سجل تشين الخامس

لمَّا ذهب مبعوث إلى ملك تشين

ذهب مبعوث إلى جلالة الملك «أو» حاكم تشين، وقال له: «لا أدري يا مولاي لماذا تُسيطر عليَّ الظنون بأن جلالتكم تُبطنون ازدراءً خفيًّا لكلٍّ من تشي وتشو، وتنظرون إلى دولة هان نظرتكم إلى الدواب الجاهلة التي لا تكاد تفقَه شيئًا. أما عرفتَ أن الحكيم من لا يغترُّ بالنصر، وأن القوي من لا يجزع إذا أعوزته الوسيلة، فالتواضُع مع النصر يستطيع أن يملك بالحجة أعناق الناس جميعًا، والثبات مع فقدان الوسيلة يمنح المرء طاقةً هائلة على أن يُخضع تحت سلطانه كل ممالك الأرض، ولئن كنتَ جلالتكم قد توخَّيتم سياسةً ودِّية كريمة مع كلٍّ من وي وجاو، فإنكم ما أبقيتم للودِّ طريقًا مع تشي ووقع الجفاء بينكما على إثر ما شمخت به أنوفكم من عزة وفخار بالنصر على أيديكم في موقعة «إيانغ» حتى أهملت ما كان قائمًا من علاقات طيبة مع دولة تشو. وقد جاشت نفوسكم منها بُغضًا وكراهية، ولطالما كان الغرور خسرانًا، والبغضاء قعودًا عن بلوغ أشرف الغايات في مسيرة الدول والممالك العظمى، ولتسمح لي جلالتكم بالقول بأن مثل هذا المسلك لا يليق بفخامتكم، وقد جاء في «كتاب الشعر القديم» ما معناه:

«الكل يعرف كيف يبدأ
بدايات طيبة،
لكنَّ قلِيلين جدًّا هم الذين
يسلكون طريق الخير،
من البدء إلى المُنتهى …»

فمن ثم كان الملوك الأقدمون يَعُدون هذا المبدأ من أهم الأسس التي ينبغي اتباعها في حكم الممالك، وكانوا هم أنفسهم خير مثال للحِرص على النجاح والسداد في مُفتتح أعمالهم وخواتيمها، ولكي نُدرك مغزى هذا المبدأ، فلا بد أن نتناول جانبًا من الأمثلة التاريخية (التي تؤكد صحة ما ذهبت إليه)، ذلك أن «جيبو ياو» كان قد قام، فيما سلف من الزمان، بالقضاء على خصمَيه، «فان جيسن»، و«جونشين»، وتقدم بقواته لحصار بلدة جين يانغ، لكنه مُنِي بهزيمة مخزية، مما جعله موضع سخرية واستهزاء الدول الثلاث: هان، جاو، وي؛ وكاد حاكم دولة «أو» — أثناء زحفه الكبير على تشي — أن يُرغم حاكم «يو» على الابتعاد عن طريقه والفرار إلى تلال «جيشان»، وكان قد انتصر على تشي في موقعة «آيلين»، لكن الأمر المؤسِف هو أنه أصدر تصريحاتٍ عدائية ضد دولة سونغ، أثناء تجميع حشوده في منطقة «هوانشي»، مما أوقع به في أسوأ عاقبة، حتى أنه سقط أسيرًا في يد حاكم «يو» فقتله شر قتلةٍ بمدينة «كانسوي». (وفي مثالٍ آخر) قام الملك «ليانغ هوي» باقتحام أراضي دولة تشو فأوقعها تحت سيطرته ونفذ منها إلى دولة تشي، فقاتل قتالًا شديدًا انتهى بانتصاره، بل تمكن من هزيمة قوات «جاو»، و«هان»، فلما استتب له الأمر، لم يتوانَ عن أن يقود أمراء الدويلات الاثنتي عشرة إلى القصر الإمبراطوري، حيث قاموا بتقديم فروض الولاء للإمبراطور الأعظم ابن السماء (ثم إن كل ما قام به من إنجازات لم تشفع له عندما دبروا له مكيدة) وكان أن اغتِيل ولده غدرًا، بل قد شهد نهايته هو نفسه بعينَي رأسه، عندما اقتادوه وعلى رأسه عمامة (طرطور) إلى محبسه الذي اعتُقل فيه بدولة تشين فهؤلاء الثلاثة: جيبو — فوتشاي — ليانغ هوي — وبرغم ما بذلوا من تفانٍ أو قدموا من تضحيات ومآثر جليلة — لم يسلموا من الوقوع في حبائل ذلك القدر المأساوي والتقدير المعيب الذي قادهم من بدايات طيبة إلى نهايات دامية ومؤسِفة.»

الجزء الثاني من الفصل نفسه

«وها أنت اليوم جلالة الملك، وقد ضربت قلاع مدينة «إيانغ» وخربت حصونها، واستوليتَ على منطقة سانشوان، فأسقطت عرش دولتي جو الغربية والشرقية (وكانت سياستك في هذه الأمور كلها مُوفقة، على درجة من العبقرية والذكاء!) ولم يختلف على نبوغك في هذا الأمر اثنان، (ولم يجد الحكماء النابهون ما يأخذونه عليك)، والآن فقد أصبحت مقاليد السلطة والسطوة على الدويلات جميعها تقع في يدِ دولة تشين التي سارعت إلى تغيير المَعالم الحدودية لكلٍّ من جو الشرقية والغربية، وصارت باقي الإمارات والدويلات تخشى مجرد الاقتراب من السور الذي يفصل بين حدودها وتلكم الدولتَين، ولم تكتفِ تشين بذلك، بل مدَّت نفوذها وسلطانها فوق منطقة «هوانجي» مما عرقل تقدُّم قوات كلٍّ من تشو، وهان، وهكذا (وفي ظل الأوضاع الحالية) فإني أرى أنك لو واصلت خطتك إلى النهاية، يا مولاي، فستُضيف مأساة رابعة جديدة إلى المآسي الثلاث السابقة (فتضع — بذلك — رقمًا جديدًا في خانة الملوك الثلاثة التعساء، واسمًا جديدًا في قائمة الجبابرة الخمسة)، أما إذا بدا لجلالتك الوقوف عند هذا الحد، لتعذَّر إكمال الشوط إلى مُنتهاه، فستجلب على نفسك وعلى بلادك مخاطر وويلاتٍ لا يعلم أحد مداها، ولشدَّ ما أخشى أن ينظر إليك فقهاء الدويلات (الدارسون المُتخصصون في الشئون السياسية) نظرتهم إلى جيبو وفوتشاي (حاكم دولة «أو») أو يظن الناس أنك تترسم خُطى أولئك الحكام الذين اشتُهروا عبر التاريخ بعاجل الانتصار وآجل الهزيمة والانكسار، مما يودي بالأوطان والمواطنين ويُورِد مصائرهم موارد الهلاك. وقد جاء في كتاب «الشعر القديم» ما معناه:

«إن أشق الخطوات جميعًا،
هي التي يقطعها السائر،
في الميل الأخير من مسيرة المائة ميل …»

[حرفيًّا: ما قضيت — حين قضيتَ تسعين ميلًا من طريق المائة ميل — سوى نصف الطريق!]

