إنصاف
أحكمت الملاءة حول جسدها. تأكدت من موضع قصبة البرقع فوق الأنف. مضَت إلى مَن يملكون ما يعرِّفونها به، ويطمئنونها.
أهملت قول الريس غريب أبي النجا إن مخلوقات البحر أخذت رشاد وديعة، لسبب تعلمه، ولن تُعيده إلا لسبب تعلمه.
علا بخور المجمرة أمام سيسبان، وهمهمت برُقًى وابتهالات وأدعية. نصح الشيخ عبد الستار أن تثق في رحمة الله، هو المتصرف، وصاحب الأمر، لا حيلة لنا فيما يقدِّره. دلَّتها الست صبيحة على مقام سيدي العدوي، في نقطة التقاء شارع إسماعيل صبري، وشارع صفر باشا. المقام الصغير يكبر بسرِّ صاحبه الباتع في استعادة الغائبين والمفقودين.
سيدي أحمد البدوي جاب الأسرى من البلاد البعيدة. بركات سيدي العدوي مداها حدود البلاد المصرية: المدن والقرى والبحر والصحراء والخلاء. إن لم يعده بمكاشفة، همس في نفس أهله وذويه بموضع وجوده، ما إذا كان قد اختفى باختياره، أو يعاني الاختفاء.
وقفت أمام المقام المرتفع ذي الكسوة الخضراء. هزَّت قضبان النافذة الحديدية الصغيرة بالاستغاثة. تذللت، توسلت، انتحبت، شرحت الظروف وما تأمله. نزعت الطرحة من رأسها، مسحت بها شباك المقام، حتى يستجيب الولي لدعوتها، ويعود الغائب.
•••
طال انتظارها في مدخل البيت.
يُربكها توقع قدومه. تقوم وتقعد. تمشي ناحية الباب. تعود قبل أن تفتحه. تبدأ جملة، تُنهيها قبل أن تتمَّها. تُغمض عينَيها، تستعيد ما لا تراه: ومضات من ملامح وعبارات وتصرفات، كأنها صور ثابتة، لا صلة لها بما قبل، ولا بعد.
ظلت على ثقة — بعد أن طال غيابه — من أنه ركب البحر في رحلة بعيدة، وأنه سيعود في يوم من الأيام.
ألفت ركوبه البحر إلى بلاد الغربة. غياب ما قد يبلغ العشرين يومًا، أو الشهر. مهما يَطُل غيابه، فلا بد أن يعود إليها. حتى لو صدَّقته فيما يرويه عن تنقُّله بين أجساد النساء في مدن العالم، لو لم يكن ما يحكيه لإثارة غيرتها، فهو يلوح لها — ذات يوم — في قدومه من أول الشارع، أو تنتبه لطرقاته — تعرفها — على باب البيت. لا تأذن له بالصعود إلى السرير، قبل أن يبدل ملابسه ويستحم، يتخلص من رائحة السمك العالقة بجسده.
أسكتت الصرخة براحتها — في عودته آخر مرة — وهي تتأمل وقفته الساكنة. تدلِّي ذراعَيه، وصعوبة قدرته على الكلام. كأنه لم يَعُد يملك صوتًا. ضاع صوته فلا يعرف كيف يجد الكلمات، ولا كيف ينطق. إذا تحركت شفتاه، غمغم بكلمات مبتورة، أو مدغمة.
قال الحاج جودة هلال: متى نزل البحر؟
قالت: كل يوم ينزل البحر. الصيد عمله.
– ما يُعانيه قرصة بحر.
أضاف لنظرتها المتسائلة: قرصة الجنيَّة لاجتذابه داخل البحر. أفلت منها، لكن القرصة أدخلَته هذه الحالة.
ثم وهو يعدل من وضع طربوشه فوق رأسه: الخروج من تأثير القرصة يحتاج إلى يوم أو يومين.
لاستعجال عودته، تطوف البيت، الصالة التحتية، والحمام، والمطبخ، والسلالم، والحجرات الثلاث. تُطلق التعاويذ والأدعية وأريج البخور، تبسمل، وتتلو المعوذتين. وسورة يس.
