علي تمراز
المجذوب في اللغة هو مَن جذبه الله.
أجمعت الكتابات التي تناولت سيرةَ وليِّ الله علي تمراز على أنه كان مجذوبًا، بمعنى أنه أحب الله، وعشقه، واشتاق إلى لقائه. وصف الشيخ علي تمراز لا يعيبه، أو ينقص من قدره. الطريق طُويت للمجذوب، ولم تطوَ عنه. مَن طُويت له الطريق لم تفته، ولا غابت عنه، وإنما تغيب عنه متاعبها، وطول المسافة.
سار علي تمراز في طريق أهل المحبة، السالكين إلى الله بالجذبة. يرافق نيته القصد والعزم والإرادة والمشيئة. يجري الصواب على لسانه بتلقائية، لا يتعمد اختيار الكلمات ولا صقلها. أظهر في انجذابه من البركات، ما يدل على ولايته، وتمكُّنه.
تعددت رؤيته للفظ الجلالة، كتب في السماء بحروف من نور، ولباب يفتح — يحيط به الضوء — في أفق المينا الشرقية، ولومضات ملونة كالبرق، تتناثر في الفضاء أمامه، دون أن تُحدث صوتًا.
رأى — ذات أصيل — تكوينات لملائكة بأجنحة في سحابات شتوية. تحدَّث عما رآه، واستغربه. أدرك الناس أنها كرامات للشيخ يصعب فهمها حتى عليه هو نفسه. لكنَّ عينَيه تريان ما لا تراه أعين البشر العاديِّين.
تعددت الحكايات، وتضاربت، حول مولده ونشأته. تتصف الأعوام الأولى من سيرته بالغموض، وعدم التثبت. لم يتحدث علي تمراز عن أسرة، ولا عن الموضع الذي قَدِم منه إلى بحري.
أول ظهوره في الحي، عندما قَدِم مع موكب للصوفية إلى حيث أضرحة أولياء الله. نصبوا الخيام وأكشاك الختان، نشروا الأعلام والبيارق. أقاموا حلقات الذكر. تعالت أصوات الطبول والدفوف، وتعالت أصوات الذاكرين بالإنشاد والابتهالات والأدعية وبردة البوصيري.
حين انتهى ما قدموا من أجله، مضَوا في اتجاه الجنوب.
ظل علي تمراز في الحي، يسير في الساحات والميادين والشوارع والحواري، يتنقل بين الجوامع والمساجد والزوايا. يقرصه الجوع، فيلجأ إلى تكية أنشأها حسن باشا الإسكندراني بالقرب من سراي رأس التين. تفتح أبوابها للمتصوفة والفقراء وعابري السبيل.
مال إلى الانفراد والعزلة والتقشف. انقطع لعبادة الله، وتجرَّد لذكره:
هجر الدنيا، وانصرف إلى عالم الآخرة من صلاة وصوم وتعبُّد وتهجُّد، مع مواظبة الخمس في الجماعة. ومداومة الذكر والفكر، واللجوء إلى الله، والدعاء له، والتوكل عليه، والثقة بعدله وإنصافه: أستغيث بك، فنجِّني كما نجَّيت نوحًا من كربه، وكما كشفت ضرَّ أيوب، وأنقذت يونس من غمِّه، ووهبت لزكريا الولد الذي طال شوقه إليه. أغثني، ارحمني كما فعلت مع كل هؤلاء. أطعتك، أقبلت عليك، أيقنت أنك الغفور الرحيم. إذا كنت قد أسأت، فقد أمرتنا أن نُسقط الملامة، ونُحسن إلى مَن أساء إلينا. ما أرجوه من دنياي، أن تحفظني من فوقي، ومن تحتي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن خلفي، ومن أمامي، ومن ظاهري، ومن باطني، ومن بعضي، ومن كلِّي.
أعرض عن زخرف الدنيا وزينتها. آثر أهل الآخرة، ومرافقة ذوي الحاجات، والفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم، يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا، وينصرون الله ورسوله.
سعى إلى الصفاء التام في النفس، والتقوى الخالصة لله، وحبه — تعالى — والتعلق به، والارتفاع بالروح، والعمل — بالروح وبالقول — عن الدنايا. وكان يرفض نداء نفسه، إذا دعَته إلى ما قد يصرفه عن العبادة.
كان يستغرق في الوجد، فيفنَى عن كل ما حوله.
