جودة هلال
سحب عمران الخولي كرسيًّا، وجلس وسط الجلسة أمام دكان الحاج جودة هلال. جال بعينَيه كمَن يفتش عن مستمع لما ينوي قوله. تحدَّث عن لقائه ببيرم التونسي خلال أيام عمل قصيرة أمضاها في القاهرة. استعادَا ذكريات بحري، والصيد في الأنفوشي، وعشرة السيالة، وليالي رمضان في ميدان أبي العباس، وسباق البنز، وهجاء التونسي للملك فؤاد.
شكا الخولي لبيرم صعوبةَ الفوازير التي تُقدِّمها له الإذاعة عقب إفطار رمضان. اكتب شيئًا يسهل علينا فهمه.
قال بيرم التونسي: نحن في النصف الثاني من رمضان، إن تيسر وقت سأقدم حلقة من الفوازير عن بحري.
علا صوتُ سيد حلال عليه كالمتذكر: بالمناسبة، ليلة القدر، هل هي في الأيام السبعة أو العشرة الأخيرة من رمضان؟
تعددت الاجتهادات والآراء، حتى أدركهم الملل.
حسم الحاج جودة هلال الأمر بقوله: شهر رمضان كله بركة!
لاحظ وقفة المرأة المرتبكة، تُعيد تسوية الملاءة على جسدها، وتتلفت.
تحدَّثت المرأة عن المغص الذي كأنه استقر في بطن ابنها.
قال: العشبة دواء الولد.
ووشَى صوتُه بالثقة: وصفة مجرَّبة لطرد الديدان.
– عند العطار؟
– فتِّشي عنها قرب الشاطئ … تُغلَى في الماء، وتُسقَى للولد منقوعة.
اتجه الحاج جودة بنظراته وكلامه إلى جلسائه أمام الدكان. يتحدثون عن أحوال الجو، وصرف مياه المجاري في المينا الشرقية، وحكايات الجرائم المثيرة، وعبر الحياة، وتأثيرات النوات على راكبي البحر والصيادين والناس العاديِّين، ومباريات الكرة في الأراضي الخلاء، ومعارك الفتوات.
عندما يبدأ في الحكي، فإنه لا يعرف له نهاية. يُشرق ويغرب. يروي ما يَفِد إلى خاطره. يلجأ إلى ذاكرته، حتى في الأحداث التي ربما نسيها الآخرون. يتمتع بقدرة مذهلة في الحكي والتأليف. يمزج الخيال بالأحداث الحقيقية. يُضيف، ويحذف، ويُبدِّل، ويُحوِّر. يُضفي تشويقًا وإثارة بما يحضُّ على المتابعة.
يُطالعه السؤال: من أين لك كل هذه الحكايات والحواديت والنكات والنوادر؟
يردُّ بصوت محايد: خبرة الأيام!
لا يُضيف إلى الكلمتين، ولا يحذف، كأنه يتوقع السؤال، فأعد له إجابته المحددة.
وسأله خليل الفحام: ألَا تؤلف؟
اختار ردًّا مراوغًا: الحياة تؤلف فينا حتى نموت!
حذَّر جلساءه من مراقبة رجال الشرطة السريِّين.
قال شحاتة عبد الكريم: باب الدكان على الشارع.
قال جودة هلال: مضى على هزيمة يونيو أقل من عام. المناقشات السياسية ترفٌ لا نقوى عليه!
لم يكن يحب السياسة، ولا يتابع أنباءها، يثق أن الحياة فيها ما هو أهم من السياسة. لم يكن يتبنَّى أفكار حتى حزب الوفد الذي يحبه أهل بحري. الحزبية من التحزب، والتحزب يعني الفرقة والتشتت. وحين تتناثر أسماء الملك فؤاد وسعد زغلول وهتلر وموسوليني وإسماعيل صدقي وتشرشل وستالين وفاروق ومصطفى النحاس وبن جوريون وجمال عبد الناصر، يبدِّل المناقشة. يُبعدها عن حديث السياسة. هذا هو ما ينبغي أن تتناوله الجلسة.
