سعيد العدوي
حلَّت اللحظة مفاجئة. لم يكن التوقع قائمًا. الطريق طويلة تُشرق عليها الشمس، على جانبَيها، وفي وسطها، البنايات المتلاصقة وظلال الأشجار والصداقات والخبرات والأشياء القديمة وعربات اليد والكارو والحنطور والأسواق واللافتات المعلقة على أعمدة. أفق البحر يفرض الامتداد واللانهاية. تتناثر الجزر والسفن الشراعية والقوارب، تداخلت — بالمفاجأة — الأحلام والرؤى والكوابيس والأخيلة والقسمات والملامح والسجاد الشرقي القديم ورسوم الأطفال وروائح البخور والحواة والمجاذيب والأدعية والابتهالات والبشارف والموشحات وغناء ماهر الصاوي، والحنين إلى ما لا يدركه.
مارس التصوير والرسم والحفر والنحت. لم يقتصر على إبداع بالذات. فنية العمل تفرض نفسها. لا يُطيل المناقشة ولا المفاضلة. يستجيب لإلحاح الفكرة، الومضة في توالي ضوئها. الفرشاة تعزف ألوانها، ما يخلق الحالة، حتى لو لم تكن تعبيرًا محددًا عنها. تتحول الأفكار والرؤى إلى صور وتكوينات ورموز. الومضة والإيماءة تُغني عن المباشرة والتفصيلات التي لا معنى لها.
شغل الفنان — في عصر النهضة — بالتصوير والنحت والعمارة وهندسة الديكور. كان يمتلك قدرة مذهلة على التأمل والاكتشاف والدهشة وإلقاء الأسئلة: مدُّ الموج وجزره، قوس قزح في وسط السماء، تكوينات قطرات المطر على أسفلت الطريق، وسوسة النخيل في امتداد الرصيف المقابل للمينا الشرقية، أكشاك الختان لصق جدار أبي العباس، حلقة الذكر أمام باب البوصيري، رفو غزل الشباك في ظل هياكل البلانسات، صرخات مجذوب وسط ميدان المساجد، عجوز يعطي ظهره لحركة المرور، ويتجه بنظراته إلى أفق البحر.
قراءاته في «سندباد» حسين بيكار وضعَته في قلب البحر والمغامرات والقراصنة والجزر والمدن الملتفة في الضباب. في أول المرحلة الثانوية، حرص على اقتناء المجلة صباح كل خميس. يقرؤها من الغلاف إلى الغلاف. يُطيل تأمل لوحات بيكار عن رحلات السندباد بين المواني والمدن والجزر وكهوف المخلوقات العجيبة. يتحول البحر — بريشته — إلى درجات الألوان، بداية باللون الشفاف كأنه الغلالة الشفيفة، ونهاية بالبنِّي الداكن. يحقق للوحة موسيقاها بإجادة استخدام الألوان والضوء والظلال.
يا أستاذ سعيد.
النداء يترامى من داخل بئر، أو من جزيرة في عمق البحر، أو — ربما — من فوق نخلة على طريق الكورنيش. يريد الرد على النداء، يهم به. لكن القوة الغريبة — لا يراها، وإن شعر بها — تحتضنه، تُقيده في جلسته، تحرِّك الدخان، أو الضباب، أمام عينَيه. تجتذبه إلى أسفل.
أغنية في راديو تناهت من الشقة المجاورة، هي آخر ما وعى عليه الصحو الكامل.
آخر ما قاله لنفسه: فلأعد الإفطار.
ماذا جرى بعدها؟
حلَّت اللحظة دون ما قبل.
تداخلت الصور والألوان ومواكب الجلوة والموالد وحلقات الذكر وتلاوات القرآن، وأبيات البردة والأعياد وليالي رمضان، وأهازيج السحر وأذان الفجر، والأدعية والابتهالات والبشارف والموشحات، وغناء ماهر الصاوي، وهارموني الموسيقى، وهسيس النخيل على طريق الكورنيش، وملامسة الأمواج لصخور الشاطئ، وانعكاس زرقة السماء — أو انعدامها — على صفحة الموج، والمساحات الخالية، الساطعة، كامتداد الموج الهادئ، في صباحات مشمسة.
