حميدو شومة
خطب الشيخ عبد الستار قال: إنه كان للفتوة معناها المختلف في زمنٍ مضى. سُئل بعضهم مَن يستحق اسمَ الفتوة؟ قال: مَن كان فيه اعتذار آدم، وصلابة نوح، ووفاء إبراهيم، وصدق إسماعيل، وإخلاص موسى، وصبر أيوب، وبكاء داود، وسخاء محمد، ورأفة أبي بكر، وحمية عثمان، وعلم علي. ثم مع هذا كلِّه يزدري نفسه، ويحتقر ما هو فيه. أردف الشيخ عبد الستار قوله: إن أشد الناس اعتزازًا بقوته، يقف أمام الموت بلا حيلة. لا يملك المقاومة ولا الرفض. لا يملك حتى السؤال. يتقبل ما يحدث لأنه لا بد أن يحدث. تلك هي النهاية، يسلِّم لها نفسه دون أن يسأل، أو يناقش، أو يعترض.
قال الشيخ وهو يُثبت نظرته على حميدو شومة في صفوف المصلين: نحن نعي مطاردة الموت، ملاحقته، نكتفي بإغفاله كأنه ليس في حياتنا، وينتظر لحظة اللقاء الحتم.
ظل حميدو شومة على صمته، وإن تقلقل في جلسته بما يشي أنه هو المقصود بكلمات الشيخ عبد الستار.
اسمه حميدو رمضان. حمل شومة قبل أن يصبح فتوة، يكتفي بتطويحها في الفراغ، يُرافقها بالعبارات المهددة. سكت عن تسمية الشيخ رافع له: حميدو شومة. ناداه بها الناس — فيما بعد — وقدَّم نفسه. لم يَعُد يناديه باسم أبيه حتى إخوته، أو أفراد أسرته وأقاربه. ظل حميدو شومة هو الذي عُرف به كأنه اسمه الوحيد.
بعد أن تكرر رسوبه في السنة الأولى بمدرسة رأس التين الثانوية، ألحقه أبوه بدكان حلمي كرواية. كانت حياة أبيه في سعة، لكنه أقسم يمين الطلاق، إذا تكرر رسوب حميدو، أن يجعله صبيًّا في دكان. وكان لا بد للرجل أن يبرَّ بقسمه.
آخر الليل — في اليوم الرابع — ترك حميدو الدكان إلى قهوة الزردوني. اكتفى بنظرة تهديد بديلًا لثمن الشاي، ومضى. في باله أن يحصل على قوته بذراعه.
لم يكن من السهل إخضاع شخصيته، ولا السيطرة عليها. يعتز بأنه لا يُذَل، ولا يخضع، ولا ينكسر إلا لله تعالى.
لم يكن يأذن بالمناقشة إلا للموافقة على رأيه. إذا لم يرضَ عن المناقشة فإنه يلوِّح بالتهديد، أو يعلنه. ربما قذف كلمات قاسية دون أن يشغلَه ردُّ الفعل، أو يُعِد نفسه لما هو أشد من أي رد فعل محتمل. لا يتناهى عن منكر، ولا يرعوي لوعظ واعظ، ولا نصيحة مشفق، ولا يردعه أيُّ وازع عن تسديد اللكمات والركلات والضربات، دون تنبُّه لما تصنعه.
اعتاد أن يُصدر الأوامر، أو يُوحي بها، لا أن تصدر الأوامر إليه. يرفض الاعتراض، أو مجرد السؤال، أو المناقشة. يُعينه على التخويف صوتٌ هادر.
ما يراه هو الصواب، ينبغي أن ينفذه الجميع.
يطمئن إلى قدرته على الهجوم. يختار اللحظة، ويُسارع بردِّ المباغتة، يُجيد تسديد الضربات.
قال له عمران الخولي: أنفُك كبريت يشتعل بالحك!
تخطفَته الشياطين، وتفرَّقت به السبل، وطغَت عليه الشهوات، وألهَته شواغل الدنيا عن تدبُّر المصير. صار من أفجر الناس، وأردئهم سيرة، وأسوئهم طوية. يقطع — وصبيانه — الطريق، يُخيف المارة، يفرض الإتاوات، يُصادر ما يمتلكه الناس.