والمعنى هنا يُشير بوضوح إلى أن آخر الشوط هو أصعب الأشواط جميعًا، ومع ذلك فإن جلالتك تسلك طريقًا وعرًا وها أنت تزهو وتمتلئ ثقة، ولمَّا تكَدْ تمشي سوى خطواتٍ قليلة. ولو سألتني عما أشعر به الآن وأتوقَّعه لقلتُ لجلالتكم إني أميل إلى تصوُّر الأوضاع القائمة بين الممالك والدويلات على النحو التالي: إن كل الدويلات تسيطر عليها فكرة واحدة مؤداها أن كارثة حربية لا بد ستُصيب واحدة من اثنتَين: إما دولة تشو، أو دولة تشين، أما المنطق الذي يكمن خلف هذا التصوُّر فبيانه أن ظواهر الموقف الحالي تُشير إلى أن دولة تشين تقوم بدعم لدولة هان في صراعها مع تشين، ولمَّا كانت القوة العسكرية لدى الدول الأربع هذه تشين، وي، وتشو، وهان متساوية ومتكافئة، فمن الصعب بل المُستحيل أن يتغلب أحد هذه الأطراف على الطرف الآخر، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن دولتي سونغ، وتشي، كانتا تقفان بعيدًا عن مساحات القتال وقد أظهرنا مؤخرًا استعدادهما للمشاركة في خوض هذا الصراع، ومن ثم، نصل إلى استنتاج بأن أول من يحصل على دعم كلٍّ من سونغ وتشي، سيبادر إلى غزو تشين. وإذا افترضنا — مثلًا — إن كانت تشين هي أول من يحصل على دعم ومساندة سونغ وتشي؛ فستضعف كفة هان، وعندئذٍ يتهالك الجدار الذي كانت تستند إليه تشو، فتترنح وتسقط وتنهار قوتها الضاربة، أما إذا حدث العكس، وكانت تشو هي الطرف الفائز بدعم دولة تشي، فسيدب الضعف سريعًا في أوصال وي، وهو ما سيؤدي — بالتالي — إلى أن تقف تشين وحدَها مكتوفة الأيدي وعاجزة عن صد الهجوم المُحتمل، فتتحقق هزيمتها من دون شك. وهكذا، فالسير على هذا المنوال — وكما ذكرت لجلالتكم آنفًا — سيصِل بإحدى الدولتَين تشين أو تشو إلى حالٍ تُثير ازدراء وسخرية الأمم والممالك قاطبة.»

لمَّا احتدم الجدل بين ملك تشين وأحد المنظرين

احتدم الجدل بين ملك تشين و«جونشي» (أحد المنظرين المشهود لهم بالكفاءة في المناظرات السياسية) حول الكثير من المسائل المهمة، فلمَّا لم يستطع الملك أن يغلب الرجل بقوة الحُجة وساطع البرهان، استولى عليه الضيق وجاشت نفسه بالغضب بينما قام جونشي من مجلسه وخرج من أبواب القصر عائدًا إلى بيته، ولكنه أوفد إلى الملك من راح يُطيب خاطره ويُهدي ثائرته قائلًا: «لا عليك يا مولاي، فإنما كنتَ تجادل رجلًا عنيدَ الرأى، شكِس المزاج، لكنه طيِّب الحظ، إذ كان يُجادل العاقل الفطن، ويُحاور النابِه الذكي العقل والفؤاد، أما لو كان القدَر ساقه لمناظرة الجبابرة الطغاة من أمثال «شياجي» (آخِر حكام أسرة «شيا») أو «شانجو» (آخر حُكام أسرة «شانغ»)، لكان من الهالكين!» وبالفعل فقد تأثر الملك بهذا التقدير، ولم يؤاخِذ جونشي بشيء.

لمَّا تحدث شيان تسي إلى الوزير الأعظم

تحدث «شيان تسي» إلى «كونسون» (الوزير الأعظم بدولة تشين) فقال: «أراك الآن قد نلت احترام وتقدير الجميع، وقد تفردت في ذلك دون سائر الوزراء ورجال الدولة، لما سطرته من فعالٍ جليلة وما أحرزته من تقدُّم ورفعة ونجاح، (فما من حربٍ خضتها إلا وأحرزتَ النصر المجيد) ومع ذلك، فلم تترقَّ إلى منصب رئيس الوزراء، ولعمري إنك لأفضل من يتولَّى مثل هذا المنصب، ولا أرى سببًا في حجب الترقية عنك سوى شيءٍ في نفس جلالة الملكة شياون (والدة ملك تشين)، إما لضغينةٍ تُضمرها لك أو بسبب نفور يجعلها تُعرض عن التكرم بالفضل اللائق لمكانتك، ثم إنك أيضًا يجب أن تعرف أن «شين رونغ» — ذلك الرجل الهارب من دولة تشو، والمُقيم في جو الشرقية — قد صار الآن المُقرَّب من جلالتها، ولا أدري ما الذي يمنعك من أن تسعى لدى كلٍّ من دولتَي تشين وتشو أيضًا كي تُرتب له مؤهلات الترقِّي في منصب رئيس وزراء جو الشرقية، وهو الجميل الذي ستردُّه لك تشو بأحسن منه، وستظل تذكر لك هذا الصنيع بكل خير (إذ إنك ستكون قد أوصلت أحد مواطنيها — برغم أي شيءٍ يمكن أن يؤخَذ عليه — إلى هذا المنصب الرفيع) وعندما يُصبح «شين رونغ» رئيسًا لوزراء جو الشرقية بدعم ومساندة الدولتَين القويتَين، فإن جلالة الملكة الأم ستفتح لك ما كان مُغلقًا من أبواب رضاها عليك ومَحبتها لك، وهو الأمر الذي سيؤدي بك لبلوغ منصب رئيس وزراء تشين في المستقبل القريب.»

لمَّا عُقد التحالف بين تشين ووي

تم عقد التحالُف بين تشين ووي، وكان الفضل في ذلك يرجع للمساعي والجهود الطيبة التي بذلها السياسي المُحنك «لوه»، وفكر ملك وي في أن يثبت لدولة تشين حسن نواياه، فقرر أن يرسل إليها ولي عهده، بحيث يبقى مُقيمًا لدى بلاطها الحاكم، بوصفه (رهينة) أو وديعة لضمان استمرار العلاقات الطبيعية بين البلدَين، لكن الوزير الداهية «فنشيانغ» أراد أن يحُول دون تنفيذ هذه الفكرة، فذهب إلى الملكة الأم وقال لها: «تعلَمين أن العلاقات بين البلدَين ليست مُستقرة على النحو الكافي، بل قد يزول السلام وتقع بينهما الضغائن، لمجرد أن ترى إحداهما أن مصلحتها تتطلَّب العمل بمعزل عن الأخرى، وعندئذٍ تتحلَّل تشين من مواثيقها، وتُسقط مكانة ولي عهدنا المُقيم لديها، ويُصبح في نظرها أرذل من روث البهائم.» وهنالك أرسلت الملكة الأم في طلب جلالة الملك وأجلسته بين يدَيها وراحت تبكي بدموعٍ تفجرت في مقلتَيها جزعًا وإشفاقًا، ووقع الملك في حيرة من أمره حيال هذا الموضوع وداخَلَه الشك بخصوص إرسال ولده ضمانًا للسِّلم بين البلدَين المُحالفين.

وتصادف في تلك الأثناء أن كان «جاويان» موفدًا من قبل بلاط جو، في جولةٍ رسمية استطلاعية يزور خلالها عدة عواصم، فلمَّا نزل ضيفًا على ملك وي في عاصمة بلاده «داليان» والتقى بالسياسي الكبير «لوه» الذي أخبره بتردُّد الملك في إرسال ولي عهده إلى وي … إلخ، وذهب المبعوث للقاء الملك، فابتدره بالسؤال عما وصل إلى عِلمه من أخبار وما يراه من تقديرات وتحليلات للأوضاع السائدة، فأجابه «جاويان» قائلًا: «بلغني أن دولة تشين تعتزم مهاجمة وي.» فقال له الملك: «لكني كنتُ قد حددتُ مع ملك تشين موعدًا لإرسال ولي عهدنا للإقامة الدائمة لدَيه، ضمانًا لاستقرار الأوضاع بين بلدَينا!» فأجابه بقوله: «إن ملك تشين تُساوره الشكوك حول وفاء جلالتكم بالمواثيق والاتفاقات المُبرمة معه، وذلك بسبب ما بَدَا من تردُّدكم في إرسال ولي العهد للإقامة في تشين، وقد بلغَني ممَّن يعرفون خفايا الأمور هناك أن الملك — حاكم تشين — راح يتدبر أمره ويفكر بصوتٍ عالٍ وهو يقول: «إن وي لن تفي بعهدها معي، ولا بد أنها تستعد للهجوم علينا، فهل سأجلس هكذا مكتوف اليدين؟ كلَّا، بل سأُبادر إلى شن الهجوم عليها قبل أن تسعى هي لمُلاقاتي.» أما الآن وقد استخدمت تشين نفوذها في إجراء مفاوضات التحالف على عكس ما تذهب إليه النوايا الأصلية، فأخشى أنها تُفكر في تحقيق أهدافها، لكن بطرق جانبية تبدأ بالالتفاف حول جو الشرقية.»

