الإسكندر الأكبر
في عام ٣٣١ق.م. وقف الإسكندر المقدوني في موضع التقاء قرية راقودة (التسمية بالعربية، والتسمية بالإغريقية هي راكوتيس) وجزيرة فاروس.
قال لمهندسه دينوكراتيس: أريد أن أبنيَ هنا عاصمةً ملكي!
ترك الإسكندر مهمةَ بناء المدينة لمهندسيه، وللعمال المصريين. استأنف رحلةَ فتوحاته في بلاد العالم القديم.
•••
وُلد الإسكندر في ١٩ يوليو عام ٣٥٦ق.م. في مدينة «بيلا» القديمة بمقدونية. أبوه فيليب الثاني ملك مقدونية. أمه أوليمبيا. ظل — أعوام طفولته — في البلدة الجبلية التي كانت عاصمةً لملك أبيه.
سماه أبوه الإسكندر. معنى التسمية باليونانية «مساعد الناس». عهد بتهذيبه — وهو في الثالثة عشرة من عمره — إلى الفيلسوف الإغريقي أرسطو. لازمه الإسكندر أربع سنوات. ثم استمرت صلتُه به بقية حياته، يستمع إلى نصائحه، ويُفيد مما يقتنع به منها.
رفض فيليب أن تظلَّ بلاد اليونان مقسَّمة إلى دويلات مستقلة، تُعاني الضعف، والتشرذم، وتأثيرات الحروب فيما بينها، وتهديدات الدولة الفارسية الأقوى. أوكلَ فيليب لنفسه مهمةَ توحيد الدويلات المتفرقة. استولَت قواتُه عليها، واحدة بعد الأخرى، حتى قامت الدولة الواحدة.
قُتل فيليب — غدرًا — في عام ٣٣٦ق.م. فخلفه ابنُه الإسكندر، وهو في العشرين من عمره.
كان الإسكندر قد أفاد من دروس أرسطو ونصائحه وتعاليمه، وشارك أباه معاركَه منذ السابعة عشرة من عمره، وأخذ عن أبيه فكرةَ الدولة الواحدة للإغريق، ومواجهة خطر دولة الفرس.
أنهى دروسه على يدَي أستاذه أرسطو. قال: أُعِد نفسي لاكتشاف العالم.
رفع أرسطو حاجبَيه بالدهشة: كيف؟
وهو يهزُّ قبضته: بقوَّتي!
كان الإسكندر على يقين من انتسابه إلى الآلهة، آلهة الأولمب وآلهة آمون. أمه أولمبياس هي التي حدَّثته عن بنوته للإله آمون، ونصحَته — عندما تبلغ حملتُه مصر — أن يسافر إلى معبد الإله آمون، ومركز نبوءته في واحة سيوة. المعابد والمذابح والكهنة والطقوس الدينية التي تَهَبه الحق في أن يكون ابنًا للآلهة.
حين زار الإسكندر معبد آمون، طالعه طيف، حدس الإسكندر أنه هو الإله نفسه. قال: إنني أَعِدك بأنك سوف تملك البلادَ كلَّها، وتخضع لك جميعُ الأديان.
هذه هي القوة التي سيخضع بها العالم. قوة البشر لا تستطيع أن تنفِّذ ما يحلم به، لا يستطيع ذلك إلا الآلهة. هو — بدلائل ميلاده في مقدونيا، ومباركة كهنة آمون في سيوة — ابنٌ للآلهة. يستعيد ما كاشفه به أولمبياس عن سلالته الإلهية، ونسبته إلى الإله آمون.
أيقن أن الآلهة ترعَى خطواتِه، وتُسانده، لما وفق في حلِّ العقدة التي تربط جزأَي المركبة المودعة داخل معبد زيوس بمدينة قورديون. ما كان يتناقله الكهان أن المرء الذي يحلُّ العقدة سيُصبح سيدًا لآسيا.
التفَّ من حوله الكهنة والقادة، يرفضون تصوُّر أنه سيحلُّ العقدة المستحيلة. لجأ إلى قوة الآلهة، ما زوَّدَته به، وميَّزته عن بقية البشر.
أهمل تحريك الأصابع في العقدة بما يُضيع وقتًا، ولا يثق في نتيجته. هوَى بسيفه على العقدة فحلَّها. الذكاء من قدرة الآلهة.