هو مع الخلق بجسده، وبقلبه وباطنه مع الحق تعالى. تلتذُّ الروح للنغمات المنسجمة والأصوات الطيبة. لا يأبه بالمارة ولا بالقعود، ولا يشغله التلفت، كأنه يحيا في نفسه، أو يحدِّق فيما لا يراه أحد، لا تهيج له روحانية، ولا ينظر إلى النساء بشهوة، ولا يُعنَى بما يُعنَى به الرجال العاديون. قطع العلايق، أولَى ظهره حب الدنيا وشهواتها، زهد فيها، وطلب الفقر، رماها تحت قدميه، وداسها. لا قيمة لها عنده. تقوَّى الوجد في نفسه بصفاء القلب من وساوس النفس وخنسها. يحرِّك يدَيه، ويتكلم، كأنه يلتقط الكلمات من حيث لا يرى أحد.
إذا اعتراه الحال، غاب عنه تمييزُ الأشياء. غلبه الاستغراق والوجد والهياج، وفنيَ عن كل ما حوله، وعن الحظوظ. قذف سيفه الخشبي، وعمامته، ومزَّق ثيابه، وعبَّر عن مشاعره بتعبيرات اليدين، والعبارات المدغمة. قد يصرخ بلا توقف.
يفتح عينَيه على نظرة مريد مفعمة بالألم: زمانكم يُخرجني من ثوبي!
أدرك الناس أن ما يُصيبه هو من جذبات الله تعالى، نصرةً لدينه، وللفقراء، والمنكسرين من عباده. وقيل إنه كان يتستر بالتجاذب ليصرفَ الأعين المتابعة.
مال إلى الجلوس على بساط الصدق. لَبِس خرقة التصوف، هي التعبير عن التجرد وإظهار الضعف والعجز والذلَّة. أسرف في حرمان جسده، التماسًا لمزيد من الثواب في الآخرة.
لم يكن يُبدل خرقته حتى تتهرأ على جسده تمامًا. أَلِف الناس رؤيته وهو يمشي عاري الصدر والبطن، ويتمنطق من الصرة حتى الركبة بمئزر من القماش. لا يأبه بشيء، ولا يحفل بالأولاد الذين يلاحقونه بمعاكساتهم.
أعرض عن الدنيا. تجرَّد عن أعراض الحياة، واتجه وجهةً روحية خالصة. أقبل على الله. مال إلى الزهد والورع والتقشف ودوام التفكير في الله. أكثر من التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد لله. أخضع نفسه للمجاهدة، والمراقبة، والعزلة عن الناس. خلَّص نفسه من شوائب نفسه. صار من أصحاب الرياضات والمجاهدات والأذواق والمواجيد.
كتم نزعات النفس والهوى. مارس الرياضات والزهادة والمجاهدات الروحية. عوَّد نفسه على أن يُحمِّلها أشد الحرمان، ويفرض عليها ما لم يكن يطيقه في أيامه العادية. يحرص على الصوم قبل المكوث في الخلوة. يشتغل بذكر الله حتى مطلع الفجر. يتلو الأوراد والأذكار. يعُيد قراءة الفاتحة وآية الكرسي وسورة الإخلاص وأول البقرة وخواتيم البقرة. لم يُقبل على العبادات خوفًا من عذاب القبر، ولا أهوال يوم القيامة، ولا خوف فوت ثواب. أحب الله لله. تقدَّم في مدارج التصوف، وارتقى، حتى أفاءت عليه فيوض النور. صار مجذوبًا للعشق الصوفي.
فَنيَ عما سوى ربه. استغرق في الذات الإلهية استغراقًا كاملًا. امتلأ قلبُه بنور الإيمان، وإشراق اليقين. لا يخاف عذاب النار، ولا الشوق إلى الجنة. أخلص في حب الله لذاته، وطاعته، والأنس به، والشوق إليه. ظفر بالقرب والوصل والأنس من المحبوب. يستشعر انتقال الكعبة إليه، وطوافها حوله، بدلًا من أن ينتقل هو إليها، ويطوف حولها. لا يقتصر ما يحدث في أوقات الحج أو العمرة، إنما هو يسلِّم نفسه إلى هذا الشعور في أوقات متقاربة ومتباعدة. إذا أخذَته الجذبة، تبدَّلت المرئيات أمام عينيه، فهو لا يرى الناس الذين يخالطونه، ولا الأسواق والشوارع والجوامع والبحر والأرصفة والنوافذ والمقاهي. يتملكه الوجد حتى يغيِّبه عن نفسه، وعن كل من حوله، وعن كل شيء. يستغرق في الغيبة والمحو والسكر والفناء. يصرخ، يتواجد، يهتزُّ جسدُه كأنه يرقص. تستغرقه الجذبة، كأن روحه خرجت من جسده. قد تأخذه الجذبة أيامًا متتالية، تبلغ العشرة، أو أكثر، أو أقل. إذا زالت الغيبة، عاد إلى نفسه، وميز الناس والأشياء.
