جميل الخضراوي
أُنشِئ المعهد الديني بالمسافرخانة في ١٩٠٤م. أول شيوخه الشيخ محمد شاكر.
ظهر جميل الخضراوي في حياة المعهد الديني — للمرة الأولى — حين قَدِم من مدينته — الدلنجات — بعد أن حفظ القرآن في الكُتَّاب، وتعلَّم ما يؤهله لدخول الأزهر.
طالعَته البناية ذات الواجهة المتآكلة، والنوافذ الخشبية العالية، الكالحة اللون، والشرفات الحجرية، التي تغطَّت بطبقة من الطحالب الخضراء، وتساقط العديدُ من مقرنصاتها.
صَعِد الدرجات الرخامية الخمس المفضية إلى ظلمة المدخل.
وجد لنفسه مكانًا في حجرة يقيم فيها أربعة طلاب. قاسم الطالب إمام أبو زيد خزانته الخشبية. وضع فيها ثيابه وكتبه، ودق مسمارًا في الحائط لتعليق الجبة والكاكولا والقفطان. شارك الطلبة طعامهم، وأدوار الشاي.
أَلِف السلمات الرخامية المتآكلة، الدرابزين المعدني الأسود بنقوشه المتداخلة، الجدران المكسوة بتكوينات النشع، أبواب الحجرات المواربة، يتسلل من ورائها ضوءُ النهار، أو ضوء اللمبات في الليل، تمازج روائح الطعام والبخور والصنانة المنبعثة من دورات المياه. حتى تيار الهواء من نافذة المنور المطلة على الناحية البحرية، يُغلقها الطلبة — اتقاء البرد — في أيام الشتاء، ويستلقون على أرضية الردهة — تحتها — ليالي الصيف.
كان الخضراوي يترك المعهد — في صباحات كثيرة — إلى عمل لا يتحدث عنه. يعود — وقت العصر — متعبًا. يغفو بما يُعينه على استكمال نهاره، والمذاكرة، والسهر.
التقى به الشيخ رافع عبيد في المكتبة الحجازية. التقط إيماءات عن ظروف قاسية، شحيحة الموارد، في الدلنجات، وفي بيت المسافرخانة.
عرض الشيخ رافع أن يساعده في أمر الكُتَّاب، بعد أن تركه العريف شحاتة عبد الكريم.
قال الخضراوي: أحوال البلد تشغلني حتى عن نفسي!
حين قامت ثورة ١٩١٩م مال جميل الخضراوي إلى الانفراد والعزلة، وإن أظهر غضبه لإطلاق قوات الإنجليز الرصاص ١٢ مارس ١٩١٩م على المصلين في أبي العباس، لما هتفوا بسقوط لجنة ملنر. وشَى صوتُ الخضراوي بمرارة، وهو يتحدث عن مشاركة البوليس المصري للجنود الإنجليز في إطلاق الرصاص على المتظاهرين.
هل يؤدبونهم لأنهم يعبدون الله؟ أليست هذه بلادهم؟ أليس مَن قُتلوا، أو أُصيبوا، أبناءهم؟
عاب عليه الشيخ لبيب الشامي أنه لا يستطيع الفصل بين مشاعره الخاصة ومشاعره العامة: ما يحدث كله أنت غير مسئول عنه. هذه مسئولية مَن يحكمون!
ورماه بنظرة مستاءة: أنت مجرد طالب علم.
قال الخضراوي: أشعر أن كل ما يجري هو أمر شخصي بالنسبة لي.
قال الشيخ في استيائه: ليس إلى حد أن تُهمل مستقبلك.