أدرك الجميع أن الإسكندر حلَّ العقدة بطريقته الخاصة، وأنه سيكون له طريقتُه في حل المشكلات التي تُواجهه. ما يحمله المستقبل من توقعات تعرفها الآلهة وحدها.
أرسل الإسكندر جيوشه إلى الشمال والجنوب. قضى على تفتُّت الدويلات الإغريقية، ثم انطلق في أهم أعماله: دحر الغزو الفارسي الذي هدد بلاده، وجعل حرية الأسطول الفارسي — في البحر المتوسط — مستحيلة عبر بوغاز هلسبنت (الدردنيل) في ربيع ٣٣٤ق.م. بقوات من المشاة والفرسان. هزم ما التقى به من جيوش الفرس بالقرب من شواطئ مرمرة. استعاد الأقاليم الإغريقية على الشاطئ الغربي للأناضول. ثم التقى عند مدينة «إيسوس» — على الحدود السورية — بجيش داريوس ملك الفرس. دحره إلى بابل، وإن لم يتعقبه. استهدف الاستيلاء على الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط، حتى بلغ الحدود المصرية الشرقية. كلما فتح مدينة أو إقليمًا قدَّم القرابين للآلهة، وأقام الحفلات الدينية.
كانت مصر خاضعةً لحكم الفرس، يُعاني أهلها ويلاتِ احتلالهم.
لما دخل الإسكندر مدينة بيلوز (الفرما) في خريف ٣٣٢ق.م. رافقه في حملته آلاف الضباط والجنود، وأعداد من العلماء والفلاسفة والشعراء والممثلين. وجد فيه المصريون حليفًا ينتصرون به على المحتل الفارسي. استسلم الوالي الفارسي دون مقاومة.
دخلت جيوش الإسكندر — وسط تهليلات المصريين وترحيبهم — حتى بلغ العاصمة منف. مضى في موازاة فرع النيل الكانوبي إلى مدينة كانوب (أبو قير) مارًّا في طريقه بمدينة نقراطيس. حتى بلغ القرية الصغيرة المطلة على البحر «راقودة».
كانت فاروس جزيرة صخرية يتردد عليها الصيادون والملاحون. يرسون بسفنهم في خليجها الصغير. يأخذون حاجتهم من الماء العذب. وكانت الجزيرة تمثِّل حاجزًا طبيعيًّا، يحمي السفينة من أمواج البحر، ونحر مياهه.
رُوي أن الإسكندر رأى — فيما يرى النائم — الشاعر اليوناني القديم هوميروس. أنشد الشاعر قصيدةً، قال فيها:
صحا الإسكندر من نومه، واتجه لرؤية الجزيرة.
بدَت لسانًا أرضيًّا، طولُه أكبر من عرضه، تقوم بين البحر وبحيرة من الماء، وتنتهي بمرفأ كبير.
يقول ياقوت الحموي في «معجم البلدان»: «وقبل أن يبدأ الإسكندر في بناء المدينة، رأى في منامه كأن رجلًا قد ظهر له من الهيكل وهو يقول له: إنك تبني مدينة يذهب صيتُها في أقطاب العالم، ويسكنها من الناس ما لا يُحصى عددهم، وتختلط الرياح الطيبة بهوائها، ويثبت حكم أهلها، وتُصرف عنها السموم والحرور، وتُطوى عنها قوة الحر والبرد والزمهرير، وتبعد عنها الشرور، حتى لا يصيبَها من الشياطين خبل، وإن جلبت عليها ملوك الأرض بجنودهم وحاصروها، لم يدخل عليها ضرر.»
أراد الإسكندر بإنشاء مدينته أن تُصبح امتدادًا لحضارة الإغريق، ويسيطر — من خلالها — على شرق البحر المتوسط، فضلًا عن الهدف النهائي: توحيد العالَمَين الشرقي والغربي.
وجد في فاروس موضعًا لإنشاء مدينة، هي العاصمة لإمبراطورية يحلم بها. الجزيرة صغيرة، يصعب أن تنشأ فوقها عاصمة إمبراطورية الحلم.
لجأ إلى الآلهة يستشيرها فيما ينبغي فعله.