ربما شَهِد — بعينَي البصيرة — ما يُحزنه، أو يُدهشه، أو يُثيره. يصرخ — لما رآه بمفرده — صرخةً عظيمة، وأُغشيَ عليه. يُفيق، فيروي ما لم يرَه سواه من مشاهد الدنيا والآخرة، وأفعال المكاشفات والكرامات والخوارق والمعجزات.
أشفق أمير البحر حسن باشا الإسكندراني من البلل تحت قدميه. ظنَّه يعاني السلسال. أعاد التثبت. أدرك أن ما يبدو ماء هو عرق، اهتز جسده — بالانفعال والجذب والسكْر — فسال العرق إلى ما تحت القدمين.
عرف عنه أنه على وضوء دائم، يقينه أن ملك الموت إذا قبض روحه وهو على وضوء كُتبت له الشهادة. اعتاد النوم في الظلمة التامة حتى لا يعاني ظلمة القبر. وكان يصلي في أماكن يستتر فيها بطقوس دينه عن الأعين الفضولية، هذا زمن يستتر فيه أولياء الله الصادقون، مَن يجدون نعيم الآخرة في نعيم الناس في الدنيا.
لم يكن يتناول الطعام الذي يأكله الناس. يكتفي بكسرة خبز لطعامه. يتناولها أول الصباح، وماء وضوء للصلاة، ومصحف يعكف على تلاوته إلى موعد الصلاة التالية. لا يلتقي بمريديه في مواعيد محددة. قلبه مفتوح في كل الأوقات لمن يقصدون علمه، ويطلبون الدعاء منه، ويتبركون برؤيته.
شدد على مريديه أن يردوا السلام على سيدي الخضر كلما ورد اسمه في مجالسهم. يثق أن الخضر لا تفوته المجالس التي يُذكر فيها اسمه. يُلقي السلام على الحضور، لا يسمعه إلا أقطاب الصوفية. قال إن الخضر شيخ الصوفية، هو فوق كل المقامات، وجامع كل الكلمات، وإنه كثيرًا ما يجتمع أو يتلقَّى عن الخضر، وإنه يدين لسيدي الخضر بإرشاده وهديه وقيادة خطواته.
عرف المريدون أن سيدي الخضر يخصُّه بمجالس لا يحضرها سواهما. يتلقَّى علي تمراز العلم، ويتلقَّى الطريق من أحاديث الخضر. الفتوحات والأسرار والمنامات والأحوال. يسلك المقامات السبعة.
أتمَّ مراتب التصوف.
بدَت القطبية حقَّه الذي لا ينازعه فيه أحد. ظهر عليه من الأحوال والمكاشفات والشطح ما لا يخفى على العين المؤمنة، وظهر على يديه من الخوارق والكرامات، ما دفع الكثيرين إلى السير في هدي طريقته.
ذاعَت شهرته في الإسكندرية.
تداخلت في خطب أئمة الجوامع والمساجد والزوايا وأحاديثهم. أشاروا إلى بركاته التي شمل لطفها الكثيرين. روَوا عن مدده في رفع الشدائد والمخاوف وقضاء الحوائج. أشار على بائعي الشروات بمواضع يظل فيها السمك — يتخلله الثلج — ثلاثة أيام، واللحم عشرة أيام، وربما أكثر، دون أن يُصيبَه التلف، وتطمر في أرضها عشرات السنين، فلا يصيبها التسوس، ولا تتبدل خواصها.
صارت له كرامات لا تنتهي.
رُوي أنه لم يبكِ — لحظة مولده — مثل الأطفال، وإنما نطق — فور نزوله — بالشهادتين. لم يكن قد تعلَّم القراءة ولا الكتابة حين بدأ في تلاوة سور القرآن. لا يعرف أحد مَن تلاها عليه، ولا من حفظها. وقف الشيخ شوقي البتانوني إمام جامع سيدي خضر متحيرًا مما يراه. لا يستطيع الفهم ولا التفسير. قضى على تحيُّره بالقول إن لله مشيئته.