قال الشيخ عبد الستار: إذا لم يجد الصياد رزقه في مكان ما، فإنه قد يتجه إلى مكان آخر.
أردف بلهجة مهونة: لعل زوجك واجه المشكلةَ نفسها.
وضغط على الكلمات: رشاد سيعود سالمًا بإذن الله!
•••
رويت حكايات كثيرة، تختلف في التفاصيل، لكنها تلتقي في أن عودة رشاد إلى اليابسة ليست مؤكدة.
غرق في البحر. لا قبر يضم جثمانه، إنما هو قطع متناثرة، مفتتة، في بطون الأسماك. عروس البحر اجتذبته بغنائها، صحبَته إلى الأعماق، لا يعود، أو قد لا يعود بعد أن يُدركه الكبر. شاهده عبد الله أبو رواش وهو يصعد سُلَّم باخرة ضخمة، تستعد للإقلاع إلى المواني البعيدة.
اعتاد الناس غيابَ البلانسات. يمضي البلانس داخل البحر، ولا يعود. تتطلع الأعين — في وقفة الشاطئ — إلى الأفق. تذرع الخطوات البطيئة والمهرولة مساحات الرمال، ورصيف الكورنيش. ربما اتجهت القوارب الصغيرة إلى آخر مداها، للبحث عن أثر تهتدي به.
•••
لما طال غيابه، حدَّثَتها الستُّ صبيحة عن الهجر الذي يَهَبها الحق في أن تطلب الطلاق.
قالت صبيحة: كما أن للبشر نصيبهم من السمك، فإن لمخلوقات البحر نصيبها من البشر. إذا لم تتعادل الكفتان، فلا بأس من تقاربهما بإغراق المراكب ومَن عليها.
واتجهت نظراتُها إلى الناحية المقابلة: حتى لو مات غريقًا فقد كسب الشهادة!
قالت إنصاف: رشاد ركب البحر من أجل الأولاد.
زوَت المرأة عينَيها بالدهشة: لكنه لم يَعُد … هل تموتون من الجوع؟
– الله لا ينسى عبيده!
شابَ صوتَها حدةٌ: أُكلمك عن الزوج الذي طال غيابه!
لم تتعود غيابه في البحر أكثر من عشرين يومًا، تزيد إلى شهر، شهر لا أكثر، ثم يُطالعها أول الشارع بالقامة الطويلة، والشعر المتهدل على الجبهة، والذراعين المتطوحتَين والأفرول الكاكي، والحقيبة المدلاة على الكتف، والابتسامة الماكرة على جانب فمه: هل سمعت أن صيادًا عاد من رحلة بزوجة أجنبية؟!
ثم وهو يهزُّ إصبعه متوعدًا: في المرة القادمة … ربما تزوجت جنيَّة البحر!
يحدِّثها عن الشعور الذي لا يتبدَّل عقب كل رحلة، كأن الأرض تهتز من تحته، أو أنها تتهيأ لابتلاعه. تماوُج المرئيات يضايقه، يُغمض عينيه، ويفتحهما. يُطيل التحديق للتأكد. يُدركه التعب بالسير خطوات. السِّحن تبدو غير ما أَلِف رؤيتها في أيام البحر. حتى التعبيرات التي اعتاد قولها في مناسبات الكلام القليلة، تختلف عما يُثيره الزحام — على الأرض — والأخذ والرد والمساومة والكلاكسات والميكروفونات والفصال والبنايات العالية والسؤال والملاحظة والباعة والرفض والقبول واللوم والعتاب والمعايرة وإشارات المرور.
يسيطر عليه إحساسٌ بالغربة، في داخل نفسه، وفيما حوله. لا يتصور نفسه بعيدًا عن ظهر بلانس، أو باخرة تجارية.
طال غيابه — في رحلة — أكثر من شهرين.
لم تُخفِ استياءَها: لماذا لا تبحث عن عمل في البر؟
قال: رزقي في البحر.
– وبيتك … ألَا يهمُّك؟
في لهجة تقريرية: لهذا أركب البحر.
•••
في النجمة، أحكمَت لفَّ ملاءتها.
