عبد الله النديم
وُلد عبد الله بن مصباح بن إبراهيم الإدريسي، الشهير بالنديم، في يوم عيد الأضحى عام ١٨٤٥م بمدينة الإسكندرية. درس في الكتَّاب، ثم في جامع الشيخ إبراهيم القريب من ميدان المنشية. اشتغل عاملَ تلغراف، وأدباتيًّا، ووكيلًا لدائرة توتنجي بك، ومعلِّمًا لأبناء عمدة، ومدير مدرسة، وخطيبًا، وصحفيًّا، وكاتبًا، ومؤلِّفًا مسرحيًّا، وممثِّلًا.
•••
قَدِم مصباح بن إبراهيم إلى الإسكندرية من قرية الطيبة بمديرية الشرقية. عَمِل في قسم النجارة بالترسانة البحرية. لمَّا صدر فرمان الباب العالي بخفض الجيش المصري إلى ١٨ ألف جندي، وإغلاق المصانع الحربية التي تزود الجيش باحتياجاته، ومن بينها الترسانة البحرية، سرَّح المئات من العمال إلى خارج الدائرة الجمركية. لم يَعُد مصباح إلى قريته، كما فعل الكثيرون، لكنه حاول أن يبحث عن مهنة، فلا يترك الإسكندرية.
افتتح مصباح فرنًا في المنشية. ساعده أنه لم يكن في حاجة إلى رأس مال كبير. وبإحساس الاستقرار، تزوَّج، وأنجب عبد الله قبل أن يجاوز السادسة والعشرين.
بدأ عبد الله بن مصباح التعلم في كُتَّاب المنشية. أتم القرآن في التاسعة. أعانَته ذاكرته على حفظ ما تلقَّاه من قواعد اللغة والنحو. ثم ألحقه أبوه (١٨٥٥م) بمدرسة جامع الشيخ إبراهيم (الجامع الأنور) لكي يصبحَ عالمًا من علماء الإسلام، يُفيد بعلمه الناس. فطن شيخه محمد العشري إلى حبِّه للأدب. كان الشيخ نفسه مشهورًا في مجالس الإسكندرية بالنوادر والمُلَح والفكاهات. اصطحب النديم إلى ندوات الأدباء بالمدينة، أنشد الشعر، وشارك في المساجلات، وتبادل القافية، والنكات.
لم يُقدَّر لعبد الله أن يواصل الدراسة في الجامع الأنور. ضاق بطريقة التدريس. المواد لا بأس بها: فقه الشافعية والنحو والصرف والتوحيد والمنطق والعلوم اللسانية والأصول. المشكلة في طريقة الدراسة، وغلبة التعقيد، والنقلية. قرر عبد الله أن يهجر الجامع إلى حياة أخرى غير التي أعدَّه لها أبوه.
فرغ النديم للمجالس العامة والخاصة، في البيوت والساحات والمقاهي، سماع سير الشاعر الشعبي وحكاياته، المناقشات، المنادمة، الخطابة، إلقاء الشعر، تبادل النوادر والقوافي.
انعكست حياة عبد الله — بعد أن هجر الدراسة في جامع الشيخ إبراهيم — فزعًا في نفس أبيه. نذره للعلم، وأنفق عليه من إيراده القليل، ليصبح عالمًا يتقرب به إلى الله. ما أقدم عليه الابن بدَّد كلَّ تصوراته.
ضغط مصباح على مخارج الألفاظ: إما أن تعود إلى طلب العلم فتجد الرعاية والإنفاق، أو تذهب إلى حال سبيلك، وتتولَّى أمر نفسك. كلٌّ بشعرك وزجلك.
لم يَعُد أمامه إلا أن يعمل، ويُنفق على نفسه. نفَّض أبوه يدَه من مسئولية تعليمه وإعالته. سافر إلى القاهرة. تعلَّم الإشارات التلغرافية، وعمل بمكتب التلغراف ببنها، ثم نقل إلى القاهرة، بمكتب تلغراف القصر العالي، مقر الأميرة خوشيار خانم أفندي، أم الخديو إسماعيل.
واصل إعداد نفسه في القاهرة. يمضي في حلقات الأزهر بضع ساعات كل يوم، لتلقِّي دروس الفقه والنحو على أيدي كبار العلماء، من بينهم الشيخ محمد الإنبابي شيخ الأزهر فيما بعد.