إذا سار في الطريق، سبقه صبيانه، يُفسحون له، يهشون المارة بعصيِّهم وهراواتهم، وبالتحذيرات. حتى ضباط قسم الجمرك وعساكره، حرصوا على تجنُّب الاقتراب منه.
قال الحاج جودة هلال إن حميدو شومة لو لم يجد مَن يُعاركه لعارك نفسه.
اختطف — ذات عصر — عمامةَ الشيخ مجاهد كريشة إمام جامع نصر الدين. تحدَّاه أن يحاول استعادتها، ثم لحقه بها وهو يواصل سيرَه.
كان الشيخ قد أشار — في خطبة الجمعة — إلى معارك الفتوات، وتأثيراتها على الغلابة من أهل بحري.
مجلسه في دكان النن بائع الصحف — أول الموازيني — أتاح له القراءة، والمتابعة، والتعرف على أحوال العالم، والدخول في مناقشات. يزول ما يحيط به نفسه من هيبة، برفقة صبيانه. يتأمل حركة الطريق، يمازح، يُطلق الدعابات والنكات والضحكات. يأذن بالآراء المعارضة، وبالقافية.
قال لنعمات الغجرية — لما أبدت دهشتها لطلبه أن ترسم وشمًا على ساعديه: لم يَعُد الوشم مقتصرًا على البحارة، أو العاملين في البحر.
تحدَّث عن غرز إبرة الوشم في جسد مَن لا صلة له بالبحر، مَن يحيا عمره على البر. لا يتصور أنه يبتعد عن الشاطئ. يرسم الوشم — بأشكال مختلفة — على الذراع أو الكتف أو الصدر.
أسلم ساعدَيه للمرأة. نظَّفت الموضع الذي أراد وشمه بالكحول. دارَت يدُها بالإبرة برسم السيف على ساعديه. ظل جالسًا، يضغط على أسنانه، لا تندُّ عنه آهة، أو أنة ألم، حتى توقَّف النزف.
نقدها المقابل، ومضى.
قبل أن ينزل إلى الطريق، يفرض الإتاوات والخوف، زار بيت أبو حلوة فتوة بحري القديم. ما فعله ذكريات يستعيدها الشيوخ في بحري. أتقن محاكاته في ضرب خصومه حتى الهزيمة، حتى يسقطوا على الأرض بلا حول، أو يلوذوا بالفرار. أدرك أنه لا حقَّ له في حياة الفتونة، ما لم يجلس إلى أبو حلوة، يُنصت إليه، يسأله، يتلقَّى نصائحه.
بدا — في بيته المطل على شارع ابن الصباغ — منعزلًا، يلتقي بأعوانه القدامى وزوَّاره، في حجرته بمدخل البيت. تمتد الطرقة أمامها إلى قاعة واسعة، على جانبَيها حجرات مواربة أو مغلقة، يترامى من داخلها أصوات هامسة، وفي الجانب سلَّم خشبي، يُفضي إلى الطابق العلوي، والسطح.
قال أبو حلوة: إذا أردت أن تصبح مجرد فتوة، بحري لا ينقصه الفتوات!
وهزَّ قبضته: على الفتوة أن يستحق التسمية!
