سجل تشين الرابع
لمَّا استولت تشين على مقاطعة هانشون
ما كادت دولة تشين تستولي على منطقة هانشون التابعة لتشو، حتى قامت بينهما حرب شعواء دارت رحاها في منطقة «لانتيان» وهي المَوقعة التي مُنيت فيها تشو بهزيمةٍ منكرة، وما إن سمعت كلٌّ من «هان» و«وي» باندحار دولة تشو حتى هجمتا على حدودها الجنوبية، ودخلتا مدينة «تنغ» وعاد ملك تشو يجر أذيال الخيبة والهوان، ثم إن الدول الثلاث: (تشي، هان، وي) دبَّرت جميعها خطة للهجوم المُشترك على تشو، غير أن الشيء الوحيد الذي وقف في طريقِهم هو خشيتهم من أن تهب تشين لنجدة تشو، وهنالك ذهب إلى شوكون من أشار عليه قائلًا له: «يُمكنك أن توفد رسولًا إلى ملك تشو ليقول له ما مفاده: إن تحالُف الدول الثلاث يعتزم الرحيل عن أرضكم، ولو شئتم لتحالفنا معكم لمهاجمة تشين، التي لا نظن أنها ستقنع من أرضكم بالاستيلاء على لانتيان وحدها، بل هناك الكثير جدًّا مما تتطلَّع إليه بعيون نهِمة. ولمَّا كانت تشو، في الأصل، تساورها الظنون في جدية موقف تشين من مُساندتها ودعمها، خاصة في غياب ما يستدعي مثل هذا الدعم في ظلِّ ما يتردَّد على سمعها من اعتزام الدول الثلاث الرحيل عن أرضها، فسوف تجد نفسها مُقبلة على تبنِّي فكرة التحالف مع الدول الثلاث لضرب تشين، وهو الأمر الذي إذا ما بلغ أسماع تلك الأخيرة فستقلع بالفعل عن مساندتها، وحينئذٍ، تشتدُّ قبضة الدول الثلاث على المناطق التي احتلتها وتغرس أنيابها في جسد تشو، دون تحفظ، وبالطبع فسوف تُهرع تشو إلى تشين لطلب النجدة، لكنها لن تجد حينئذٍ آذانًا صاغية، فتلك هي الخطة الناجحة التي إذا ما استطعنا بواسطتها أن نبذُر الشقاق بين تشو وتشين، لقرَّبنا فرصة الهجوم الساحق، وزادت احتمالات نجاح هذا الهجوم.
وهنالك استحسن شوكون الفكرة وأوفد مبعوثًا خاصًّا إلى تشو التي ردَّت على الفور بالإيجاب، ثم لم يلبث الهجوم الكاسح أن انطلق باتجاه تشو التي لجأت بالفعل إلى تشين لنُصرتها، فخذلتها جارتها هذه، وتحقق النصر لدول التحالف الثلاثي، وجنت من حربها المجد والتفوُّق والسيادة.
لمَّا ذهب شوكون إلى وي
سافر شوكون إلى دولة وي، وأثناء فترة إقامته هناك أصدر حاكم البلاد قرارًا بطرد المَحظية الملَكية من القصر (يُقال إن السبب في ذلك تذمُّر شوكون من سوء مُعاملتها له؛ هكذا تُشير الشروح الواردة بهامش المتن!) ووصلت هذه الأنباء إلى مسامع هانشون — رئيس وزراء دولة تشين — فذهب من فوره للقاء حاكم البلاد، وقال له: «أرى يا مولاي أن تقبل منِّي النصيحة لجلالتك بالزواج من مَحظية حاكم وي وهو ما سينجم عنه الاتحاد بين تشي وتشين ومثل هذا الأمر لو حدث فسوف يُمثل تهديدًا لدولة وي، ويُمكنني القول إنه التهديد الذي سيتطور إلى هجومٍ شامل تقوم به تشين حيث تنتزع لنفسها إقليم «شاندانغ» وبعد ذلك تقف الدولتان المُتحدتان تشي وتشين إلى جانب أمير دولة وي «الأمير فوتشو» باعتبار أن والدة هذا الأمير (المَحظية الأم) تُقيم في بلاط تشين زوجة شرعية لحاكم البلاد، ومن ثم تتحول وي من مملكةٍ مستقلة إلى مجرد ولاية تابعة لعرش آل تشين، وقد كان هانون — رئيس وزراء تشي الأسبق — يعمل بكل جهده لاستغلال قوة الاتحاد الثنائي بين تشي وتشين لتهديد وي، والإيقاع ﺑ «شوكون» في أسوأ مصير يمكن أن يقع لرجل دولةٍ في مثل حجمه وأهميته، وقد بلغني كذلك أنَّ هناك أخًا شقيقًا ﻟ «فوتشو» يُدعى تسوه وأنه يُعِد العدة لأخيه الأصغر كي يتسنَّم ذُرا القوة باعتلائه سدة السلطة والنفوذ، فاسمح لي جلالتك بأن أحاول الضغط على دولة وي بمساعدة كلٍّ من هانون، وتسوه لضرب شوكون، وهو الأمر الذي من شأنه أن يوقع الرعب في قلب ملك وي، فيُصدر قرارًا يسمح فيه للمَحظية الطريدة أن تعود للبلاد. ولا بد أن فوتشو سيُوصي حاكم وي بالعمل على إرضاء تشين بكل وسيلة، وعلى طول الزمن. فإذا رجعت المَحظية إلى وي، فستصبُّ جام غضبها على شوكون، وعلى إثر ذلك سيسعى هذا الأخير بكل جهده لكي تعمل «تشي» فيما من شأنه أن يحوز رضاكم وارتياحكم.»
لمَّا قامت دول التحالف الثلاثي بمهاجمة تشين
لمَّا قامت الدول الثلاث: تشي، هان، وي بالهجوم على تشين، واحتلوا مضيق «هان»، وحدث أن اجتمع ملك تشين إلى رئيس وزرائه وقال له: «إن الدول الثلاث تملك قوة عسكرية هائلة (= لا أستطيع معها مواصلة القتال) وبالتالي فقد رأيتُ أن أتنازل عن إقليم هيدونغ طلبًا للمُصالحة.» وأجابه رئيس الوزراء بقوله: «الحق يا جلالة الملك أن التنازل عن هذا المكان خسارة كبيرة، غير أن تجنُّب الويلات والمخاطر يعد كذلك أساس المصلحة العُليا للبلاد، فتلك هي مسئوليتنا أمام آل «تشين» على مرِّ الزمان، ولهذا أرى أن تتشاور جلالتك مع بقية الأمراء في هذا الشأن.»
