بدوي الحريري
تابع أسراب غراب البحر، في تحليقها على امتداد الساحل. طائر عملاق، يأتي في نهاية فصل الخريف، وبداية فصل الشتاء. يتغذَّى — بشراهة — على أسماك الدنيس. تشكِّل أسرابُه سحابةً سوداء تغطِّي وجه البحر. تلتهم كميات كبيرة من الأسماك. تُجيد المناورة والغطس. تعود إلى مواطنها في مارس عقب ذوبان الجليد، بعد أن تلتهم أعدادًا هائلة من الأسماك.
شابَ لهجةَ الريس بدوي الحريري خوفٌ: لا تفرحوا بها، قاوموها.
رَكِب البحرَ صيادًا، ثم معلِّمًا للصيادين. عرف أنواع الصيد، وحِيَله، وأسراره.
أَلِف رؤية الآفاق الممتدة أكثر مما اعتاد رؤية البنايات والشوارع والمآذن والأبراج والأشجار والمزروعات. يُجيد قياس أعماق البحر، وسَبْر أغواره بما يمتلكه من قدرة على التنبؤ.
عاصر اقتصار الإبحار على البلانسات ذات الشراع. شاهد نزول أول بلانس بالموتور على شاطئ الأنفوشي. تابع اختفاء سفن الأشرعة، لتحل — بدلًا منها — السفن ذات الموتور، إحلال البخار محل الشراع، استخدام الصلب في بناء السفن بدلًا من الخشب. استبدال اللنشات بالقوارب ذات المجدافين. اكتشاف الطوربيد وقنابل الأعماق.
يعرف مواعيد هجرة الأسماك. يركب البحر إليها. يعرف الأماكن جيدًا، كما يعرف أنواع السمك. يثق في انتظامها، لا تفرُّ حتى من المناطق التي حصدَت شباك الصيادين ما كان فيها من أسماك.
أطال الجلوس إلى خليفة كاسب. دلَّه على الطرق الغذائية في البحار والمحيطات. تهاجر إليها الأسماك — في مواعيد محددة — بحثًا عن الغذاء، لا تتحول عن الطرق التي اعتادتها.
لم يكن يلجأ إلى الخريطة، ولا إلى البوصلة، ولا أية وسيلة علمية من أي نوع. يعتمد على حدسه وخبرة السنين في الانطلاق إلى رحلة جديدة، هدوء الأمواج أو هيجانها، كثافة السحب، اتجاهات الريح، زيادة النجوم في السماء أو قلتها، سطوع القمر، أو شحوبه، أو اختفائه وراء السحاب.
يستطيع — بتأمل السحب — التنبؤ بهبوب الرياح. قد يكتفي — لتوقع أحوال الجو — بقراءة انعكاس تشكيلات السحب على سطح البحر، بياضها، أو دكنتها الرمادية، أو الأقرب إلى السواد. يُجيد توجيه الدفة دون أن ينظر إليها، وقيادة البلانس في الضباب، لا يصطدم بالبواخر الضخمة، أو الجزر المتناثرة، المتصاعدة، في قلب الأمواج.
يلجأ إلى إلقاء الشباك في الطرق التي حددها خليفة كاسب. يتوقع — هذا ما يحدث — صيدًا وفيرًا، لا تطول به أيام الرحلة.
فقد الكثيرون حياتَهم في البحر، لكن غواية البحر تجتذب حتى مَن يخشون دواره، وتقلباته المفاجئة، ونواته.
البحر وطنه. يحيا فيه أضعاف ما يحيا في الأرض: حياتي في البحر، لا أتركه إلا لضرورة!
البحر دنياه.
البحر هو الدنيا.
النيل له شاطئان. أفق البحر شاطئه الآخر. يعود منه، فيتهيأ للعودة إليه.
البحر هو السفر، والمدن، والمواني، والأسرار، والمجهول، والمغامرة، والتحدي، والنوة، والعاصفة، والأفق، والخطر، والقوى الخيرة والمدمرة، والرزق، والخيال، والحكايات المثيرة، وغياب التنبؤ.
صورة البحر عنده مثل البشر، يحمل الخير والشر والحزن والغضب والمسالمة والحرب.
من يريد استمالة البحر، فإنه ينبغي أن يراعيَ تغيُّر نفسيته. لا بد من ترضيته. يمتلك قدرة مذهلة على التنبؤ بالنوات واتجاهات الريح وأحوال البحر.
يُطيل النظر إلى القمر. يُحسن قراءته والتعامل معه. له تأثيره في أحوال الجو والمد والجزر. حتى هطول الأمطار يتحكم فيه القمر. ينصح بعدم الإقلاع إذا غطَّت السحبُ وجهَ القمر. معنى ذلك قرب هبوب عاصفة بحرية، نوة، قد تُهدد البلانس بالغرق.
