينزع عريشها، ويذهب لزيارة الأحياء الفقيرة والدروب البسيطة، وينزل على الطلبة والدارسين وقرَّاء الكتب والوثائق ضيفًا، لساعات طويلة، وقد قيل إنه زار — حتى الآن — سبعين منزلًا يقطن بها أولئك الدارسون.» فقال ملك جاو: «فهذا، إذن، رجل فاضل حكيم لا يجدُر بنا مهاجمته!» فرد عليه ليتس، قال: «كلَّا، فليس الأمر على النحو الذي تظن؛ ذلك أن إعلاء شأن الدارسين وترشيحهم دون غيرهم، لجلائل الأعمال، وتفضيلهم على سائر الناس من شأنه أن يشدَّ طموح الناس إلى التحلي بالرفعة والشهرة والمكانة الكاذبة، ويلهيهم عن التركيز على أساس الحياة والأمور جميعًا، ألا وهي الزراعة، وفلاحة الأرض، فيكون من أثر ذلك أن يُصاب الفلاحون بالتكاسل والإهمال واللامبالاة، ويجبُن المقاتلون. وتفتر الهِمم، ويعظم الخوف على الحياة والحرص الأناني على البقاء بأي ثمن. ولم يحدث، على مرِّ التاريخ أن دام البقاء لدولة على هذه الشاكلة.»
لمَّا أقام ملك جونشان مأدبة لضيوفه
أقام ملك جونشان مأدبة لكبار رجال الدولة والعلماء، وكان بينهم «صما زيشي» [أحد مواطني جونشان، سافر فيما بعد إلى تشو وعمل في دوائر بلاطها الحاكم] وعندما جرى توزيع أطباق الحساء، لم يوضع أمامه نصيب في طبقٍ خاص به، فغضب، وعدَّها سببًا لما أزمع عليه أمره فيما بعدُ بالهرب إلى دولة تشو، حيث راح يُقنع حاكمها بضرورة مهاجمة جونشان التي اضطُر حاكمها إلى الفرار، طلبًا للنجاة، وكان وهو في طريق الهرب والتخفِّي يلاحظ أن اثنَين من رعاياه يتبعانه وفي يدِ كلٍّ منهما حربة ذات نصل لامع، لا يُفارقانه أينما حلَّ أو ارتحل، فالتفت الملك إليهما مندهشًا، وسألهما: «ماذا بكما، وفيمَ تقتفيان أثري هكذا؟» فأخبراه بقصتهما، قائلَين له: «كان لنا أب شيخ كبير، وقد حكى لنا أنه تعرض ذات مرة لمقاساة المجاعة، وكاد الجوع يفتك به لولا أن تداركْتَه بطبقٍ من اللحم، أعطيتَه له فأنقذتَ حياته، فلما أوشك والِدُنا على الموت أوصانا، قائلًا: «إذا ما ألمَّت المحنة بدولة جونشان فابذلا أرواحكما حماية وفداء.» فلذلك اجتهدنا في حمايتك والدفاع عنك ما أمكن.» فرفع الملك رأسه ناحية السماء وتنهَّد قائلًا: «ليس البر أو العطاء بما قلَّ أو كثر وإنما بالبذل وقت المحنة، وليست البغضاء بما استقر في سويداء القلب أو بما ارتسم في الوجوه، وإنما بما بلغت به الإساءة مبلغها. قد فقدت عرشًا ووطنًا بسبب طبق حساء، وكسبت فارسَين بطلَين بسبب صحفة طعام.»