وبالفعل، فقد أرسل الملك إلى الأمراء، فاجتمعوا لدَيه وكان أن بادرَه أخوه: (من محظية والده) قائلًا: «أرى يا مولاي أنك نادم في كل الأحوال، سواء تنازلت أو لم تتنازل عن شيءٍ سعيًا للمصالحة مع الأطراف المُتحاربة.» فاستغرب الملك هذا القول واستفسر منه عن السبب في استنتاجه هذا، فأجابه: «إذا سلَّمنا جدلًا، أنك تنازلت عن هيدونغ للدول الثلاث، فلا بد أنك ستتأمل الأمر بعد انسحاب القوات المتحالفة، قائلًا في قرارة نفسك: «يا ويلتي، قد فرطت في أرضي هكذا، لا، لن أترك لهم إلا ثلاث بقاع ضئيلة من إقليم هيدونغ، خصوصًا أن قواتهم قد أزمعت الرحيل.» فذاك هو ندمك على التنازل لو تنازلتَ، فإذا رفضت التفريط في أرضك، وأصررتَ على موقفك هذا في عناد، فستظلُّ أيضًا تلوم نفسك مما قد يَحيق ببلادك من خطرٍ جسيم فيما لو تقدَّمت القوات المعتدية على طريق زحفها صوب ممر «هانجو»، مما يُعرض عاصمة البلاد للخطر الوشيك، هذا بينما كان في مقدورك تفادي مثل هذا المأزق بشيءٍ من المرونة.» ثم إن الملك ردَّ عليه بقوله: «ما دام المَوقفان يتساويان في إثارة مشاعر الندم على ذلك النحو، فلعلَّ من الأفضل أن أندم على التسليم بالإقليم البعيد دون أن أعرض العاصمة «شيان يانغ» لأي خطر، وذلك هو قراري الأخير.»
وبالفعل فقد أوفد ملك تشين أخاه الأمير للتفاوُض مع دول التحالُف الثلاثي في شأن المصالحة مقابل التنازُل عن الإقليم المُقترح، وهنالك انسحبت القوات المُعتدية وزال كل وجه للخطر.
لمَّا تشاور ملك تشين مع رجال البلاط
تحدث الملك «شاو» — حاكم تشين — إلى رجال البلاط من حوله، فقال: «تُرى في أي الفترات تجلَّت قوة كلٍّ من دولتَي وي وهان على نحوٍ شديد الوضوح، أفي بداية ظهورها على مسرح التاريخ كدولتَين بازغتَين أم الآن؟» وأجابه الحاضرون جميعًا بغير استثناء مؤكِّدين أن الزمن الأول كان هو الذي شهد تفجُّر طاقتهما الجبارة، فعاد الملك يسأل: «تُرى لو أردنا تخصيص اثنَين فقط من بين قادة ووزراء دولة وي يتمتَّعان بالحظ الأوفر من الذكاء والنجابة، فهل يُمكننا أن نشير إلى كلٍّ من الحكيم «روآر» والوزير «ويتشي» — من رجال الوقت الحاضر — أم الوزير «منغ شانغ» والقائد المظفر «مانغ ماو» من قادة الحقبة التأسيسية الأولى؟» فأجاب المُجتمعون قائلِين: إن هذين الأخيرَين هما الأفضل بالتأكيد، وعندئذٍ، قال الملك: «فما ظنُّكم إذن وقد عرفتم أن ذكاء وفطنة وخطر الاثنَين السابقَين لم تمكن وي من دحر بلادنا عندما زحفت جيوشها، بالاشتراك مع هان في حملةٍ عسكرية كبرى فيما مضى، أما اليوم وقد أصبحت مقاليد الأمور في يد الذين ضعفت شوكتهم وتضعضع سُلطانهم، فلَكُم أن تتخيَّلوا ما الذي يمكن أن تُسفر عنه المحاولات الهجومية من جانب وي وهان على بلادنا؟»
واتفقت آراء الحاضرين مع وجهة نظر الملك، إلا أن الوزير «جو تسي» الذي اشتُهر بقوة المنطق والفصاحة وحُسن البيان، قد نهض واقفًا بعد أن نحَّى قيثارته — وكان عازفًا يهوى المُوسيقى والألحان — وتحدث بما نصه: «اسمح لي يا مولاي أن أصف تقييم الوضع الراهن بأنه خاطئ من كل جوانبه، ودعني أُذكرك بأن واحدًا من أمهر وأحذق المُخطِّطين السياسيين والقادة من رجال دولة جين في زمانها المنصرم، والذي كان من بين أكفأ ستة رجال في الدولة كلها (الوزير المُلقب ﺑ «جي») استطاع أن يتغلَّب على اثنين من أولئك الرجال الأفذاذ، بل قاد جيشًا كان تحت قيادة اثنَين منهما أيضًا، وقام بمحاصرة قوات الوزير «جاو شيانغ» بمنطقة جين يانغ، ثم إنه قام بتحويل مَجرى أحد الأنهار القريبة، فانحدرت المياه وأغرقت تلك المنطقة وغمرت أسوارها العالية التي بقِيَت أجزاء منها طافيةً فوق سطح بركة المياه المُمتدة في كل الأرجاء، فلمَّا خرج «جيسن» ينظر إلى مياه النهر الجاري وهي تتقلَّب وتفور، التقى في طريقه بكلٍّ من «هانسن»، و«ويشن» (رؤساء القبائل من هان ووي) فبادرهما بقوله: «ما كنت أعرف من قبل أن المياه يمكن أن تُستخدَم سلاحًا لإغراق الأراضي على هذا النحو، وقد عرفت اليوم أنه ما مِن أمر سهل على وجه الأرض مثل استخدام مياه نهر «فن» لإغراق العاصمة «آني» واستغلال البخر والرذاذ المُتطاير من هذا النهر نفسه؛ لإغراق مدينة «يين يانغ».» وفي تلك اللحظة نظر كلٌّ من «هانشن» و«ويشن» إلى بعضهما البعض بنظرة ذات مغزى، والغريب أيضًا أنه في تلك اللحظة نفسها كانت أراضي «جيسن» تنقسِم إلى إقطاعات متفرقة سرعان ما توزَّعت بين الممالك. وانتهى «جيسن» نفسه نهاية مأساوية جدًّا بعد أن أهلك البلاد وشتَّت الأهالي وصار أضحوكة الزمان بعد أن خاب مسعاه وتحطمت آماله.
والآن، وبِرغم أن تشين قد بلغت درجة تفوق ما بلغه «جيسن» ودولته في زمانه، ومهما كان مبلغ الضعف الذي أصاب كتائب «هانشن» و«تشين»، فقد برزت شجاعتهما الكامنة بعد أن ضُرب عليهما الحصار في «يين يانغ»، فنحن الآن نعيش لحظة مهمة جدًّا، وقد تلاقت نظرات التصميم والإرادة في عيوننا، فلتحذر يا مولاي التقليل من خطر أعدائنا.»