استمع — بالمصادفة — إلى صوت ماهر الصاوي. ترامت أغنياته ومواويله من سرادق في الساحة الترابية أمام شارع العوامري.
توقَّف، وأصاخ السمع. عرف ماهر الصاوي. حرص على سماع أغنياته. تردَّد عليه في مقهى الزردوني، وفي ساحة المولد، وسوق العيد. اجتذبَته العفوية في الأداء، تتحدث عن الصيد والصبر وعِبر الزمان.
شاهد حسين بيكار معرض رسوم العدوي بالحبر الشيني. أظهر إعجابه بعزلة المعرض عن عالم الألوان: أفلحت في وضع جميع حواسنا، في نطاق الشكل الصرف، والقوالب الصماء التي تظهر فيها كائناتك الشبحية.
تحدَّث بيكار عن شعوره — أمام اللوحات — بالصداقة وعدم الغربة. هي جولة باطنة، نستمع فيها إلى أصداء الكائنات تأتي مبهمة، كالهمهمة، متشحة بغموض طلسمي مثير، وتحت تأثير إيحاءات خطوطه السوداء يلفُّ المتلقي ما يُشبه الغيبوبة المغناطيسية التي تفرض الإقناع — تدريجيًّا — بمنطقها الشاذ، فلا يلبث المتلقي أن يتقبل الأشياء الممسوخة على علَّاتها، يصدقها، ثم ما يلبث أن يألفها، ويود ألَّا يفارقها. إنها أصداء لاعبي السيرك، وباعة الكشري، وسائقي عربات الكارو، وعازفي الأبواق، والحمير، والقطط، والكلاب. تبدو مألوفةً في اللوحات، الكذبة البيضاء التي تدغدغ المشاعر، وتربط المتلقي بما وراء الأشياء من غيبيات، تزيد من إقناعه بأن هناك عوالمَ كثيرة تحيط بالإنسان في هذا العالم، عوالم خارجه، وعوالم داخله، وأخرى في أعماق أعماقه. ما عليه إلا أن يُزيح الغلالات التي تحجبها عنه، حتى يتسع الكون أمام عينيه، يرى ما لا يراه بالعين المجردة وحدها.
الحياة والموت، الولادة والاحتضار، الصحو والنوم، البسط والقبض، الروح والغريزة، العاطفة والمادة، الوجدان والعقل، النور والظلمة، النهار والليل، الشمس والقمر، السماء والأرض، اليابسة والبحر، المد والجزر، الرياح والسحاب، الحركة والسكون، الحلم والواقع، السر والإجهار، الجمال والقبح، الأبيض والأسود، الوضوح والغموض، الأمل واليأس، الترغيب والترهيب، المحبة والعداء، الطهر والدنس، الخير والشر، الزيادة والنقصان، الخلود والفناء.
تمنَّى أن يحطم الفواصل والحواجز والحدود، تختلط الأوراق والرؤى والمشاعر. ينطلق في آفاق لا نهاية لها.
قال له غريب أبو النجا: نحن نقف على الأرض، ونُلقي شباكنا في البحر.
هتف في نبرة ملونة: فهمت؟
لم يغضب لملاحظة أبو النجا بأنه يقول ما يأتي على باله. قد لا يتدبر الكلمات، لكنه يعني ما يريد قوله، حتى وإن بدَت الكلمات قاسية.
عُرف عنه إجادة التقليد. يحب تقليد أصوات البشر والطير والحيوان والريح والمطر. قلد ماهر الصاوي في الموال:
قال بيكار: إذا فشل العدوي كفنَّان تشكيلي، فسيصبح — بالتأكيد — مطربًا جيدًا!