لا أحد يذكر إن كان قد عرف في نفسه، أم لاحظ الناس قدرته على التنبؤ بالموت. يلتقي بالمرء، للمرة الأولى. ينظر في عينيه، لا يستوقفه ما يدفعه إلى التحديق، أو إعادة النظر. إذا عاود النظر، فلأن دلائل الموت تُطل من العينين. يواجه الملامح المتسائلة بالقول: أمامك شهر، أو شهران، أو أمامك سنة. تمر الأيام، فتصعد الروح إلى السماء، في الموعد الذي حدده وليُّ الله. تكررت رؤيته لمن هم على حافة الآخرة. أدرك الناس — لا بد أنه كان يُدرك أيضًا — قدرته على التنبؤ بالرحيل. تُناوشهم الحيرة: هل يتركون وجوههم لنظراته، فيعرفون ما كان خافيًا، أو يبتعدون عن طريقه، أو يظل الأمل قائمًا في غياب موعد الأجل.
رأى الناس كراماته رؤية العين:
سرق ولد كوفية كان يتَّقي بها البرد. أهمل علي تمراز طلبَها. وضع الولد الكوفية حول عنقه، فخنقَته. توسَّل الولد بعينين جاحظتين، ويدَين تُحاولان التعبير بدلًا من الفم المفتوح. خلَّصه وليُّ الله بإيماءة من رأسه، واستعاد كوفيته.
لما طرده المزملاتي عواد الكلزة من أمام حنفية سبيل رأس التين، دعا عليه سيدي علي تمراز، فأصابه الجنون. أهمل نفسه وثيابه. علا صوته — في الشوارع — بالصراخ، والكلمات التي بلا معنى.
لاحظ الأولاد ما يُعانيه.
امتدت أيديهم إليه بالأذى. قذفوه بالطوب، وضربوه بقطع الأخشاب. تقافز في مكانه، ثم جرى. أغراهم جريه باللحاق به وهم يتصايحون، ويقذفونه بما تَصِل إليه أيديهم.
بلغ الشيخ أن عسكر شندي، العلاف بشارع الميدان، وصفه بالجنون، دعا عليه، فأصابه خبل. لم يَعُد يدري من أمر نفسه شيئًا. وشتمه سيد شبيرو الجزار بالموازيني، فدعا عليه وليُّ الله بألَّا ينفعَه علمه، ويُفتن في ماله وولده، ويفضحه أمام الناس.
لم يكد ينقضي العام، حتى كان قد أصاب التاجر ذهول، صرفه عن تجارته وبيته، وسار في الشوارع لا يعرف حتى أقرب أقاربه، ويسكت — غصبًا — عن ملاحقة الأولاد، وأذيتهم له.
التفَّ حول الشيخ عددٌ من المريدين والذين آمنوا ببركاته ومناقبه. لا يتركونه أينما حل، ويسيرون معه أينما ذهب. أدركوا عظمة الشيخ ومنزلته. يمتلك قدرةً على تحريك الأشياء دون أن تلمسها يدُه. ينظر إلى المريض فيُشفى دون أن يلمسه.
لحق الفريش ريحان دكروري بعد أن أطار الساطور أصابعه وهو يهوي على الأورمة، ينظف لحم الترسة. تمتم بآيات قرآنية ودعوات. لصق الأصابع، ثم بصق على ما بين اليد والأصابع، فعادت إلى حالتها الطبيعية.
أغرقت الأمواج البلانس «سلطان» في نوة لم يقدر الصيادون موعدها. خاطب الحدس ولي الله بما حدث. استغاث بمخلوقات البحر. نقلت العرائس طاقم البلانس إلى الجزيرة، قبالة الأنفوشي. طالب علي تمراز مريديه أن يعودوا بالطاقم من الجزيرة إلى الشاطئ.
عُرف عنه قدرة التنبؤ بالأحداث قبل وقوعها. يتنبأ بأمور قد تحدث في البحر: الهواء، والريح، وصفو السماء ودكنتها، وظهور نجم، واختفاء نجم، ونزول المطر، وهياج الأمواج … كلها علامات يستدل بها على المتوقع والآتي. إذا تنبأ بما يُقلق، حاول الناس دفع ما يخافون نزوله بالدعاء، والتضرع إلى الله، والتوبة، والإنابة إلى الله بالصلاة والصوم والنذور.