لمَّا كان التاجر ليو بوي يتجول

كان التاجر «ليو بوي» — أحد مواطني مدينة «بويانغ» — عاصمة دولة «ويه» يتجول في أنحاء «هاندان» عاصمة دولة جاو لأغراضٍ تتعلق بنشاطه في تجارة البضائع، ثم إنه التقى مصادفة بالأمير «إيرين» المُوفَد من قِبَل تشين إلى جاو بوصفه رهينةً لضمان استقرار السلام بين البلدَين، فلمَّا عاد ليو بوي من سفره، ذهب على الفور إلى والده وسأله: «كم ضعفًا تُغل الأرض المزروعة في موسم الحصاد؟» فأجابه: «عشرة أضعاف»، وسأله ليو بوي ثانية: «وكم ضِعفًا تربح التجارة في المجوهرات؟» أجابه: «مائة ضعف ويزيد.» وسأل الرجل أباه للمرة الثالثة: «وكم ضعفًا يربح التاجر الذي يستثمر رأس ماله في القيام على تنشئة سيد البلاد وحاكم الممالك؟» فرد عليه قائلًا: «يربح ما لا يُعَد ولا يُحصى.» فقال الرجل: «قد نظرتُ ورأيت الناس تزرع الأرض ثم لا تجد ما يسدُّ رمقَها، وتشقى شقاء السخرة، فتتعرى الأبدان وتحفى الأقدام وليس من خلاص، فظننتُ أني لو قمتُ على رعاية وتنشئة رجل فاضل، يؤسس لنا وطنًا كريمًا وبلدًا طيبًا، لربحتُ نعيمًا وسؤددًا وشرفًا تتوارثه الأجيال أبد الآبدين، بل إني عزمت على ذلك وسأشرع منذ اللحظة في التنفيذ.» وكان الأمير إيرين قد تحددت إقامته بوصفه رهينة لضمان الاستقرار — كما سبق ذكره — وتقرر أن يقيم بمدينة «لياو» من أعمال دولة جاو، فأما التاجر ليو بوي فإنه توجَّه إلى مقر إقامة الأمير وفي ذهنه خطة يريد لها النجاح، ومن ثم قال لسموِّه عندما التقى به: «أما عرفت أن أخاك الأمير «زيشي» (أخوه من الأم) قد تهيأت له أسباب القيام بأعباء الحكم بما توفَّر له من دربة وخبرة، وما حظي به من دعم الملكة الأم (أي جدة الإمبراطور) دون أن يكون لك شيء من ذلك، بل لا تجد حولك سوى عدوٍّ يستريب أمرك، ذلك أنه لا تسلم العاقبة من اشتعال الفتنة بين تشين وجاو، فيسقط ميثاق السلام ويسقط معه كيانك واعتبارك كله، فاسمع مني واتبع قولي، لأني قد أعددتُ لك خطة سديدة وليس عليك إلا أن تطلب العودة إلى وطنك، وسأتولى أنا بنفسي تمكينك من السيطرة على زمام الحكم هناك، ولسوف أبدأ الآن في ترتيب الأمور التي تفي بنجاح هذا المسعى، وإني لذاهب فورًا إلى تشين، كي أقنع جلالة الملك بالعمل على إعادتك في أسرع وقت ممكن.»

وتوجَّه ليو بوي للقاء الأخ الأصغر للملكة الأم (النبيل «يانغ شوانجون») وتحدث معه بأمل إقناعة بخطته المرسومة قائلًا: «لقد أخطأت يا سيدي خطأ جسيمًا إذ آثرت نفسك بعددٍ هائل من المُساعدين الذين لا تقل مرتبة أدنى واحدٍ منهم عن أرفع درجة وظيفية، هذا بينما لا يجد أمير البلاد مثل هذه الميزة، فلا أعوان له ولا نصير، وليس له مثل خزائنك المُترعة بأثمن المجوهرات واللآلئ، ولا له ساحة قصرك المليئة بالجياد المُطهمة، ولا تملك يَمينه مثلك عشرات الجواري، وأنت تعرف تمام المعرفة أن جلالة الملك قد بلغ الآن من العمر عتيًّا، وقد تَحِينُ مَنيَّته في أي ساعة، وعندئذٍ سيتولى الأمير زمام الحكم وينهار حصنك الحصين مثلما تنهار أكوام البَيض المُتراكِم إذا ثقلت واختل كيانها، ويزول بهاؤك كما تزول سحابة عابرة، ولديَّ خطة لعلك توافِقني عليها، إذ تُبقي عليك مكانتك وتحفظ عزك ومجدك إلى آخر الدهر، وهي خطة ثابتة الأركان راسخة رسوخ الجبال الرواسي آمنة، تجلو عن صفحة آمالك كل شقاء وكدَر.» وعند هذا الحد من كلام ليو بوي، قام واقفًا يانغ شوانجون واتَّجه ناحيته ثم انحنى أمامه طالبًا إليه مزيد النصح والإرشاد، فواصَلَ الرجل كلامَه قائلًا: «لعلك تُلاحظ أن جلالة الملك قد شاخ وأزِفَت ساعة رحيله عن دُنيانا، وليس للملكة الأم أولاد ذكور يرِثون العرش الحاكم، وها هو ذا «زيشي» قد سيطر على كل سلطةٍ نافذة في البلاد يؤازِره في ذلك الوزير «سيشانغ» على أساس أن يجلس «زيشي» على العرش فور وفاة الملك، ويتولى «سيشانغ» إدارة الحكم، وهذا معناه أن يسقط كل اعتبار وهيبة لجناح الملكة الأم، وأن تغلق دونها الأبواب وتتحوَّل عنها الأعتاب، في حين تلقِي بالأمير إيرين — وهو الكريم الشريف — في غياهب دولة جاو رهينة لضمان سلام ضائع، يجلس هناك بين أربعة جدران، فلا مؤنس لوحشته، ولا مُفرِّج لكربه، لا يملك سوى أملِه في العودة إلى بلاده، ولئن صدقت الملكة الأم في زعمها بأنها كانت تتمنَّى أن يقوم جلالة الملك بتنصيب الأمير إيرين خلفًا له على عرش البلاد، فقد جاءتها الفرصة كي تردَّ البيت إلى صاحبه وتكسب — بالتبنِّي — ولدًا، تَقَرُّ به عينُها وتدفع به عنها عثرات المقادير.» وهتف يانغ شانجون من فوره قائلًا: «صدقت، فهذا هو الرأي الصائب!» وذهب إلى غرفة الملكة حيث أشار عليها بما سمِعه، فأخذت بالمشورة وأسرعت تطلب من دولة جاو السماح للأمير إيرين بالعودة إلى وطنه.