وقال بلهجة يغلب عليها الشرود: لا أمتلك نصائح. أنت لا تريد تعلُّم الصيد، فأعلمك طريقة إلقاء السنارة أو الطراحة، ولا تسعى لأن تكون بناء، فأعلمك كيفية صنع المونة. أنت لا تتطلع حتى أن تكون قارئًا، فأدفعك إلى حفظ القرآن. يكفي — لكي تصبح فتوة — أن تحرص على أخلاق الفتوات. الفتوة تعني النخوة والشجاعة والرئاسة. وقال: يجب أن يكون لك أسلوبك الخاص في الفتونة، لا يماثل أساليب فتوات بقية الأحياء، الأفكار والأقوال والتصرفات، حتى طريقة إخضاع الناس لإرادتك، لكلمتك. وقال: الفتونة ليست مهنة، لكنها أخلاق. الفتوة الحقيقي فارس، أما الذي يجعل الفتونة مهنته فهو بلطجي، يضايق الناس، يبتزُّهم، يفرض عليهم الإتاوات، يتصيدهم في قلب البحر، وفي الخلاء، وداخل الحواري المظلمة. وقال: المارد وحده هو الذي يرضى أن يكون وحيدًا. قوته تُتيح له مواجهة القوة مهما بلغت. الفتوة البشر لا بد أن يعتمد على مساعدين، أداؤه يقتصر على الضرب، بينما يتلقى الأعوان ما قد يُوجَّه للفتوة من ضربات. قال أبو حلوة: الفتوة الحقيقي لا يهاجم من لا يستطيع الدفاع عن نفسه. وقال: كن قاسيًا، ولا تكن خائنًا، القسوة يمتلكها القوي، أما الخيانة فهي وسيلة الضعيف. قال: احتفظ بكل ما يُتاح لك استخدامه من أسلحة، تدافع بها عن نفسك، تدافع بها، فلا تبادر بالهجوم. سكين، شومة، خنجر، سلسلة حديدية. حاذر من استعمالها دون داعٍ. هي لأوقات الحصار، للدفاع عن النفس. وقال: لا تُهمل مواطن القوة أو الضعف فيمن تُواجهه بالعداء، ضعْه في حجمه الحقيقي، لا تستهِن به، ولا تُضِف إلى حجمه. وقال: يجب ألَّا تُشهر سلاحًا في وجه إنسان أعزل، حتى لو بادرك بالشتم أو الإهانة، عاقِبْه بقوتك البدنية وحدها. وقال: التخويف هو ما تفعله حتى العدد تسعة. لا تلجأ إلى العدد عشرة إلا عندما يُلامس الموتُ شعرَ رأسك. ليكن سلاحك — ما أمكن — هو الفتونة وحدها. وقال: إذا اطمأننت إلى قدراتك جيدًا، ضع يدك على دفة الفلوكة، وانطلق. وقال: إذا وجدت في نفسك قدرة على النزول إلى البحر، توكَّل على الله. إذا ساورك أيُّ شك، فلا تحاول.
ثم وهو يهزُّ إصبعه: فاهمني!
اعتاد أهل بحري معارك حميدو شومة مع فتوات اللبان وكرموز والعطارين وباب سدرة وغربال وغيرها من أحياء ما قبل منطقة الرمل. تلك أحياء يغيب عنها الفتوات بلا سبب مفهوم. ربما لأن معظم سكانها من الأجانب.
ردَّد الناس اسمه. نسبوا إليه أعمالًا خارقة، وأضافوا إليه من أخيلتهم ما لم يحدث.
السؤال: مَن الذي ضربه حميدو شومة، يعني أن حميدو لا بد أن يضرب، وينتصر. من غير المتصور أنه يواجه الإيذاء — على أي نحو — من فتوات الأحياء. حتى لو حاصروه بالغدر، فإن صوته الهادر يجتذب مساعديه في لمحة عين. هو يضرب، ومساعدوه يتلقَّون الضربات.
قال: حين تطول وقفتي في ظل الموت، فإني لا أخاف أي شيء، حتى الموت نفسه!
أدواته — ومساعدوه — كثيرة: السيوف والشوم وقضبان الحديد والسنج والمطاوي والخناجر والشوم والسلاسل الحديدية.
لم يحاول القتل ولا فكَّر فيه. وكان يحرص على ألَّا يتركَ الضربُ أثرًا من أي نوع. لا يشغله ردُّ الفعل، لكن تشغله نظرةُ الناس إليه. يعرف أين يوجِّه ضرباته، فلا تترك أثرًا ظاهرًا، أو داميًا، ويعرف متى تتوقف الضربات، فلا تبلغ حدَّ القتل.
استغاثَت به امرأة في كوم بكير. ضربها بلطجيٌّ لأنها لم تدفع ما حدَّده، ورمى بها خارج الحي. نصَّب الرجلُ نفسَه فتوةً على الكوم، يفرض الحماية والإتاوة والسيطرة. يُحيط به صبيانه بالعصيِّ والشوم والمطاوي والسيوف.
اخترق حميدو شوارع الحي الضيقة. أهمل النظراتِ التي تبيَّنَته، والتعليقات القلقة، والأسئلة. جذب البلطجي من جلسته في القهوة المطلة على شارع اللبان.