سعى إلى صحبة الشيخ عبد الستار إمام على تمراز. يستمع إلى أقواله ونصائحه، يراقب تصرفاته وأحواله الطيبة، يتعلم منه، ويدلُّه على ما يُفيده، وينظم خطواته. يحاول التشبه به.
لم يقتصر على الحلاقة، فهو يعالج المرضى من أبناء بحري، بالأغذية بدلًا من الأدوية. للكيمياء مضارها. أول أدويته عسل النحل، هو مستخلص من الأعشاب والزهور. يعالج بالأعشاب والشيح والحرجل وحلف البر والمرمرية والحنظل. يلجأ إلى موسَى الحلاقة — بعد غمسه في الكولونيا — لفصد الدم من المواضع الملوثة. يَصِف كاسات الهواء والحقنة الشرجية والحجامة. قد يستعين بالوصفات الشعبية، التي تُهمل علاج الأطباء، وبالرقى والأدعية والإشارات. يُهمل السؤال عن أعراض المرض، وعن الأمراض السابقة، والأدوية التي تعاطاها، وما إذا حققت نسبة من الشفاء.
يلجأ — في مداواته — إلى ما ذكره القرآن من النباتات: التين والزيتون والزنجبيل والكافور والنخيل والأعناب والرمان والثوم والبصل والريحان وغيرها. يُعِد خليطَ الأعشاب، يُضيف إليه الماء، يضعه على النار الهادئة، حتى ينضج، يدهن به الأمراض الظاهرة من الدمامل والجروح والتقرحات والتقيحات والأورام، تجد الشفاء سريعًا بإذن الله، كما تشرب لأمراض المعدة والدم. يطرد الرطوبة من الجسد والعضلات والمثانة، ويُفيد في تقوية جهاز المناعة، ويُحيل الضعف الجنسي قوة مؤكدة، ويقضي على سرعة القذف، ويُفيد في زيادة الخصوبة، ويشفي من السلس البولي والتهاب البروستاتا.
يصف جودة هلال الغرغرة واللبخة واللزقة، وينصح بالزعتر لتقوية الباه، وبالتدليك والتمرينات الرياضية، وبالثوم في أمراض ارتفاع ضغط الدم، والعدوى المعوية، وزيادة السكر في الدم، وضيق الأوردة، وتصلُّب الشرايين، ورواسب الدهون والجير، ووجع الصدر، والسعال المزمن.
وضَعَ قطراتٍ من ماء البصل في أُذُني الشيخ خلف فرحات، بعد أن ثقل سمعهما. ذهب ما بهما من الطنين والصملاخ. اشتهر عنه علاجه بالحبة السوداء، يضمن شفاءه من يعالجه، حتى لو بدا المرض مستعصيًا.
اعتاد الناس نصْحَه بأكل طير السمان: يفتِّت الحصى، ويُدِر البول. إذا قطر دمه في الأذن سكن إليها، ودوام أكله يجعل النفس أميل إلى الهدوء والطمأنينة.
قال بدوي الحريري: لم يَعُد السمان يأتي كما كان يأتي إلى الإسكندرية.
قال غريب أبو النجا: قيل إن إنشاء السد العالي هو السبب!
صنع الأحراز لمن يعاني تقدُّم السن، ووهن الشيخوخة، وتلاشي القدرة الجنسية. مَن يتعاطى ما يَصِفه له الحاج، ذهب عنه جميع ما كان به، واستعاد صحته.
باعه معاذ حويدق التاجر بالبلقطرية حبوبًا، أكد قدرتها على صفاء النفس. قرأ خليل الفحام غلافها، فنصحه بالتخلص منها. هي مجرد حبوب للهلوسة.