وظل ليو بوي يسعى في إتمام خطته، فذهب إلى ملك جاو، والتقى به في قصره وراح يحثه على الإسراع بإعادة إيرين إلى بلاده قائلًا: «تعلم، جلالتك أن الأمير إيرين هو أحب الأبناء إلى قلب ملك تشين، وبرغم أنه يتيم الأم إلا أن جلالة الملكة — والدة حاكم تشين — تعدُّه كابنها، بل إنها تفكر الآن في استعادته كي تتبنَّاه رسميًّا، ولا بد أن جلالتك تعي جيدًا أن وجود الأمير على أرضك لن يمنع تشين من إعلان الحرب عليك إذا ما بدا لها ذلك، وساعتئذٍ لن يُجديك نفعًا وجود الأمير الرهينة بين يدَيك، لأنه سيُصبح رهانًا خاسرًا، أما إذا سمحت الآن بالعودة إلى بلاده مُعززًا مكرمًا، وأرسلت في إثره سفارة تحمل الهدايا الكريمة فستقرُّ عين الأمير ويترسخ في نفسه الشعور بالامتنان لدولة جاو، وربما يرد على الفضل في قادم الأيام بما هو أعظم وأكرم، وبما أن الملك قد تقدَّمت به السن كثيرًا واعتلَّت صحته، وأوشك على الاحتضار، فإن بقاء الأمير إيرين في دولة جاو لن يُفيد في شيء.»

وهكذا اقتنع حاكم جاو بهذا التصوُّر وأصدر أوامره بإعادة الأمير إلى بلاده.

الجزء الثاني من الفصل نفسه

فلمَّا عاد إيرين إلى تشين (موطنه ومسقط رأسه)، استقبله «ليو بوي» بترحاب بالغ، وطلب إليه أن يرتدي الزي التقليدي الذي يرتديه مواطنو دولة تشو ثم يقصد إلى مقابلة جلالة الملكة الأم وهو في ردائه هذا، فما إن رأته الملكة حتى تهلَّلت أساريرها وغمرتها السعادة، وأدركت مدى ما يتمتع به الأمير من ذكاء ولياقة وحُسن تقدير وأدبٍ جم، فابتدرته قائلة: «لم أكن أدري أنك تعرف أن تشو هي مسقط رأسي وموطني الأول!» وأصدرت جلالتها قرارًا بأن تتم معاملة الأمير كواحدٍ من أبنائها، ومنحته بهذا الاعتبار اسمًا جديدًا هو «تشو»، فلمَّا مثلَ بين يدي جلالة الملك الأعظم، حاكم تشين، أراد أن يختبر سعة اطلاعه، فطلب إليه أن يقرأ له شيئًا من الكتب المقدسة القديمة، فتردَّد الأمير قليلًا وأجابه: «قد قضيتُ صباي مرتحلًا شريدًا في الآفاق، دون أن يقرَّ لي قرار، فلم أتمكن من المواظبة على الدرس والتعلُّم، ولم يكن لي من أتلقَّى على يدَيه العلم، فلم تتهيَّأ لي فرصة مُطالعة الكُتب المقدسة.» وهنالك تحول عنه الملك وانصرف إلى باقي شئونه، لكن الأمير ظلَّ واقفًا مكانه، لا يبرحه، وبعد فترة من الوقت تحدث ثانية إلى الملك قائلًا: «لم أكن أنا وحدي الذي قضى شطرًا من حياته في بلاد جاو، بل إنك أنت يا مولاي كنت قد مررتَ في طريق ترحالك بتلك البلاد، وتعرفتَ فيها على أحسن الرجال ممن لا يزالون يعرفون قدْرك ومكانتك، وبرغم أنك عدتَ إلى موطنك، فإنهم ما زالوا يذكرونك هناك، بل يتطلَّعون إلى أن تشملهم بعنايتك، لكنك أغضيتَ عنهم ولم تشأ أن تُرسل إليهم سفارة من ذوي ثقتك يُكلمونهم ويُوطِّدون صِلتهم بك، وهكذا، نشطت مكامن القلق والوساوس في أعماق نفوسهم، وإن شئتَ أن أقترح عليك شيئًا في هذا الصدد، فإني أرى أن تقوم بتشديد المُراقَبة على نقاط التفتيش بين البلدَين وزيادة الانتباه والحذَر.» وتأمَّل الملك كلام الأمير، فوجده مُتسقًا مع منطق الأمور، فأعجب برجاحة عقله، وسلامة استنتاجه، ودقَّة ملاحظته، وراحت الملكة الأم تُحاول أن تقنع الملك بتنصيب الأمير خلفًا له في الحكم، وبالفعل فقد أمر الملك بعقد اجتماعٍ طارئ لكل رجال الدولة، حيث أصدر أمام الجميع قرارًا جاء فيه: «لما كان ولَدُنا الشرعي لا يملك ما يتفوق به على الأمير إيرين من جدارةٍ واستحقاق مواريث الحُكم الملكي، فقد قرَّرنا تنصيب إيرين الأمير خلفًا لنا على عرش البلاد.»

وقد تحقق فيما بعد أن تولى الأمير «تشو» الحكم في تشين، وأصبح ليو بوي وزيرًا أعظم في حكومة جلالة الملك ومُنح لقبًا رفيعًا باسم «شين أونهو»، وأقطعه الملك منطقة «لانتيان» بالإضافة إلى اثنتي عشرة محلة أخرى، كما تكرم جلالته على الملكة الأم بمنحها اللقب الإمبراطوري الرفيع «هوايانغ» (= شمس الممالك الساطعة)، وأقبلت الدويلات التابعة للبلاط الحاكم، تؤكِّد ولاءها وتتبرَّع للملك بمساحاتٍ هائلة من الأراضي تعبيرًا عن الولاء الكامل وحُسن النوايا.

لمَّا وضع شين أونهو خطة الهجوم على جاو

كان شين أونهو يدبر خطة للهجوم على جاو بهدف ضم المزيد من الأراضي وتوسيع مساحة الرقعة المُحيطة بمنطقة «هاجيان»، ومن ثم فقد أوفد تسايزي (الذي نال فيما بعد أعظم الألقاب الفخرية) إلى دولة يان، ليضع نفسه تحت تصرُّف المسئولين هناك مدة ثلاث سنوات، تأكيدًا لمعنى الصداقة بين البلدَين، وأرسلت دولة يان إلى دولة تشين الأمير «دان» رهينةً لضمان السلام، مقابل أن يرسل إليها أونهو وزيره الأعظم «جانتان»؛ ليعمل في أحد المناصب الوزارية هناك، وذلك كله تمهيدًا للاتفاق مع «يان» على التحالف مع تشين للهجوم على دولة جاو، إلا أن جانتان تقدَّم بالاعتذار عن تنفيذ المهمة الموكولة إليه قائلًا: «إن طريق السفر إلى دولة يان سيمر حتمًا بدولة جاو، فماذا لو أُلقي القبض عليَّ أثناء الطريق وأُودِعتُ السجن هناك، ألا يصير مدعاة لأن تطالب يان بفدية مقدارها مائة ميل مربع من الأراضي، ويتم التنازل عنها طواعيةً للإفراج عني؟» وعندما انتهى اللقاء بين الرجُلَين، وعاد أونهو إلى شئونه اليومية، وقد بلغ به الاستياء أقصاه، فالتقى في بعض الطريق بكل من «شاوشوس» (مسئول عظيم، مساعد أونهو) وكانلو (وزير تربطه صلة قرابة ﺑ «أونهو») فابتدراه بالسؤال عما يُغضبه على هذا النحو، فأجابهما بقوله: «كنتُ أوفدت «تسايزي» إلى دولة يان رمزًا للصداقة بين بلدَينا، فمكث هناك ثلاث سنوات، ثم جاءنا الأمير دان ليُقيم عندنا رهينةً لضمان السلام، واليوم التقيتُ بالوزير جانتان، وطلبتُ إليه بنفسي أن يذهب إلى يان للقيام بالخدمات الوزارية الودية، فإذا به يعتذِر عن القيام بالمهمة.» فرد عليه كانلو قائلًا: «اترك لي هذا الموضوع إذن، وسأقوم أنا بإقناع «جانتان» بالذهاب إلى هناك.» فزاد استياء أونهو، واكفهر وجهه، واحمرَّت عيناه من الغضب وهو يزجُر مُحدثه قائلًا: «قد رجوتُه مرارًا، فلم يستجِب لي، فكيف تستطيع أنت إقناعه؟!» فأجابه هذا بقوله: «(أما سمعت ما تقوله الحكايات من) أن «شيانتو» كان يستطيع وهو دون الثامنة من عمره أن يكون مُعلمًا لكونفوشيوس نفسه، فما بالك وقد بلغت سنِّي اثنَي عشر عامًا! دع عنك هذا الأمر، وسأحاول إثناءه عن قراره، فلا داعي بعد الآن أن تصرخ في وجهي هكذا.»