جاوز البلطجي المفاجأة. ركل حميدو بآخر قوته. تراجع حميدو وهو يُعاني ألمًا بين فخذيه. استعاد وقفته. تفادَى لكمة بقبضة البلطجي، ثم فرد طوله، ووجَّه إليه لكمة، حطَّت على مقدمة رأسه. لمح الوهن في نظرته، وشحوب وجهه. اندفع برأسه — التي يعرف قوتها — في بطنه، في منتصف البطن تمامًا. رفع رأسه وصدره بما يُتيح له توجيه لكمات متسارعة إلى وجهه. ثم هوى — بقبضته — على كتف الرجل. ترادف صراخُ البلطجي مع كسر الترقوة، وتهدُّل الذراع.
نسي حميدو — في اللحظة التالية — كلَّ شيء. لم يَعُد أمامه إلا أن يضرب، ويضرب. أدرك من نثار الدم في قبضته ووجه البلطجي، ومن السكون الذي ران على جسده، أنه قد هزمه تمامًا، وربما قتله.
ألقى نظرة — تطفح غضبًا — على الجسد الممدد، ومضى في اتجاه الخروج من الحي.
لما عادت المرأة إلى حميدو، دفع راحته في وجهها: احتفظي بنقودك!
وخالط صوتَه إشفاق: أبلغيني إن تعرَّضتِ ثانيةً للبلطجة.
غالب تأثره وهو يتجه إلى داخل البيت: ربنا يتوب عليكِ!
لما اخترق رفاعي سعفان — وسط صبيانه — زحام شارع الميدان، قال حميدو شومة إن بحري أضيق من أن يتحمل فتوتَين في وقت واحد. إما أن يُعلن رفاعي سعفان خضوعه، أو يُواجهه. لا مجال للتراضي، ومجاملة احتساء القهوة. عرف الأبجر حدودَه من رأس التين إلى الميناء الغربية، بينما الأنفوشي مجال حميدو.
هذا الثالث، أين يفرض فتوته؟
بدَت معركة ميدان أبي العباس أشدَّ عنفًا مما توقَّعه. عمَّق السكون ارتطامات الشوم والعصِي والصرخات والحشرجات واحتكاكات الخناجر والسنج. يعرف — بالاسم — أعوان رفاعي سعفان. تكاثروا، وغابت الملامح المحددة. ميَّز بينهم أشخاصًا يلتقي بهم على المقاهي، وفي الأسواق، وداخل الدائرة الجمركية، والميناء، وحديقة رأس التين، وعلى شاطئ البحر، وفي القزق، وحلقة السمك، والترام الدائري. ظلت المعركة من بعد صلاة العصر إلى موعد أذان المغرب.
أشد ما أحزنه أن الغلابة الذين دافع عنهم تركوه لأعدائه، أعدائهم. لم يحاولوا مناصرته.
هل باعه الناس؟.
هؤلاء الذين يبذل نفسه فدية عنهم، يخوض المعارك، يواجه الأذى … لماذا لم يتعاركوا — كما كان يتوقع — إلى جانبه؟
رائحة التآمر أبعدَته عن مستشفى رأس التين. امتد الشك إلى الحاج جودة هلال. قد يُغريه التآمر، أو يقهره. تحامل على نفسه حتى بلغ بيته في شارع السيالة، وأغلق عليه.
ظل في البيت أكثر من أسبوعين، يُعاني تأثيرات الضرب. خرجت اللعبة — لأول مرة — عن قاعدة لا تتبدل. الفتوة لا يُضْرب، الأعوان يتلقَّون الضربات. لم يستطع لا هو ولا أعوانه ملاحقة الضربات. أحاطَت بهم. لا يستطيعون إيقافها، ولا الرد عليها. الوجوه ليست لأعوان الفتوة رفاعي سعفان وحدهم، ولا لمخبري البكباشي حمدي درويش. يعرفهم جيدًا، وإن لم يُتِح له سرعةُ ما حدث، أن يُدقق في ملامح الصورة جيدًا.
ابتعد — من يومها — عن كلِّ ما يُثير المشكلات، وعن كل ما يُعرِّضه لتلقِّي الأسئلة. جاهد الشهوة والهوى. نفض يدَيه عن الناس. لا يخطرون في باله، ولا ينعَى لهم همًّا. إذا كانوا قد باعوه، فمن حقِّه أن يُسقطهم من حياته، لا شأن له بهم، حتى لو ألحُّوا بالاستغاثة.