نصحَته الآلهة أن يَصِل الجزيرة بقرية راقودة في الطرف الآخر، القريب. المنطقة الساحلية التي تضمُّ راقودة وفاروس (ذكر هوميروس فاروس في الأوديسا) أنسب المواضع لمدينة بحرية، هي الأقرب إلى بلاد اليونان، ومقدونية، ومواني البحر المتوسط. عاصمة لمصر بدلًا من منف، بدايةً لاتجاه البلاد نحو الشمال. تمتد بين شاطئ البحر شمالًا، وبحيرة مريوط جنوبًا، وهي بحيرة متسعة، ترسو فيها السفن النهرية، ويسهل وصلها بالنيل، ببعض القنوات.
أشار الإسكندر إلى نهاية اللسان، وقال: أريد أن أبنيَ هنا عاصمة ملكي.
صار للمدينة — بعد إنشائها — ثلاثة موانٍ: الميناء الغربي، وهو الميناء الحربي، والميناء الشرقي، أو ميناء العود السعيد، وهو الميناء التجاري والسياحي. أما الميناء الثالث، فموقعه على شاطئ بحيرة مريوط، تَصِل الإسكندرية عن طريق فرع النيل.
قال له صوت أولمبياس: تأهَّب في بلد الأسرار هذا إلى ملاقاة أبيك الحقيقي. جاءت الساعة التي قررها القدر.
مضى الإسكندر من ناحية الصحراء الغربية إلى واحة سيوة.
عند باب معبد آمون، توقَّف الإسكندر.
أشار إلى قواده ليتراجعوا. تقدَّم — بمفرده — في المحراب، للقاء أبيه الإله آمون. طالعه آمون جالسًا على عرشه الذهبي، تُحيط به أشجار الذهب، وثمة أريج البخور يتضوع في أرجاء المكان.
ركع الإسكندر في قدس الأقداس لمدة نصف يوم. ظل ساكنًا في موضعه، وفي الخارج، وقف القادة وكهنة المعبد.
لمَّا ساورهم الريب، طرقَ كبيرُ الكهنة البابَ الخشبي الضخم. ترامَى صوتُ الإسكندر من الداخل — غاضبًا — يطلب إغلاق الباب.
خرج الإسكندر وقت الغروب. كان متعبًا، يرتجف، ووجهه يتصبَّب عرقًا.
ظنَّ القادة أن الإسكندر أُصيب بالحمى. همُّوا بإغاثته، لكنه أبعدهم بإشارة من يده، وواصل السيرَ وحيدًا.
روى الإسكندر ما جرى للكهنة. أقسموا أن يكتموا السر، لا يُطلعون أحدًا على ما يجري في مقابلته لآمون. أخرج الكهنة له، ولضباطه، صنمَ آمون، محمولًا في زورق رفعَته الراهبات فوق رءوسهن. قدَّم القرابين للإله آمون، ولقَّبه الكهنة باسم ابن آمون. انتسب الإسكندر باللقب إلى الآلهة.
خرج من باب خلفي، يضع فوق رأسه قرنَين من الذهب، إلى جانب الخوذة، ونُقش القرنان في رأس الإسكندر فوق النقود في عصره. شعر أن فيضًا من الأنوار قد نفذ إلى أعماق نفسه، وأن ما يُشبه الإلهام قد حلَّ به.
بدَت كلُّ الأمور واضحة.
نقل إلى قواده وعلماء حملته ما تعلَّمه من الكهنة المصريين من علوم الفلك والتنجيم. صارت مرجعًا عند اتخاذ القرارات المهمة في حياة الإسكندر، وبعد رحيله.
سأله بطليموس— أقرب قواده إليه: هل تحدِّثُنا عما دار بينك وبين أبيك الإله آمون؟
قال الإسكندر وهو يُعاني عذاب التكتم: ما قاله لي لا يمكن أن أبوح به إلا لأمي!
وهمس في نبرة مترددة: لكنني لا أستطيع أن أُخفيَ وعدَه لي بأني سأمتلك العالم، وإلحاحه في أن أسعى لتحقيق إرادته.
غادر المعبد بقوة — في داخله — تُؤهله لتجاوز قدرات البشر، تقرب الغاية التي حددها له الإله، يستطيع بها بلوغ أقصى الأرض.
عاد إلى موقع التقاء راقودة وجزيرة فاروس، يشغله بناء المدينة التي ينطلق منها — عبر الصحراء — لامتلاك العالم.
قال: أفضِّل أن أفوقَ غيري في الفضائل على أن أفوقَ في اتساع الملك والسلطان.
لأن المصريين كانوا يرمزون إلى آمون بالكبش المقدس ذي القرنين، فقد أمر أن يظهر القرنان في صوره، وسُمي الإسكندر ذا القرنين.