تغيَّرت عليه نفس خليل أغا. ضربه، وطرده. سدَّت في وجهه أبواب الرزق بالقاهرة، مثلما سدَّت في الإسكندرية. نزل عند عمدة في إحدى قرى الدقهلية. أقام عنده، وعُنيَ بتعليم أولاده، لكنه ما لبث أن تخاصم معه، فتركه.
عاد عبد الله النديم إلى الإسكندرية في مطلع عام ١٨٧٩م (أو ١٩٧٦م). كان في الخامسة والثلاثين، يحمل رصيدًا هائلًا من الخبرة والتجربة والوعي.
كتب في جريدتَي أديب إسحاق «مصر» و«التجارة». من أقوى صحف المعارضة في أواخر عهد إسماعيل، وفي عهد توفيق. حفلتا بالكثير من المقالات التي تنتقد سياسة الحكومة، وتُندد بتفريطها في حقوق البلاد.
كان ذلك أول انشغاله بالكتابة السياسية. ثم انضم إلى «مصر الفتاة»، جمعية سياسية سرية، تهدف إلى مقاومة الخديو إسماعيل. وكان الأفغاني يُشرف عليها.
دعا إلى إنشاء الجمعيات والمحافل الخطابية بالقطر المصري، بحيث تكون «مصبوغةً بدم الغيرة الوطنية، تمحو فتور الإنسانية، لا كالراح تُشرب للنشوة، بل كالسيف يُقلد للسطوة.» في ١٨ أبريل ١٨٧٩م عُقد الاجتماع التأسيسي للجمعية الخيرية الإسلامية، مجالاتها الأعمال المشروعة، بعيدًا عن السياسة، والاقتصار على المحيط الثقافي والاجتماعي. ودعا النديم الأقباط — في المقابل — إلى تكوين جمعية، تنظر في شئون الطائفة. وتكوَّنت الجمعية الخيرية القبطية، متسقة في أهدافها وأنشطتها مع الجمعية الخيرية الإسلامية.
كان أول خطبائها. حثَّ على الاتحاد والتعاون ورفض التفرقة والتخاذل. ندَّد بسفاهة الأغنياء، وإنفاقهم فيما لا يعود عليهم، وعلى الوطن إلا بالضرر.
أعلن الحرب على الرِّق. رعَى خطوات إنشاء جمعية الأحرار السودانيِّين، تضمُّ الرقيق المحررين من أبناء السودان. تحفظ حقوقهم، وتُتيح لهم التكافل.
ظل مؤمنًا — في توالي الأحداث — بأن المسألة ليست خديويًّا يحلُّ محلَّ آخر، لكنها مسألة «تقدُّم البلاد في ضبط النظام، الأمر الذي يقضي على الجاهلين بحقوق الإنسان الطبيعية، والرافضين للحكومة المنظمة الحافظة لحقوق الإنسان».
قدَّم أول عدد من «التنكيت والتبكيت» (٦ يونيو ١٨٨١م) بأنها «صحيفة وطنية أسبوعية أدبية هزلية، هجومها تنكيت، ومدحها تبكيت». أما لغتها فهي «قد لا تُلجئك إلى قاموس الفيروزآبادي، ولا تُلزمك مراجعة التاريخ، ولا نظر الجغرافيا، ولا تضطرك لترجمان يعبِّر لك عن موضوعها، ولا شيخ يفسر لك معانيَها»، وإنما هي «صحيفة أدبية تهذيبية، تتلو عليك حكمًا وآدابًا ومواعظَ وفوائد ومضحكات، بعبارة سهلة لا يحتقرها العالم، ولا يحتاج معها الجاهل إلى تفسير.»
•••
صباح التاسع من سبتمبر ١٨٨١م.
كان النديم وراء فكرة أن تقف الجماهير في ميدان عابدين، تملؤه، تسدُّ منافذه، تعلو صيحاتها بتوكيل عرابي في مطالبها. وكان هو الذي جمع توكيلات الفلاحين من مئات القرى المصرية، بتفويض عرابي في المناداة بمطالب الناس، لقاء مؤامرات الشراكسة الذين أعدُّوا لعودة دولة المماليك. كان هو حلقة الوصل بين الحزب العسكري والجماهير المصرية. وقاد مظاهرات الإسكندرية لرفض اللائحة: يهتف الرجال: اللائحة … اللائحة … يُضيف النساء والأطفال: مرفوضة … مرفوضة!