شعر أنه قد أنصف نفسه، حين لزم بيته، وألقى هموم الناس وراء ظهره. لم تَعُد تشغله هجمات فتوات الأحياء على بحري. أهل الحي يعتمدون في حياتهم على قوته الجسدية. كيف كانوا يتصرفون لو أنه لم يوجد بينهم؟ كيف يتصرفون لو أنه غاب عن حياتهم بالفعل؟
قال لنفسه: فعل الخير للناس هو دلق للماء في البحر!
طال استنادُه على خابور المرسي، المطل على البواخر والأفق. يُحملق في اختلاط مد الأمواج بزيت البواخر الضخمة، ومخلفات البلانسات، والقواقع، والمحارات الميتة وقِطَع الأخشاب وبقايا الأطعمة، وحركة طوابق البواخر، وتنقُّل القوارب الصغيرة بين الرصيف والبواخر، والمداخن الهائلة، والسلالم الحديدية الضيقة، الموصلة بين طوابق الباخرة، حتى السطح، وسلالم الحبال المدلاة إلى العمال والباعة، والأوناش، والرافعات، والمولدات الكهربائية، وأبراج الإضاءة، والأوناش، وسيارات النقل، والشاحنات القلابة، والخلاطات.
تأثر لدعوة عبد الله أبي رواش أن يركب البحر. يعمل في باخرة تنقل إلى كل الدنيا. الابتدائية وإتقانه الإنجليزية يُتيح له وظيفةً كتابية. حدَّثه عن موانٍ ومدن وبلاد، لم يرَها، لكنه رسم لها — من خياله — ملامحَ وقسمات.
درس حميدو شومة الفكرةَ بنفسٍ أميل إلى الموافقة.
فاجأه قولُ أبي رواش: بعض الرحلات قد تمتد ستة أشهر أو أكثر.
هتف متسائلًا: لماذا؟ هل سأغزو العالم؟
– ظروف العمل.
هل يستطيع الابتعاد عن بحري أشهرًا متواصلة؟!
رفع كتفَيه، ومضى إلى حيث اعتاد السير في شوارع بحري، والجلوس على المقاهي، والتردد على الدائرة الجمركية، والمشاركة في حفلات الزفاف والموالد، وفرض الإتاوات، ومكافآت الحماية الشخصية، والدخول في معارك تأكيد الذات مع فتوات الأحياء الأخرى.
عاب عليه سيدي الأنفوشي — في رؤيا منامية — ضعفَ قلبه، وامتلاءَ نفسه بالظلمة، من كثرة المخالفات والأفعال الشريرة، وتلوُّثه بحب الدنيا، والتصرف فيها من منطق الفتونة. حاد عن طريق السداد، وغلبت الرعونة في تصرفاته.
ذكَّره وليُّ الله بقول الرسول: مَن أحب أن يكون أقوى الناس، فليتوكل على الله. اتهمه بقبح السيرة، وظلم الناس، والاعتداء على حقوقهم، ومسايرة أهل الزيغ والأهواء والبدع والنِّحَل التي حادَت عن الإسلام.
قال بلهجةٍ ذات معنًى: لا تطفو على سطح البحر إلا الأسماك الميتة!
ثم وهو ينقل حبات المسبحة بين سبَّابته وإبهامه: إذا أردت أن تعود إلى الله، فاقتل نفسك!
لمح في وجه حميدو دلائلَ تحيُّر: أعني قتْل نزعة الشر داخل نفسك!
حذَّره وليُّ الله من أنه ليس على وجه الأرض من عمل أعظم عند الله — بعد الشرك — من سفك دم حرام.
قال ولي الله: الموت ليس شرًّا مطلقًا.
أصاخ حميدو سمعه، فلا يفوته أيُّ جزء من كلام ولي الله: قد يكون الموت نهاية ظاهرة لحياة بلا معنى، لكنه ليس نهايةً حقيقية. إنه انتقال من حالة إلى حالة أخرى، الحالة الأولى مؤقتة، مهما يتقدم العمر، بينما الحالة الثانية دائمة، خالدة.
