عبد اللطيف النشار
تردَّد ضياء خير الله على مجلس عبد اللطيف النشار في بار البوستة، قال النشار — بلهجة معتذرة — وهو يصبُّ من الزجاجة في الكوب الصغير: هذه نصيحة الأطباء، كأس أو كأسان من النبيذ لتوسيع الشرايين!
ثم في نبرة معتذرة: حياتنا ومضة … علينا أن نُمضيَها في الشُّرب وكتابة القصائد!
قصده ليناقشه فيما يقرأ، ويوضِّح له ما لم يفهمه.
قال حجازي أيوب: عبد اللطيف النشار كموج البحر، يثور بلا توقع، ويسكن بلا توقع.
افترَّ فم ضياء عن ابتسامة: أنا أعرف مواعيد النوات.
– نوات النشار بلا مواعيد، إنها حالة مزاجية.
النشار — من كلمات عم حجازي — شخصية محيرة. يبدو لطيفًا، ودودًا، يأخذ ويُعطي، يُظهر مشاعر طيبة. ثم تنتابه — فجأة — نوبةٌ من الانفعال، يعلو بها صوته، ويقذف بكلمات لا يتدبرها.
كان النشار يحيا على ماضٍ شعريٍّ عريق. وكان هو الوجه الأدبي الأول في الإسكندرية. معظم «الأسماء» هاجرت إلى القاهرة، أو إلى خارج مصر. خلَت الساحة إلا من بضعة أسماء ذات قيمة فعلية.
بدا له — بتوالي لقاءاتهما — المثقف الوحيد في العالم. ذهل من اطلاعه الواسع في الثقافات الأجنبية. نبَّهه إلى أدباء روسيا القيصرية: بوشكين وجوجول وتولستوي وتورجنيف وتشيخوف. أظهر رفضه لأدب ما بعد الثورة البلشفية. إنه أدب زعيق، لا قيمة له.
كان مدمنًا للقراءة. قد يخلو إلى قراءة كتاب في بار البوستة القديمة، وقد يحمل بضعة كتب أثناء سيره في الطريق. وكان يبذل المعلومة ببساطة، لا يتعالى على محدِّثه، إنما هي عبارات بسيطة، هادئة، تقدِّم المعلومة، لا يأخذ سمت المحاضر أو الأستاذ، لا يسأل وينتظر الإجابة، فإن عجز محدِّثُه عن الإجابة، أملاها عليه بتعالٍ واضح.
قرأ عليه النشار من قصيدة له:
كان يُجيد الترجمة عن الإنجليزية. لكنه لم يحب قصائد كفافيس، ذلك الشاذ على حدِّ تعبيره، ولا رباعية داريل التي عُنيت — في تقديره — بإسكندرية الخواجات، ولا كتابات فورستر التي تتحدث عن الماضي الأوروبي. لم تكن تُعجبه كتابات الأدباء السكندريين. في رأيه أنها تخلو من التجربة، الأدب بلا تجربة، بلا تعرُّف وملامسة، أدب بلا قيمة.
يغيظه العمل الذي يخلو من المعنى، أو تغيب عنه الدلالة. يحب النص الذي يحتوي على ما لا نهاية له من إمكانيات المعنى.
أحب الفنان في قراءات الرجل وقصائده وآرائه، وإن أضمر الاستياء لتصرفاته، تصرفات غير مسئولة، لا تُلقي بالًا لشيء، لا يشغلها مشاعرُ الآخرين، ولا ردود أفعالهم.
قدَّم له قصته الأولى. توليفة من قراءات في قصص عربية وأجنبية.
اكتفي النشار بقراءة الأسطر الأولى من القصة. قال: هل هذه قصتك الأولى؟
– هي القصة التي تشجعتُ لأعرضها عليك.
فاجأه التصرف، وأغضبه. طوَّح بالأوراق — متناثرة — في أرض الطريق. جرى خلف الأوراق التي زاد تناثرها بهبَّات الهواء القادمة من ناحية البحر. عاد إلى الرجل بالنظرة الغاضبة: لماذا؟
ثم وهو يعاني كتم مشاعره: كنت تستطيع إعادتها لي!
