جنيُّ البحر
الجنيُّ مشتق من أجنَّ الشيء، أي أكنَّه وأخفاه.
خلق الله الجن قبل أن يخلق الإنسان. خلقهم من مارج النار، وهو الهواء الساخن فوق النار، ومن نار السموم. يختفون عن الإنس، فلا تُدركهم حواس البشر في الظروف العادية. يحيون في عالم مجهول. يرون البشر، ولا يراهم البشر. لا وسيلة للتيقن من الوجود وإدراك الصفات، سوى بيان القرآن والسنة.
ذكر الله — سبحانه — الجن في القرآن اثنتين وعشرين مرة، وجاءت كلمة الجان خمس مرات، والسورة الثانية والسبعون من سور القرآن هي سورة الجن. يقول الحق تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ.
يأكل الجن، يشربون، يتزاوجون، يتناسلون، يرون البشر، وإن لم يملك البشر الفعلَ نفسه. خلق الله الإنس والجن لعبادته وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.
الله — سبحانه — غنيٌّ عن العالمين، لا تنفعه طاعة، ولا تؤذيه معصية. خلق الإنس والجن لعبادته، ليكتملوا بهذه العبادة. يتجلى عليهم — بإخلاصهم فيها — بأنواره وفيوضاته ومدده.
الجن يعبدون الله بما أمر، دون إكراه. منهم الصالحون والطالحون، الخيِّرون والشريرون، المؤمنون والكفرة.
ثمة مَن يصدقون وحي الله ورسالة محمد، ويدعون أقوامهم إلى الإيمان بالله ورسوله، وبالقرآن دستورًا لكل البشر. وثمة شياطين الجن، يُقدِمون على المعاصي، ويرتكبون الشرور.
الجن يسكنون الأماكن التي لا يسكنها البشر، أو يقلُّ تردُّدهم عليها. الصحاري والخلاء والخرائب والمساحات غير المأهولة من البحر.
هو جنيُّ البحر، وهو ساكن الماء.
تعددت الروايات حول ما إذا كان — في تكوينه الجسدي وملامحه — أقرب إلى البشر، أو مخلوقات البحر.
تكررت روايات الصيادين عن رؤيته يتقافز فوق المياه. وقال غريب أبو النجا إنه شاهد الجني يرقى البلانس في مرساه، ويتجول فوقه، ويتسلَّق الصاري، ثم يقذف بنفسه — بعيدًا — في الأمواج.
هيئة الجني كما تحكي الحواديت: الجسد النحيل العاري، الكثيف الشعر، الأظلاف في القوائم الأربعة، العينان الواسعتان المستديرتان، الذيل الطويل أشبه بذيل الحصان، القرنان النافران أعلى الرأس.
ثمة مَن رآه في هيئة الشيطان، كما وصفَته أحاديث الوعظ والحواديت. وثمة من ميَّزه رغم تقمُّصه هيئة البشر. وقيل إنه يتحرك في شكل طيف لا يكاد يُرى.
قال الريس غريب أبو النجا: إن الجني هو ذكر عرائس البحر. تشحب قوته أمام إرادة عروس البحر، هي التي تأمره، وتعيب أفعاله، أو تُثني عليها.
ثمة مَن كانوا يخشَون ذكر اسمه، أو كنيته. يكتفون بالإشارة إلى الموضع الذي يحدسون اختباءه فيه.
•••
عرف أهل بحري جنيَّ البحر بأفعاله.
لا يرونه، لكنهم يشاهدون تأثيرات ما يفعل، يُنقذ الغرقى، يساعد في جذب شباك الجرافة، يُعيد الفلايك التي تطوح بها الأمواج، يهب الناس من العلامات ما يُعينهم على التنبؤ بأحوال البحر، يحذِّر الصيادين، والبحارة — متخفيًا — من خطر وشيك، أو يُنقذهم حين يبدو الغرق، الموت، احتمالًا وحيدًا.
غريب أبو النجا لم يكن يثق في نيات الجن. مَن يلامسه الجني بطرف إصبعه، يتحول إلى تمثال من الحجر أو الصخر. حذَّر الصيادين من أن يلتفتوا وراءهم، لتبين موضع نداء، أو استغاثة، أو غناء.
كان الصياد السعداوي شبانة منشغلًا — ذات ليلة قمرية — بجذب الطراحة. أضاء الشاطئ نورٌ خاطف، ما لبث أن اختفى. تلفَّت السعداوي حوله لتبيُّن مصدر الضوء. طالعَته الظلمة الساكنة من حوله.