كتب الأحجبة للوقاية، وللشفاء، من كل آفة للرجال والنساء والأطفال. إن علَّق الحجاب على وجع الحمى، أو البرد، أو الرمد، أو الرياح، أو وجع القلب، أو الصداع، أو ألم الضرس، أو الخوف من الإنس والجن؛ يشترط على حامل الحجاب/الحرز ألا ينظر إليه، ولا يترك الآخرين ينظرون إليه، وأن تظلَّ مخفية عن عين الشمس.
قد يفعل ما قرأه عن السلطان، تعلَّمه من الخضر عليه السلام. يضع يده على الموضع المصاب، أو الذي يصرخ بالألم. يقول: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ. يظل يردد الجملة حتى يذهب الألم. قد يمسد رأس المريض: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر. يكرر ما قال سبع مرات، ثم يقول فيما يُشبه الهمس: «اللهم رب الناس، أذهب الباس، اشفِ وأنت الشافي. لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا».
يعرف أنه لا مانع لمراد الله، لا راد لقضائه. الإنسان مآله الموت. قد يُطيل العلاج حياته، قد يُرجئ موته، لكن يظل الموت ماثلًا في الأفق.
ما يفعله مجرد توسل، شفاعة بوسيلة إلى مقام الحضرة الإلهية. سر الله المكنون يُودعه فيمن يشاء من أوليائه، حتى عباده البسطاء الطيبين.
استعار من حجازي أيوب مؤلفات ابن البيطار: الجامع لمفردات الأدوية والأغذية، مختصر الجامع في الأدوية المفردة، شرح أدوية كتاب ديسقوريدس، ميزان الطبيب، الإبانة والإعلام بما في المنهاج من الخلل والأوهام.
أعدَّ الأحجبة ضد أعداء الله. لا يحمل الحجاب بشرٌ إلا أحبه خلقُ الله، وسَلِم من تدبيراتهم، ورسخت في قلوبهم هيبتُه. لا يسأل الله به شيئًا إلا ناله، ومَن داوم على حمله فرَّج الله عنه كربه، ويسَّر عسره، وشرح صدره، وأعانه على الطاعة، وأدخله في دائرة الشهادة والشفاعة.
يوصي بكتم الحجاب حتى عن أقرب الأقربين؛ لأن فيه اسم الله العظيم فلا يتلاعب به مَن يصل إليه، ويُدرك تأثيره، فيتجه به إلى الشر. أحرازه تتشفع ببركات الأولياء، تُذهب الهمَّ والغم والأوجاع والضر. يخرج المرء من الضيق إلى السعة، ويجد في حياته مَن ينصره، ويُعينه، ويرزقه خير الدنيا والآخرة.
يعلو صوتُه بدعاء الرسول: «بسم الله، أعوذ بعزة الله، وقدرته، من شر ما أجد وأحاذر. أذهب الباس رب الناس، اشف، لا شافي غيرك، شفاء لا يغادر سقمًا. أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يشفيك.»
شكا له قنبر عبد الودود متاعب حياته. كتب كلمات على ورقة. تلا عليها تعاويذَ ورقًى. طلب من قنبر — وهو يقدمها له — أن يحفظها عن الأعين، وألا يتكلم بشأنها مع أحد، وأن يكرر قراءتها حتى الحفظ، يستعيدها، ويردِّد كلماتها كلما تأزمت حياته. يأتي الفرج بإذن الله: بسم الله ما شاء الله، لا يسوق الخير إلا الله، بسم الله ما شاء الله … ما كان من نعمة فمن الله … بسم الله ما شاء الله … لا حول ولا قوة إلا بالله.
دفع الصياد سويلم أبو العلا إلى إهمال علاج الطبيب الأرمني بشارع إسماعيل صبري. أقنعه بأن ما يعانيه مع امرأته ليس ارتخاء ولا ضعفًا. تحويجة المخدر تُنسيه الارتباك، وما يتوهمه من العجز. يؤدي واجبه الزوجي بصورة صحيحة.