لمَّا نشب القتال بين قوات تشو ووي
لمَّا نشب القتال بين قوات دولتي تشو، ووي عند مضيق «شين شان» تقدَّمت وي بوعدٍ رسمي لدولة تشين بأن تتنازل لها عن منطقة «شا نلو»، وذلك لتقطع أي محاولة اقتراب مُمكنة بين تشين وعدوتها اللدود تشو، وكان أن تمَّ النصر ﻟ «وي» بعد أن دحرت جيش تشو وهزمته شر هزيمة في موقعة «نان يانغ»، لكن تشين لم تَلبث أن طالبت وي بتسليمها الأرض التي وعدتها إياها غير أن الواعد نكث بوعده، وهنالك تحدث الوزير الأعظم «إين جيان» إلى مليكه حاكم تشين قائلًا: «لا أرى مانعًا يا مولاي من أن تُخاطب حاكم تشو بهذا الشأن ذاكرًا له تراجع وي عن تنفيذ وعدها الرسمي لجلالتك، وخيانتها للعهود الموثقة بين الممالك، وتطلب منه إتمام ميثاق الوحدة بين بلدَينا، وهو الأمر الذي تخشاه وي وتعمل له ألف حساب، فلعلها — حينئذٍ — تسارع بتنفيذ ما وعدت به، مع أن هذا يعني فقدانها لثمرات النصر على تشو، فكأن ما أحرزته باليمين تُعطيه لنا بالشمال، وكأن تشو في واقع الأمر هي التي تفضلت علينا بمثل هذه الثمرة الدانية، وهو ما يوجب علينا الرد بكرم أبلغ وهدايا أثمن ومال أوفر، ثم إن وي قد نزلت بها المُلمات التي أوهنت قواها وأضعفت شوكتها، وأقسم بأنها إذا لم تُسلمني الأرض المُتفق عليها، لأرفعن سيفي، ولأقطعن عنها إقليمها الغربي، مما سيربكها للغاية، وتتاح لجلالتكم الفرصة للتوغُّل في أراضيها الجنوبية واقتطاع أثمن ما تَجنيه منها يداك.» وقد راقت الفكرة لحاكم تشين الذي أرسل من فوره إلى تشو من نقل إليها هذا الاقتراح، ثم جاءت الأخبار بموافقة ملك تشو على مشروع الوحدة بين البلدين، وهنالك انغرست نصال الفزع في قلب وي، فأسرعت بإعلان مبادرة من جانبها لتسليم «شانلو» إلى تشين في أسرع وقت ممكن.
لمَّا قام مبعوث تشو المقيم بدولة تشين
كان «جين لي» مبعوث تشو، المقيم لدى تشين يتابع عن كثَبٍ مناقشات حاكمي البلدَين: تشين، وي حول موضوع الوحدة، إلا أن ملك تشو أبدى غضبه من استدعاء مبعوثه لحضور مفاوضات وحدة لا شأن لبلاده بها، فلما علمت تشين بذلك أوفدت «جو تسوي» إلى حاكم تشو لإبلاغه بما نصه: «قد طلبت إلينا وي أن نُقيم معها الوحدة وليس مع تشو؛ فلذلك طلبنا إلى مبعوثكم أن يناقش موضوع هذه الوحدة بحضور الجميع، أما بالنسبة لقيام اتحاد بين آل جو، وتشين، وي بما في ذلك دولتكم المَهيبة، فنحن نشعر ببالِغ السرور والارتياح لهذا الخبر، وربما كان ذلك هو السبب في أن دولة تشي قد خالَجَها الشك في موقفكم فتراجعت عن مباحثات الوحدة معكم.» وهنالك زال غضب حاكم تشو، وأثنى على موقف البيت الحاكم في كلٍّ من دولتي جو، وتشين.
لمَّا أوفد حاكم تشو مبعوثه إلى تشين
لما أوفد حاكم تشو الملك هواي مبعوثه، الوزير الأعظم (جين لي) إلى دولة تشين، ذهب إلى حاكم هذه الأخيرة من قال: «اعلم يا مولاي أن «جين» هذا صاحب منزلة عظيمة بين قومه؛ إذ هو أحب كبار الوزراء جميعًا إلى قلب حاكم تشو، وأرى أن يتم الإبقاء عليه في تشين ولا يسمح له بالعودة إلى بلاده إلا إذا تنازلت تشو عن بعض أراضيها المتاخمة لكم، فإذا وافق الملك على هذه المُقايضة كفانا شرَّ القتال وعبء الحرب، أما إذا اعترض، قتلْنا مبعوثه الأثير إلى قلبه، ولن يُهمَّ إذا ما أُوذي مبعوثنا لديه (الوزير تساي خه) فهو على أية حال لا يُضارع «جين لي» ذكاءً واقتدارًا.»
واقتنع الملك بهذا القول وأصدر أمرًا باحتجاز «جين لي» فما كان من هذا المبعوث الذكي — جين لي — نفسه إلا أن أرسل إلى الملك من أناب عنه في قوله: «قد علمت يا مولاي أن قدرًا هائلًا من هيبتك ومكانتك المعهودة وسط الممالك ستتأثر كثيرًا في أعين الناس جميعًا، فخسارتك مُضاعفة، لأنك ستفقد الجاه العريض والأرض التي كانت ستئول إليك، وأريد أن أُسِرَّ إليك بشيء، وهو أني عندما كنتُ في أول طريق السفر إلى بلادك، بلغَني أن كلًّا من دولتي وي وتشي كانتا تتدراسان فكرة التنازل عن بعض أراضيهما سعيًا للمصالحة مع جلالتكم، ولا أظن أن مثل هذا التصوُّر كان يمكن أن يكون محل تقدير، لولا أن الجميع يعرف روابط الأخوة والصداقة التي تجمعكم بدولة تشو، فإذا احتجزت لديكم، فسوف يدور بخلد الناس أن بلادكم قد تخلَّت عما يربطها ﺑ «تشو» من علاقاتٍ حميمة، ولا أدري كيف يمكن لدول مثل وي، وتشي أن تشعرا نحو بلدٍ قد فقدَ كل روابط ممكنة مع صديقه الكريم، وأصبح يقف وسط الساحة بغير سند أو نصير، بل الأدهى من ذلك أن تشو عندما تدرك أن بلادكم قد أصبحت منبوذة على هذا النحو بين البلدان والممالك، فلن تكتفي بالامتناع عن تسليم الأراضي المُتفق عليها، بل ستتواطأ مع باقي الدويلات وتحيك المؤامرات الكفيلة بإسقاط هيبتكم؛ مما يُمثل خطرًا جسيمًا على بلادكم، وهكذا أرى أن تُطلقوا سراحي يا مولاي، وتفسحوا أمامي الطريق لي.» وهنا أصدر الملك قراره بفكِّ الحصار المفروض حول «جين لي» في أسرع وقت.