قضى الحوائج، ونفَّذ الرغائب، وحصَّل المطالب، ورسم الدوائر الخفية حول الأشخاص والأمكنة، يمنع الخير من الخروج، ويمنع الشر من الدخول. زاد في البركة والقوة والمال والعز والجاه والفصاحة والمحبة والقبول. الأعمال مرايا للرياضات والمجاهدات.
زهَّد في الدنيا. حثَّ على التقلل منها. عاب على الناس ما فشا بينهم من الإقبال على الدنيا، والانصراف عن الدين. رفض مشيخة الطريقة، ورفض الرئاسة من أي نوع. آثر الزهد، واعتبر الخرقة دليل تواضع الإنسان في نفسه.
صاح وهو يتراجع أمام يد بدوي الحريري الممدودة: لا!
ووشى صوته بالغضب: أنا من نسل الأشراف. حرام أن أتلقَّى الصدقات!
قال الحريري: هذه هدية، وليست صدقة.
قال: أكتفي بهدايا السماء.
لم يكن يحترف التسول ولا أية مهنة أخرى. يقلب حبات المسبحة، ويتهدج بدعوات وابتهالات وآيات من القرآن الكريم. كان يغرف بكفِّه ما لا يراه أحد من الهواء، يضعه في فمه ويمضغ. عرف الناس أنه يحصل على طعامه بمكاشفات نورانية، ولاتصال رؤية مريديه له دون أن يُقبل على طعام أو شراب، فقد استقر يقينهم على أنه يحيا على الهواء. يتنفسه، فتتصل حياته. تُعينه على ذلك قدرة علوية، تقول للشيء: كن، فيكون.
تألَّقت — على جبينه — الأسرار الإلهية.
رُوي أنه كان يمتطي السحب في التنقل بين المدن، وإذا لاحظ اتساخ أرض الطريق، فرد السجادة في علو عن الأرض شبرًا أو شبرين، وصَعِد فوقها يؤدي صلاته.
منح الكثير من أتباعه كرامةَ التنقل بين الأماكن على سجادة. أَلِف الناس رؤيةَ السجاجيد الطائرة بين البنايات، وفوق مياه البحر. كثرت السجاجيد السابحة فوق أمواج الميناء الشرقية وخليج الأنفوشي.
واجه شيخُ الصيادين وليَّ الله بالسؤال: كيف يتأثر المجذوب بالمداعبات الجنسية؟ هل تُثيره ملامسة النساء؟
ووشى صوته بسخرية: النساء يُحببنَك … خذ الصيت وأعطنا الغنى!
صعقه سيدي تمراز بنظرة غاضبة، ألزمت لسانَه فمه، لا يستطيع أن يتكلم. لم يَعُد إلى ما كان عليه إلا بعد أن تذلَّل لولي الله، وباس قدمه.
طالبه ولي الله بأن يرتديَ خرقة الصوفية، ليتخلص مما داخله من الكبر.
وقف علي تمراز في طريق جواد المعلم أبي الفرج، شيخ طائفة الحدادين. دفعه المعلم ببوز المداس، وواصل طريقه.
قبل أن يميل في انحناءة الطريق، تعثَّر الجواد، وسقط المعلم على ظهره.
لَزِم بيته قعيدَ الحركة أيامًا، طالت إلى أشهر. استغاث بعلي تمراز ليعفوَ عنه.
رنا وليُّ الله إلى الرجل القعيد بنظرة متسامحة، فاستقام ظهره. عاد إلى الحياة، وإن كفَّ عن ظلم خلق الله.
قذفه شاب — يجلس على الرصيف — بطوبة، أصابته في عنقه.
اتجه إليه علي تمراز بنظرة سلبَت روحه. ارتمى الشاب على جنبه، دون أن ينطق بكلمة. حرَّكه الناس، فلم يتحرك. أيقنوا وفاته. عادوا إلى ولي الله، يقبِّلون يدَيه وقدمَيه وخرقتَه. يتوسلون أن يمنع عن الشاب غضبه. مال وليُّ الله على الشاب. هزَّه بيده، فتحرك.
سمع أبناء بحري عن كرامات ولي الله ولطائف عنايته ورعايته. عرف عن مقامه استجابة الدعاء.
لاذ بالمقام عشرات من أهل المحبة الصادقة، والمحبة الخالصة. افترش المريدون — لصق الجدران — الحصير والأبسطة المصنوعة من مزق القماش الملون. وكانوا يمسحون — بأيديهم — الأرض التي جلس، أو سار، فوقها.