خصص فاترينة في مدخل الدكان لبيع ما ورد في القرآن وصحيح الحديث النبوي، وأثبت العلم جدواه؛ كالمسواك، وأوراق شجرة الليمون، وعسل النحل. امتلأت الأرفف بزجاجات العطور، والأعشاب، والزيوت، والدهانات، والمراهم، والعقاقير الطبية، والبودرة، وماء الزهر، وماء الورد، وأكياس المساحيق، والقطن، والمعاجين، والكريم، وقطع الشبة والأربطة.
فصل عدة الحلاقة: الموسى والمقصات والماكينة والمشط وزجاجة الكولونيا وعلبة الكريم وقطعة الشبة ولفة القطن، فصلها داخل حقيبة جلدية صغيرة. تظل الحقيبة مغلقة. يفتحها إذا همَّ بالحلاقة.
لم يكن يُجري عمليات الختان إلا نادرًا. يتأكد من الأدوات، ومن موضع الإزالة، ومن تثبيت فخذي الطفل بيدين قويتين. يستعيد ما حدث حين كان صبيًّا في دكان الأسطى خيري أبو طه الحلاق برأس التين. وجد في نفسه الاستعداد لإجراء عمليات الختان. جرى بالموسى على حشفة قضيب الولد، فكاد يخصيه. واجه العقاب، لولا أن أهل الولد شالوه إلى الطبيب الأرمني، فأنقذه.
•••
المصادفة وحدها هي التي قادت الحاج جودة هلال إلى علاج الأمراض بمخاطبة الروح.
وجد الكتاب يُطِل في رفٍّ بالمكتبة الحجازية، فاستعاره. أتمَّه في الليلة نفسها. عاد إلى قراءته مرة ثانية، وثالثة، حتى حفظه تمامًا. تعلَّم قراءة الأفكار والأدعية والتنويم.
لم يَعُد يثق في الأطباء أو الصيادلة، أو يؤمن بالعقاقير الطبية والجرعات علاجًا للأمراض، أو الإبر، أو جلسات الكهرباء. إنها إما مسكِّنة، أو مخدِّرة، أو مسهِّلة، أو مطهِّرة. تعالج العوارض، وتترك للطبيعة علاج المرض. يَثِق في القوة الهائلة داخل الجسد. لا يعرف هو نفسه طبيعتها. هي قوة تفوق العقاقير والإبر والكهرباء، وكل وسائل العلاج الحديثة. لعلها أشبه بالينبوع الإلهي داخل جسد الإنسان. لا أحد يدري منبعه، وإن ظل بلا نهاية حتى ختام الحياة.
اقتصر على العلاج الروحي. يطلب من المريض أن يترك له نفسه. هو كالمريد في حضرة القطب، كالميت بين يدَي المغسِّل. يسلِّط عليه الحاج جودة دائرة القوة بين الذراعَين اليمنى واليسرى. يضع يديه على الموضع المصاب، لحظات قبل أن يحرِّكها، يأخذ التدليك مساحة طولية ودائرية، ويعود إلى الموضع المصاب، يكرر الفعل حتى تحدث الاستجابة، وتنشط الدورة الدموية.
يُجيد استخدامَ يدَيه. اليمنى هي الواسطة لإرسال القوة إلى المريض. اليسرى تُكمل الدائرة. يندفع السيال المغنطيسي من يده اليمنى إلى يده اليسرى، فتكتمل الدائرة. ما ينبعث عنه، ويعود إليه، ضعيفًا، أو شاحبًا، تيار من قواه العصبية إلى جسد المريض.
يغسل يديه — جيدًا — قبل المعالجة. ثم يفرك راحة يديه، إحداهما بالأخرى، حتى تتولد فيهما حرارة يريدها للعلاج. الذراعان هما الموصِّل للقوة العصبية، تسري — بسهولة — إلى أطراف الأصابع.
يُطيل التحديق في عينَي المريض.
النظرة المتأملة تكفي للتعرف على طبيعة المرض. ربما ثبَّت النظرة في إنسان العين اليسرى، النظرة القوية، المثبتة على موضع واحد، تُضيف إلى القوة المنبعثة من اتصال الذراعين عبر الجسد المتعب. يستمد القوة من الفراغ المحيط، من القوى العلوية التي نُفيد منها، ولا نراها.