قال النشار دون أن يجاوز هدوءه: أردتُ أن أنبهك إلى شدة سذاجتها.
عانَى ضياء ارتباكًا. لم يدرِ كيف يتصرف: هل يأخذ أوراقه وينصرف؟ هل يأخذ الأوراق ويعود إلى جلسته ساكنًا؟ هل يُظهر استياءه مما فعل الرجل؟
قضى النشار على حيرته: هل بلَغْت؟
زوَى ما بين عينَيه دلالةَ عدم الفهم.
قال النشار: هل أدركك البلوغ؟
رمقه بنظرة استياء: لا أعرف ما تتحدث عنه!
تأمل النشار ما تبقَّى في قاع الزجاجة: اكتب عما تعرفه. لا تتحدث عن بلد لم تَزُره، ولا عن تجربة تجهل معناها.
وأومأ بابتسامة متواطئة: لهذا رميت أوراقك البلهاء!
قال ضياء: قرأت الكثير من الشعر الجاهلي. في معظمه شرف وطهر.
وهو يُشيح بيده: تلك تجربتهم. إذا اتسعت ربما كان اختلف شعرهم.
– أقصد عنترة وابن علقمة وعروة بن حزام وابن العجلان وعدي بن زيد.
قاطعه: لا أنتقص من قدر أحد، لكن التجربة تفرض نفسها!
أسقطت يدُه المرتجفة زجاجةَ الويسكي على الطاولة المعدنية. أسرع ضياء، فرفعها بيده.
قال النشار: إذا كانت الخمر حرامًا، فلماذا وعدنا الله بها في الجنة؟!
•••
اسمه: محمد فرحات عبد اللطيف محمد حمدي النشار. وُلد بمدينة دمياط في الثامن والعشرين من مايو ١٨٩٥م. وكان أبوه وجدُّه شاعرَين، وأغلب الظن أنه ورث موهبة الشعر عنهما … لم يستكمل النشار دراسته الثانوية، رغم تفوقه فيها. اجتذبه الشعر، فهجر الدراسة، وعمل في وظيفة كاتب بالمحكمة الكلية، وهي الوظيفة التي كان يشغلها والده الشاعر محمد حمدي النشار. ظل عبد اللطيف في وظيفته بسراي الحقانية، مبنى المحاكم المختلطة منذ بداية جلساتها في أول فبراير ١٨٧٦م. حين أُلغيت المحاكم المختلطة، أصبحت مقرًّا للعديد من المحاكم والإدارات التابعة لوزارة الحقانية، العدل فيما بعد.
وصل في وظيفته الحكومية إلى منصب رئيس قلم المطالبة بمحكمة الاستئناف، لكنه لم يكن يحرص على ثيابه. وكان يُهمل قصَّ أظافره، والعناية بشعره المنكوش، وذقنه غير الحليقة. يُضيف إلى غرابة مظهره، مقصٌّ كبير يُطل من جيب جاكتته العلوي، يلجأ إليه في قص ما يريد حفظه من قصاصات الصحف.
كان يصعب عليه كتابة الشعر بين الملفات والأوراق المصلحية التي تعلو مكتبه. تصطدم عيناه، فلا يرى حتى المترددين على الحجرة الواسعة، المطلَّة على الميدان. أخلى المكتب من ملفات وزارة العدل. وضع — بدلًا منها — أوراقًا بيضاء، يكتب فيها بعض خواطره، وأبياتًا من الشعر.
ابتسم لملاحظة حجازي أيوب أنه يستطيع أن يحقق الثراء من بيع صور ما لديه من كنوز الوثائق والحجج والأوراق المهمة، باللغة العربية، أو بلغات أخرى كالتركية واليونانية والإيطالية والفرنسية والإنجليزية.
لما أعاد حجازي أيوب ملاحظته، قال النشار في نبرة مهونة: وظيفتي أكل عيش … أنساها على باب المكتب.
ثم وهو يهزُّ إصبعه: الشعر هو حياتي.
لم يُظهر استياءه لقول حجازي أيوب: إذا كانت القصة الروسية قد خرجت من معطف جوجول، فإن الشعر المصري الحديث خرج من معطف إسماعيل صبري.