أردف سيدي الأنفوشي في نبرة محرِّضة: ليس المهم كم السنوات التي نعيشها. المهم أن نعيشها!
أخذ وليُّ الله العهدَ على حميدو شومة ألا يعود لمثل ما كان يفعله.
انجاب عن عينَي حميدو حجاب الحس، وغواشي النفس. أيقن أن الله عين على كل شيء، لا تفوته خافية، ولا شاردة، ولا واردة.
تاب إلى الله. أعرض عن الدنيا بالكلية، وزهد في الناس، واستعد للحظات الوداع. تدارك ما فرط من تقصير في فرائض الله. حرص على الفرائض، لا يُضيعها، وحرَّم على نفسه ما حرمه الله، لا ينتهكه، وسكت عما يجب السكوت عنه، فلا يواجه — إذا سأل — بما يسوءه.
سأل الشيخ جميل أبو نار إمام جامع أبي العباس أن يجد له رخصةً ليصلي في البيت.
قال الشيخ: هل يصلك الأذان؟
– نعم.
– صلِّ في الجامع إذن!
أَلِف الأذان للصلاة في مواقيتها، يؤديها — بمفرده — داخل بيته، أو جماعةً في مسجد المسيري القريب.
لم يبقَ عليه فريضة ولا مظلمة. قامت حياته على الصوم والصلاة والذكر والتلاوة والدعاء والاستغفار والتضرع والبكاء. طمع في ثواب الجنة، وخاف من عذاب النار. تُضاء الدنيا بأشعة الشمس، وتُضاء الجنة بحسن أهلها.
قال له الأنفوشي في رؤيا المنام: لن يُفيدَ الناسَ بكاؤك … افعل من أجلهم شيئًا!
أمره وليُّ الله بالخروج إلى منفعة الناس، لا ينكفئ على نفسه، ولا يعتزل. حذَّره من أن يمرَّ على مظلوم، دون أن ينصره، ويدافع عنه. الفتوة الحقيقي هو الذي يتحمل المكاره، يترفَّع عن الصغائر، يتغلَّب على شهوات الغضب والانتقام.
أطال الجلوس إلى الشيخ عبد الستار، يُنصت إلى عظاته ونصائحه: قد يبذل المرء نفسه فدية عن الجماعة. تحمَّل الرسول أذى قريش، رمَوه بالأوساخ والشتائم والإيذاء، ظل على سعيه لنشر دين الله. تعدَّدت التحذيرات للحسين بأن يظلَّ في مكة، لا يرحل عنها إلى الكوفة، بوعد مناصرته ضد يزيد بن معاوية. قال له عبد الله بن العباس: إنك تأتي قومًا قتلوا أباك، وطعنوا أخاك، وما أراهم إلا خاذليك. وقال له الفرزدق: قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء. وقال له بعض أصحابه: نناشدك الله إلا رجعت من مكانك، فإنك ليس لك بالكوفة ناصر.
قال الحسين لمن حذروه: أعرف أنهم سيقتلونني. إذا كان دين الله لن يستقيم إلا بقتلي، فيا سيوف خذيني.
كان الحسين يمتلك اليقين. وكان أعوانه الاثنان والسبعون يمتلكون اليقين نفسه، بأن المعركة التي اتجهوا إليها صباح العاشر من محرم، ستنتهي باستشهادهم، لكن الدافع لم يكن مجردَ الرغبة في الاستشهاد، في الموت. كان الدافع هو التعبير عن رفض القهر والظلم، حتى لو كان المقابل لذلك هو الموت. سقط كلُّ جند الحسين شهداء، فظل يواصل القتال بمفرده. حمل على جند الكوفة حتى شقَّ صفوفهم بجرأة مذهلة، ثم سقط بضربة سيف في العنق. وأمر عبيد الله بن زياد، فمثِّل بجسد الحسين، وترك جثمانه للجوارح. أما الرأس، فقد دُفن — فيما بعد — في كربلاء، وإن ظلت أعداد كبيرة من المصريين تؤمن بأن رأس الإمام الشهيد مدفون في جامعه بالقاهرة. في مقدمة النتائج الإيجابية لفاجعة كربلاء، ولعلها أخطر نتائجها، أنها دخلت الضمير الإسلامي، وهزَّته هزًّا عنيفًا. حرَّكت في النفوس ما كان خامدًا، وما ران عليها من استكانة إلى الواقع الذي فرضه الأمويون. تمازج الإعجاب بالوقفة الأسطورية لسبعين مقاتلًا ضد سبعين ألفًا، بالحرص على الشهادة رغم يُسْر النجاة، بإلقاء السؤال الأهم: ماذا بعد؟ بحساب الذات عن التقاعس والتواكل، بإعادة النظر إلى ما سبق، وما يجري حالًا، والتفكير في ضرورة التغيير. فاجعة كربلاء — رغم بشاعتها — كانت ثورةً كاملة. أحدثَت التأثير الذي تُحدثه الثورات في تحريك النفوس، وإلحاحها على التغيير، حتى يتحقق المجتمع الأفضل. تعدَّدت ثورات التوابين، همُّها تفريغ ما استشعره الحسينيون من الندم والحقد، في حركات ثورة متتالية ضد الحكم الأموي. ثم فيما تلا ذلك من السلطة المستبدة، أيًّا تكن صورتها ومظاهرها.