يطلب من المريض أن يُغمض عينَيه. يصرف نظره عن التفكير في أي شيء إلا ما يؤلمه. يُبعده — في الوقت نفسه — عن مراقبة ما يفعله، لإيداع القوة الروحية في جسده. يضع يده على الموضع المصاب، أو مصدر الألم. يقرأ آيات قرآنية، أو أدعية منقولة من الرسول، أو رقًى. يسري بالدورة العصبية. تتجدد الحياة، ويعود الجسد إلى ما كان عليه.
يستنتج أن القوة أحدثَت تأثيرها، إذا أحسَّ برجفة صدر المريض بين يديه.
القوى الخفية العجيبة، كامنة في كل إنسان، في وسعه — إذا أراد — استخدامها.
بلغ حدًّا لا نهائيًّا من التحكم في الروح. يستطيع الاتصال بعالم الأرواح، والسيطرة على مخلوقاتها، وتحريضها على خدمته، وتلبية مطالبه. يسترضي الأرواح الشريرة، ويُفيد من الأرواح الطيبة.
يُعنَى بحصر المرض، أو أعراضه. ثم يعود إلى أطراف الجسد، أصابع يديه أو قدميه، ثم يصرفه بلمسة السحر من يده. يقذف المرض إلى الهواء، فلا يعود.
ما كان يؤلمه — ويُثيره أحيانًا — أن أهل المريض لم يكونوا يأتون به إلا بعد أن تتفاقم الحالة، بعد أن يخفت الأمل في الشفاء. إذا لم يتحقق الشفاء على يديه، فإن المريض كان في يدي الموت.
لجأ إليه — بالصيت الذي اكتسبه — مَن يستطلعون المقدر، ويجرون وراء العمل والسحر والشبشبة. عزَوا له نبوءات ومكاشفات وكرامات.
•••
حلَّت الأمراض — دون توقُّع — بالحاج جودة هلال.
عانى التهاب الأعصاب والمفاصل والشد العضلي والكولسترول والدهون والربو والتهابات الجهاز التنفسي. لم يَعُد قادرًا على الوقوف والحركة واللف والدوران وحمل الأشياء.
أدرك أنه قد أسرف في استعمال طاقته الروحية، أُعطيَ من القوة ما لا يحتمله جسده. وزَّع ما بين ذراعيه، أهدره بلا تعويض حقيقي. أطلق القوة باليد اليمنى، واستعادها — ضعيفةً — باليد اليسرى. اختل — بتوالي الفعل — نظامُ جسده. تأثرت صحته بما بذله منها.
نسيَ التعويض، فأصابه المرض.
لم يَعُد يجد فيما يأكله تلذذًا أو متعة. هو يأكل لسدِّ بطنه. حذَّره عمران الخولي من أنه صار أميل إلى البخل. طبعٌ يُلازم كبر السن.
اكتفى بالإيماء في الصلاة، حين اكتشف عدم استطاعته القيام والركوع والسجود. لاذ بالصبر، واحتسب لله، لا يشكو ولا يتألم.
شعر أنه لم يَعُد يصلح للعمل. شاخ، وتقدَّمت به السن. رضي أن يترك دكانه لأكبر أبنائه، يقف فيه ويُديره بدلًا منه.
عُرف عنه أنه لم يتخلَّف — يومًا — عن شهود الجماعة في جامع أبي العباس. عادةً أَلِفها منذ حضر افتتاح الجامع في عام ١٩٤٥م.
تردَّد في الجلوس على كراسي الصف الأخير.
لم يَدُر بباله أن آلام الروماتيزم في ساقَيه ستدفعه إلى التخلي عن صفوف المصلين ليجلس مع العجائز والمرضى. تكررت صلاته في البيت، فلم يَعُد يذهب إلى الجامع. أقعده المرض عن شهود الجماعة. لا يؤدي صلاة الجمعة في أبي العباس، ولا بقية الصلوات في مسجد المسيري القريب.