«هنالك ظن رياض (رئيس النظار) أني أخطب الناس إلى قادة الحركة العربية، لأجمع القلوب عليهم، فكتب قرارًا في مجلس النظار بنفيي من الديار. ولما عرضه على الخديو في الديوان، برز له علي باشا فهمي من الميدان، وقال إن نديمًا منَّا معشر الجهادية، إن لم يحمل سلاح العسكرية. ولئن أخذتموه بغتةً من البلاد، حافظنا عليه بالأرواح والأجناد، فبطل ذلك القرار، وشرب العدو المرار.
أعلنني علي باشا بهذا الأمر وأنا أخطب في ميت غمر، فتظاهرتُ بحب العسكر والتعويل عليهم، وناديت بانضمام الجموع إليهم، وأوغلت في البلاد، ونددت بالاستبداد، وتوسعت في الكلام، وبيَّنتُ مثالب الحكام الظلام».
أعلن الخديو توفيق انحيازَه ضد الشعب، وهدد الأسطول البريطاني شواطئ الإسكندرية. بدا في الأفق القريب خطر التدخل الخارجي.
شنَّ النديم في مجلة «الطائف» أقوى حملاته ضد الخديو، وضد الأسرة المالكة. جرَّد إسماعيل من صفات البشر، ونسبه إلى دنيا المتوحشين. اتهم توفيق بخيانة الوطن، والمروق من دين الإسلام.
اختلفت صورة الحياة في مجالس الإسكندرية عمَّا كانت قبلها.
ذوَت الأحاديث في غزليات أبي نواس، وهجاء ابن الرومي، ومديح الشعراء في الخديو إسماعيل، وفكاهات الشيخ علي الليثي، والأزجال، وقوافي الأدباتية. حلَّت — بدلًا منها — أحاديث قلقة، متوترة، عن التدخل الأجنبي، وفوائد الدَّين، وجمعية مصر الفتاة التي تُعلن معارضتها للسلطة القائمة.
حاول عسكري بكركون الجمرك — بأمر من البكباشي حمدي درويش — أن يبدل بسيجارة النديم سيجارة مسمومة. دخن النديم جزءًا من السيجارة، أفقده وعْيَه وبصرَه، خمسًا وثلاثين ساعة.
•••
قبل مذبحة الإسكندرية بستة وثلاثين يومًا. بالتحديد في الخامس من يونيو ١٨٨٢م، وقف عبد الله النديم يُلقي خطابًا في مبنى جمعية المقاصد الخيرية للشبان. كان عرابي قد أوفد النديم إلى المدينة لتهيئة الجماهير قبل أن يصل إليها درويش باشا مبعوث الباب العالي، للتحقيق في أسباب الخلاف بين عرابي والإنجليز.
يقول النديم: «… وبينما هم في اختباط، وبُعْد عن الارتباط، جاء الخبر بقيام وفد درويش، وكَثُر الخلط والتشويش، وبلغنا الاتفاق مع السير ماليت والمستر كولفن على أن يُحدثوا فتنةً في إسكندرية بين الكافر والمؤمن، ليسوغ للأساطيل أن تخرج العساكر إلى البر، بدعوى أن العساكر قد أثاروا الشر، خشيةَ أن يحول درويش باشا بينهم وبين هذه الأمنية إذا ظهر بحضوره السكون والأمنية. فتوجهتُ في الحال إلى الإسكندرية، وأعلنَت جمعية الشبان القصدية، بأني أريد أن أخطب بأمرٍ فيه صلاح بلدنا، وتقوى عددنا، فأصبحَت مئاتٌ غير محصورة، وخطبتُ فيهم خطبةَ الأنفوشي المشهورة، ونبَّهتهم على لزوم السكون، إذا كثرت الظنون، والبعد عن مجالس الأجانب، حتى تنتهيَ تلك المصائب، وحرَّضتهم على لزوم الهدوء، وعدم التداخل مع العدو، وبيَّنت لهم أن عرابي باشا أخذ عهدةَ الأمن على نفسه، والخديو يسعى في عكسه. فلما بلغ ذلك عمر باشا لطفي، طلبني لديه، وأخذ يرفع صوته ويُشير بيدَيه، وقال: لمَ خطبت بين الأهالي؟ قلت: لتسكين الهَرْج الحالي. قال: ومَن أمرك بذلك؟ قلت: الخوف من المهالك. قال: هذا شيء من حدود المحافظة والضبطية. قلت: أراهما أصل البلية؛ فإن البلد في هرج عظيم، وسير غير مستقيم، والفتنة آخذة في الانتشار، وقد أكثروا من شراء السلاح، وإعداد الصفاح، وعقد المجالس ليلًا ونهارًا، وإعلان الفتنة جهارًا، حتى كتبَت بها التلغرافات بين مصر وإسكندرية، والبعض كاتبَ الجهاتِ الأوروبية. كل هذا والحكومة لا تنفي حرجًا، ولا تسكِّن هرجًا، ولا تلاحظ المحافل، وتجمُّع الأسافل، فكان من الواجب عليَّ نصحُ أهل بلدي، بما دار في خلدي، خوفًا من توالي الخَطْب، والوقوع في الحرب، فأراد أن يشير إلى الأعوان، بحجزي في الديوان، ولكنه رأى عددًا عظيمًا من الشبان على الباب، فخاف من سوء العاقبة، وارتاب، ورغب أن أخرج من البلد في الحال، فلم أُصغِ لذلك المقال، وبقيتُ حتى جاء وفد درويش، ومر في البلد دون تشويش.»
أمر المحافظ، فأودع النديم سجن المحافظة. لكن الجماهير — التي كانت قد تَبِعت النديم إلى مبنى المحافظة — هدَّدت باقتحام المبنى، فأُفرج عنه.
تهيَّأ النديم لمغادرة الإسكندرية، بعد أن لقَّن الناس ما سيرددونه من شعارات عند وصول المبعوث التركي. يهتف الأولاد: اللايحة … اللايحة … يردُّ النساء: مرفوضة … مرفوضة. ثم تعلو كلُّ الأصوات في نغم موحد، ردُّوا الأسطول … ردُّوا الأسطول!
•••
تعدَّدت مواهب النديم؛ فهو يخطب، ويكتب، ويحرِّر الصحف، وينظم الزجل والشعر، ويؤلِّف الفصول المسرحية، ويعلِّم، ويُنشئ المدارس والجمعيات، ويحمِّس الجماهير والجنود للمعارك، ويجمع التبرعات. إن ألجأته الظروف إلى الفرار من سلطات الاحتلال، أجاد التخفِّي، وأخفقت كلُّ محاولات البوليس في كشفه، والعثور عليه. لم يستقر النديم — حتى في أعوام استقراره وظهوره المعلن — في مدينة واحدة. وُلد في الإسكندرية. زار، وعمل في بنها وطنطا والزقازيق والمنصورة، ومدن أخرى كثيرة. امتدَّت زياراته إلى العديد من المدن العربية.
•••
حتى أوائل القرن العشرين، لم يكن توزيع أية صحيفة يزيد على خمسة آلاف نسخة. كان ذلك هو الحد الأقصى لطاقة ماكينات الطباعة. ظلت الصحافة وسيلةً إعلامية قاصرة. واتجه النديم إلى وسيلة إعلامية أخرى، أشد تأثيرًا في بلد تغلب فيه الأمية، واليقين الديني الموروث، وحب الخطابة. أفاد من مواهبه الصحفية في الخطابة، يروي المثل، يحكي النادرة، يستفز المشاعر، يُثير الوعي، ينقل المتجمهرين أمامه من حياة إلى حياة، التأثير نفسه الذي كان يُحدثه في قرَّاء صحفه، والمستمعين لها.
– في أي فرح تغني الليلة؟
كان المطرب محمد عثمان يُجيب عن السؤال: في الفرح الفلاني مع عبد الله النديم.
وُصف بأنه سيد الخطباء دون منازع، وخطيب الشرق. كان يُجيد السيطرةَ على مشاعر المستمعين لياليَ كاملة ببلاغته الأسلوبية، وقدرته على الإقناع.
صار الرجلَ الثاني بعد عرابي.