اخترقت الشوارع الضيقة، الملتوية، إلى حلقة السمك. اختلطت — في الظلمة — معالمُ الأشياء، وتشوشت، وتاهت. ثم — بالتعود — بدأت ملامح الأشياء تظهر. المراكب الساكنة على رمال الشاطئ تغطَّت بشباك الصيد. سحابات النوارس البيضاء تنطلق في الأفق، وتعود. وثمة صوت تكسر الأمواج على المصدات الأسمنتية.
مالت إلى باب الحلقة العالي، المفتوح، اخترقَت الزحام والنداءات والطبالي والفصال والمساومة والغمز واللمز والزعيق وبِرَك المياه الآسنة وألواح الثلج.
لجأت إلى شروات سقط السمك والبسارية المتساقطة من الطبالي.
•••
أشفق شوقي أبو سليمان من باب البيت الذي تتركه مفتوحًا. أهملت التحذيرات من أن يتسلل إلى البيت مَن يحاول سرقته، أو يُفاجئها في حجرة النوم.
لم تُطاوعها نفسها على أن تُغلق باب البيت في وجه التوقع. هو لا بد أن يأتي، ولا بد أن تترك له البابَ مفتوحًا، وتنتظر.
قالت لها ابتهال المنسي: كم مرة عانيتِ القلق لغياب زوجك؟
زوَت حاجبَيها: مرات كثيرة.
استطردت ابتهال: هو يعود في كل مرة.
واتسعت عيناها بالدهشة: لماذا القلق الآن إذن؟
•••
لم يسأل عمران الخولي إنصاف، إذا كان طلبُها ترميمَ قارب زوجها القديم، ليساعدها بيعُه على الظروف القاسية، أو أنها تنوي قيادته في نقل الأولاد، في احتفالهم بعيد الأضحى، الذي كان على الأبواب.
لم يسأل عمران المرأة عن سبب اختيار المنطقة خلف قلعة قايتباي لرسو القارب، وإلى متى يظل مربوطًا في الخابور على حجارة الشاطئ؟
الصخور كثيرة، متناثرة، تختلط بالكثبان الرملية، وقِطَع الحجارة، ومكعبات الأسمنت، والأعشاب اللزقة، وخطر النوات يهدِّد القارب، مهما أُجيد ربطه بالخابور على الشاطئ.
احتضنها بنظرة إشفاق، وهو يدفع يدَها الممدودة بمقابل الترميم: ليتك تستفيدين من القارب!
تلفَّتت حولها تتأكد ما إذا كان أحد يراها.
استحالت ظلمة الليل رمادية شاحبة.
ثمة أسراب من الطير، تقترب وتتباعد، وتعلو في اتجاه الأفق، ثم تعود. أصواتها خافتة، أو أنها صمتت عن الصياح. السماء ملبدة بالغيوم، وإن ظلت الأمواج هادئة، والمياه اختلطت بالزيت المتسرب من السفن، فصارت أقرب إلى الخضرة، والهدير الرتيب للأمواج يترامى في اصطدامها بجدران قلعة قايتباي.
رفعت الخطاف من المياه. جذبت حبل المرساة.
فكَّت الحبل من الخابور.
دفعت القارب داخل المياه، وقفزت داخله.
بدأ القارب يتحرك.
اعتدلَت في جلستها. اطمأنَّت إلى أن المجدافَين بين راحتَيها تمامًا. جدَّفت، وجدَّفت، وجدَّفت.
انطلقت في اتجاه الأفق.
أسقطت كلَّ ما استمعت إليه. كل ما رُوي عن مخلوقات البحر، وعن غناء الجنية الذي يجتذب الصيادين، وعن الغوص بهم في الأعماق البعيدة. أسقطت حتى كلمات القدر، والمشيئة، والظروف القاسية.
لم يَعُد إلا صوت المجدافين وهما يرتطمان بالأمواج الهادئة.
في بالها أن تواصل ركوب البحر حتى تلتقيَ بما لا تعرفه جيدًا، لكنه هناك، في نقطة قريبة، أو بعيدة.
•••