تشكيلات الطيور متباعدة، ما تلبث أن تتقارب، ثم تتداخل. تبدو سربًا واحدًا، هائلًا، يغطي وجه الشمس. الحشائش الكثيفة، الندية، في حديقة سراي رأس التين. شارع تمانية ملاح ملاح … بالسكينة وبالسلاح. صوت ماهر الصاوي ينتقل من السماع إلى الغناء، يترنم ويتغنى بالانفعالات الروحية والعاطفية، وما في نفسه من الوجود والعشق والتوسُّل. دفعه دوام التردد على ميدان المساجد، زيارة الجوامع والمقامات والأضرحة، إلى محاولة تطوير الفن الإسلامي. الزخارف المجردة، وشغل المساحة كلها في أرابيسك متداخل، دقيق. يُجيد التنويع على اللحن الواحد، وبناء الملحمة التشكيلية. التجريد في الفن الإسلامي يجاوز الطارئ والمؤقت، إلى الثابت والدائم. أوعية الألوان المتراكمة — على الأرضية، وفوق المكتب والطاولة والكراسي — تشي باعتبار اللون أهم عناصر التشكيل. ليس مجرد صبغة، أو عجينة ملونة. هي علاقات لونية، تشكِّل لوحة متكاملة، تكوينات، موتيفات، يتخللها الهارموني كالموسيقى. يرفض تقديس الفن الغربي. ينظر — باستياء — إلى محاولات تقليده والتبعية له. لا بد أن تتواصل مع تراثنا الفني، منذ فن الفراعنة إلى محمود مختار ومحمود سعيد ومحمد ناجي وغيرهم من فنَّاني جيل الريادة. لم يَبُح الفن المصري القديم بكل أسراره، ما تم اكتشافه رمال في صحراء، لم تطأها قدمٌ منذ عصر الفراعنة.
اللوحة — فوق الكرسي في زاوية الصالة — مرحلة أخيرة، هل يتاح له استكمالها؟ في مشروعه لنقل عناصر من الفنون الفرعونية والقبطية والإسلامية. التراث ليس مجردَ ابتعاث قِيَم قديمة. ما يُعنَى به، ما ينبغي أن يُعنَى به، إيجاد صلات بين القديم والجديد، التجميع وإعادة التركيب للقيم الفنية والجمالية، والإضافة عليها. يحاول تخليقَ فنٍّ مصري له شخصيته المتميزة، واستقلاله.
أهمل مسايرةَ التغيرات المفاجئة في الفن التشكيلي الغربي، ما يكاد يُولد اتجاه حتى يلحقه اتجاهٌ آخر، وثالث، وهكذا. إدراك عناصر التراث المترسبة في الوجدان، ما اختارته، واستقر في أعماق النفس.
«حين أنجح في أن ينقل عملي إلى المشاهد إحساسًا بأنه يتأمل جزءًا من سجادة فارسية مصاغة في قالب معاصر، أكون قد نجحت في تحقيق ما أعتبره هدفًا أتطلع إليه.»
متى قال هذه الكلمات؟ لمن؟
قال: أنا لا أرى في الطبيعة سوى شخصيات غريبة، وفريدة، من العناصر، تُثيرني بما تحويه من شحنات عاطفية، تفوح منها رائحةُ الماضي التراثي والديني السحيق والغامض؛ لهذا تجدني غنيًّا جدًّا عندما ألتحم بالطبيعة، تبدو جديدةً تمامًا — كل لحظة — أمام هذه الرؤية. وقال: العنصر كيان مقدس، يدفعني — باستمرار — لمناغاته، والخط العربي أعظم طبيعة تحتويه. وقال: أبطالي موجودون في الشرق العريق، الغامض، الساحر، والعلاقة بينهم سوريالية، ساحرة، ممتعة، تُثير ذكريات اللاشعور. وقال: أصدق دليل على طبيعة مزاجنا العربي وذوقنا وأبعاد حضارتنا الأصيلة والفريدة، هو الخط العربي. أي حرف من حروفه تلخيص رائع لمنهجية تفكيرنا. وقال: الرسم عمل فني متكامل، يحمل كل إمكانيات العمل الفني، وليس مسودةً لعمل آخر. وقال: اللون كيان وليس صبغةً لمعنى. هذا الخط أبيض، وليس لونه أبيض. وقال: يسقط كل شيء لا أحبه.