لمَّا أراد الملك أن يلتقي بواحدٍ من عامة الناس
أراد ملك تشين أن يلتقي بالرجل المُسمَّى «دونرو»، فأرسل له هذا الأخير من يُبلغ الملك بما نصه: «ليس في الإمكان أيها الملك العظيم، أن أؤدي لجلالتكم طقوس الانحناء والركوع لعرشكم الكريم، عند لقائي بكم، فاسمحوا لي بتجاوز هذا التكليف أو أن تتفضلوا بإعفائي من الحضور إليكم.» وردَّ الملك بالموافقة، فجاء الرجل للقائه، وقال له أثناء المقابلة: «اعلم يا مولاي أن الناس ثلاثة: أولهم آخِذ بالقلب دون القناع، وثانيهم آخِذ بالقناع دون القلب، وثالثهم لا قلب ولا قناع، فهل يعرف الملك دلالة هذا الرمز؟» فلما أنكر الملك فهم تلك الدلالة الغامضة، أجابه الرجل، قائلًا:
«إن الآخِذ بالقلب دون القناع، هو التاجر، ذلك أنه يجني المحصول الوفير ويملأ به المخازن دون أن يُعاني مشقة الزرع والحصاد، فهو الأوفر ربحًا بأقل جهد، والآخِذ بالقناع دون القلب، فذلك هو المزارع المسكين، الذي يكتوي بنار القيظ وبرد الزمهرير، ولا يملك سوى الفأس والمحراث، وربما لا يجِد ما يكفي من قوت يومه، أما الذي لا قلب له ولا قناع، فهو الملك ذو العرش والصولجان، الذي بيدِه تصريف شئون الناس والممالك دون أن تربطه بالمحكومين صلة ودٍّ حقيقية، وربما تكرَّم بالعطايا على مَحظياته، وأقطعهنَّ الإقطاعات الهائلة من الأراضي دون أن يعود عليه شيء من ذلك بالبر أو التراحُم أو السيرة العطرة والذكرى الطيبة.» واستشاط الملك غضبًا، ولاحظ الرجل ذلك، ولكنه راح يواصل كلامه بما نصه: «تعرف يا مولاي أن هناك ست دويلات تقع شرق جبال «شياو» ولا أظن أن في مقدور جلالتكم تهديد تلك الدويلات الست مُجتمعة، لكنكم مع ذلك تُمارسون قدرًا لا بأس به من التهديد ضدَّ نساء القصر، وهو الموقف الذي لا أجِده في رأيي الشخصي مقبولًا.» وعندئذٍ سأله الملك: «وهل ترى أني قادر على ضم تلك الدويلات الست؟» فأجابه: «إذا تأمَّلنا حال دولة هان، وجدنا أنها تحتل موقعًا ذا قيمةٍ سياسية عالية، أما وي فهي واسطة العقد وصدْر الأرض (ذات موقع مركزي)، فليتَك يا مولاي تبذل لي قدرًا معلومًا من المال، وترسِل بي إلى هان ووي حتى أُناظر القوم هناك وأُقنعهم بالمجيء إلى تشين واللجوء إلى جنابك الأفخم، فلعلهم يستمعون إلى قولك ويتبعون خططك، فإذا تم هذا الأمر دانت لك كل الممالك وخضعت لسطانك.»، ورد عليه الملك قائلًا: «لكن خزانتي فقيرة، ولن تجد فيها المال الذي تظنُّه يكفيك.» فقال «دونرو»: «إن الحرب قدَر مقدور فوق الدول يا مولاي، فإذا ما قامت الحرب واتسع نطاقها، وامتدَّت فوق الآفاق قوات جيشك وفرسانك، كانت لك الغلبة، وصرتَ واحدًا من أباطرة الزمان، فعظُمتَ في كل عين، ودار بمدحك كل مادح، وجُلِبت لخزانتك القناطير المُقنطرة من الذهب والفضة.» وراقت الفكرة للملك، وأوفد دونرو إلى كلٍّ من وي، وهان، حيث دعا وزراءهما إلى زيارة تشين، ولم يكتفِ دونرو بهذا بل سافر شمالًا إلى دولتي (يان وجاو) للتناظُر مع وزرائها ومُجادلتهم وإقناعهم باتخاذ تشين حليفًا وسندًا متينًا، بل الأدهى من ذلك أنه راح يتحيَّل المكائد حتى استطاع أن يبذر الشقاق بين وزراء جاو، مما أدى في النهاية إلى اغتيال «ليمو» أحد أهم القادة العسكريين هناك، أما أعظم إنجاز له فكان ذهابه إلى حاكم تشي وإقناعه بالسفر إلى تشين في زيارة ودية يعلن بها عن ولائه وطاعته للعرش الحاكم، وهو الأمر الذي أقنع قادة وملوك كلٍّ من: يان، جاو، هان، وي، بالذهاب إلى تشين على إثر تلك الزيارة وكان ذلك كله دليلًا على ذكاء «دونرو» وقوة حجته وحُسن بيانه.