ستة أشهر قضاها الإسكندر في مصر. واصل — بعدها — رحلةَ تحقيق حلم الدولة الواحدة. يفكر، يتكلم، يتحرك، يتصرف، بإحساس الإله الذي لا يُقهر، لأنه يحمل رسالةً كونية، بيقين انتسابه إلى الآلهة. الآلهة تُلهمه، تُملي عليه إرادته. يعرف أن أقصى الأرض في نقطة ما، يقف عندها، يُعلن أنه قد أصبح — بحد السيف — ملكًا للبشرية. توالَت المعارك في دارا، وأربلا، وبابل، والهند، والسند، والبنجاب، والجنوب الغربي لفارس.
في طريقه إلى بابل، أعلمه كبيرُ العرافين أن عودته إليها هذه المرة، يُرافقها طالع نحس. هي — في قوله — نبوءة الإله بال.
ظل توقُّع المكروه — في داخله — قائمًا، وإن لم يحاول أن يناقش الأمر بينه وبين نفسه، ولا أن يتحدث به إلى قواده. هم لا يفطنون إلى ما يجري بينه وبين ذلك العدو الذي لم يرَه، رغم لفح أنفاسه.
واصل سيره حسب البرنامج الذي حدده. لم يُزايله الشعور بالمطاردة. ذلك المجهول الذي يقتفي خُطاه، يتبعه كظلِّه، لا يتركه في ليل أو نهار. يذوي — أمام خوفه من قوته — ما كان يشعر به الإسكندر من قوة انتسابه إلى الآلهة.
هزم داريوس أكثر من مرة. قضى على الآلاف من جنود الأعداء. تحمَّل البرد والحر والمرض والجوع والعطش، وحنين الجنود إلى الحبيبة والأسرة والوطن. أنشأ المدن المسماة بالإسكندرية. في توسُّع فتوحاته إلى أقصى الأرض، عبر الهند وفارس والعراق، بالإضافة إلى إسكندرية مصر. يشغله الوصول إلى المناطق المجهولة التي لم تطَأْها حوافرُ جياده. تتقارب الضفاف حتى التلاشي. تختفي الحدود. يتبدَّل معنى الوطن، يصبح العالم وطنًا لمن يحيَون فيه. في باله أن تسود اللغة اليونانية لغة واحدة لكل الدنيا.
ما كان يُؤلمه أن جنوده لم يُدركوا مقاصده، الأهداف التي رسمها لنفسه. لم يشاركوه تحمُّسه للانطلاق في الحملة. مالوا إلى الاحتجاج والرفض.
كان شاطئ نهر بيس — أحد فروع نهر سوتاج — آخر ما وصلَت إليه حملة الإسكندر شرقًا. رفض الجنود أن يواصلوا السير خطوة واحدة.
عانَى قادةُ الإسكندر وجنوده آلامَ الغربة، والانتصارات غير المجدية، والتي بلا معنى. لم يقتنعوا بأقواله عن العالم الواحد، وضرورة أن يبلغوا أقصى الأرض.
المرض — وحده — هو الذي أوقف زحفَ الإسكندر إلى نهاية العالم. ألزمه الفراش في بابل، واغتاله في مدى قصير. مات بتأثير الحمى في ١٣ يونيو ٣٢٣ق.م. كان في الثالثة والثلاثين، حكم منها اثنَي عشر عامًا وثمانية أشهر.
لما دنَت لحظة الوفاة سأله كبير قواده: مَن تُرشح لخلافتك؟
قال الإسكندر في لهجة باترة: الأقوى!
لاختلاف قادته حول تقسيم الإمبراطورية: مَن يظفر بالمساحة الأكبر، ومَن يرضى بما قُدِّر له، فقد ظل جثمان الإسكندر في بابل لمدة عامين.
نُقل جثمان الإسكندر من بابل إلى مصر في عهد بطليموس الأول «سوتر». هل اختُطف، أم نُقل بصورة طبيعية؟
رُوي أنه نُقل إلى منف، سواء بالاختطاف، أو بالعلن. دُفن هناك قليلًا، ثم تباينَت الروايات، إذا كان قد نُقل إلى سيوة، أم إلى الإسكندرية، أم نُقل إلى الإسكندرية، ومنها إلى سيوة؟ أم أن العكس هو ما حدث؟
تعدَّدت الروايات عن الموضع الذي دُفن فيه جثمانه، وإن ذهب غالبيتها إلى أنه دُفن في موضع ما من الإسكندرية. روايات كثيرة تحدَّثت — فيما بعد — عن زيارة ملوك البطالمة لقبر الإسكندر في الإسكندرية. حكايات وشواهد رواتُها علماء ومؤرخون.