محمود سعيد هو أول من تكلم عن صلة أعمال العدوي بفنون الشرق. يختلط الواقع والخيال والسحر. ربما سبقه إلى الملاحظة آخرون، لكنه كان أول مَن تحدَّث — بلغته الهامسة — عن عمق الصلة. لم يكن سعيد قد تخرَّج بعدُ في كلية الفنون الجميلة. تخرَّج في قسم الحفر عام ١٩٦٢م، بعد مولده في بحري بأربعة وعشرين عامًا. يتذكر تاريخ ميلاده: ١٩٣٨م، حين يقرأ الأرقام على نصب تمثال سعد زغلول بمحطة الرمل. ظل مدرسًا في الكلية منذ تخرُّجه.
لمح — في تماوج الإطار الزجاجي أمامه — القامة النحيلة، الوجه الأبيض ذا العينين الطفوليَّتَين، قسمات الوجه المتألمة، الشارب الكث يضغط عليه بشفته السفلى.
هل تتلاشى اللحظة القاسية؟ هل يُسعفه العمر لتقديم محاولاته — كما يريد — في أعمال التصوير الزيتي؟
تمنَّى الموت في أحد مكانين: المرسم، أو البحر. اقتصر على الوقوف — أو التمشي — على شاطئ البحر. جثة غريق منتفخة، طافية فوق الموج، رآها في صباه. لم يَعُد — من يومها — ينزل البحر. يتأمل الأفق والأمواج والسفن والصيادين. ينقل ما يراه إلى وجدانه، هو ما يرسمه في معظم اللوحات.
قالت أمُّه وهو يخطو إلى داخل البحر: أمواج الأنفوشي بلا حاجز كما في المينا الشرقية … لا تبتعد كثيرًا!
ابتسم للسؤال: لماذا اخترت البحر موضوعًا لأعمالك؟
يتصور أن السؤال لتحريك الحنين. البحر هو الموضوع منذ مشروع البكالوريوس في كلية الفنون الجميلة، تخرُّجه في أول دفعة، تعيينه معيدًا بقسم الحفر. الصيادون، والبلانسات، والطراحة، والجرافة، والسنارة، وورش المراكب، والمياه الساكنة، والريح العاصفة، والنوَّات، والشمندورة، وعلامات الإرشاد، والفنار، وشباك الصيادين الملقاة على ظهور القوارب، وفوق رمال الشاطئ.
قال بيكار: رسالتك للماجستير عن الصيادين والبحر. اتجه إلى بيئات أخرى.
يذهب إلى البحر كما يذهب المحب للقاء محبوبه. يشغله الوقوف في نقطة الالتقاء بين البحر واليابسة. يتوحَّد بما حوله. يُثيره التلفت إلى انطلاقات الإبداع. يعروه الشوق إلى الباليتة والفرشاة والسكين والألوان والحامل الخشبي ومساحة القماش. تتجدَّد رؤيته للمشهد الواحد بتجدُّد رؤيته. ربما تكررت اللوحات برؤى مختلفة. تتعدد التكوينات، ومساحات الضوء والظل.
– بحري بيئتي، أرسمها وأنا مغمض العينين.
– أخشى أن تُكرر نفسك … على الفنان أن ينوِّع فضاء أعماله.
استطرد في ابتسامة متوددة: لا أُصادر حق الفنان في أن يرسم ما يحبه.
هو قد أحب البحر. عُنيَ — في معظم لوحاته — برسمه، أمواجه وسمائه وصياديه وتقلباته. كرر لوحات للمشهد نفسه. الاختلاف في التكوينات والألوان والظلال والأعماق.
حين سافر إلى طنطا في ١٩٦١م لمشاهدة مولد السيد البدوي، لم يتصور المغايرة. توقَّع الطرق الصوفية والبيارق والأعلام والابتهالات والأدعية والمنشدين. واجهَه ما لم يكن رآه، منذ انحناءة الطريق إلى داخل المدينة. حتى مفردات الإنشاد عكست بيئة الريف. شغلَته المقارنة بين الريف والساحل، بيئة المزارعين وبيئة الصيادين.