لمَّا قام يويانغ بالهجوم على دولة
قام يويانغ (بوصفه القائد العام لقوات دولة وي) على رأس حملةٍ عسكرية لمهاجمة دولة جونشان، وكان ولده، في تلك الأثناء، مُقيمًا بهذه الدولة، فما كان من ملك جونشان إلا أن أخذ الولد وألقى جسده في الإناء الذي فوق المَوقد فطبخه كما يُطبخ اللحم في المرق، فصبَّ منه في الأطباق وأرسل طبقًا إلى يويانغ (الوالد) ليُصيب منه طعامه فأكل حتى شبع. وظلَّت الناس من يومئذٍ يذكرون هذا الحادث (من الوجه الإيجابي) ويشيعون أن الأب التهم لحم ولدِه، دون غضاضة، زيادة في رباطة الجأش والثقة والتجلُّد. ذلك أنه وعلى الرغم مما ينطوي عليه مثل هذا السلوك من اقتحام لما تعافُه النفس من مشاعر أبوية، لكنه — على الرغم من أي شيء — يُبرِز في أروع مثال، صورة نادرة للالتزام بالانضباط العسكري وتقاليد الجندية.
لمَّا بلغت مستويات الحياة درجة من الاستقرار
بلغ مستوى حياة الناس، عهد الملك شاو — حاكم تشين — درجة عالية من النماء والدعة والاستقرار، وتطورت أسلحة القتال وبلغت العربات الحربية جودة فائقة فقد تهيأ الجو لشن غارات الهجوم على دولة جاو.
وتكلم بايتشي، فقال: «إن الهجوم على جاو أمر مُستحيل.» ورد ملك تشين، قائلًا: «ما أغرب دعواك يا هذا، لقد كنتَ أنت نفسك منذ سنتَين تُطالب بزيادة تعيينات الجيش ومضاعفة نسب التموين والإعاشة استعدادًا للهجوم الكاسح ضد جاو، وعلى الرغم مما كان معروفًا وقتها من خلو خزانة الدولة من الأموال وانتشار شبح البؤس والمجاعة والإثقال على كاهل الناس بما لا يطيقون، فما بالك تأتي اليوم، بعد أن نال الناس قسطًا من الدعة والاستجمام والرفاه، وفاضت مخازن الغلال وزاد معدل المُدخرات وتموين الجند وتضاعفت رواتبهم عن ذي قبل، ثم تقول: من المُستحيل مهاجمة دولة جاو! فما معنى كلامك، وما مغزاه؟» فأجابه بايتشي: «إبان معركة شابين، كانت تشين هي المنتصرة وجاو هي المهزومة، وكان أهل تشين يمرحون مُتهللين بالفرحة، وأهل جاو بائسين خائفين مخذولين. وكان الموتى من أهل تشين يشيعون في جنازاتٍ مهيبة، والجَرحى يلقون كل اهتمام ورعاية، والمكدودون يجلسون إلى موائد الترَف يستجمُّون وينعشون أبدانهم، ويعودون إلى بيوتهم هانئين، وقد شبعت بطونهم وامتلأت جيوبهم بما حصلوا عليه من التعويضات والرواتب السخية، حتى نفدت أموال البلاد عن آخرها (هذا بينما …) كانت جُثَث الموتى من أهل جاو مطروحة في العراء لا تجد من يُسجِّيها في أكفانها، ولا كان الجرحى يجدون الدواء، والبكاء والعويل يصم الآذان؛ فالمحنة قاسم مشترك والعذاب فوق الجميع، فما كان منهم إلا أن انصرفوا إلى زراعة الأرض والعمل بما فوق طاقتهم لتعويض ما فات وسدِّ الثغرات وإنماء الأموال وادخار الثروات وربما استطعت، فعلًا، أن تدفع إليهم، الآن، جيشًا يفوق ما كان في الماضي ضعفًا أو ضعفَين إلا أني أتوقَّع أنهم الآن قد أعدوا للدفاع عن دولة جاو جيشًا أقوى مما كان عشرة أضعاف.