كل الروايات اتفقت على أن الإسكندر دُفن في مصر، وإن اختلفت حول موضع القبر. رُوي أنه عاد — في تابوت الموت — إلى المدينة التي أمر بإنشائها، ومضى دون أن يُتابع خطوات الإنشاء.
كان دينوكراتيس قد قسم المدينة الوليدة إلى أحياء وميادين وطرق ممتدة ومتوازية ومتقاطعة وبنايات. تمتد بين شاطئ البحر شمالًا، وبحيرة مريوط جنوبًا. مستطيل من الشرق إلى الغرب، طولُه نحو أربعة أميال، وعرضه من الشمال إلى الجنوب نحو ميل. محيطُه خمسة عشر ميلًا.
كتب الإسكندر — قبل وفاته — يُوصي أن يُدفن في واحة آمون بسيوة، بالقرب من أبيه الإله زيوس آمون، امتزاج العقيدتَين المصرية واليونانية.
هل دُفن في الموضع الذي اختاره؟ أو دُفن في عاصمة البلاد منف؟ أو أنه — كما قال مؤرخو عصر البطالسة — دُفن في الإسكندرية التي أمر بإنشائها، وأن تحمل اسمه؟
لم يُتَح للإسكندر أن يرى المدينة.
لم يتحقق الحلم في حياته، وإن عادت روحه — بفضل الآلهة — إلى إسكندريته الأولى. تنقل الجثمان — في التابوت المغلق — بين العديد من المواضع، لا يُدرى أيها استقر التابوت في رحلته الأخيرة.
غابت الرؤية من خلال التابوت المغلق، من الذهب والأحجار الكريمة والأخشاب المقدسة. غطاؤه من الذهب الموشَّى بالفسيفساء، تعلوه قبةُ العرش بما يغطي الفراغ تمامًا. يحيط برواق التابوت مقصورة من مشربيات، شبكاتها مذهبة، وزخرفتها على أشكال أوراق شجر الأكاسيا والزيتون، وزهور اللوتس المصري المقدس. السقف من الأعمدة ذات التيجان الأيونية الطابع، تجمع بين الفن المقدوني والفارسي. لم يغلق التابوت على جسد الإسكندر المحنط وحده. أضيف إليه مجموعة من برديات السحر والتنجيم وأسرار الكهنة، نُقلت من معبد زيوس آمون بسيوة.
سار النعش على عجلات، تجرُّها ٦٤ دابة، في ثمانية صفوف متقاربة، منتظمة. مضى الموكب في أواخر ٣٢٢ق.م. من بابل إلى مصر، مارًّا بدمشق.
غابت سيرةُ قبر الإسكندر منذ القرن الثالث بعد الميلاد. لم يُشِر إليه مؤرخو العصر، ولا العصور التالية: أين هو؟ وماذا جرى له؟ ولماذا اختفى؟.
ما تُؤكده روايات عديدة أن الإسكندر لم يفارق — بروحه — أولى المدن التي سمَّاها باسمه. يفارق قبره في الموضع الذي لا يعرفه أحد. مكاشفة تُماثل مكاشفات أولياء الصوفية. هم أحياء مثل القدِّيسين والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا.
إذا كان لأولياء الله مكاشفاتهم التي لا تغيب بفناء أجسادهم، فلماذا لا يكون لابن زيوس آمون المكاشفة نفسها؟ لماذا لا تنتقل الروح إلى حيث تشاء، تشاهد. تتأمل، تَهَب العبرة؟
ما تردد عن استبدال تابوت من الزجاج بالتابوت الذهبي، لا شأن له بقدرة الروح على التحليق، واختراق المسافات بما تعجز عنه قدرة البشر. من مكاشفات أقطاب الصوفية أنهم ينتقلون من المواضع التي أقاموا بها — أحياء وموتى — إلى مكة المكرمة، يطوفون حول البيت العتيق، والروضة النبوية، ويعودون.