ورنا إليه بنظرة متأملة، لكي يرى وقْعَ كلامه في نفسه: البارودي مهَّد الطريق، ثم شيَّد إسماعيل صبري فوقها البنايات الجميلة.
وعلا صوته: هو أستاذ شوقي وحافظ ومطران.
وأشار بإصبعه ناحيته: وأستاذك أنت.
قال النشار دون أن يجاوز هدوءه: إذا كان الرجل أستاذًا لكبار شعراء العصر، فمن حظي الجميل أن أكون واحدًا منهم!
ميَّز نفسه عن إسماعيل صبري بقصائده المطولة. غلب على صبري شعر المقطعات. القصيدة في بيتين أو ثلاثة أو ما يزيد قليلًا. قصائده الطوال قليلة، وإن بدا حرصُه على أن يلمَّ الخيوط، قبل أن تختلط وتتشابك.
•••
تزوج النشار من سيدة سكندرية، أنجب منها وحيدته رفيعة التي هاجرت إلى الخارج مع زوجها، بعد أعوام من حصولها على ليسانس اللغة الإنجليزية من آداب الإسكندرية.
صدر للنشار في ١٩٣١م و١٩٣٢م ديوانان، هما «جنة فرعون» و«نار موسى». صدر له قبل ذلك ترجمة كاملة لرواية «كوخ العم توم». ترجم «رباعيات الخيام» شعرًا، ونُشرت في مجلة «رعمسيس» ١٩١٩م. حرص على الاحتفاظ بروح النص. ترجم ديوانه «نار موسى» وديوان «زين النساء» عن ترجمة، عن شاعرة هندية، وترجم ٢٥ رواية من بينها الأبله لديستويفسكي وليزا لتورجنيف وأنَّا كارنينا لتولستوي. نشر في رسالة الزيات مؤلفًا منجمًا — لم يُتح له الصدور في كتاب — بعنوان «الأغاني لأبي الفرج الإسكندراني»، يتضمن خواطر باسمة مضفرة بالمعرفة. ظلت قصائده ومقالاته التالية حبيسةَ الأدراج، أو أنه اكتفى بنشرها في الصحف، ثم تكفلت ابنته — بعد وفاته — بضمِّ معظم قصائده في ديوان واحد، صدر عن هيئة الكتاب في ١٩٧٨م.
كان النشار من خطباء ثورة ١٩، بعد أن شارك أعوام شبابه الأولى في جماعة الشلالات التي استمدت اسمها من اجتماعها عصر كل يوم بحدائق الشلالات بالإسكندرية. وكان النشار يسمِّي نفسه «المسئول عن إجلاء القوات الأجنبية المحتلة عن الآداب العربية المحتلة».
بالإضافة إلى عمله بسراي الحقانية، انشغل النشار بالكتابة في جريدة «وادي النيل» (بدأ صدورها في ١٩٠٨م): شقة واسعة في بيت يُطل على سوق راتب. ينعزل في جزيرة عن الأصوات المتصاعدة من السوق. يخلو إلى تأملاته وكُتُبه وأوراقه وقلمه. يترك مقاله، ويخترق زحام السوق إلى بار البوستة.
عندما أُحيل إلى المعاش، تهيَّأ لمعاناة الانتظار والسأم. لن يكون الجلوس في البار استراحة ما بعد العمل في الحقانية. يجلس — عصر كل يوم — في بار البوستة. وأمامه الطاولة المعدنية الصغيرة، فوقها زجاجة الخمر والكوب وطبق المزة. قد تمتد جلسته — إن لم يجد ما يفعله — بطول النهار. القصائد التي كان يكتبها في الديوان قد يضطر لكتابتها في البيت، أو في «وادي النيل»، أو على طاولة البار، من خلال رشفات النبيذ الممزوج بالصودا.
أزعجه أن ناجي ميلاد — زميله في المكتب المجاور بسراي الحقانية — لم يُمهله الموت. اختطفه بعد شهرين من إحالته إلى المعاش.
كانت صحته مثل البمب، فماذا حدث؟
عانَى هواجس المرض. الألم البسيط قد يكون نذيرًا بمرض يُنهي حياته. يتردد على المستشفى الأميري. يسلِّم جسده للفحوص والتحاليل. يشكِّك في صحة التشخيص. يشدِّد على ما قد يحتاجه من الأدوية.