شهد بيته المطل على سيدي كظمان، زيارات الأصدقاء ومؤانساتهم. تمتد المناقشات: أحوال البحر والنوات والصيد وموالد الأولياء ومباريات الكرة وحالات المرض وبركات الأولياء. هؤلاء أصدقاء العمر، أخذ منهم وأعطى، ضحك وبكى، بثَّ همَّه وسرَّه، وأنصت إلى همومهم وأسرارهم. شاركوا في الموالد، وحلقات الذكر، وسهرات رأس التين وسباقات البنز، وحفلات عقد القران والزفاف، وسرادقات الانتخاب، ووداع الراحلين، والخروج في المظاهرات، والتعرُّف إلى السحن الغريبة.
يظل جودة هلال — معظم الوقت — صامتًا. لا يروي الحكايات، ولا يعقب، ولا يُبدي الملاحظات. يكتفي — إن سُئل — بإيماءة الرأس، أو بكلمات قليلة، يجد أنها تعبر عن المعنى، ثم يعود إلى الصمت. يشعر أن انقضاء اللحظات يقرِّبه من الموت، وأن ظل النهاية — فوق رأسه — يوشك أن يغطِّيَه.
عزاه الشيخ إبراهيم سيد أحمد: كل ما يأتي به المحبوب محبوب.
قال جودة هلال: الموت ليس سيئًا إن جاء في وقته.
تنبَّه لذبابة على وجهه. ذبَّها بيده، وهو يسأل: ما معنى الحياة في معاناة مرض لا شفاء منه؟!
ذات مساء، صارح خليل الفحام مجموعة الأصدقاء بقلقه على جودة هلال. قال لجودة وهو يودِّعه: نلتقي غدًا.
قال جودة هلال: اللقا نَصِيب!
اللقا نَصِيب؟ هل تشمم الرجل رائحة الموت؟!
أمضى أيامه الأخيرة في البيت، يقرأ القرآن، والكتب الدينية، يُدير الراديو، ينظر من النافذة المطلة على البحر، يستعيد مشاهد تصوَّر أنه نسيها، وقال خليفة كاسب إنه انشغل — في نهايات أيامه — بتركيبة من الأعشاب، تحفظ الشباب، وتمنع الشيخوخة.
•••
في آخر أيامه، وجد الحاج جودة هلال في نفسه نشاطًا للخروج إلى أبي العباس. تساند على كتف صبيِّه نخلة. سار — بخطوات متثاقلة — إلى ميدان المساجد. صعد درجات الباب الملكي، المطل على السيالة. صمت لخطبة الجمعة، وأدى الصلاة. رفع المصلون رءوسهم في السجدة الأخيرة، فلم يرفعها. طالت رقدته. تبيَّنوا — بعد انتهاء الصلاة — وفاته.
رُويَ أن الجنازة التي خرجت لتشييع الحاج جودة هلال إلى مقابر العامود، لم يشهد بحري، ولا الإسكندرية كلها، أعظمَ منها. فاقت استقبال مصطفى النحاس من رحلة أوروبا. أغلقت الحلقة ودكاكين شارع الميدان. ارتفعت أعلام الطرق الصوفية. تزاحم الناس على حمل النعش. سار بين المشيعين مشايخ، لم يترددوا على بحري، ولا رآهم أحد في جوامع الحي وميادينه وأسواقه وشوارعه. ما استقرت عليه المشاعر أن السحن مألوفة لأناس يهبون التوقير والثقة والتعاطف والمودة. حلَّقت فوق الحشود طيور بيضاء، في مشهد لم يرَه أهل بحري، ولا الإسكندرية، من قبل.
نُسبت إلى الرجل — في أثناء تشييع الجنازة، وبعد أن وُسِّد التراب — ما يرقى إلى مكاشفات الأولياء وكراماتهم.
•••