ليس مجرد خطيب الثورة، ولا هو زجال، ولا مهرج، كما وصفَته بعض الأقلام، هو قائد للثورة، يساوي — إن لم يَفُق في دوره أدوار — محمود سامي البارودي وعلي فهمي وعلي الروبي وعبد العال حلمي. وبينما كان قادة الثورة يميلون إلى مهادنة الخديو، حتى لا يتفاقم الخلاف، فتجد الدول الأجنبية مبررًا للتدخل، فإن النديم تلقَّى إنذارًا لخروج جريدته «الطائف» عن جادة الاعتدال. ثم صدر قرار (أصدره العرابيون!) بتعطيل الجريدة نهائيًّا في ١٧ مايو ١٨٨٢م، ترضيةً للخديو.
التقى في القطار المتجه إلى القاهرة، بكاظم ميلاني التاجر بشارع الميدان بالإسكندرية. هما صديقان من بحري، ودكان ميلاني قريب من جامع الشيخ إبراهيم، أول ما تلقَّى فيه النديم دروسه. قال النديم: إننا مستعدون للمقاومة في البر، لأن الإنجليز لم يكن لهم قدرة على المحاربة، فإني أنا يا ضعيف قتلت بهذه الطبنجة ثلاثةً من الأوروبيين.
وأخرج طبنجة «ريفولفر». قلَّبها في يده، وأعادها.
حلَّ بين الرجلين صمتٌ سادر، حتى بلغ القطار القاهرة.
•••
كان ضرب الأسطول البريطاني للإسكندرية بدايةَ تحوُّل «الطائف» إلى جريدة مقاتلة، تشحذ الروح المعنوية، وتُعبئ القوى انتظارًا للمعارك الفاصلة، المقبلة. ترك النديم القاهرة، يحرر جريدته في إيكنج عثمان، يضمِّنها البلاغات العسكرية، والتحليلات، والتعليقات.
دخلت قوات الاحتلال الإنجليزي القاهرة في ١١ سبتمبر ١٨٨٢م. أزمع النديم أن يسافر إلى دمياط، لينضم إلى عبد العال حلمي الذي لم يكن قد استسلم بعدُ. عاد من كفر الدوار في ١٥ سبتمبر ١٨٨٢م. أقام — عشرة أيام — في بيت صديقه الشيخ مصطفى ببولاق. تغيَّر مظهره بإطالة اللحية وشعر الرأس. استبدل بالزي الأوروبي زعبوطًا، لفَّ رأسه بعمامة خضراء، غطَّى عينَيه بمنديل، أحفى شاربه. خرج ليلًا يتوكأ على عكاز طويل، يقوده خادمه إلى ساحل بولاق. استقلَّ مركبًا شراعيًّا في طريقه إلى بنها. عرف في الطريق أن عبد العال حلمي ألقى سلاحه. استقلَّ مركبًا آخر إلى المنصورة، بداية تسع سنوات من التخفِّي.
بدأ النبض يخفت في جسد الثورة، حتى التلاشي. أعلنَت طبقة الأعيان المصرية عمالتها، ونُفي قادة الثورة، وامتلأت المعتقلات بثلاثين ألف مواطن، وصُفِّي الجيش المصري. أحكم الظلام قبضته تمامًا، فيما عدا النديم الذي أصرَّ على مواصلة الثورة. لم تُضعفه الهزيمة، ولم يندم على اشتراكه في الثورة. ظلَّ — رغم الهزيمة — وفيًّا لمبادئها.
انشغل النديم — في أيام اختفائه الأولى — بالتكيف مع حياته الجديدة. الجسد الذي لا يهدأ يعاني السكون والظلمة والوحدة في حجرة صغيرة، ترشح — لانخفاضها — بالمياه. يصلها بالعالم الخارجي سرداب طويل، لكنه — ربما في ليلة اختفائه الأولى — بدأ يُعِد نفسه لمواصلة ما كان. تنقَّل بين العديد من المدن والقرى، يبدِّل ثيابه بما يوافق المهنة التي يدَّعيها، أو البلد الذي أتى منه، هو مغربي، ويمني، ومدني، وفيومي، وشرقاوي، ونجدي، وهو يقصر لحيته على هيئة السائح، ويُطيلها على هيئة شيخ الصوفية.