وحدث أن التقى كانلو ﺑ «جانتيان»، فبادره بسؤاله: «تُرى أيكما أكثر مجدًا وأعم فضلًا ومأثرة؛ أنت أم «بايتشي»؟ فأجابه جانتيان بقوله: «إن مآثر بايتشي البطولية وانتصاراته الباهرة في المعارك لا تُعَد ولا تُحصى، وليس في صفحة إنجازاتي ما يؤهِّلني أن أُحاذيه مجدًا وعبقرية، فأنا دونه بدرجات، فسأله كانلو: «فهل ذلك أنك تقرُّ صراحة بأنك لستَ ندًّا له؟» فأومأ جانتيان بالإيجاب، وعاد كانلو يسأله ثانية: «تُرى أي الرجلَين أكثر قدرةً على إدارة شئون البلاد؛ «إينخو» (اللقب الشهير للوزير فان سوي) عندما كان يتولَّى السلطة في دولة تشين أم أونهو؟» فأجابه قائلًا: «أونهو أقدَر منه كثيرًا.» فرد كانلو بقوله: «حاول فان سوي منذ زمان غير بعيدٍ أن يُهاجم دولة جاو فعارَضه بايتشي في هذا القرار، وعلى مبعدةٍ من بلدة «شين يانغ» (مسافة سبعة أميال)، قام فان سوي بالقبض على بايتشي وقتله شنقًا، واليوم يطلب أونهو منك، بل يرجوك أن تسافر إلى دولة يان لتتولَّى المهام الوزارية (ضمن المبادلات السلمية بين البلدَين)، ومع ذلك فأنت ترفض تحقيق هذا الطلب، وبالتالي فأنت مقتول لا محالة، إلا أن أحدًا لا يدري في أي أرضٍ تموت!» وعندئذٍ قال جانتان: «فأعنِّي إذن على الذهاب إلى دولة «يان»!» فما كان من كانلو إلا أن أصدر أوامره بإعداد العربات الحربية وإسراج الخيول وصرف النفقات اللازمة من خزينة الدولة وكان جانتان، في تلك الأثناء، قد انطلق في طريق ترحاله، وذهب كانلو إلى أونهو، وقال له: «أعِرْني عربتَين حربيتَين، واسمح لي بالسفر إلى جاو، على أن أسبقه إلى هناك وأقوم بإعداد الترتيبات اللازمة، وأُهيِّئ له الظروف المناسبة لاستقباله.»

وسافر كانلو للقاء ملك جاو الذي استقبله على مشارف العاصمة، وكان أن قال لصاحب الجلالة: «هل بلغك يا مولاي أن الأمير دان — ابن حاكم دولة يان — قد انتقل للإقامة في تشين؟» فلما ردَّ عليه الملك بالإيجاب، وعاد يسأله «هل صحيح أن جانتان سيتولَّى أحد المناصب الوزارية المُهمة في دولة يان؟» فأجابه الملك: «بلغني شيءٌ من هذا القبيل.» فقال كانلو: «إذا ثبت أن أمير دولة يان ذاهب إلى تشين ليُقيم بها رهينة لضمان السلام، فمعنى هذا أنه ليس في نيَّة يان الغدر بتشين، وكذلك إيفاد جانتيان للقيام بإحدى المهام الوزارية في يان، فيدل على أن تشين لا تفكر أبدًا في التأليب عليها، فإذا ما اجتمع البلدان حول اتفاق مُتبادل يقوم على تجنُّب ما مِن شأنه تعكير صفو العلاقات بينهما، صار المُستفاد من هذا كله أن دولة جاو قد أضحت عرضةً للخطر الداهم باعتبار أن الدافع الأساسي وراء قيام الاتفاق الودي بين يان وتشين هو القيام بضربة مُشتركة ضدَّ دولة جاو، بهدف ضم المزيد من الأراضي بمنطقة «هاجيان»، والآن فإني أقترح على جلالتكم إعطائي خمس محلَّات كبرى لتوسيع نطاق هاجيان، وسأتولى بنفسي إقناع حاكم تشين بإعادة الأمير دان إلى بلاده (دولة يان) على أن يتحالف معكم وأنتم الدولة القوية لضرب دولة يان (الضعيفة المنهارة، أصلًا!)» وعلى الفور أصدر الملك أوامره باقتطاع خمسة البنادر المحيطة بمنطقة هاجيان من مساحة جاو، وذلك لتوسيع نطاق الإقليم المشار إليه وفي إثر ذلك قامت دولة تشين بإعادة الأمير دان إلى وطنه مما مهَّد لقيام جاو بغزو دولة يان واقتطاع إقليم «شانكو» من أراضيها واقتسامه مع تشين (حيث حصلت تشين على ما مِقداره عشر مساحة الإقليم البالغ عدد أقسامه ستة وثلاثين قطاعًا!)

لمَّا طُرِد أونهو من دولة تشين

لمَّا أُقصِي أونهو عن دولة تشين، قام صاحبه «صيكون» وركب فرسه هاربًا الى دولة جاو؛ حيث صُرِّح له بالإقامة والعمل في وظيفةٍ حكومية عادية، بغير نفوذ قوي أو مرتبة رفيعة، وفي تلك الأثناء كانت تشين تُصدر الأوامر لقواتها بالاستعداد لمهاجمة دولة جاو.