حمرة الشمس في الصباح تعني يومًا حارًّا. إذا ظهر قوس قزح في السماء، فمعنى ذلك أن الجو سيظل صحوًا، لا نوة، ولا أمطار، ولا رياح معاكسة. إذا حمل المدُّ الكثيرَ من الطحالب والأعشاب والأوساخ، فدلالة ذلك أن قاع البحر يحرك الأمواج بعاصفة وشيكة. عندما يتغطَّى البحر باللون الرمادي فذلك نذير توقعات شؤم. إذا ظهرت أسماك القرش بكثرة، فالنوة قادمة. المعنى نفسه يبيِّن عنه اتجاه طيور النورس في اتجاه البر.
ربما تنبَّأ بحالة الجو من تحليق الطيور، في بداية النهار قرب الشاطئ، أو ابتعادها عنه.
كان يتأكد من كميات الماء المختزنة، والأطعمة الباردة والمعلَّبة، والتي تُطهى على النار، ومعدات إصلاح البلانس، والبوصلة، وأماكن النوم، وتوافر الأغطية.
ينادي: ألسطة، بعد أن يطمئن إلى وفرة الأسماك في المنطقة التي وقف عندها البلانس.
يحذِّر من أن يشتبك الغزل بصخور البحر، أو النتوءات المتصاعدة في مياهه. يعلو صوته في لحظة يعرفها: بيرا.
يبدأ الرجال في سحب الشبكة، الجرافة التي صنعَت دائرةً هائلة، تحيط بها — فوق المياه — قِطَع الفلين.
أشد انتباهه لأيام الشتاء. النوات، وهياج البحر، وتعرُّض البلانسات للغرق. ينصح بالمثل: ما بين الغطاس والميلاده … ما لكش يا مسافر معاده.
لا يرفض ركوب البحر. الخروج إلى الرزق مطلوب، لكنه يطلب الحرص والحذر.
يخشى الرياح إذا جاءت من الأمام، يواجه البلانس ما يصعب توقُّعه. إذا جاءت من الخلف، يجعل منها قوةَ دفع للبلانس ليمضيَ إلى الأمام بسرعة أشد.
احتفظ — فيما بعد — بجهازٍ اشتراه له خليفة كاسب، يرصد مواضع أسراب الأسماك، وكمياتها. يثق من النتائج في انطلاقه بالبلانس داخل المياه الإقليمية، أو خارج البوغاز.
قال لخليفة كاسب: شواطئ مصر طويلة، لكنها تستورد أضعاف ما تصيده من سمك.
وداخلَت صوتَه حيرة: شواطئنا لا تكفي. وإذا دخل الصيادون المصريون المياه الإقليمية للدول المجاورة … أُلقيَ القبض عليهم!
أردف متسائلًا: لماذا لا تدرسون هذه الظاهرة؟
– مَن نحن؟
– معهد الأحياء المائية. أظن أن هذه مسئوليته.
اعتاد الرجال مفاجأته لهم بتعبيرات ومصطلحات من اختراعه، تُخالف ما كانوا يُضمِّنونه أحاديثهم. هو الذي أطلق على المرسي أبي العباس اسم «السلطان»، وسمَّى أبا الحسن الشاذلي «شيوخنا»، جمع مشايخ، لأنه قطب أقطاب الطريقة الشاذلية، وسمَّى السماء «المتقلبة» لتقلُّب أحوالها، وسمَّى صيد السنارة «صيد المزاج»، ومناطق وفرة الصيد «غيطان الخير»، وسمَّى كوم بكير «حي المجروحين». أما من يأخذه الموت، فهو مسافر بلا عودة.
وكان الرجال يلجئون إليه عندما يتعلق الأمر بقضايا شائكة، أو معقدة، يتملكهم العجز أمامها عن اتخاذ قرارات حاسمة.
قال: البحر صديق … لا تأمن عداوته!
ثم وهو يُشير إلى أعلى البلانس: هذا الصاري الساكن، شارك النوات في إغراق العديد من الصيادين. يحاولون طيَّ الشراع فتُلقي بهم النوة في قلب الموج.
نصيحته لصياد السنارة أن يقنع بما تصعد به سنارته، أقة أو أقتين. يبيع ما في الغلق، ويعود إلى بيته. يحصل على ما يستحقه. يحصل صياد البلانس على ما يستحقه. وقفة صياد السنارة على الساحل، خطوات داخل المياه، أو على الكورنيش الحجري، أو فوق المصدات الأسمنتية. يأتي الله بالرزق على الساحل، لا نبذل إلا الصبر. البلانس يركب البحر أيامًا، يواجه الرياح والعواصف والنوات والبرد والحر وتقلبات الطقس. حصاده من داخل الأعماق البعيدة.