قال الشيخ عبد الستار: أنت تحيا مع الناس في البلانسات والحلقة والجوامع والميادين والمقاهي والشوارع والأسواق والقعدات الخاصة، تشاهد وتتعرف وتناقش، وتَصِل إلى أجوبة لما يشغلك من أسئلة. لا تترك هذه الأجوبة كالعنقاء، أو كالفزورة التي تستعصي على الحل، أو اللغز الذي بلا حل.
وقال الشيخ: لا معنى لأن تعجب بتضحيات الآخرين، دفاعًا عن أنفسهم. المعنى الحقيقي في دفاعك عن نفسك، وعن الآخرين — حتى لو أقدمت على الفعل وفي خاطرك ما كان في خاطر مَن سبقوك، ونالوا جزاء سلبيًّا — أن تهب المعنى للتضحية الإنسانية.
وتبدَّلت نبرةُ صوته: أظن أني في غير حاجة لأن أذكِّرك بأن مَن سبقوك، جعلوا في خاطرهم خشية الله، فلم يُقدموا على الضربة الأولى، ولا بدءوا بالهجوم. جعلوا الإقناع اللفظي وسيلتَهم لاجتذاب الناس، وتحريكهم — بالكلام — للدفاع عما يعرفون أنه حق لهم. لم يصوِّبوا أسلحتهم إلا لمن بادر بالهجوم!
اخترق حميدو شومة شوارع بحري، في ذهنه ما استمع إليه من الشيخ عبد الستار. أصاخ السمع، وسأل، وناقش، واستعاد ما غاب عن فهمه من العبارات. لخَّص ما استمع إليه في أنه يجب ألا يُهمل استغاثات الناس.
ندم على تخلُّفه عن نصرة بائع المانيفاتورة مرتضى الجيلاني. استغاث به من إتاوات بطة الهن فتوة كرموز، فهي تخنقه. اكتفي بالإنصات، وعاد إلى ما كان يعيشه من رؤى تُرضيه.
سمَت أخلاقه وسلوكياته، ورقَّ قلبه، وعلَت همَّته. عُنيَ بمراضاة مَن نالهم بالسوء: ظلمهم في المعاملة، أخذ أموالهم، أساء إليهم بالشتم والتخويف والتعدي. انقلب خُلُقه من الشدة إلى اللين، ومن الضيق إلى السعة، ومن المناكفة إلى السماحة. تعفَّف عن شهوات البدن، وعن التصرف في أمور الدنيا. وسَّع كفَّه بالسخاء والإيثار والعطاء. صار ينظر إلى الناس بعين الرأفة والرحمة والشفقة.
مال إلى مجالسة الفقراء، وذوي الحاجات، ومواساتهم، والعطف عليهم، ومداعبتهم. يمشي إلى المتصوفة والدراويش والمجاذيب حول جامع أبي العباس، وفي الدحديرة الخلفية، والميدان، والشوارع المتفرعة، يحمل إليهم الطعام، ويأكل معهم. ويجالسهم، ويطمئن على أحوالهم، ويسألهم الدعاء.
جعل لنجم أبي العيش مبلغًا شهريًّا، يُعينه على الحياة بلا عمل. اعتبره درويشًا له بركاته.