وذهب صيكون للقاء حاكم جاو، وقال له: «كنتُ أعمل مساعدًا ﻟ «أونهو» عندما كان رئيسًا لوزراء تشين، وبحكم عملي، فقد أحطتُ علمًا بأحوال وقضايا ودخائل الأمور هناك، ورغم أني أتقلَّد وظيفةً شرَفية في بلادكم دون سلطةٍ أو مكانة تُتيح لي الاطلاع الكافي على التفاصيل الدقيقة للأوضاع من حولي، إلا أني استطعتُ أن أستشفَّ الكثير من طبيعة ما هو قائم، لذلك أرجو من جلالتكم السماح لي بتقييم أحوال الحرب بين تشين وبلدكم على نحوٍ مقارن، وسأترك لكم في النهاية تقدير احتمالات النصر أو الهزيمة، على كِلا الجانبَين، واسمح لي يا جلالة الملك، أولًا، أن أسألك عمَّن تظنُّه الأكثر قوةً بشكل عام؛ تشين أم جاو؟» فأجاب حاكم جاو: «ليست بلدنا في قوة تشين.» فسأله صيكون: «فأي البلدَين أكثر عددًا وعتادًا؟» فأجابه: «إن جاو لا تكاد تُقارَن (في هذا المجال) بدولة تشين ذات العدد الوفير من السكان.» وراح صيكون يُلاحقه بسؤاله: «فإذا عقدنا مقارنةً بين البلدَين من ناحية الوفرة المالية والزراعية، فأي البلدَين يحظى بالقدر الأوفى فيهما؟» فأجاب الملك: «أعرف أن جاو ليست من ذلك في شيءٍ يستحق المقارنة.» فسأله: «فأي البلدين — إذن — أكثر استقرارًا ورخاءً؟» فأجابه: «ليس من يفوق تشين في ذلك.»، «وأي رجال الحكم في البلدَين أرجح حكمةً وأوفر ذكاءً واقتدارًا؟» «لا أحد يعدِل رجال تشين حكمةً ونجابة.» «فأي رجال البلدَين أشد صبرًا على القتال، وأدهى وأشجع في المعارك؟» «يؤسِفني أن جاو لا تكسب كثيرًا في هذه النقطة.» «وأي البلدَين أكثر التزامًا بالتشريعات، وأشدُّ ضبطًا وصرامة فيما يتصل بالقوانين واللوائح؟» «إن جاو دون تشين كثيرًا في هذه الناحية.» وهنالك قال صيكون للملك: «ما دام الأمر على هذا النحو، فلا مَعدى عن الإقرار بأن بلدكم يُقصِّر في كثيرٍ من الأمور عن اللحاق بمستوى تشين، وهو ما يشير إلى أن جاو ستَبيد عن آخرها [في حال الاقتتال مع تشين].» فردَّ عليه الملك بقوله: «لئن كنتَ قد وجدتَ بلدنا قريبًا إليك حتى قدمتَ إليه، فلا أظنُّك تبخل علينا باتخاذ ما هو لازم من سياسات وتوصيات مُفيدة، وسنبذل من جانبنا كل جهدٍ ممكن للأخذ بما تراه من خططٍ وتقديرات.» فأسرع صيكون يقول له: «تستطيع يا جلالتك أن تمنح دولة تشين قطاعًا هائلًا من أراضي جاو، تتقرَّب بها إلى ملك تشين؛ فيُغمد عنك سيفه ويُعفيك من ويلات حربه، ولا بدَّ أنه سيسعد بذلك كثيرًا، لأنه لا يُريد أن يجد نفسه في مواجهةٍ مع قوات حرس الحدود لديكم والتي يَخشى بأسُها، مثلما يَخشى احتمال قيام الدويلات والإمارات بإمدادكم بالرجال والعتاد؛ ولذلك فسوف يُسارع بسحب قواته فور استلامه الأرض المُتنازل عنها، وبالطبع ستستطيع دولة جاو أن تبقى، وأن تحفظ وجودها وكيانها فوق الباقي من أراضيها، بينما يتعاظم شعور تشين بالقوة بعد استلامها مساحة الأرض الهائلة من جانبكم، وعلى إثر ذلك يقع الفزع والرُّعب في قلب الدويلات والممالك الواقعة بمنطقة شاندونغ، وكذلك باقي الممالك الصغيرة التي سيَنتابها الفزع من أن تفقد أراضيها على النحو الذي تعرَّضت له جاو على يد تشين، وعندئذٍ يُصبح الخوف هو القاعدة المشتركة التي يجتمع فوقها مَطلب الدول للأمان والاحتماء من الخطر، ومن ثم تتساند جميعًا، وتتحقق فكرة التحالُف بين الدويلات التي تقع إلى الشرق من تشين [حسبَ تصوُّرٍ سياسيٍّ قديم يُسمَّى بالتحالف الأفقي/الرأسي بين الدويلات؛ وهو التحالف بين مجموعتَين من الدول، إحداهما في صف تشين والأخرى ضدَّها] وهكذا، فإني أنتهز هذه الفرصة كي أقترح على جلالتكم، بل أرجو جنابكم الأفخم، أن تدخلوا في تحالف الدويلات الست [وهي تلك الدويلات الواقعة على المحور الأفقي] فإذا تم مثل هذا التحالف، صار في مقدوركم الصمود في وجه تهديدات تشين بفضل ما يتوفر لكم من دعم ومساندة الدويلات الستِّ بمنطقة شاندونغ، وهو ما يُمثل تعويضًا عادلًا للأراضي التي تنازلتُم عنها ﻟ «تشين»؛ لأنكم بهذا تكونون قد خسرتم — في ظاهر الأمر — نصف أرض، وكسبتم — في الحقيقة — ما هو أكثر من الدعم والعون والمؤازرة، مما يُمكِّنكم من الوقوف بقوة في وجهِ تشين التي لن تملك أن تصمد طويلًا في وجه قوى مُتعدِّدة.» وهنا قال له الملك: «لمَّا كنا قد تعرَّضنا منذ عدة أيام لغزوٍ عسكري من جانب تشين، فقد تنازلنا لها عما مقداره اثنتا عشرة مدينةً صغيرة، أملًا في إثنائها عن مشروعاتها التوسُّعية، وكان من جرَّاء ذلك أن خسِرنا الأراضي، ووهنت قوتنا العسكرية، وبرغم ذلك؛ بقِيَ خطر تشين يَتهدَّدنا في كل حين، واليوم نجد أنفسنا مُطالَبين بالتنازل عن نصف أراضي البلاد لصالِح توسُّعات تشين وزيادة مساحتها؛ مما سيؤدي إلى زيادة نفوذها وتقوية مركزها السياسي، وسط الممالك، وبعدئذٍ فلن يبقى لنا وجود؛ بل يجتاحنا العدم، ويَطوينا الهلاك؛ فلذلك لا أستطيع أن أقبل اقتراحاتك هذه، بل أطلب منك تقديم تصوُّرات أخرى مختلفة؛ للخروج من كبوتنا.» فردَّ عليه صيكون قائلًا: «كنت وأنا في صدر شبابي قد تقلَّدت وظيفة كبير المُستشارين في بلاط آﻟ «تشين»، وكانت لي سلطة نافذة تُعادل أقوى السلطات في الإدارات الملكية الكبرى، وهذا ما يُشجعني على أن أتقدَّم لجلالتكم راجيًا السماح لي بالعمل مُستشارًا حربيًّا باسمِكم؛ على أن تصير من سُلطتي الإدارة الكاملة للعمليات الحربية وسير المعارك بين جاو وتشين.»

لكن الملك لم يُوافق على تقليده زمام القيادة، فاضطر صيكون آخِر الأمر أن يقول لجلالته: «بما أني لم أجد لدى جلالتكم قبولًا لخطَّتي المُتواضعة، فلن يُمكنني تقديم ما هو أفضل لرفعة شأن سلطانكم وسط الممالك، فليس إلا أن أطلب السماح لي بمغادرة البلاد.»

الجزء الثاني من الفصل نفسه

وغادر صيكون دولة جاو، ومضى في طريقه، عبر منطقة «بينوان» وعلم بقدومه محافظ الإقليم «كوي» فخفَّ لاستقباله، فلمَّا التقى به حيَّاه وكلَّمه بما يشرح فؤاده ويُزيل عنه كدَر خاطره، ثم سأله قائلًا: «كنتُ قد علمتُ أن تشين قامت بغزو جاو، ثم قيل لي إن هناك ضيفًا كبيرًا قادمًا إلينا من جاو، لم أكن أعرف أنك أنت ذاك الضيف، فهلمَّ إليَّ وقصَّ عليَّ أخبار تلك الحرب.» فحكى له صيكون عن خطورة الأحوال ودقة الظروف التي تمرُّ بها جاو وخطورة الموقف، واحتمال سقوط البلاد الوشيك، خصوصًا بعد اعتراض الملك على الأخذ بخطَّته لردِّ العدوان. فسأله المُحافظ: «ومتى سيدي الكريم، يمكن أن يحدث هذا السقوط، في تقديركم؟» فأجابه: «لو تولَّى القيادة العامة، القائد العسكري المُحنَّك «ليمو» فسيستغرق الأمر عامًا كاملًا حتى تسقط البلاد، أما إذا اغتيل هذا القائد فلن يمرَّ نصف العام حتى ينهار كل شيءٍ في جاو؛ وقد لاحظتُ أن هناك واحدًا من الوزراء اسمه «هانسانغ» يُجيد التزلُّف إلى الملك ويُحاول التقرُّب إليه مستخدمًا أخسَّ الوسائل؛ فهو يُثير الشك في نفسه حول رجاله المُخلصين، ويزيح من طريقه الأكفاء والنابهين، فاذا أصغي جلالته إلى مزاعم وافترءات هذا اﻟ «هانسانغ»، في ظرفٍ عصيب تمرُّ به البلاد، فلا بد أن القائد العسكري مُلاقٍ حتفَه.»