تناثر أرصاد الحكومة وعيونها في المدن المصرية للبحث عن النديم. طرق أعوان حمدي درويش أبواب كل البيوت في بحري، فتَّشوا القاعات والحجرات والمطابخ ودورات المياه والأسطح. أوفدت الحكومة مَن يبحثون عنه في بلاد الشام. وصل رجالها إلى إيطاليا. أعلنت عن ألف جنيه جائزةً لمن يعثر على النديم أو يدل عليه. هدَّدت بالإعدام مَن يُخفيه، أو يُؤوِيه، أو يساعده على التنقل.
راسل عرابي في منفاه.
تحدَّث عن الجولة الثانية، المقبلة: «فأمامك مستقبل أنت عصامه، يجمع فريقًا أنت إمامه، وقد تطاولت الأعناق بعظيم الاشتياق، إلى ذلك الميقات، وكل ما هو آتٍ آتٍ.» «إن حال الأحرار، بعد النفي والأضرار، قد فتح الله أبصارهم، فتبصروا، وصفَّى بصائرهم فتنوروا، وسقاهم شراب المحبة، فائتلفوا، وهداهم الصراط المستقيم، فما اختلفوا. وإذا قيل للواحد منهم: هذا عرابي المشرب، فرح كأنه قد فُتح له مطلب، وإذا أتى منك كتاب إلى بعض الأحباب، دار به على الإخوان وهو فرحان، فأنت في مصر وإن كان جسمك في سيلان.»
لم يكن التخفِّي عن أعين السلطة همَّه الوحيد.
خلَّف ديوانًا شعريًّا به أربعة آلاف بيت، وديوانًا آخر في نحو ثلاثة آلاف بيت، وديوانًا ثالثًا في عشرة آلاف بيت (كان حجازي أيوب يحتفظ في مكتبته بنُسَخ مخطوطة من الدواوين الثلاثة)، ورواية بعنوان «الوطن والعرب» (ظل عبد الله أبو رواش يعتز بأن الرواية مودعة في مكتبته. لا يدري أحد مصيرها بعد أن باعت ابنةُ أبي رواش مكتبةَ أبيها)، ورسائل أدبية، وواحدًا وعشرين كتابًا في المعارف الإنسانية. كتب في الأدب والشعر والبديع والديانات والتاريخ والجغرافيا والتفسير واللغة والأصول وعلم الكلام والتصوف والتربية والسياسة.
طال اختفاؤه تسع سنوات. تنقَّل بين العديد من مدن الدلتا وقُراها. لما انكشف مخبؤه، وأُلقي القبض عليه، قرر مجلس الوزراء (١٢ أكتوبر ١٨٩١م) إبعادَ النديم إلى الشام، والإفراج عن كل الذين أُدينوا بمعاونته على الاختفاء.
حين أراد العودة إلى مصر. لم يطلب العفو من الخديو. زار مقام النبي موسى، واستغاث به، «فإنه صاحب الأمر بالعفو عني، وإن كان الظاهر خلافه.» أنشد النديم في المقام:
أول ما فعله عبد الله النديم — بعد أن عاد من المنفى — إصدار جريدة «الأستاذ» «لإصلاح ما فسد من أخلاقنا».
كان محمد عبده قد جعل من عفو الخديو بدايةَ حياة جديدة، تغيب عنها السياسة، وكل ما يتصل بالسياسة.
وصف النديم «الأستاذ» بأنها «جريدة علمية تهذيبية فكاهية». أفرد صفحاتها للنَّيل من الاحتلال وعملائه، ووعد بأنه «لن يغمد سيف بيانه، طالما هناك صحفيون منافقون، ومحررون خائنون، حتى يقطع ألسنتهم التي طالت بغير حق، ونطقت بغير حق.»
أدان ظاهرة استهلاك البضائع الأجنبية. هاجم الأغنياء لإقبالهم عليها. وجد أن الطريق الصحيح لإحياء الصناعات الوطنية هي إنشاء الشركات الصناعية المساهمة. وكانت له أفكار لترقية أحوال الحرفيِّين والصنَّاع، وكتب في إصلاح حال الموظفين، ورفع الظلم الذي يُعانيه الموظف المصري عبر مئات السنين، وطالب بثورة إصلاحية شاملة للأزهر، ودعا إلى إنشاء مجمع للغة العربية، وإلى تعميم التعليم، فهو «العامل الأكبر في الحضارة والعمران».