لم يكن يخاف الموت، لكنه كان يكره الفكرة. يكره أن يسكت — رغم إرادته — عن الحركة والكلام وإعلان الرأي والحب والغضب والفرح والحزن، يختزل الموتُ ذلك كلَّه في سكون جامد. يدفن تحت الأرض. يغيب في الظلمة والعدم. الموت يكره الاختيار.
مال إلى التسكُّع — بلا هدف — في شوارع الإسكندرية. بار البوستة نقطة الانطلاق والعودة. يختار — في كل مشاويره — الطريق المحاذية للبحر. يميل إلى الشارع القريب من مقصده.
يغادر بيته في محرم بك — كل صباح — إلى سراي الحقانية. يهبط الدرجات الرخامية، في موعد انتهاء العمل. يمضي من ميدان المنشية إلى طريق الكورنيش، يتمشَّى — متمهلًا — إلى السلسلة. يدور مع إفريز اللسان، إلى انحناءة الطريق ناحية قلعة قايتباي. ربما واصل السير إلى سراي رأس التين. يعود — من الطريق نفسه — إلى ما بعد تمثال الخديو إسماعيل. لا يفكر — حتى لو غلبه التعب — في الجلوس على أي مقهى يُصادفه. يواصل السير حتى شارع البوستة. لا يبدِّل جلسته، بالقرب من الباب الخارجي للبار.
اطمأن إلى أن المشوار اليومي يُهيئه للإبداع. يجلس على الكرسي بالقرب من باب البار، فتواتيه القصيدة. لا يجد عناء في تسجيلها، كأن المشوار لاختزان الأبيات الشعرية.
•••
أَلِف أصدقاء النشار رؤيتَه مخمورًا، واعتادوا رائحة الخمر من فمه. وحين تعرَّض لحادثة سرقة كتَب قصيدة يقول فيها:
نظم النشار أروع قصائده، تعبيرًا عن حزنه لما أصاب الإسكندرية من تأثيرات الحرب العالمية الثانية.
رفض — معظم أعوام حياته — أن يهجر الإسكندرية. اتخذ قرارًا — بينه وبين نفسه — أن يظل في الإسكندرية، لا يتركها، حتى وفاته. يثق أنه يستطيع أن يحقق الكثير دون أن يغادر المدينة.
صدر قرارٌ بترقيته ونقله إلى طنطا. تكاثرت التقارير عن استقباله — في مكتبه — لشعراء وأدباء، تعلو أصواتهم في المناقشات، فيصعب على زملائه العمل. أشارت التقارير إلى إدمانه الخمر، فهو يفقد التركيز عند قراءة تحقيقات النيابة والأحكام.
أعلن النشار رفضه في العديد من القصائد، هجا فيها مدينة طنطا، وتهكَّم على أحمد خشبة باشا وزير الحقانية الذي طلب مقابلته، ليُقنعه بقبول الترقية والنقل:
قرأ الوزير في أوراق قُدمت إليه:
استبدل الوزير بقرار النقل إلى محكمة طنطا، قرارًا بالنقل إلى محكمة القاهرة.
قال في قصيدة يخاطب بها تمثال إبراهيم باشا بميدان الأوبرا، ويرفض فيها تنفيذ قرار النقل الترقية إلى القاهرة:
عاد النشار إلى الإسكندرية. قال لنظرة حجازي أيوب المستغربة: أمرني إبراهيم باشا بالعودة، فعدت!
قال حجازي أيوب: لن يُتاح لشعرك فرصة حقيقية إلا بالسفر إلى القاهرة.
قال النشار: أنا مثل سمك المينا الشرقية، لا يعيش إلا في مياهها!
– أنت شاعر كبير!
– إذا تركت الإسكندرية فسأُصبح مجردَ مواطن قاهري!
قرأ وزير العدل القصيدة بين أوراقه. أمر أن يبقى النشار في الإسكندرية.