إن كبار رجال الدولة والوزراء في دولة جاو — ومنذ وقوع معركة «شانبين» حتى اليوم — يعملون في أجواءٍ يغلب عليها طابع التوجُّس والحذر، ومع ذلك فهم يُواظبون على أداء أعمالهم بكل انضباطٍ وجدية؛ يذهبون إلى الديوان الملكي مع إشراق ضوء النهار، ويعودون إلى بيوتهم في آخر المساء يمدحون بالقليل ويجودون بالكثير، ثناؤهم النذر اليسير، وعطاؤهم الفيض الزاخر. وقد أطلقوا الوفود في كل اتجاه وإلى كل الممالك والدويلات يَطلبون المصالحة والسلام (وهكذا فقد …) عقدوا ميثاق التحالف مع دولتي وي، ويان؛ وأقاموا علاقات الصداقة الحميمة مع دولتي تشو وتشي، ويضعون نصب أعينهم ومركز اهتمامهم ضرورة الاحتراس والحذَر من دولة تشين ويعتبرون تلك أدق مسألة في حياتهم.
إن الملاحظ في أمر دولة جاو هو أنها دولة قادرة وميسورة الحال داخليًّا وناجحة ونشيطة خارجيًّا؛ ففي مثل هذا الوقت بالذات لا يمكن مهاجمة دولة جاو.»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
وقال ملك تشين: «قد اتخذت أهبة الاستعداد للهجوم.» ثم إنه أرسل النبيل «وانلين» على رأس قوات لمهاجمة دولة جاو، إلا أنه مُني بفشل ذريع وانتكست حملته، وتبدَّدت عساكره وتشرذمت فلوله، وفكَّر الملك في أن يجعل بايتشي قائدًا للجيش، إلا أنه تعلَّل بعجزه عن القيام بتلك المهمة لمرضٍ عضال أصابه، فأوفد الملك إليه «إينخو» ليعوده في مرضه ويطمئن على أحواله ويُبلغه عتاب الملك، بقوله: «على الرغم من أن دولة مثل جاو، تبلغ مساحتها خمسة آلاف لي مربع، وعدد مُقاتليها [حاملي الرماح] أكثر من «مائة وان» [أكثر من مليون]، فإنك تمكنت بجيشٍ كثيف قمتَ على قيادته من اقتحامها واستوليت على أهم إقليمَين في أرضها: «يان»، «ينغ»، وأحرقت الدور المقدسة والمعابد التابعة لها، توغَّلت شرقًا حتى بلغت «حين لين»، وأوقعت الرعب والفزع في قلب دولة تشو، حتى فرَّ أهلوها في الأنحاء النائية خشية بأسك ولم يجسر أحد منهم على التوجُّه إليك ومقاومتك، وظلت دولتا وي وهان تدفعان بقواتهما، حتى اجتمعت منهما الحشود الهائلة فقمتَ لهم ثابتًا رابط الجأش، واشتبكتَ معهم في معركة «إيتشيو» فرددتَهم على أعقابهم وأنزلتَ بهم أشنع هزيمة، حتى قيل إن الدروع والرماح صارت تسبح في فيضان من دماءٍ جارية، وأطحت برءوسٍ بلغت جُملتها مائتي ألف رأس، حتى أطلقت الدولتان (وي وهان) على أنفسهما اسم «الدول التابعة لدولة تشين» وهو أثر من آثار ذلك العهد، ومأثرة من أبقى أمجادك، مما خلد ذكرك بين الناس، حتى اللحظة.
وكان من آثار معركة شانبين، الفتك بالكثير من جنود دولة جاو، وقد بلغ من كثرتهم أن أهل الضحايا أصبحوا هم العدد الأعظم من السكان، (وهو ما يؤثر — إجمالًا — في عدد القوات التي يمكن حشدها في جيش جاو)، فلذلك أرجو أن تقبل قيادة القوات، وسيكون لك النصر المُظفر على جاو، التي لا أشكُّ أنك ستُبيدها من الوجود. إنني أذكر لك عبقريتك العسكرية، حيث انتصرت بطائفة قليلة من جندك على جموع غفيرة من أعدائك، وحققت الانتصار، كأنك ساحر جيوش أو عبقري معارك، لم تعرف الدنيا له نظيرًا. وأثق أنك ستظهر عليهم، لا سيما أنك في عدة وافرة وكثرة غالبة على فلولٍ منهزمة وبقايا كسيحة!»