أخبره غريب أبو النجا أن الضوء الذي فاجأه هو جني البحر. صعد من موضعه، ثم غاص إلى حيث يُقيم. كان صعوده الخاطف لفك الغزل — قبل أن يتمزق — من صخور الشاطئ.
طاقم البلانس «السهم الذهبي» تأملوا الموضع الذي حدسوا أن الجني لامسه بيده. وجدوا غطاءً على ثقب في جانب البلانس. عرفوا أن الجني أنقذهم من خطر الغرق.
ربما تحوَّل جني البحر إلى شبهِ سحابة سوداء من الدخان، تشحب، تتلاشى. يظهر في موضعها تكوينٌ جسدي. يُمسك عصًا من شجر الجميز. يمدُّ بها يده، يُحيط عنق مَن يحاول الفرار، يُطمئنه ويريح نفسه. إن كان الشخص من فاعلي الشر، أو بدا نزوعه إليه، أرهقه بالأذى حتى يموت.
يحرص — طيلة فترة تحوره — ألَّا ينزل البحر، أو ينظر إلى مياهه في وجود آخرين. ملامحُه الحقيقية كجنيٍّ هي التي تتراقص في المياه.
إذا نظر في الماء، رأى ملامحه الحقيقية.
حتى لو بدَّل هيئته، في شكل إنسان أو حيوان أو طائر، فإن التموجات لا تعكس إلا صورةَ الجني: عينَيه المستديرتين، شعره الكثيف يغطِّي رأسه وجسده، الأظلاف المشقوقة في نهاية اليدين والساقين.
يُعيد النظر في صفحة الماء. يعرف أنه هو الجني وليس ما تقمصه. يرى نفسه بغير ما يتوهم الناس. يتصورونه ما تشكل فيه، لا يخشَون أذاه، ولا يبادرونه بالعداء.
يدرك أن الموقع الذي اختاره قريب من الأرض التي يحيا فيها البشر. إذا لم يعمل على إخافتهم، فربما سعَوا إلى أذيَّته. يعلو صوته — في فترات متقاربة — بما يُشبه الزئير، يردهم عن مجال عيشه.
لأن خليفة كاسب لم يلتقِ بجنيِّ البحر، ولا رآه طيلة حياته في البحر، فقد أنكر وجوده. أعاده إلى الأخيلة والتصورات، ورؤية ما تريد العين أن تراه. هو أشبه بسراب البحر.
•••
روى سويلم أبو العلا أن كرم حامد كان يستمع إلى هاتف، يأتي إليه من أعماق البحر. يُناديه باسمه. يكرر المناداة في صوت يغلب عليه الحنين واللهفة.
لم يكن كرم يعرف أن الصوت لأبيه، الجني الذي يرى ابنه أمامه على الشاطئ، أو في داخل البحر. لا يراه كرم في اختفائه، ولا يعرفه في تقمُّص سحن البشر.
أرجع سويلم أبو العلا امتلاء طراحة كرم حامد، بينما صيادو الطرَّاحة يعانون قلة المحصول، إلى مساعدة جني البحر. يُدرك معنى العلاقة، وما يحرص جني البحر على فعله.
كان الجني يُحيط كرم برعايته، يحميه من الشرور التي تهدده، يومئ — بتصرف — إلى الطريق التي يجب أن يسلكها، وما ينبغي أن يتسلح به لمواجهة الخطر. قد يعطيه إشارة عندما يقترب الخطر من حياته. يلتقط كرم الإشارة، كالهاتف أو الحدس أو التخمين. ينقلها إلى الصيادين معه، فيحاولون اتقاء الخطر.
•••
اعتمد كرم حامد على قوَّته، وركب البحر.
كانت النوة قد ألزمت الصيادين الشاطئ، وطرحت التوقعات السيئة نذرها.
فاجأَته النوة بما لم يتوقع: علَت الأمواج، تلاعبت بالقارب. عجز كرم عن التجديف، أو محاولة إلقاء نفسه في البحر.
لاحظ الجني ما جرى. يعرف ما بينه وبين كرم. اخترق الأمواج. احتضن كرم والقارب، علَت بهما يده فوق الأمواج، ومضى في اتجاه الشاطئ.
أشفق الجني أن يراه كرم في هيئة الجني. وسَّده على الرمال، واطمأن إلى انتظام أنفاسه.
وانطلق.
•••