راقودة وفاروس ينطلق اتصالهما إلى العالم الذي أراد تحقيقه. يمتدان إلى نهاية الدنيا، لا آفاق للأرض والبحار والجبال والصحاري. يتكلم الناس لغةً واحدة. تنمحي الفوارق. ليس ثمة إلا بشر يتساوَون مهما تختلف أجناسهم وألوانهم. أتى بالشعراء ليعبِّروا — في قصائدهم — عن الحملة العسكرية التي تفوق كلَّ ما عرف العالم من مظاهر القوة، وتسعى إلى بلوغ أقصى الأرض.
يستعيد الإسكندر ما كان في وقفته على اللسان الداخل في قلب البحر، الأرض الرملية، والقوارب، وشباك الصيادين. من حوله القادة والمهندسون والمؤرخون والشعراء. أفق نظراتهم جزيرة فاروس: أريد أن أبنيَ هنا عاصمة مُلْكي.
ما طلبه لم يكن مجردَ مدينة. رسَم تصورًا، أراد أن يشاهده على الطبيعة. أنصت إلى اعترافات المهندسين والعلماء: اختيار الموقع، إحاطة البحر بمعظم الجوانب، تجميع المنشآت المهمة في مكان واحد. اتجه بنظره إلى أسفل. قال في نبرة حازمة: هذه هي مدينتي … إسكندريتي.
لم يكن حتى أقرب معاونيه إلى نفسه، يملك ردًّا لقوله، أو لإرادته. ما يريده لا بد أن يحدث. عالم بلا آفاق، بلا حدود. ناسُه يتكلمون لغةً واحدة، تنمحي بينهم الفوارق، يتساوَون رغم تنوُّع أجناسهم، واختلاف مسمَّيات وصفات الآلهة التي يعبدونها.
ما أحزنه أن الروح كانت قد فارقَت الجسد، في عودته إلى المدينة التي أوصى أن تكون عاصمةً لإمبراطوريته. لا يوجد حوله قادةٌ ولا علماء، ولا يقف — على الجانبين — قوات وحشود ناس.
أفادَته الوحدة المتأملة في الاكتشاف، والدهشة، واستعادة ما فات، وإلقاء الأسئلة.
هل كانت صورة العالم ستتغير لو أن الإمبراطورية التي سعى لإنشائها تحقَّقت؟ هل كان التاريخ يمضي إلى غير ما انتهى إليه؟ هل كانت الأوطان قد تحوَّلت إلى وطن واحد؟
كان يناقش الاحتمالات — بينه وبين نفسه — ويستخلص العبر. يألف — بتعدُّد قدومه إلى المكان — ما شهدته المدينة من اتساع ومظاهر حياة، هذه ليست عاصمةَ وطنه، العالم الذي ينتمي إلى وطنه اليونان، ويتكلم اللغة اليونانية.
لم يتصور — حين أمر بوصل القرية والجزيرة — أنها ستُصبح على ما أصبحت عليه. يتمنَّى لو أنه نزع زيَّه العسكري، فلا يُثير انتباهَ أحد، لكنه هو الزيُّ الذي دُفن به. يلجأ إلى ما يزوِّده به أبوه الإله آمون من طاقة روحية. يخترق الشوارع والحواري والميادين، حتى يَصِل إلى اللسان الحجري.
يقف في النقطة الفاصلة بين قرية راقودة وجزيرة فاروس.
نقطة التقاء العالم القديم ونشأة الإسكندرية الحديثة. لطبيعتها الجغرافية سُميت بحري. عرضها كيلومتر، وطولها كيلومتر. السير في شارع ما، لا بد أن يُفضيَ — بعد وقت قصير — إلى قلب المدينة. يتصور ما كان، وما أصبح الحال عليه. يخترق الخيال الأرصفة، ومستودعات الأخشاب، وشون الغلال، والكسارات، والحفارات، والهراسات، والهزازات، والرافعات الهيدروليكية، والمولدات الكهربائية، وأبراج الإضاءة، والرافعات الشوكية، والشاحنات القلابة، والخلاطات، والحاويات، والسفن الكبيرة، والصغيرة، والجدران العالية، وضوء الفنار، وأسراب الطير، وأضواء البلانسات المنعكسة على صفحة الماء متماوجة، ملتمعة، وخضرة المياه — على الشاطئ — بتآلف الأعشاب والطحالب وزيوت المراكب، وأسطح البنايات العالية، وقلعة قايتباي، ومئذنة أبي العباس، والعَلَم الذي يرتفع فوق سراي رأس التين.
يستعيد ما كان، ويُطيل التأمل.
•••