– نحن نأتي بالسمك إلى الحلقة. لا يأتي من نفسه!
يحب ما يسميه صيد الوفرة. لا تُلقِ بسنارتك أو غزلك إلا إذا قدَّرت أن الصيد يساوي تعبك. حتى الغواص عبد الصمد كسبة عاب عليه أنه يصعد من أعماق البحر بما يصادف يدَيه: لؤلؤ، أصداف، طحالب، أعشاب. لا يحاول التدقيق، ولا يحسن الاختيار. يشغله الغوص، ولا يعنيه إن كان ما حصل عليه يستحق الغوص. يرفض الغزل ذي الثقوب الضيقة. يأخذ الحابل بالنابل. الأحجام الكبيرة من السمك بالأحجام الصغيرة. ربما جففت الزريعة الصغيرة، تصير علفًا للبهائم. لا تنمو الزريعة. تقل في الجرافة والطراحة. يطول انتظار صائد السنارة، ثم يعود باليأس.
الاختلاف بين صياد وآخر — سواء كان صيادًا للجرافة، أم للطراحة، أم صياد سنارة — في اختيار أنسب أماكن الصيد، ومواضع الكثرة والجدب، والأوقات الملائمة. يُلقي الشبكة أو السنارة عند إجادة التوقع، الوقت، والموضع، واحتمالات الوفرة.
كان يعرف مواضع الغوص إلى أماكن تكاثُر السبيط. تلجأ السمكة الرخوية، الهلامية التكوين، إلى ما بين الصخور، وداخل الكهوف والشقوق، والسواحل الهادئة. تهرب من الضوضاء، والأصوات العالية، ومن المياه العميقة. لا يجتذبها نوعٌ واحد من الدعوم: الجمبري، البسارية، العجينة. الصيد ما يحتاجه صيد السبيط، وذكاء الحيلة أيضًا. الصياد يتحايل لصيده، وهو يتحايل للفرار من الصياد.
يعطي وقت البلانسات — في مواعيد محددة من السنة — لصيد السردين، اللآلئ البراقة المليئة باللحم والدهن.
ما جرى له في آخر رحلاته خارج الإسكندرية، دفعه إلى هجر البحر، والاكتفاء بإدارة بلانساته من مقهى الزردوني، أو من الحلقة.
هبَّت عاصفة قاسية من الجانب الشمالي، أطارت الرياح صاري البلانس، ومزَّقت الأشرعة. وجَّهت الأمواج إلى البلانس لطمات متوالية. علَت البلانس تمامًا. اختلطت صيحات الرجال وصرخاتهم بهدير الأمواج. طوقت البلانس كأنها وحش خرافي له عشرات الأذرع. فاضَت المياه من الجانبين. اختلط البلانس بالأمواج العالية، بالبحر الذي يحيط به، يميزه الزبد الأبيض في موضع دورانه حول نفسه، وغوصه. كأن السيول أحاطت بالبلانس من كل جانب، أو أنه الطوفان.
أرجع الحريري إلى بركات الأولياء عودة طاقم البلانس إلى بحري، سباحة، أو بركوب بلانسات أو لانشات أو قوارب عابرة.
كانت السماء — عند انطلاق البلانس من المرسى — صافية، والريح مواتية.
لم يكن بدوي الحريري ممن يؤمنون بالأشباح ولا الجني ولا المارد، ولم يحاول الانشغال بما رُوي عن المارد الذي يهدد السفن المارة في مدخل البوغاز. لكنه كان يحرص، فلا يقترب من الفنار. يعرف أن عسكري السواحل قُتل في ظروف غامضة. لعلها علاقة نسائية، أو جريمة ثأر.
الروايات تحدَّثت عن شبح العسكري، لا يأذن لمخلوق بسكنى الفنار، أو حتى الاقتراب منه. يُطلق الرصاص على السفينة القادمة بمجرد اقترابها.
كان عسكري السواحل يرقب صخب الأمواج، عندما رأى اللانش يقترب من الفنار. بدا كأنه سيصطدم بالبناء الحجري. علا صوت العسكري بالتحذير. انتفض في وقفته، وقفز أعلى السلم. لوَّح بيده، وبالبندقية. تعالَت تحذيراته. فاجأَته الطلقات القاتلة من داخل اللانش، قبل أن يميل اللانش إلى جانب الفنار، ويمضي في الأفق.
رأى الموظف — أعلى الفنار — ما حدث في لحظة أو أقل. أخفق في التعرف إلى من أطلق الرصاص.
هل كان وحيدًا، أو أكثر من شخص؟ وما الملامح التي التقطها ليسهل الوصول إلى الفاعل، أو الفاعلين؟
باع الحريري أربعة بلانسات يمتلكها. أنشأ — بقيمتها — مزارع سمكية هائلة المساحة في بحيرات مريوط وإدكو والمنزلة والبرلس. حققت إنتاجًا وفيرًا من البلطي النيلي والحساني والبوري والطوبار والقراميط، بالإضافة إلى البط البكيني. تنقل اللواري محصولها — كل صباح — إلى الحلقة.