لمَّا كان العام العشرون من حكم الملك
لما كان العام العشرون من حكم الملك شينغ (حاكم تشو) قام القائد المظفر «باي تشي» بمهاجمة منطقة «شيلين»، بينما قامت فرقة أخرى من الجيش بغزو المناطق الثلاث التابعة لدولة تشو، وهي على التوالي: يان، تشنغ، إيلين، وقد تهدَّمت قبور أسلاف حاكم تشو أثناء الهجوم على تلك المناطق، وهنالك قام الملك «شينغ شيان» حاكم تشو بنقل عاصمة البلاد إلى موقع آخر ناحية الشمال الشرقي ثم أقام خطًّا دفاعيًّا قويًّا بمنطقة «تشن» ومع ذلك، فقد ظهر جليًّا أن الضعف بدأ يسري في أوصال دولة تشو، وهو ما استنتجته تشين، وانتهزت الفرصة جيدًا حيث راح قائدها المُظفر «باي تشي» يدفع قواته لغزو تلك الدولة المُتهالكة القوى. وكان في دولة تشو، إبَّان ذلك العهد، رجل مُشتغل بالجدل والمناظرات الكلامية، شديد الفصاحة، قوي الحُجة والبيان، غزير المعرفة، كثير الأسفار خارج البلاد لكثرة ما يحتاج الملوك إلى قوة منطقه وحُججه في إقامة المناظرات. وعُرف هذا الرجل باسم «هوانشيه»، ومن ثم فلم يغِب عن بال ملك تشو تكليف الرجل بالعمل لصالح البلاد في تلك الأثناء. وبالفعل فقد أوفده على وجه السرعة إلى تشين، وهكذا فقد وجد الرجل نفسه وجهًا لوجهٍ مع حاكم تلك الدولة الكبرى، فشحذ قريحته واستلهم المعاني الجليلة، وراح يقول للحاكم ما نصُّه: «تعرف يا جلالة الملك أنه ليس بين الممالك جميعًا من يَحظى بالقوة والجاه والسلطان سوى دولتي تشين وتشو، وقد ذاع بين الناس الآن أن تشين تنوي مهاجمة تشو، بعد أن اتخذت العدة لذلك، فكأني باثنَين من أقوى النمور، يتقاتلان ولا يبرحان الساحة، وقد أنهكهما القتال فخارت قوتهما واستأسدت عليهما الكلاب والسباع الضالة، وصارت تُنازعهما القوة والمكانة، ولا أرى يا مولاي سوى أن يتصالح البلدان الكبيران، واسمح لي جلالتك بأن أشرح المعنى الكامن وراء هذا الاقتراح، ذلك بأني أرى أن الأمور إذا زادت عن حدِّها انقلبت ضدها، فتلك هي الحكمة في تَعاقُب الفصول، كما أن الأشياء إذا بلغت الذروة، وانحدرت ثانية إلى الوهاد، وكذلك الكومة المُتراصَّة من الأحجار، كلما ازدادت ارتفاعًا، وصارت على وشك الانهيار. وقد بلغني يا جلالة الملك أن مساحة بلدكم تكاد تبلغ وحدَها النصف من مجموع مساحات المَمالك التي فوق الأرض جميعًا، فإذا أضيفت مساحة المناطق النائية في شمال غرب البلاد، وهي أكبر مساحة يُمكن أن يَحظى بها بلد من البلاد منذ أول العالم، صارت مَملكتك أعظم الممالك التي على ظهر الأرض، ومع ذلك فلم تستطع تشين، وعلى مدى ثلاثة عهود — أي منذ عهد الملك «دي وانغ» والملك «جوانغ»، بل وجلالتك شخصيًا — التوسع في رقعة الأراضي حتى تخوم دولة تشي، كما كنتم تأملون دائمًا، وهو ما جعلكم تنفضون أيديكم من ميثاق التحالف الرباعي، ثم إنكم يا مولاي أوفدتم وزيركم «شنغ تشياو» ثلاث مرات إلى هان لمساعدة تلك الدولة في الشئون الدفاعية، وهو ما جعل مُهمته في إخضاع دولة «يان» تحت سلطانكم أمرًا ميسورًا، بل إنكم حصلتم على مئات الأميال من أراضي دولتي يان وهان دون ممارسة أدنى قدْر من التهديد أو إشعال أضأل فتيلٍ للحرب، وهكذا أبديتم نموذجًا بديعًا في عبقرية القيادة الناجحة، وبعد ذلك قُمتم، جلالتكم، بإرسال حملات لضرب وي، واستطعتُم الاستيلاء على عاصمة البلاد واحتلال منطقة «خني» وغزوتم مناطق: «يان»، «سون زونغ»،«شيو»، «تاورن»، وكان أن تساقطت أمامكم فلول قوات دولتي يان وهان كما تتساقط الأوراق الذابلة، وصارت تلك واحدة من مآثركم الكثيرة التي يذكرها التاريخ بالفخر والإعجاب، وبعد ذلك قُمتم بإصلاحاتٍ واسعة في الجيش، وأعَدْتم بناء الكثير من الفرق والألوية، لكي تقوم بعد ذلك بالتحرك السريع، حيث استطعتم ضم عديد من المناطق، منها «بو»، «يان»، «شويوان»، ثم قامت قواتكم بحصار مدينتي «شياهوان»، و«جيانغ»، وهو ما أرغم دولة وي على الاستسلام والإذعان لكم، ثم إن جلالتكم قمتم بإقطاع الأراضي الواقعة شمال بوشوي ومنطقة «مو» إلى دولة يان، فكأنكم بهذا الصنيع قد أحنيتُم ظهر دولتي تشي وتشين، وقطعتم أوصال كلٍّ من وي وتشو، وهكذا فإن الدول والممالك الستة التي فوق الأرض لم تستطع أن تعيش في وئامٍ برغم أنها ارتبطت بأحلاف ومعاهدات مشتركة خمس مرات. واعلم يا مولاي، أنك مُهاب وسط الممالك، وأن الكل يخشى غضبتك، ويعمل ألف حساب لمكانتك ووزنك وقدرك العظيم بين الأمم، ويكفيك فخرًا أنك ملك الملوك وتاج الأباطرة، وأن رقاب الناس تخضع لك، فماذا لو اكتفيتَ بذلك، وكففتَ يد الحرب عن الممالك، ونزعت الخوف من القلوب، واتبعت سبيل العدل والرحمة بين المَحكومين، وأزلتَ من صدور الناس رعبًا جاثمًا، وسطرت في صفحات التاريخ اسمًا رابعًا يخلد بجوار أسماء الحكماء الثلاثة (المشهورين بالعدل والحكمة في تاريخ الصين القديم) وأرسيتَ في سجل المجد قاعدةً خامسة يتأسَّس عليها سلطانك، ويدوم طويلًا مثلما دامت قبلك عهود الأباطرة الأربعة الذين خلَّد ذكراهم التاريخ.»
الجزء الثاني من الفصل نفسه
«فإذا ما صمَّمت على تمزيق أوصال دولة وي، على هذا النحو الذي يمسُّ هيبتها أمام الجميع، مُستخدمًا في ذلك كل ما تحت يدَيك من قدرات عسكرية ودعمٍ شعبي واسع، فلتسمح لي بأن أقول: إن النتائج المُتوقعة تحمل في طياتها الكثير من أسباب القلق، وقد جاء في كتاب الشعر القديم ما نصُّه:
وذلك يا جلالة الملك، لأن بدايات الأمور دائمًا ما تكون سهلة يسيرة، أما خواتمها فهي التي تشوبها الصعوبات، والشاهد على ذلك أن التاريخ يحكي لنا أن الملك «جيبو» كان مدفوعًا في حربه ضد دولة «جاو» بالدوافع الواعدة بالفوز، دون أن يعمل حسابًا للمخاطر التي كانت تكمُن له في منعرجات الطريق، وكذلك، لم يكن يشغل بال الملك «فوتشاي» (حاكم دولة «أو») سوى النتائج الإيجابية التي يمكن أن يحصل عليها عند غزوه لدولة تشي، وكانت النتيجة أنه لقِي هزيمة نكراء في موقعة «كانسوي»، ومع أن هاتَين الدولتَين كانتا من الممالك ذات المكانة المرموقة التي تأسَّست على رصيد هائل من الانتصارات الباهرة، إلا أنهما مُنِيتا في آخر المطاف بهزائم وانكساراتٍ مشينة. وبسبب الثقة الزائدة التي أولاها حاكم «أو» لدولة «يو» فقد تشجع وقام بحملة تأديبية ضد دولة تشي، وبالفعل تحقَّق له النصر على قوات تلك الأخيرة في موقعة «إيلنغ» إلا أنه وقع في مكيدة نصبها له حاكم يو فسقط في أحابيل هذا الماكر وهو في طريق عودته مارًّا بشاطئ سانجيان، فقبض عليه وقتله شر قتلة.