تخلَّى النديم عن الأسلوب البديعي، الذي يعتني بالحلي والزخرفة الشكلية. غلبت في أسلوبه البساطة، والسهولة، والاتجاه إلى الوجدان. تعمَّد أن تكون أدواته منوعة، فتَصِل إلى كل المستويات، وإلى كل الأعمار. كتب بأسلوب تقريري مباشر، وبأسلوب مسجوع، وكتب الفكاهة والقصة والحوار والمعلومات الطريفة والمفيدة، «واضطر مَن لا يعرف القراءة إلى مصاحبة مَن يعرف القليل منها، فكنت تراهم في الشوارع جماعات، بينهم الرجل أو الصبي يقرأ عليهم، أو يقف صبي في حانوت وبيده صحيفة، وأمام الحانوت خلقٌ محدقون بالصبي وهو يقرأ.»
حرص على أن يسلم الرسالة إلى الأجيال التالية. التقى بمجموعات من طلاب مدرسة الحقوق العليا. تكرر اللقاء. يسألون، يناقشون، يستوضحون، يُلمون بالبدايات التي أدَّت إلى الاحتلال. يطالبهم بالالتفات إلى المستقبل، لتصبح مصر للمصريين.
كان من بين الطلاب الشاب مصطفى كامل. طبع مصطفى كامل صحيفته «المدرسة» — فيما بعد — في مطبعة المحروسة، وهي المطبعة التي كانت تطبع «الأستاذ»، ولازم مصطفى النديم ملازمةَ التلميذ لأستاذه.
•••
ظلت المؤامرات تترصد للنديم في منفاه بيافا، حتى أمر السلطان عبد الحميد بإبعاده من المدينة.
وصل النديم إلى الإسكندرية، بعد أن كان — منذ النفي — محرَّمًا عليه دخولها. وُفِّق الغازي أحمد مختار باشا في الحصول على عفو السلطان عن النديم. ألحقه بديوان المعارف في إسطنبول، لتبدأ مرحلة جديدة، وأخيرة، في حياة النديم. بدا أنه وصل إلى مرفأ استقرار يقضي فيه ما تبقَّى من سِنِي حياته. ما مضى يحتاج إلى بضعة أعمار لا عمر واحد، مهما يكن الرجل عنيدًا وقويًّا. الطفولة القاسية، العمل في التلغراف، التدريس، المثابرة، التقلب في الظروف الاجتماعية المختلفة، المشاركة في الأحداث السياسية القائمة، الاندفاع في الموجة الأولى لمد الثورة، الصحف والخطب والمؤتمرات، الإصرار على النضال — متفردًا — بعد أن طلب الآخرون عفوَ الوالي. قد فعلنا ما وجب، الحياة في قلب الناس تسع سنوات كاملة، الحض على التماسك واستمرار الثورة، حتى بالنسبة للذين وجدوا الأمان لحياتهم في المنفى، الاعتقال، النفي إلى يافا، العودة إلى مصر التي لم تَعُد أقلام الاحتلال تُخفي شماتتها في أهلها، الأستاذ توضح وتدافع وتؤكد: مصر للمصريين، العودة إلى المنفى. حتى المنفى ينفيه.
أطال النديم الوقوف أمام قصر رأس التين. لو أن ثورة العرابيين انتصرت، ربما كان أحمد عرابي هو الذي يُقيم في داخل القصر، هو الذي يُدير الحكم، بعد أن يتخلص من الخديو والإنجليز.
امتدت جولاته في بحري: البحر والأمواج التي يعلو بها المد بلا حاجز، فتتخلل البيوت، وقلعة قايتباي (لاحظ تأثر البناية والأسوار بقذائف أسطول الإنجليز) الساحات والمقاهي وشاعر الربابة وجامع أبي العباس وجامع تربانة وجامع الشيخ إبراهيم وشارع الميدان وأطلال ميدان القناصل وعربات الكارو والبنز وغازلي الشباك وصيادي الجرافة والطراحة والسنارة وعفريت الليل والطائرات الورقية. امتدت جولاته إلى عمود السواري وكوم الناضورة وكوم الدكة، وأحياء المنشية واللبان ومحرم بك ومينا البصل والرمل.