قال: الاستزراع في البحيرات بداية. الاستزراع البحري تكاليفه مرتفعة.
واغتصب ابتسامةً باهتة: أترك للزمن اقتصار مزارعي على البحر.
فوت ملاحظة غريب أبو النجا: لا قيمة للمزارع ما لم نخرج إلى البحار المفتوحة!
•••
قال بدوي الحريري إن مشكلات راكب البحر لا تنتهي، يظل في شوق إليه إذا ابتعد عنه، وفي شوق إلى الأرض إذا طالت غيبته عنها.
وخالط صوتَه قلق: هل أُضيع ما تبقَّى من العمر في الحياة على أرض مهتزة؟!
وحسم الأمر بقوله: لن أظلَّ صيادًا طول حياتي. لم تَعُد صحتي تسمح بركوب البحر.
ظل على حرصه بالمشاركة في سباق البنز والخيل والسيارات، وعلى المشاركة في سباق القوارب — يوم شم النسيم — في المينا الشرقية. ترفع القوارب الأعلام الحمراء والزرقاء، طرفا السباق من السيالة ورأس التين.
يُلقن بدوي الحريري صبيانه ما يغنونه، حين يبلغ قاربه خط النهاية، قبل القوارب الأخرى:
يأمر الصبيان.
يرفعون أصواتهم بالغناء حين يرد أهل السيالة:
لما اختفت ابنتُه مكية — في ظروف غامضة — مال إلى الاعتكاف في بيته. لا يُطل على البحر، لكنه على مقربة منه، يفصل بينهما صفٌّ من البنايات، وشارع جودة الممتد ما بين شارع صفر باشا وميدان إبراهيم باشا.
شغله البكاء والتضرع والاستغفار، وإحياء الليل بكثرة الركوع والسجود. بدا كأنه سبح في بحار الجلال، وأخلص في الرياضة والمجاهدة، وقراءة قصص الأنبياء والمرسلين والعلماء والشهداء والتابعين والصالحين، سعيًا للمكاشفة والمشاهدة والمناقب والبركات والمكاشفات والخوارق والمعجزات.
يثبت مؤشر الراديو على محطة القرآن الكريم. يعلو بالصوت إلى مداه. يبتلع ما في أجهزة الراديو في البيوت المجاورة من موسيقى وأغنيات.
•••
طرأ على حياته ما بدَّلها.
لم يردَّ على أسئلة الناس الصامتة، لكنه فاجأ زحام حلقة السمك بتحية الصباح، والجلوس وراء المكتب المعدني. عاد إلى قهوة الزردوني، يلعب الكوتشينة، ويشرب الشيشة، ويدخل في مناقشات.
أعدَّ نفسَه للترشيح لمجلس النواب. زكَّى الناسُ ترشيحَه. هو ابن بحري. سامي بهاء الدين، وافدٌ على الحي، بلا جذور عائلية. إقامتُه في منطقة الرمل. ستانلي أو ميامي، حتى عنوان بيته، أو حياته الخاصة، لا يكشفهما لأحد.
ما رجح كفة بهاء الدين — قبل أن يفتح باب الترشيح بأيام — زواج بدوي الحريري من الغجرية نعمات.
تعدَّدت رؤية الحريري لنعمات في المنام.
قال الشيخ عبد الستار: معنى الحلم نقص في الدين، أو الاقتران بامرأةٍ بغيٍّ!
لما حلم أنه يذبح نعمات، قال له الحاج جودة هلال، وهو يغمز بعينه: دلالة الحلم أنك ستطأ المرأة!
زاد انشغال الحريري بنعمات. تابعها — بعينيه — في شوارع بحري، وأكثر من السؤال عنها، وتكررت دعوتُه لها في بيته.
قال للشيخ عبد الستار إنه أدى صلاة استخارة. اطمأن بها إلى صدق نيته في الزواج بنعمات.
بدَا زواجُه بها تصرفًا غريبًا، كنوة قاسية، في غير موعد ولا توقع.
اقتصرت الأحاديث على الفعلة الغريبة للحريري، في البيوت والمقاهي والساحات، والهمسات في حلقة السمك والبلانسات والقزق وشاطئ الأنفوشي. أدرك أن سامي بهاء الدين أذاع سرَّه، وأن الناس عرفوا من أمره ما كان يُخفيه.
حين تَبِع الرجلُ طلاقَه للمرأة بعزوفه عن التقدم للانتخابات، قلَّت الأحاديث، وشحبَت، حتى تلاشَت.
عادت الحياة إلى سيرتها.
•••