وبالفعل، فقد راح هانسانغ يوغِر صدر الملك ضد قائد جيوشه «ليمو» بما يُشيعه عنه من افتراءات وادعاءات كاذبة، حتى عزله الملك عن القيادة، فلمَّا ذهب إلى القصر ومثل بين يدي الملك، قام هانسانغ واقفًا وتلا عليه الأمر الملكي بمُعاقبته لارتكاربه جريمة شنعاء؛ ذلك أنه:

«… لما كان حاضرًا بالقصر الملكي أثناء أحد الاحتفالات الملكية، قدَّم إليه جلالة الملك كأسًا من الخمر على سبيل التحية، فلما جثا على ركبتَيه امتنانًا وشكرًا للذات الملكية، إذا به يُشير ناحية الملك وهو مُمسك بخنجرٍ في قبضة يده؛ مما يُعَد جريمة يُعاقب عليها بتوقيع أقصى العقوبة، وهي الإعدام.» وهنالك أجابه القائد: «كنتُ مُصابًا بإعاقة في ذراعي الأيمن، وتعذَّر عليَّ أن أبسطه بصورة طبيعية؛ وبسبب ضخامة جسمي وطول قامتي فإن إعاقة ذراعي تبدو واضحةً للعيان؛ مما يُسبب لي حرجًا بالغًا، خاصة عندما أجثو ساجدًا لتحية الملك؛ حيث لا أستطيع أن ألمس الأرض بكلتا يديَّ فأتحرَّج أن يظنَّ جلالته بي سوء الأدب؛ فلهذا طلبت أن تُصنع لي قطعة من الخشب على هيئة كفٍّ مضمومة أُلصقها بساعدي وأتكئ عليها ساجدًا للملك، فإذا لم يُصدِّقني جلالته فها أنا ذا أخلعها كي تحملها إليه ليفحصها بنفسه.» ثم إنه فكَّ الرباط عن الكف الخشبي، وخلعها من مكانها، وأراها ﻟ «هانسانغ»؛ فتطلَّع إليها فإذا هي تُشبه مزلاجًا خشبيًّا مُزودًا بمفاصل حديدية وخيوط مدلَّاة مرتبطة بالذراع القصيرة، وعاد مُحدِّثه يقول له: «أرجوك أن تذهب بهذه الأشياء إلى القصر لتُطلع جلالة الملك على حقيقة الموضوع بنفسك.» فأجابه هانسانغ: «بل قد صدر لي الأمر من جلالته بإنفاذ حكم الإعدام، وليس لي العدول عن تنفيذ ما أُمِرت به ولا أجرؤ أن أنقل عنك إلى الملك أي شيءٍ مما تقول!» فما كان من ليمو، وقد شعر أن منيَّته قد أزفت، إلا أن نظر تجاه الجانب الشمالي (حيث موقع العرش الملكي!) وركع مرتَين إجلالًا لمليكه وخضوعًا لإرادته، واستلَّ سيفه ليقتُل نفسه بيدِه، ثم استدرك قائلًا: «لا يصحُّ لمن تولى منصبًا وزاريًّا أن يقتل نفسه داخل أروقة القصر.» ثم إنه خرج من دهليزٍ قريب وأسرع الخُطى ناحية باب الغابة، ورفع السيف بيدِه اليُمنى ليهوي به على رقبته، فلمَّا لم تُطاوعه يده بسبب الإعاقة المذكورة، أمسك المِقبض بيده السليمة، وأدخل طرف السيف في فمه ثم اندفع بثقل جسده ليرتطم طرف السيف بأحد الأعمدة الحجرية القريبة، فاندفعت ذبابة السيف إلى حلقه وخرجت من قفاه فسقط ميتًا في الحال، ولم تكد تمضي على ذلك خمسة أشهر حتى بادت دولة جاو، وسقط ذِكرها بين الذاكرين.

وصار محافظ إقليم بينوان — من بعد ذلك — يذكر تلك الوقائع أمام ضيوفه، ويتكلَّم عن صيكون بنبرةٍ ملؤها الحسرة والأسى لما أصاب ذلك الرجل الفاضل الحكيم، وكان يرى أن هروبه من تشين لم يكن عن سوء تقدير، ولا خروجه من دولة جاو خذلانًا للحق أو نكرانًا للجميل، ولئن كان ملك جاو قد سمح له بالرحيل؛ فقد كان ذلك وبالًا على البلاد، ولم يكن ضياع الملك فيها وسقوط عرشها وهلاك أهلها بسبب ندرة الأماجد الكرماء النابهين من أبنائها، بل بسبب تجاهُلهم وإغفال أهميتهم والتنكُّر لدورهم.

لمَّا تحالفت الدول الأربع للهجوم على تشين

تحالفت الدول الأربع (تشو، أو، يان، داي) واستعدَّت لغزو تشين، فدعا ملكها الوزراء جميعًا بالإضافة إلى ستِّين من الشخصيات العامة لحضور اجتماعٍ عام، وقال للجميع أثناء لقائه بهم: «تعلمون جميعًا أن الدول الأربع قد اتَّحدت تحت راية التآمُر والحرب ضدَّنا، وسط ظروفٍ بالغة الدقة والخطورة، إذ ينقصنا الكثير من الموارد المالية والبشرية، خاصة، بعد أن نزحت كثير من العائلات إلى خارج الحدود، وأريد منكم أن تُشاركوني في وضع تصوُّر لمواجهة خطر هذا الغزو الرباعي.» ولم يُجِب أحد بشيء، بل ظلوا واجِمين مُعتصمين بالصمت، إلا واحدًا من بينهم وهو الوزير «ياوجيا» [من مواطني وي، تنقَّل في البلاد واستقر في تشين] تحدث إلى الملك بقوله: «أنا على استعدادٍ أن أقوم بدورٍ فعَّال لإحباط سعي التحالف الرباعي إذا سمح جلالة الملك بإيفادي مبعوثًا رسميًّا إليهم، وسأبذل كل جهدي للحيلولة دون أي زحفٍ عسكري ضد تشين.»

وهنالك أمر الملك بتجهيز سفارة إلى التحالُف الرباعي بقيادة هذا الوزير، وزوَّده بمائة عربة عسكرية وألف وزنةٍ من الذهب، وخلع عليه خلعةً ملكية، بل قام ووضع التاج الملكيَّ بين يدَيه، وقلَّده سيفه ومنطقته الذهبية. ولمَّا حان السفر قام بتوديعه في أُبَّهة زائدة، وتجول الوزير «ياوجيا» بين البلاد وبذل مساعيه التي تكلَّلت بالنجاح في نزْع فتيل الحرب وصدِّ مؤامرة التحالف الرباعي ضد تشين، ووقف زحف القوات المُعتدية إليها، بل استطاع أن يُقيم جسور صلاتٍ دبلوماسية مع الدول المعنية، وعاد من سفرته ليُقدم تقاريره إلى الملك، يشرح فيها ما توصَّل إليه من نتائج وغمرت السعادة قلب جلالته، وأهدى «ياوجيا» واحدة من أحسن المقاطعات في البلاد وأنعم عليه برُتبة «الوزير الإمبراطوري» الشرفية.

وبلغت هذه الأخبار مسامع «هان فيتس» [الفيلسوف السياسي الشهير ٢٦٠–٢٣٣ق.م] فذهب والتقى بالملك وقال له: «كنت قد أرسلت ياوجيا في مهمة رسمية فسافر وهو يحمِل كمياتٍ هائلة من الذهب والهدايا الثمينة، فقصد جنوبًا إلى دولتي: «تشو»، و«أو» وسافر شمالًا إلى دولتي: «يان» و«داي»، وكمل له من الزمن في ذلك كله ثلاث سنوات. هذا بينما لم يكن التحالف المزعوم بين الدول الأربع مُحققًا أن يصل بها جميعًا إلى أية نتائج إيجابية، ففيمَ هذا الإسراف في توزيع الجواهر والذهب والنفائس الثمينة يمينًا ويسارًا؟!