أوكل إلى نفسه تفقُّد أحوال الناس، والتعب لهم في حوائجهم، وإغاثة الملهوفين والضعفاء، وإعانة المظلومين، ومداواة أوجاع اليتامى والأيامى والمحزونين، وجمع الزكوات للفقراء، وتفريقها عليهم، ومعاداة الفساق والمفترين بما يتصورونه في أنفسهم من قوة، ورد الاعتداءات.
عُرف عنه سرعة التلبية لدعوات الناس. يُواجه أذي التآمر والشتم ومحاولات الضرب. يبذل نفسه عن طيب خاطر. لا يأبه بردود الأفعال. يشعر أنه يتخفف مما ارتكب من ذنوب، يغتسل منها، كلما أغاث ملهوفًا، وخاطر من أجله بحياته.
تلبَّسه ما يُشبه اليقين أنه قد صار أداة، يقضي الله — بواسطتها — عدالته. ينتصر للمحتاج والضعيف والمظلوم. هو لا يقلُّ — بتصرفاته — عن أئمة مساجد الحي، بعظاتهم التي تقتصر على الكلمات.
هزَّ رأسه في استجابة لشكوى الناس من صبيِّه عويس شلبي. مال إلى البلطجة وأذية الناس، بعد أن هجر حميدو الفتونة.
دلَّه الناس على موضع انفراده بنفسه بالقرب من القزق.
ألقى عليه حميدو شبكةً طراحة، لفَّه بها تمامًا، وقيَّده. واصل ركلَه بقدمه. التصقَت به الرمال. تحوَّل إلى ما يُشبه الكرة الهائلة، عَلِقت بها مخلَّفات الشاطئ. ظل يركله بقدمه، وصراخ عويس يشحب في داخل الكرة.
فك حميدو وثاقه، قبل أن يلفظ آخر أنفاسه.
تركه، واستدار بعيدًا عن الشاطئ.
قال له أبو حلوة في لهجة محذرة: لا تكن مثل ملائكة الجحيم الذين يعكسون تأثيرات ما يعانون، على مَن يتولَّون عقابهم!
أبطل — دون أن يلجأ إلى الأذى — ظاهرةَ قطع الطريق على مَن يدخل أحياء الفتوات. يدفع الإتاوة، فيأذنون له بالدخول، أو يعود، أو يواجه ما لا قِبل له على ردِّه.
استقر في ذاكرة الناس ما فعله حميدو شومة مع فتيحة يوسف فتوة القباري. كان فتيحة قد سدَّ الطريق — بقطع حجارة وأخشاب — إلى المكس من بداية القباري. ليس إعدادًا لمعركة، وإنما للحصول على إتاوات من عابري الطريق. مَن يرفض دفع الإتاوة واجه الضرب بالهراوات، وسلب ما على جسده.
روى أبو المعاطي عنبة أنه شاهد صبيان متولي طبنجات فتوة البياصة، يحملون رجلًا إلى داخل مقابر العامود، ويعودون، وفي أعينهم نظرات تَشِي بقسوة ما فعلوه.
لم يكد حميدو يقترب — بمفرده — من حواجز الرمال والأخشاب والطوب، حتى أسرع الكراديسي بالاختفاء، يتبعه صبيانه. وأعاد حميدو حركةَ المرور إلى ما كانت عليه.
قُدِّر لسيدي الأنفوشي إقناع حميدو شومة بالإقلاع عن الفتونة، والتوبة من أفعالها. توسل شفاعته عند الله ليمحوَ خطاياه، ويرفع به الدرجات. جعل باسم ولي الله نذرًا، يوزِّع — بعد صلاة كل جمعة — على النساء المترددات على ضريح الأنفوشي، في قلعة قايتباي. تعلو دعواتهن لصاحب الضريح بما يرضيه هو، ويسعده.
صار سيدي الأنفوشي موضعَ سرِّه. يجلس — في أوقات متقاربة — إلى جانب الضريح. يظل ساكنًا حتى يخلوَ المكان. يُفضي لولي الله عما بنفسه، يحكي، ويسأل، ويطلب المشورة. يترك لقادم الأيام ما يرجوه من الإشارة والإيماءة والمعنى.
ظل هذا تصرفه، حتى أدركه الأجل.
•••