•••
ترك النشار الإسكندرية إلى القاهرة في أوائل الستينيات، لا للبحث عن الفرصة أو المجد الأدبي. ذلك آخر ما كان يشغل باله. كانت الكتابة، والشعر بخاصة، حياته. ولم يكن يعنيه أين ينشر كتاباته.
ظل — لأعوام طويلة قبل رحيله — يكتب في جريدة «السفير» السكندرية المحلية، إعلانات المحاكم مادتها الرئيسة، إلى جانب ما يزودها به — دون مقابل — بعض أدباء الإسكندرية وشعرائها. وكان النشار واحدًا منهم.
أقام عند ابنته الوحيدة في منشية البكري. لم يَعُد لديه ما يتطلع إليه، اكتفى بذكريات الماضي. ثم نسيَ شعرَه كلَّه، ونسيَ دواوينه.
نظراته الذاهلة، وارتجاف يديه، يَشِيان بإسرافه في شرب السجائر واحتساء الخمر. أهمل تغييرَ ثيابه المتسخة. المقص يُطل من الجيب العلوي، والأوراق في يده بُليَت، لا يبدو أنه يقرؤها، أو يكتب فيها. يمشي في الشوارع القريبة من بيت ابنته، أول مصر الجديدة. يتأمل — بالدهشة — كلَّ ما تقع عليه عيناه، حتى مَن كان يعرفهم، يكتفي بلمعة التذكُّر في عينَيه، ويواصل سَيره.
لا أحد يدري السبب الحقيقي الذي دفع النشار للإقامة في القاهرة: هل هو وفاة زوجته، أو إحالته إلى المعاش؟ أو العيش مع وحيدته — وزوجها — قبل أن يسافرا إلى خارج البلاد؟ أو أن هناك أسبابًا أخرى؟.
أيًّا كان السبب، فإن النشار استقر في القاهرة. لم يحاول التردد على المؤسسات الصحفية ولا دور النشر، وإنما كان يبعث بكل كتاباته إلى جريدة «السفير». جريدة محدودة القيمة والتوزيع، لكنه قصرَ نشْرَ مقالاته — توقَّف عن الإبداع الشعري في أعوامه الأخيرة — على جريدة «السفير»، كأنه حرص على الكتابة في الظلِّ.
خلَت حياته من الالتزام.
لا وظيفة، ولا أسرة، ولا أصدقاء دائمين. حتى ابنته صارت هي المسئولة عن المشكلات التي يواجهها. التزامه الوحيد (هو الذي اختاره، وحرص عليه) أن يكتب — بانتظام — في «السفير». يثق أنها بلا قرَّاء، أو أن قرَّاءها قلة. هو يريد أن يكتب، ولو لنفسه، ولو لم يقرأ مقالاته أحد.
لم تكن «السفير» تُعطي النشار مقابلًا لما يكتبه، وأهمل — من ناحيته — مجرد التلميح بالمقابل.
كَرِه فكرةَ الانتظار.
وجد في الكتابة اليومية امتدادًا مناسبًا لحياته الوظيفية. يقرأ، يتأمل، يلاحظ، يناقش، يسأل، يُجيب. يخلو إلى أوراقه. يتوقع الموافقة أو الرفض. تحدث حالة من ردود الفعل أن تُشعره بالمشاركة.
•••
مات النشار في القاهرة في السادس والعشرين من نوفمبر عام ١٩٧٢م. كان في حوالي السابعة والسبعين.
رثى نفسه — قبل رحيله — بأبيات، عنوانها «قصيدة إلى قبر عبد اللطيف»، قال فيها:
هل كانت وفاته مفاجئة، أو أنه انتقل إلى الموت عبر جسر من المرض؟.
ما يذكره أصدقاؤه وزملاؤه أنه قضى حياته مثلًا للفنان البوهيمي الذي أهمل كلَّ المظاهر والشكليات، يحيا ما لا يتصوره الناس. إنهم يحيَون ما لا يعيشه، أو يراه، أو يسمعه.
صرف جهدَه — في آخر أيامه — إلى القراءة والكتابة، والنشر في جريدة لا يقرؤها إلا محضرو المحاكم وصغار المحامين، بحثًا عن الأحكام في قضايا المواريث والضرائب والتفليسات!.
•••