وكذلك فقد حدث يومًا أن الملك «جي بو ياو» قد ذهب في حملة عسكرية كبرى ضد دولة جاو مُعتمدًا على دعم ومساندة كلٍّ من وي وهان، ثم إن الدول الثلاث تكاتفت وقامت بضرب مدينة «جين يانغ» وصار النصر قاب قوسين أو أدنى، إلا أن الملك «جى بو ياو» لم يكن يعلم ما يُضمره له حلفاؤه الذين انقلبوا عليه، وقلبوا له ظهر المجن، وقتلوه غدرًا في منطقة «تزوتاي»، ولئن تحركت في نفسك اليوم نوازع الكراهية ضد تشو التي كنت تأمُل في إفنائها فها هي باقية على الدهر؛ لأنه قد غاب عنك أن في هلاك تشو قوة مضاعفة ﻟ «وي»، ومن ثم لا أرى داعيًا أن تثقل قلبك بأية كراهية أو ضغينة نحو تلك المملكة، ودعني أذكرك بما ورد في «كتاب الشعر القديم» في هذا الشأن حيث قيل:
والإشارة واضحة في هذا السياق تتمثَّل فيما أود أن ألفت نظر جلالتك إليه من أن تشو ليست إلا مجرد الساعد الأيمن لجارتك اللدود، وأنتم تعرفون قصدي من هذا، وقد ورد في كتاب الشعر القديم أيضًا ما نصُّه:
أقول هذا، وأراك قد أصبحت، يا جلالة الملك، أكثر ميلًا لتصديق فكرة قيام علاقات ودِّية بينك وبين دولتي هان ووي، وهو ما يبدو خياليًّا تمامًا وبعيدًا عن التحقيق، كفكرة قيام علاقات ودِّية بين كلٍّ من حاكم دولة «أو» وملك «يو».
وقد قيل قديمًا في الأمثال: «إنه ليس من الحكمة التهوين من شأن الأعداء، كما أنه ليس من المُستصوَب إهدار الفرصة السانحة.» وأخشى أن يكون وراء مسوح الطيبة والتواضع الذي تُبديه كلٌّ من وي وهان، شيطان رجيم يتحيَّل المكائد للإيقاع بدولة تشين، والسبب في ذلك — بالطبع — هو ذلك التاريخ الطويل من المشاحنات المتبادلة بين جلالتكم وهذين البلدَين، حتى لم يبقَ بيت واحد في يو وهان إلا وقد صَبَّت عليه تشين لعنة كراهيتها، وقد طال العهد بينكما على هذه الحال، وامتدَّت الثارات عشرات السنين، حتى حلَّ الخراب بالبلاد ووقعت بالناس صنوف البلاء، فتهدَّمت المعابد وتساقطت الأجساد بين قتيلٍ وجريح وانتثرت العظام والجماجم في البراري والقِفار، وسيق العجائز والأطفال في طوابير الأسرى وأيديهم مُكبلة بالأغلال، وصارت بطون الإنس والوحش خالية، تبيت على الطوى، وتَفرَّق شمل الأسر والعشائر، إذ تشرد أبناؤها في الآفاق، بين طريدٍ يتلمس المأوى أو بائس قد وقع في الرق، وبعد أن تكدَّرت الأحوال وانقلبت إلى أسوأ مآل. ومن هذا كله نخلص إلى نتيجة مؤدَّاها أنه لا خلاص لدولة تشين إلا بالقضاء التام على كلٍّ من وي، وهان، ففي بقاء هاتَين الدولتَين خطر يتهدد، وشقاء لا يتبدَّد، وأرى كذلك أن من خطل الرأي الإقدام على مهاجمة تشو الآن، فتلك سياسة خرقاء؛ لأن قواتكم المهاجمة لن تجد طريقًا تتقدَّم عليه لملاقاة العدو إلا إذا استأذنت جارتَيها اللدودتَين — وي، وهان — في السماح بالمرور من أراضيهما، فهل ستتقدَّم جلالتكم بمثل هذا الطلب إليهما؟ وهبْ أن جلالتكم أصدرتم أوامركم للقوات بالتقدُّم للهجوم، ثم تعذَّر إيجاد مخرج ملائم أو طريق مناسب لعودة القوات في حال انسحابها، أما تكون بذلك قد أوقعتَ بجيشك في براثن عدوتَيك المذكورتَين وأهديتَهما صيدًا ثمينًا ما كانتا تحلُمان بالحصول عليه بكل سهولة؟ وحتى إذا تراجعتَ عن فكرة استئذان وي، وهان، خصمَيك اللدودَين، في السماح لقواتك بالعبور خلال أراضيهما، فلن تجد بديلًا سوى احتلال كلٍّ من بلدتي «سويانغ» و«يوارنغ» (بدولة تشو)، ولما كانت تضاريس تِلكما البلدتَين لا تزيد عن مجرد تكوينات نهرية وأخاديد عميقة بين أوديةٍ ترتفع فوقها غابات كثيفة متلاصقة، فإن احتلالهما لن يعود عليك بنفع كبير، ثم إن مثل هذه الخطوة ستُضيف لمساتٍ إيجابية ومقبولة لوجه تشو القبيح وتحسن من ملامحه كثيرًا، في حين أنها لن تضيف مكاسب ذات قيمة لجلالتك، أضف إلى ذلك أن قيامكم بمهاجمة تشو سيُعجل بتكتيل الدول الأربع: هان، جاو، وي، تشي، ضدكم مما يعني قيامهم بمباغتتكم، وعندئذٍ ستتحالف كلٌّ من تشين وتشو في حلفٍ لا تنفصِم عُراه، وفي الوقت نفسه، ستقوم وي بمهاجمة المناطق التالية: ليوي، وفانغ يو، ودجي، هولين، داندي، شياودي، (كلها تقع بدولة سونغ)، وهو ما سينجم عنه ضياع كل ما غنمته سابقًا من أراضٍ في دولة سونغ، هذا بينما تتقدم قوات تشي ناحية الجنوب؛ لتحتل المنطقة الواقعة شمالي نهر «سيشوي» حيث يتميز الموقع هناك بتوسطه بين طُرق مواصلات وانبساط رقعة أرضه وخصوبة تُربته، وهكذا، فإن مدَّ سيطرتكم على تشو، سيؤدي بالطبع وعلى غير ما تشتهي، إلى دفع الدماء في شرايين دولتَي وي وهان، ودعم قدرات دولة تشي، حتى إذا توفرت أسباب القوة لكلٍّ من وي وهان، صارت كلتاهما تناوئان تشين القوة والنفوذ والمكانة، أما دولة تشي، وقد صارت حدودهما تمتد جنوبًا حتى شاطئ نهر سيشوي، وتتحصَّن شرقًا بشاطئ البحر، وشمالًا إلى النهر الأصفر، فستنظر إلى المستقبل بعين الثقة والطمأنينة، ولا سيما بعد أن أصبحت أقوى دولة بين الممالك.