رفض أن يخرج في المظاهرات، من بدئها في المسافرخانة إلى معسكرات الإنجليز في كوم الدكة. ربما مضوا — جماعات متفرقة أو فرادى — من المسافرخانة. يخترقون الحجاري والموازيني إلى ميدان أبي العباس. ينطلق صوت المؤذنين من أعلى جوامع الحي، يمتلئ الميدان بزحام المتظاهرين. آلاف الطلبة والصيادين وباعة السمك وغازلي الشباك وعمال الميناء وأسطوات القزق والفتوات والأبوحمدات والعمال وصغار الموظفين وأهل الحِرَف، يقف جنود الإنجليز في صفوف بعرض الميدان، يتخللها جنود الخيالة، في المسافة إلى نهاية حديقة الملكة نازلي. تلاصقوا، حملوا البنادق والهراوات والعصيَّ. في النواصي، سيارات امتلأت بالجنود.
تعكس جدران الصحن صدى الهتافات من داخل الجامع. يندفع الجنود للدخول. يسد المصلون والمتظاهرون الأبواب المفتوحة بأجسادهم. يتحركون في الشوارع الموازية لطريق الكورنيش. يواجهون قوات الإنجليز بالحجارة والزجاجات الفارغة والمملوءة بالرمال.
يخلو المعهد — في معظم أوقات النهار — إلا من بضعة طلاب، جميل الخضراوي أحدهم.
يميل إلى الناحية المقابلة لخروج المظاهرات. يمضي في شارع المسافرخانة حتى نهايته، ثم إلى الحجاري. ينحرف يسارًا في شارع رأس التين، ثم إلى شارع الميدان. يبتلعه زحامه.
لم يكن يسأل الطلبة عن المظاهرات، حتى لا يسألوه — ربما — عن عزلته. يغيب النهار بطوله. يعود أول الليل. قد يتأخر إلى منتصفه، على ملامحه تعبٌ واضح. يبدو شخصية منغلقة، يشارك في المناقشات بالصمت، لا يبتسم لنكتة أو دعابة، يكتفي بالرد على الأسئلة بكلمات قصيرة، مدغمة. دقائق، ثم يتمدد على جنبه، وينام.
في أثناء وزارة يوسف وهبة باشا، حرص جميل الخضراوي أن يتوسط حلقة الطلبة في مدخل البناية، تلا آية القرآن، أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ، ما بين سبع قراءات، وأربع عشرة قراءة.
هتف الشيخ الشامي: آيات القرآن كثيرة … لماذا هذه الآية؟!
•••
اختفى الشيخ الخضراوي.
لم يلحظ الطلبةُ غيابَه، أو أنهم توقعوا سفره إلى الدلنجات، فيعود بعد أيام.
في صباح اليوم الخامس، سأل عنه شاب لم يتردد على المعهد من قبل. في حوالي الخامسة والعشرين. صوته العميق يناقض ضآلة جسده. يرتدي جلابية من البوبلين، أغلق أزرارها، ويضع على رأسه طاقية بيضاء، ويدس قدميه في قبقاب خشبي، يُصدر — إذا سار — صوتًا ذا إيقاع.
ترك الشاب المعهد دون أن يذكر إن كان صديقًا للخضراوي، أم بلدياته، أم تربطه به ظروف عمل.
شحبت الأسئلة بتوالي الأيام. اعتاد المعهد غياب الخضراوي. لم يسأل الطلبة إن كان موجودًا في حياتهم أصلًا.
قال إمام أبو زيد: دخل جميل الخضراوي المعهد وفي نيته ألَّا يتركه.
قال الشيخ لبيب الشامي: لكن نظام الفصول الدراسية يختلف عن الجلوس إلى عمود شيخ في الجامع.
•••
ذات عصر، عاد جميل الخضراوي إلى المعهد الديني.
كان انفعال القلق والترقب قد هدأ. عاد سعد زغلول من المنفى، وصدر تصريح ٢٨ فبراير، وتولَّى سعد زغلول رئاسةَ الوزارة. تخرَّج في المعهد طلبة، وقدم طلبة آخرون.
ظهوره في انحناءة الطريق من المسافرخانة أحدث في نفوس الأساتذة المشايخ وعم البلاقسي حارس المبني شعورًا بالمفاجأة.