الجزء الثالث من الفصل نفسه
وقال بايتشي: «كانت دولة، تشو وقتئذٍ، تعتمِد على ضخامتها وسَعة أراضيها دون اكتراث بالشئون السياسية الدقيقة ودون الْتفات إلى تفاصيل السلطة السياسية، وكان الصراع على أشُدِّه بين الوزراء وكبار رجال الدولة للتقرُّب إلى البلاط الحاكم والتزلُّف إليه ومُداهنته، وكثيرًا ما وقع التباغُض والتحاسُد بين رجال الحكم أنفسهم، وكان الأكفاء يُنبذون ويُستبعدون، وقلوب الناس مُتنافرة، وأسوار المدن مُتداعية بغير ترميم ومجاري الأنهار بغير رعاية وإصلاح، فلمَّا كانت دولة تشو بغَير رجال حُكم أكفاء يجيدون الاضطلاع بمهام السلطة وترتيب شئون الحكم، وبغير قوات ساهرة على الدفاع، وجاهزة بالحشد والتأهُّب طوال الوقت، فقد استطعتُ أن أخترق صفوفهم، وأُخضع الكثير من محلاتهم وأراضيهم، ولطالما أصدرتُ الأوامر بهدم الجسور وإحراق السفن والمعابر، وألهبتُ عزيمة الجنود على المضيِّ في القتال، مما استوجب الاستيلاء على كميات هائلة من الحبوب والمحاصيل من الأحواز ومشارف الحواضر (لإعاشة القوات وتموين حاجاتها) وكان جنود تشين، في تلك الأوقات أفراد أسرة واحدة، وكانوا ينظرون إلى الجيش نظرتهم إلى عائلة كبيرة متآلِفة، لا يعوق حركة أفرادها واتصالهم ومودتهم برباط القُربى أي عائق؛ الكل متفاهم بغير مناقشة، والثقة مُستقرة بين الجميع، والنفوس مُتطلعة إلى هدف النصر، والشجاعة لها معنًى واحد هو الإقدام ببسالة لا الإحجام، (مهما كان الثمن) وكنت حينئذٍ، أرى جنود دولة تشو يقاتلون على أرض المعركة، أرض بلادهم الكبرى ولا يُفكرون إلا في أهليهم وعائلاتهم وذويهم، ولكل واحدٍ منهم مشاغله الذاتية، ومن ثم فقد تمكَّنت من الانتصار عليهم، دون أدنى مقاومة.
قد أثبتت لي معركة إيشيو أن قوات دولة هان، مجرد شرذمة مُتهافتة وتظاهرة بغير سند من القوة الحقيقية؛ إذ لم تكن يفكر البلد كله وقتئذٍ، إلا في كيفية استخدام إمكانات دولة وي لصالحها، واستغلالها إلى الحد الأقصى، دون أدنى اعتدادٍ بقواتها واعتماد على طاقتها الذاتية. بينما كانت دولة وي ترى أنه يمكن الاعتماد على ذلك القدْر من التدريب الذي حصلت عليه قوات هان؛ لتتقدم وحدَها على الجبهة، لكنها — في الواقع — كانت تريد أن تدفع به كطليعة ورأس حربة، لا غير.
ولم تكن طاقة قوات البلدين — فيما يتعلق بالقدرة على تحقيق أفضل النتائج من القتال — متوازنة بأي حال؛ وبالتالي، فقد عوَّلتُ على القيام بمناوشات خداعية مع جيش هان بينما أرسلتُ قوات فائقة التسليح والقدرة القتالية مقتحمًا جيش دولة وي على حين غفلة منه، فأوقعتُ به الهزيمة، ثم ما لبثتْ قوات دولة هان أن انهارت من تلقاء نفسها. وإذا كنتُ قد حققتُ مأثرة من أي نوع، فلأني انتهزتُ فرصة تحقيق النصر فواصلت القتال ولاحقت الفلول المهزومة فقطعت دابرها، وما كان يمكن أن يتمَّ لي النجاح في أي شيءٍ من ذلك، لولا أني درستُ طبيعة أرض المعركة جيدًا، وتشكيل القوات، وتصرفتُ على نحوٍ منطقي (نتائج مترتبة على مقدمات) فأين هي العبقرية، وفيمَ الحديث عن السحر وما إلى ذلك؟!