تساءل — فيما كتبه بعد العودة — عن هذه الثروات من الإبداع التشكيلي، كيف ننفض عنها الغبار؟
لم يصل إلى إجابة محددة، وإن ترك لعينَيه التمييز والانتقاء وإعادة التركيب.
جعل لوحاته ديوانًا للحياة في مصر، وفي الإسكندرية على نحو خاص: الجامع، البحر، البلاج، القمر، الشمس، الصيد، الأسرة، الحارة، سوق العيد، السيرك، سيد حلال عليه، نافخ الأرغول، النقرزان، صانع الحصير، بائع البطاطا، الموسيقى العربية، الزهور، قطع الشطرنج، دقات وشم نعمات الغجرية، النائحات، الأكفان، الأشلاء، الجنازة، شواهد القبور. الأذرع المرفوعة المبتهلة، والمرفوعة بأداء الرقص، والتي تُشهر سيوفًا مقوسة. الطيور، الزواحف، الحيوانات المستأنسة، والمفترسة. الأشكال المستوحاة من عالم النبات وعالم الحشرات. طوابير النمل، أسراب النحل، الطحالب، الأعشاب، أعشاش الغراب.
قال لأستاذه أحمد عثمان: لا معنى لمجاراة الاتجاهات التشكيلية في الغرب دون أن أعبِّر عن رؤيتي للبيئة، الوطن والأهل والجماعة.
رحلته إلى الصعيد والنوبة أعطته بُعدًا جديدًا، يختلف عن حياته في بحري، وما رآه في طنطا. الجبل ورائحة الأرض وآثار الفراعنة وسوق الجمال بدراو وأغنيات ملاحي القوارب بين ضفاف نيل أسوان المترامية.
اتسعت مشاهداته بالرحلة إلى كفر الشيخ وبلطيم. غياب الزحام والصخب والبنايات التي تحجب الأفق.
اطمأن إلى أن حياته ستطول من نبوءة نعمات الغجرية. قرأت كفه تحت قلعة قايتباي.
قالت أمه: أخشى أن يفوتك قطار الزواج.
قال: فكرة، أرسم قطارًا تلوح من نوافذه فتيات جميلات!
لم يأذن لوعيه أن يتغلب على مشاعره.
– يا أستاذ سعيد.
تبدو الطرقات — مثل النداء — بعيدة، بعيدة، كأنها حلم يتحرك في ضباب متكاثف. اهتزاز الحروف في اللوحة — أعلى الجدار — حقيقة، وليس ما أراده. التجريد، روح الخط العربي ومنحنياته. الهلال والحجاب والعين الحارسة وعروسة المولد والشمعدان ونبات الصبار. يستخدم ألوان الزيت والجواش والفحم والقلم الرصاص. يوازن بين توزيع الألوان ودرجات الأبيض والأسود. يكشف عن الروح المصرية، ورؤيته للعالم، والحياة من حوله. يحذف التفاصيل الزائدة، والخطوط، والألوان، والظلال التي لا تُضيف شيئًا. الفن ليس محاكاة للواقع. الفنان ليس محاكيًا للواقع. المعارض ومضات، تظهر وتغيب، عشرات المعارض الفردية والجماعية، داخل مصر وخارجها.
قال له مصطفى عبد المعطي: لماذا انسحبت من مجموعة المرسم. أعضاؤها الاثنا عشر طالبًا في الكلية.
– أعرف … لكنني أحسست بينهم بالغربة!
جماعة التجريبيِّين مع محمود عبد الله ومصطفى عبد المعطي. تناثرت — في مناقشاتهم — أسماء فان جوخ وموديلياني وميرو ودالي وكامبيلي وبو كلي، وتسميات التعبيرية والتأثيرية والتكعيبية والتجريدية والسوريالية. رفضوا الحياة على إبداعات فناني الغرب. شغلهم الحرص على التفرد، وتقديم الرؤى الخاصة، والتعبير عن مفردات البيئة.