روى الخضراوي — بين أدوار الشاي — عن أيام الاعتقال في شاطئ أبي قير، معسكر له أسوار، يحرسه جنود إنجليز وهنود.
قال: تحوَّل الشاطئ من معتقل لأسرى الحرب الأولى إلى معتقل لثوار ١٩١٩م.
قال الشيخ محمود شلتوت المدرس بالمعهد: أنت لم تخرج في المظاهرات.
دون أن يجاوز هدوءه: اتُّهمتُ بقتل عسكري إنجليزي.
حدجه الشيخ بنظرة متوجسة من تحت حاجبيه الكثيفين: قتل؟! … هل قتلتَ بالفعل؟!
– هذا هو الاتهام!
ثم في مرح متكلف: لو أنه صحيح ما أفرجوا عني.
أعاد الشيخ السؤال: هل قتلت بالفعل؟
ظل الخضراوي صامتًا.
لم يكن من الصعب على الشيخ شلتوت أن يستنتج ما حدث.
•••
قدَّم علماء الأزهر إلى سعد زغلول — عقب تشكيل وزارته — عريضة، يطالبون فيها بإصلاح الأزهر، وإلغاء مدرسة القضاء الشرعي.
شكَّل سعد لجنة للنظر في مطالب الأزهريين، من بين أعضائها حسن نشأت وكيل وزارة الأوقاف، والساعد الأيمن للملك فؤاد.
قدَّمت اللجنة تقريرها إلى سعد زغلول. طلب إعادة بحث ما تضمنه من اقتراحات. استغل القصر الفرصة. خرج طلاب الأزهر في مظاهرات، تردَّدت خلالها — للمرة الأولى — هتافات تُنادي بحياة الملك، وأنه «لا رئيس إلا الملك»!
عزف الخضراوي عن المشاركة في المظاهرات، وأبدى استياءه.
تبدَّل حاله إلى غير ما اعتاده طلاب المعهد. اتصلت أحاديثه عن ضرورة العيش بكرامة، ورفض الشعارات الزائفة، وعدم تصرُّف المشايخ بطريقة مَن لا يعقلون.
خرجت مصر من السودان، ومات سعد زغلول، وخرج الوفد من الحكم.
اندس الخضراوي — ذات صباح — بين الطلبة الواقفين أمام لافتة على باب بناية المسافرخانة.
قرأ بيانًا بتوقيع الشيخ الظواهري شيخ الأزهر: «أيها الشعب الوفي. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ. وإن من فضل الله علينا أن كان صاحب الأمر فينا هو حضرة صاحب الجلالة مليكنا المعظم الملك فؤاد الأول، حفظه الله وأيَّده بروح من عنده …»
جذب الخضراوي البيان. مزَّقه، فانفضَت الوقفة.
قال وهو يتجه ناحية السلم: بيان سخيف، مَن وقَّعه أسخف منه!
في جلسة المساء، لم يَعُد هو جميل الخضراوي الذي يعرفه زملاؤه. كان أميل إلى تفضيل الصمت والاستماع عن كثرة الكلام. كلماته خيط بلا نهاية. تكلم وتكلم، عن أولي الأمر في القرآن، اعتداء حكومة صدقي على الدستور، عشرات القتلى من المتظاهرين في الشوارع، معنى الشرعية في الحكم الاستبدادي. غلبه الانفعال. علا صوته بالحديث عن الدور الحقيقي لعلماء الدين.
•••
عندما خرج جميل الخضراوي في الصباح، وتأخرت عودته أيامًا متوالية، تذكَّر مشايخ معهد المسافرخانة غيابه في أعوام ثورة ١٩١٩م.
توقَّعوا عودته ليحكي ما حدث.
طالت غيبةُ جميل الخضراوي عن المعهد. تذكَّره المشايخ في ومضات، ما لبثت أن اختفت.
توالت الأعوام، فلم يَعُد في المعهد مَن يذكره.
•••