وإذ قد تحقق لقوات تشين، النصر، في معركة شانبين على جيش جاو فيجب أن تفكر بسرعة في الخطوة القادمة فتسرع في استغلال فرصة ما أصاب جاو من الذعر، وتقدم على تدميرها التام، وتُعجِّل بإبادتها وهي خائفة وخاضعة، فلا تُعطيها الفرصة لتستجمع طاقتها؛ فتزرع الأرض وتجني الحصاد، وتعوِّض ما خسرته من خزائنها، وتطعم الجائع وتعول الثكلى واليتيم، وتُعلِّم الصغار، وتحشد الكبار لبناء ما انهار من جيشها، وترميم ما تهدَّم من أسوارها، وتطهير ما انسدَّ من قنواتها ومصارف أنهارها، وتقوية حاميات مدنها وقواعدها.
وعلى الملك أن يتحامل على نفسه ويقترب من رجال دولته ووزرائه، كما يجب على كبار الوزراء ألا يبخلوا بأرواحهم وجهدهم في السير على نمط ومثال جنودهم [هكذا]، ويحضرني هنا، ما قام به «بينيوان جون» من تكليف زوجاته ومَحظياته بالذهاب إلى الوحدات المُقاتلة للمساعدة في رتق الملابس وغسيلها. يجِب أن يقف الجميع يدًا واحدة (حرفيًّا: تجتمع الحكومة والناس على قلب رجلٍ واحد) وأن يوحِّد الجميع جهودهم على نحو ما حدث في الحكاية المعروفة عن الملك قوجيان إبان محاصرته في جبل «كوايجي» [الملك قوجيان (… ٤٦٥ق.م.) حاكم دولة يوي، في زمن الدول المتحاربة، كان قد لقي هزيمة على يد قوات دولة «أو» فحاصرته في جبل «كوايجي»، فاستسلم لها، واستعر في قلبه لهيب الانتقام، فعزم على بناء جيشه وتعويض خسائره، واستطاع بعد عشر سنوات، تحقيق مآربه، فانتهز الفرصة الآن، واضرب جاو، فستلوذ بحصونها وتستميت في الدفاع، وسيبقى جيشها مُتحصنًا وراء مواقعه، ولن يخرج إليك أبدًا، وحتى لو حاصرت العاصمة، فلن تملك أن تقهرها، ولا أيًّا من المدن الأخرى، وإذا فكرت في أن تعيث في مشارف المدن، فلن تظفر بطائل. واعلم أن خروج أي جيش في حملة عسكرية دون تحقيق النصر هو الباعث الأساسي على تهيئة أسباب الغدْر والخيانة بين الممالك والدويلات والأمراء، وحينئذٍ فسوف تُهرع لمواجهتك قوات وجيوش جاءت لنصرة دولة جاو. وقد كنتُ فيما حدثتك به حتى الآن أنظر إلى الوجه السلبي فيما يتعلق بالهجوم على جاو، لكني لم أتطرق إلى الجانب الإيجابي منه، ولولا أني مريض طريح الفراش لكنت قمت وذهبت إلى القتال.»