والحقيقية أن «ياوجيا» استطاع أن يُقيم العديد من الصلات الشخصية مع أمراء الممالك والدويلات مُستغلًّا ثرواتك، وسلطاتك بغير حدود، فأرجو من جلالتكم التحقُّق من ذلك الأمر بنفسك واسمح لي بأن أذكركم بأن «ياوجيا» ليس إلا واحدًا من أبناء دولة وي وكان أبوه يعمل حارسًا في القصور الملكية، وأنه اتُّهم ذات مرةٍ في جريمة سرقة بمدينة «واليانغ»، وأنه مطرود من أحد المناصب الوزارية بدولة جاو، ولا أدري كيف يمكن لجلالتكم أن تتوقعوا أي إصلاح لشئون الدولة على يدِ لصٍّ قديم من وي، ومطرود من جاو، ولا أظن أن مثل هذه الطريقة في إدارة الحُكم يمكن أن تُشجع الوزراء على الإخلاص والتفاني.»

وأسرع ملك تشين باستدعاء ياوجيان، فلما مثل بين يدَيه ابتدره قائلًا: «بلغني أنك أقمت علاقات شخصية ودِّية مع أمراء الدويلات والممالك مُستغلًّا في ذلك ما منحتك إيَّاه من أموال ونفائس، فهل هذا صحيح؟» فلمَّا رد عليه بالإيجاب، دُهِش الملك وسأله: «وهل بلغت بك الصفاقة أن تتجاسَر على المُجاهرة بما اقترفتَ في حضوري هكذا، ودون أن يطرف لك جفن؟» فأجابه ياوجيان قائلًا: «على رسلك يا مولاي، ألا إن الابن البار بأبيه وأمِّه قدوة طيبة، ومثل رائع في باب الولاء والعرفان، والخادم المُطيع لسيده، نموذج يتمنَّاه كل أمير أو صاحب ولاية، والفتاة الحائكة الماهرة في فنِّ التطريز، صورة حلوة في خيال كل شابٍّ يحلم بشريكة حياة، وقد صارحتك بكل إخلاص فوق عرفاني وولائي لجلالتك، وقد سافرتُ لأجلك يا سيدي وأقنعت الأمراء بالنزول على مشيئتك، ولمن تظنُّني أدعوهم بالخضوع وتقديم أَسمَى آيات الولاء والتقدير إن لم يكن لأجل مجدك وعزيز مقامك؟ وكيف تظنُّهم يأمنون لي ويمنحونني ثِقتهم إن كنت خائنًا لك منكرًا لفضلك، وأنا أُحدثك عن أربع دول كبرى مُتحالفة وليست مجرد دويلةٍ صغيرة، وقد قيل قديمًا إن الإمبراطور شياجي (آخِر أباطرة أسرة شيا) قد نكَّل بوزيره وقتله بسبب وشاية كاذبة، ففتح بذلك الباب لكل واشٍ وساعٍ بالبهتان وانتهى الأمر بمقتله هو نفسه وزوال ملكه، وأخشى إن أصغيتَ يا مولاي لمثل هاتيك الافتراءات ألَّا يبقى لك خادم مُخلص أو بطانة وفية.»، وكلَّمه الملك قائلًا: «وبلغَني أنك في الأصل ابن أحد الحراس وأنك مُتهم بجريمة سرقة في وي، بالإضافة إلى أنك مطرود من وظيفة رسمية بدولة جاو، (فما قولك في هذا كله)؟» فأجابه: «إن شخصية تاريخية مرموقة مثل الحكيم الفاضل «لي وانغ» — وكان في الأصل زوجًا فاشلًا فطردته امرأتُه — حاول أن يعمل قصَّابًا فلم يفلح، فسافر إلى بلدة جييجن للعمل أجيرًا، فلم يُحالفه التوفيق، وأخيرًا، كان الملك أون حاكم «تجو» هو الذي صنع منه رجل دولة من الطراز الأول، واستطاع أن يُوحِّد به الممالك في دولة كبرى، بل كان «كانشون» (أحد أشهر وزراء العصر القديم) يعمل في الأساس بائعًا متجولًا في وي، ثم انتقل للإقامة في «نانيانغ» حيث عاش حياةً مُزرية بائسة، فلمَّا ضاقت به الحال سافر إلى «لو»، ولم يكن حظه هناك بأفضل مما سبق، إذ تورَّط في مِحَن ألقت به في غياهب السجون زمنًا طويلًا، وبرغم كل ذلك، فقد استطاع ملك تشي أن يستغلَّ مواهب هذا الرجل، فضمَّه إلى سدة الهيمنة الإمبراطورية التي أخضعت تحت سُلطانها أُممًا ودولًا وإمارات.

وكان المدعو «بيليشي» يجوب الشوارع يستجدي لقمة العيش من مارة دولة «يو»، وقيل إنه وقع في العبودية وبيع بثمنٍ بخس (خمس رقائق من جلد الضأن)، وغير أن الملك موكون (حاكم تشين، وأحد أعظم أباطرة العصر التاريخي المُسمَّى ﺑ عصر الدول المتحاربة) تولَّى أمره حتى بلغ في عهده منصب الوزير الأعظم، فكان هو الذي استطاع أن يقهر الدويلات المُتمرِّدة في أقصى غرب البلاد وأن يأتي بها صاغرةً عند أعتاب القصر الإمبراطوري لدولة تشين. وليس سرًّا أن حاكم دولة جين، بسط رعايته لواحدٍ من أعتى مجرمي زمانه، أشهر لصٍّ في تاريخ دويلة جونشان، وللعجب، فقد كان هذا الشقي قاطع الطريق هو الذي قاد جيش دولة جين إلى موكب النصر التاريخي على دولة تشين في موقعة بوشينغ.

إذن، فهؤلاء الأربعة لم يكونوا من ذوي السمعة الحسنة، ولا المَنبت الشريف، بل دُمغت سيرتهم الأولى بخصالٍ يندى لها الجبين، برغم ذلك كله، فلم يأنف الملوك الحكماء الأربعة من تقريبهم إلى مساحات القصور الحاكمة، بل قد استعانوا بهم في تحقيق الإنجازات الكبرى التي سجَّلها لهم التاريخ بفخر وشرف، ولئن كان أولئك الرجال — برغم وصمة نشأتهم الأولى — قد حققوا المآثر العظيمة، فإنهم قد تفوقوا بذلك على آخرين ممن كانوا في مواقع مرموقة، لكن أصحاب الجلالة لم يجدوا لديهم بُغيتهم، ففضلوا عليهم أصحابنا المشار إليهم آنفًا، فأقالوا عثراتهم، وتغاضوا عما اقترفوه في سابق الحال، فلفظوا ما خبث منهم، واستصفوا ما طاب من حميد سجاياهم لبلوغ أسمى الأهداف وأعظم الغايات، فلهذا درج رجال الحكم على أن يتَّخذوا مُساعديهم ممَّن ينبغون في رفعة شأن الأوطان وتحقيق أمنها واستقرارها، حتى لو كانوا موضع التندُّر أو الاستخفاف من الآخرين ذلك أن الوضيع الذي يبلغ بك إلى حضيض الكارثة، ومن ثم يبذل الوزراء أقصى جهدهم لاستحقاق الجدارة.»

أما المَلك، فقد أُعجب بمقالته، واستصوب رأيه، وأصدر قراره بتجديد الثقة فيه واستمراره في منصبه، ثم إنه قضى بإعدام [الفيلسوف] هان فيتس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