مضى إلى محطة السكة الحديد، في اليوم السابع لعودته إلى الإسكندرية.
•••
كان الهدف الاجتماعي — والسياسي أحيانًا — هو الذي أملى على النديم كتابةَ لوحاته المسرحية. وجد أنها أقرب في الوصول إلى قلوب المشاهدين. شخصيات موضوعاتها من العرب الذين يستنهضون الهمم، سواء كانوا من التاريخ القديم، أم من البسطاء الذين يجد فيهم المتلقي العادي نفسه.
خطب في حفلات التمثيل بدار الأوبرا. تحدَّث عن رسالة الفنون، وعن فنِّ التمثيل، وأصالة المسرح المصري، وأثرِه في ذوق الجمهور.
فوجئ النديم بموهبته في التمثيل. أدرك أن السنين التي تصوَّر أنه أضاعها، تُؤتي ثمارها.
•••
نُفي النديم — للمرة الثانية — إلى يافا.
أنذرَته وزارة الداخلية بإغلاق «الأستاذ» إذا تحدَّثت في السياسة. وأعلن اللورد كرومر عزمَه على نفيِ النديم، وإغلاق الجريدة إذا خالف الإنذار. ورغم خلو «الأستاذ» من كل إشارة سياسية في الأعداد التالية، فإن الصحف البريطانية واصلَت هجومها على النديم، وطالبَت بإسكاته. وأصرَّ اللورد على قرار النفي.
كتب في آخر عدد من «الأستاذ» (١٣ يونيو ١٨٩٣م) — وهو يتهيأ لرحلة نفيه الأخيرة — «ما خلقت الرجال إلا لمصابرة الأهوال، ومصادمة النوائب، والعاقل يتلذذ بما يراه في فصول تاريخه من العظمة والجلال. وإذا كان المبدأ صعوبةً وكدرًا في أعين الواقفين عند الظواهر، وعلى هذا فإني أودِّع إخواني قائلًا:
منحَته الحكومة المصرية ٤٠٠ جنيه بصفة ترضية، وخصصت له ٢٥ جنيهًا راتبًا شهريًّا «تُصرف إليه أينما يكون، بشرط ألَّا يكتب عن مصر مطلقًا، وأن يُقيم خارجًا عنها».»
قضى معظم أعوام نفيه في يافا، ثم في إسطنبول شبهَ سجين في قفص السلطان عبد الحميد. فترة قصيرة أمضاها في مصر، بين النفي الأول والنفي الثاني بيافا.
لم يَعُد من المسموح له أن يكتب، أو يخطب، أو يُنشد الشعر، أو يعبر بوسيلة ما. أحاط به الأرصاد والأعين، لا يتركونه لنفسه ولا إلى مجالسه، أو تأملاته.
جعل النديم حلقة أيامه الأخيرة مشابهةً تمامًا لحلقات عمره كله: الشيخ أبو الهدى الصيادي اتخذ طريق الصوفية. ربط نسبَه بآل البيت. وزَّع عيونه في قصور السلطان، ودواوين الحكومة، والجيش. سُمِّي مستشار الملك، وحامي العثمانيين، وسيد العرب. وسُمي شيطان تركيا، وراسبوتين الشرق. عَمِل له الجميع ألفَ حساب. ألَّف له العلماء الكتب، ونسبوها إليه، ونسب إليه الشعراء قصائد ادعوا أنها من تأليفه. زاد نفوذه لدى الخليفة، فلم يَعُد يرفض نصائحه أو أوامره.
تحدَّاه النديم، وفضحه، حتى طفر الدمع من عينيه. ألَّف فيه كتابًا بعنوان «المسامير». طلب حاشية الخليفة من النديم — على مسمع من السلطان — أن يكفَّ عن هجاء أبو الهدى. قال النديم: قلَّد مولانا السلطان أبا الظلال (يعني أبو الهدى!) وسامَ الافتخار، فلألبسنَّه أنا وسام العار، يلازمه في حياته، ويصحبه إلى قبره بعد مماته.
ظل النديم بدار الخلافة، حتى جاءه الأجل في الرابع من جمادى الأولى عام ١٣١٤ﻫ. ودُفن بمقبرة يحيى أفندي في بشكطاش.
•••