قال محمود عبد الله: نريد أن نحتقر الجوائز واللجان والمعارض الوقتية وصالون المناسبة.
قال مصطفى عبد المعطي: نريد — قبل كل شيء — أن نعرف لماذا نرسم؟ ولمن؟
قال سعيد العدوي: لقد تعلمنا — منذ اليوم — أن نناقش ما نفعل، وأن نحاكم أنفسنا، وأن نتحمل عواقب متاعبنا.
وصف الناقد أحمد فؤاد سليم ثلاثي التجريب بأن سعيد العدوي هو الوجدان، ومحمود عبد الله هو العقل، ومصطفى عبد المعطي هو الإيقاع المنطقي، المنتظم، الذي يربط طرفَي النقيض بأوامر حاسمة.
عضويته للجماعة لم تحلَّ دون موافقته على عرض الألمانية أورسولا شيرنج. شارك في معارض أقامَتها للوحاته، ولوحات عبد الهادي الجزار وحامد ندا وفتحي أحمد.
قالت: أحببت لوحاتك، لوحاتكم، لأصالتها واستقلالها وتميُّزها عن الأعمال الأوروبية.
جمهور المعارض من الأجانب المقيمين في مصر. حرصه على «المصرية» مصدر إعجابهم، وحرصهم على اقتناء أعماله. يحب لوحات فان جوخ وجوجان وليجيه وميرو وبيكاسو وحامد ندا وعبد الهادي الجزار وشاجال وميرو وموديلياني، وأفلام فيسكونتي وفليني وبازوليني. لكن محاكاة إبداعات الآخرين لا تُضيف ولا تُطور، الإضافة والتطوير ينبعان من ذات الفنان، ومن البيئة التي يعيش فيها. الفنان الذي يعيش عصره وبيئته وناسه، لا بد أن يكون شاهدًا على ذلك كلِّه، معبرًا عنه في لوحاته.
التقطت نظراته — بالكاد — ما بداخل الدولاب الزجاجي من جوائز وميداليات. المرئيات تتصل، تختلط، تتوارى. توالت شخصيات التقاها في الشوارع والميادين والساحات والمقاهي وحلقة السمك وشاطئ الأنفوشي والكورنيش ومساكن السواحل وحديقة سراي رأس التين وداخل الجامع. في انفراده بنفسه على شاطئ الأنفوشي. يجلس على الكورنيش الحجري، أو على الرمال، أو فوق قارب مقلوب: عمران الخولي، شوقي أبو سليمان، نجم أبو العيش، حجازي أيوب، خليفة كاسب، رفقي زلابية، عبد الله أبو رواش، أحمد خليل، الغجرية نعمات، جودة هلال، شحاتة عبد الكريم.
تثبت صورة زوجته رائقة الملامح.
هل يلتقيان في الموعد الذي اتفقا عليه في مبنى الأتيلييه؟ هل يُناوشها القلق لو أنه غاب عن الموعد؟
يحاول انتزاع ما ينطق به. الأمواج تنحسر عن الشاطئ. تعلو في انحسارها، وتعلو. تعاود الارتفاع في اتجاه الشاطئ، ثم تنحسر، إلى ما لا نهاية.
أعاد التحديق في اللوحات المتجاورة. لم تكن في البيت، فمن الذي أتى بها؟ جنازة البطل، الصلاة على جثمان البطل، المدافن، النائحات.
لماذا هذه اللوحات في هذه اللحظة؟
الموت معنى تناوله في لوحاته. هل هو ما يعانيه الآن؟
الآلام لا تُطاق، الأيدي التي يشعر بها ولا يراها، تعتصر جسده، عشرات الأحجار والمصدات الأسمنتية تضغط فوق صدره. يتضاءل في توالي الأمواج، يتحول إلى أشلاء في أفواه المخلوقات التي لا يعرفها. يتسع تكاثف الضباب، يعمق، يحجب الأصوات، ويمنع الرؤية. تتلاشى، كأنها لم تكن.
•••