الجزء الرابع من الفصل نفسه
وخرج إينخو (من عنده) كسيفًا خائب المسعى، وقصَّ على ملك تشين كل ما دار بينه وبين بايتشي، فقال الملك: «وهل أعجز عن تدمير دولة جاو، إذا لم يكن بايتشي معي يقاتل في صفوفي؟» ثم إنه أرسل مددًا من القوات، وأوفد وانخي، ليحلَّ محل «وانلين» في قيادة الهجوم، حيث تمت محاصرة العاصمة هاندان طيلة ثمانية أو تسعة أشهر، سقط خلالها الكثير من القتلى والجرحى دون أن تستسلم المدينة، وأرسل ملك جاو (من وراء الحصار) كتيبةً منتخبة، خفيفة التسلح، كثيفة الاتصال، وراحت تُغير على مؤخرة جيش تشين، حتى نالت منها، بينما مُنيت كل غارات جيش تشين بالفشل الذريع، وحينئذٍ، تكلم بايتشي، قائلًا: «هو ذا لم ينصت إلى خُطتي، فكيف كانت العاقبة؟» فلمَّا سمع ملك تشين بهذا التعليق، ثار غاضبًا، وذهب بنفسه إلى بايتشي؛ مما اضطره إلى القيام عن فراشه، وقال له الملك: «حتى لو كنت مريضًا طريح الفراش، فإني أريد منك أن تقود القوات، مهما كانت الظروف، فإذا تحقق النصر على يديك، فهذا قصارى ما أرجوه، وسأُغدق عليك المكافآت الجزيلة، وأبذل لك الصلات الوافرة، إما إذا رفضت مطلبي، فسأذكرها لك وأطوي عليها صدر الكراهية.» فركع له بايتشي وضرب الأرض بجبينِه أمامه وهو يقول له: «قد علمت أني مُبرَّأ من التهمة، حتى لو ذهبت إلى القتال وانهزمت، وأني إذا رفضت الذهاب إلى الجبهة فسوف يُطاح برأسي، ولو من دون تهمة، لكني (في كل الأحوال) أرجو من جلالتك أن تنظر بعين الاهتمام إلى ما اقترحتُه عليك الآن، من خطة (متواضعة) فحواها: … «أن تدع القتال مع دولة جاو، وتمنح الناس قسطًا من الاستجمام والراحة، وتتدارك الأحداث والفتن التي ظهرت بوادرها بين الدويلات بعضها بعضًا؛ لعلك بذلك تُهدئ من الروع وتُلطف من حدة الأجواء المفعمة بالنُّذر الوبيلة (وأرى أن تبادر إلى …) مهاجمة الطغيان والغطرسة، وتشرع في إبادة الجور والجهل والميل عن الحق ومجانبة العدل، وأن تكتب بذلك في أوامرك إلى قادة وأمراء الدويلات، فيعم السلام أرجاء الممالك.» لماذا تريد أن تجعل من دولة جاو هدفًا لهجومك؟
قد يكون صحيحًا أني أرفض في عناد … وأنك غاضب بإصرار، وهب أني رفضتُ حتى النهاية فذلك ما يقال له «الخضوع لأحد الوزراء كان بداية إخضاع الأمم والممالك.» فإذا رفضت جلالتك مراجعة خُطتي بعين الاعتبار، وأصررت على شفاء غليلك من دم دولة جاو، انتقامًا من كل من عاندوك (بما فيهم شخصي الضعيف …) فهذا ما يمكن تلخيصه في عبارة، مفادها: «الانتصار على وزير واحد، مقابل الهزيمة أمام كل الممالك والتراجع أمام الدنيا كلها» فانظر أيهما أعظم؛ الانتصار على وزيرك الضعيف (المريض) أم الظهور على الأمم التي تحت السماء؟
وقد بلغني، يا سيدي، أن الملك الحكيم يُحب وطنه، وأن رجل الدولة المُخلص، حقًّا، يُفضِّل دائمًا النزاهة والاستقامة. إن بلدًا ممزقًا، مقطع الأوصال، لن تنضبط أحواله وتلتئم شئونه بسهولة، وإن راحلًا قد مات لا يعود أبدًا إلى سابق العهد بالحياة، واعلم تمام العلم أني أقبل وأرضى أن يُوقَّع عليَّ العقاب بالموت، فهذا أفضل عندي من أن أجعل من نفسي أضحوكة القادة وهزأه الرجال، وبعد، فأرجو من جلالتك النظر في الأمر بكل وجوهه وتفاصيله.»
وقام الملك ومشى من عنده، دون أن يُجيبه بكلمة.