ثم إن دولتي وي وتشي، وبعد استيلائهما على مساحات هائلة من أراضي الغير قد صارتا تضعان أيديهما على مكاسب ملموسة، ولن تُبديا ﻟ «تشين» سوى مظاهر ودٍّ مزعومة، فما إن يمر عام واحد حتى تملكا القدرة على منازعة حاكم تشين مكانته وزعامته ولقبه الإمبراطوري، وربما لن تبلُغا حدَّ تنصيب ملكيهما على عرش إمبراطورية كبرى، لكنهما ستسعيان لمزاحمة تشين سيادتها ومجدها. ومن السهل على جلالتكم — بالطبع — أن تقوموا بدفع قواتكم المُحاربة للقتال، اعتمادًا على عناصر القوة المتمثلة في ضخامة مساحة البلاد، ووفرة السكان، واللياقة العسكرية والاستعداد القتالي الجيد، ولكن أمرًا كهذا سيؤجج العداوة والبغضاء بينكم وبين تشو، وهو ما لن تسكت عليه كلٌّ من وي وهان، بل ستعملان بكل جهدهما لإعادة اللقب الإمبراطوري إلى تشي، وينصبانها مملكة فوق الممالك، وإمبراطورية ذات عروش وتيجان، سيكون ذلك كله، لو حدث، دليلًا على فشل خططكم وسياساتكم، وقد تأمَّلت تلك الأمور مليًّا، ورأيت من الأفضل أن تقيم علاقات ودية مع دولة تشو، ثم تقيم من هذه العلاقة الودية جسرًا تقترب به حثيثًا من دولة هان التي ستجدها عندئذٍ، طوع بنانك، ولمَّا كنتَ تقبض بيدِك القوية على أهم أرض (ذات قيمة وأهمية حيوية) في ولاية شاندونغ، وتضع اليد الأخرى على (شبكة) من القنوات والأنهار، فستُرهف هان آذانها وتتلصَّص بعيونها صوب منطقة السهول الوسطى، وساعتئذٍ ستقوم جلالتك بدفع حامية قوامها مائة ألف جندي لتتمركز في مدينة «شنغدي»، ثم إن دولة وي ستقع في إسار الفزع والرعب (بتأثير الظروف المُحيطة)، بل ستتراجع الكثير من الدويلات والمُقاطعات مثل: شيو، ويان لين، وإينغ شانساني، وجاولين عن سابق علاقاتها ومبادلاتها معها، مما سيفرض عليها مراقبة الأوضاع في المناطق الداخلية باهتمامٍ بالغ، والشيء المؤكد هو أن توطيد العلاقات الطيبة بينك وبين تشو سيدفع أمراء الدويلات في المناطق الداخلية إلى التسليم لك والإذعان لسلطاتك، ولمَّا كانت حدود تشين ستقترب لتتماسَّ مباشرة مع تخوم دولة تشي فستصير منطقة «يورانغ» الواقعة غرب تشي أقرب ما تكون من حدود بلادك، مما يؤذن بسقوطها في يدك، وهذا معناه أنه سيطلع عليك نهار تجد فيه مملكتك سيدة الممالك، وقد امتدَّت أرضك من البحر الغربي إلى البحر الشرقي، بكل ما تتخلَّله تلك المسافة من الدويلات وولايات وإمارات، وتبعًا لهذا فستنقطع كل صلة كانت قائمة بين كلٍّ من دولتي: يان، وجاو، وهو ما يعني فقدان هيمنتها على تشو، وتشي، بل ستنكصان على عقبيهما وتصيران إلى الخضوع والمذلة، بعد أن تجد كلًّا من تشو وتشي قد بلغتا مزيد القوة والنفوذ بفضل دعمك ومساندتك لهما، وفي نهاية المطاف فستجد أولئك الأربعة جميعهم قد خضعوا تحت راية مجدك، وقد تحققوا من قُدرتك على سحقِهم بحشودك الزاحفة.
لمَّا ذهب مبعوث إلى ملك تشين
ذهب رجل إلى ملك تشين ليتكلَّم معه فيما يتعلق بالدول الستِّ قائلًا لجلالته: «قد تتسع مساحة البلاد دون أن يتحقَّق لها الأمن المنشود، ولربما زاد عدد السكان أضعافًا مضاعفة، دون أن تُزاد، بالمقابلة، مساحة ومكانة الأوطان، فإذا قُلنا إن زيادة المساحة تضمن الأمن، وكثرة السكان تكفل القوة والزعامة فيَجِب أن نُسلم بأنه كان من اللازم أن يظلَّ أحفاد الطغاة الجبابرة، من أمثال «جيه» (آخِر أباطرة أُسرة «شيا»)، «تشو» (أسرة «شانغ» الملكية القديمة) قائمين على الحكم حتى آخِر الزمان.
ولقد قامت، فيما سلف من الزمان، أمم قوية، منها على سبيل المثال، دولة جاو التي بلغت في القوة مبلغًا لا مزيد عليه، وإن سألتني إلى أي حدٍّ بلغَتْ في هذا المضمار، فسأقول لك إنها كانت لتكاد تدفع بقواتها صوبَ الشرق، فتدك دولة تشي وتجعل عالِيَها سافلها، أما إذا تحركت ناحية الغرب، فما كانت تضع السلاح حتى تكون قد أسكتت كل ناطقٍ في دولة وي، وهكذا كانت تملك جاو أن تُخضع دولتَين كبيرتَين ذواتَي عدة وعتاد (عشرة آلاف عربة — حرفيًّا! —) بل تحتل أيضًا دولة أخرى ليست أقل قوة، مثل دولة تسونغ، وتلا ذلك من الأحداث أن أنشئت مدينة «كانبين»، ثم لم يكد يمرُّ زمان بعد ذلك حتى فقدت دولة «ويه» قطاعًا كاملًا من أراضيها الشرقية، وتعذَّر على الأهالي الرعي وجمع الحطب في تلك المنطقة وما جاورها، وصاروا يَحذرون حتى مجرد التطلُّع بعيونهم إليها، وتأزَّمت الأحوال في دولة «ويه» حتى صارت الأمور تبدو وكأنها تتدافع نحو كارثة، أو كما يقول القائل إنه: «قد تراكم البيض في كومة كبيرة على رأس دولة ويه حتى أوشك الرأس أن يتحطم وينهار بما تكدَّس فوقَه.» وصار المخططون السياسيون يضعون الخطط ويتشاورون فيما بينهم، ويقول قائلهم إنه: «يجب عمل الترتيبات اللازمة للاستنجاد بملك جاو، والإسراع بحمل الهدايا إليه والركوع عند أعتاب قصره القائم بمدينة «هاندان».» وفي تلك الأثناء كان كل الأمراء الذين اجتمعوا على الكيد لقصر هاندان قد أصدروا أوامرهم في المساء بالبدء فورًا فيما عقدوا عليه عزمَهم، فما إن أصبح الصباح حتى بادروا إلى التحرُّك حسب خُطتهم المرسومة، إلا أن دولة وي هي التي استطاعت آخر الأمر أن تنقضَّ على «هاندان» وتفعل بها الأفاعيل، فلمَّا تم لها ما أرادت من تلك الغزوة، وانسحبت عائدة بقواتها، ومرَّت في طريقها ببلدة «فنزي» فاجتمع هنالك ملك وي مع رجاله، ثم قام وركب عربة حربية، وأعلن نفسه حاكمًا للمنطقة الوسطى من البلاد، وأمر بالنداء على الأمراء فاجتمع لديه اثنا عشر أميرًا من أمراء الإقطاعيات والدويلات، فذهب على رأسهم لإعلان الولاء والطاعة للإمبراطور الأعظم «ابن السماء» وهم خلفه، يتبعونه كظلِّه. فلمَّا بلغ ذلك الخبر أسماع حاكم تشي، ثار وتوعَّد، وأصدر أمرًا إلى قواته بمهاجمة وي، فما لبث حتى زحفت إليها وأوقعت بها هزيمة نكراء ومزقت أوصالها شر ممزق، وباتت وي على شفا جرف، تكاد تُودِي بها المخاطر، وما لبث ملك وي أن بادر إلى السلم، وقام وسار بنفسه على رأس موكبٍ كبير يحمل النفائس والمجوهرات الكريمة قاصدًا بلاط ملك تشي، فما إن بلغ أعتاب القصر الكبير، حتى ركع هناك في ذلٍّ وخضوع راجيًا الملك أن يجعله من حاشيته ويتَّخِذه مساعدًا للبلاط الملكي في منصب وزير، وساعتئذٍ انفض الناس من حول وي وازورَّت عنها العيون، ووصلت الأنباء إلى حاكم تشو بأن دولة تشي قد نابذت وي الحرب وكسرت هيبتها، فما إن سمع جلالته بذلك حتى وجم وأصابه الكرب العظيم فهجر النومُ مُقلتَيه، وتكدَّرت أحواله، فقام على رأس كتائب من مواطنيه الذين جندوا أنفسهم وبذلوا جهدهم لخدمته، فصحبهم وذهب لملاقاة قائدِ قوات تشي المُلقب ﺑ «شن فو» وكانت الموقعة بينهما في منطقة تسمَّى «شيسوي»، وحاقت الهزيمة بالقائد شن فو، فلمَّا وصلت أنباء نشوب المعارك بين تشي، وتشو إلى دولة جاو، سارعت هذه على الفور بإرسال قواتها إلى منطقة «جيسانغ»، وكذلك أيضًا لمَّا سمعت دولة «يان» بتلك الأنباء، فقد دفعت حشودها على الفور تجاه منطقة «كيدوا». وبوصول الحشود إلى تلك المنطقة تحولت إلى قلعةٍ حصينة في وجه أية قوات تُفكر في مواجهتها، وصارت أشبه بطريقٍ مسدود أمام أية محاولة للعبور، واتفقت الدول الثلاث: تشو، جاو، يان جميعًا، على قطع العلاقات مع دولة تشي، وهو ما أوقع تلك الأخيرة في عددٍ من الانكسارات العسكرية، فتحطَّمت قوتها الضاربة وفشلت خططها القتالية، فلم تجد سوى أن ترسل مبعوثًا برسالةٍ سرية إلى قواتها على الجبهة تطلُب إليها التوقف عن القتال والانسحاب في أسرع وقتٍ ممكن، ثم إنها أرسلت إلى دولة تشو الواقعة جنوبي حدودها بما يُفيد الاعتذار الرسمي للبلاط الحاكم وللشعب كذلك، ثم أرسلت إلى دولة جاو الواقعة إلى الغرب تستميلها وتتودَّد إليها، وكذلك فعلت مع دولة يان في الجهة الشمالية، بل صارحت مواطنيها أيضًا بمَساعيها السلمية تلك، وأذاعت ما يتَّصل بهذه النقطة من أنباء، وحينئذٍ توارى السيف الذي سلَّطته الدول فوق رأسها، وعادت النصال المشرعة إلى إخمادها، إذ قررت باقي الدول والإمارات أن تفكَّ الحصار الذي ضربته حول تشي. وكان مجرى الزمان الواسع الكبير يشهد تلاحُق الأحداث وتدافُع الوقائع، حتى تراكمت حصوات الرمل الضئيلة تِلالًا هائلة من أحجار، وصارت الخيوط الدقيقة حِبالًا وثيقة تشد موكب الأحداث، ذلك أنه لم يمضِ وقت طويل حتى كانت الدويلات تستخدِم نفس الأساليب القديمة، لكنها — هذه المرة — كانت تستخدِمُها من وراء الجدران، بواسطة المَحظيات والجواري، وجرى التخطيط لألوانٍ من الحيل والمكائد ضد حاكم تشو، فهل كان ذلك معناه أن السياسة التي اتبعها جلالة ملك تشو اتسمت بالميل تجاه الجوانب السلبية الفاسدة، أو أن الأوضاع التي أحاطت بتصوراته وخططه السياسية كانت مليئة بالفوضى والعبث مما أوحى للدويلات والإمارات أن تنقلب عليه وتسلط السلاح على رقبته؟! كلَّا، بل كانت دولة تشو من القوة بحيث صارت تُمثل تهديدًا ملموسًا لباقي الدويلات، وهكذا فلم تدَّخر تلك الأخيرة وسعًا في إعداد العدة للانقضاض عليها.»