أرسل الوالي جنوده لإحضار الشيخ.
كان المريدون قد تزايدوا. ملئوا مساجد بحري وميادينه وساحاته. أقاموا الخيام وحلقات القراءة والذكر. علَت دعواتهم بنصرة ولي الله، وتيسير أمور دعوته، وتكاثر اللائذون ببركاته، لا تقتصر طريقته على بحري، وإنما تجاوز بحري والإسكندرية إلى المدن القريبة والبعيدة. تشمل أمة الإسلام.
التفَّ المريدون حول شيخهم يدافعون عنه، يمنعون الجنود من اصطحابه إلى الوالي.
لم يلتفت وليُّ الله إلى ما يجري بين الجنود والمريدين. ما أحزنه أنه لا يجد الوقت لأداء صلواته، وسنن عبادته. خلَّف الجميع وراءه، ومضى في اتجاه البحر.
سار فوق الأمواج الساكنة إلى موضع في قلب البحر، يخلو فيه إلى ربه.
علَت صيحات المريدين وهتافاتهم، حين حاول الجند ملاحقةَ ولي الله. ابتلعت المياه صفوف الجنود الأولى. غيَّبتهم في الأعماق دون أن يجدوا وقتًا للاستغاثة، وتراجعت بقية الصفوف، تُشارك المريدين صيحاتهم وهتافاتهم.
بلغ يقين المريدين ببركات وليِّ الله درجةً لم يبلغها — من قبل — إلا القلة من أقطاب الأقطاب.
•••
كان لحسن باشا الإسكندراني بعلي تمراز عناية، وله فيه اعتقاد ومحبة. وكان يستقبله في قصره، ويستمع إليه إذا التقى به في الطريق. يسعى في شأنه، ويخدمه، ويلبِّي مطالبه، ويقرِّبه، ويُكرمه.
أذهله تخطِّي الشيخ حرس القصر وخدمه، حتى بلغ حجرة نومه.
أسكتَت نظرة ولي الله اعتزام الإسكندراني مناداة الحرس والخدم.
قال علي تمراز: لا تبتل نفسك بكراهة أولياء الله!
وغرس نظرته في عينيه: إذا بنيت لي مسجدًا فستعود إلى البحر الذي تحبه!
كان حسن الإسكندراني قد طال ابتعاده عن البحر. وضع الوالي محمد علي ما فعله الرجل — خدمة البحرية المصرية — في سلة مثقوبة. ذوت قوة الأسطول المصري، وتلاشت. ثم أنقص الوالي عباس أفراد الجيش المصري، وأغلق المدارس والمصانع، وحاول التقليل من مكانة الإسكندراني بين المصريين الذين أحبوه.
لم يكن أمام الرجل إلا أن يعتزل بإرادته. طلب الإحالة إلى المعاش، وترك الخدمة.
كان ما جرى فصلًا من سيرة حسن الإسكندراني.
لما أعاده الوالي عباس تذكَّر زيارة علي تمراز له. أشرف بنفسه على بناء الجامع. أعاد على أصحابه القول: «مَن آذى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة.»
أوقف الإسكندراني على الجامع إيرادات أراضٍ زراعية وعقارات ودكاكين، في الإسكندرية وخارجها. تغطي مصاريف الجامع، بالإضافة إلى ما يحصل عليه من صناديق النذور.
حلَّت البركات في حياة أهل بحري، بعد انتقال سيدي علي تمراز إلى جوار ربه. يرى ما لا تراه أعين الآخرين، يسمع ما لا سمع آذانهم، يمتلك من القدرة والتصرف ما لا يمتلكه أحد. اشتهر باستطاعته ردَّ الأشياء المفقودة، واستعادة الغائبين، وجلْب الطعام غير الموجود، وقطف الفاكهة في غير أوانها، وطيِّ المسافات في لمح البصر.
بدا التأثر واضحًا في عينَي الشيخ صفر الرزاز. سرقه العمر دون أن يؤديَ فريضة الحج.
تناهى صوتُ ولي الله من داخل الضريح: ألَا تستطيع أداء المناسك؟
قال الشيخ في نفاد حيلة: كبرت!
– مكة الآن في الميدان أمام الجامع. لن يحول عائق بينها وبينك.
حلَّت الكعبة — أمام عينيه — في موضع أضرحة الأئمة بوسط الميدان. طاف حول البيت الحرام بقوة، لم يعهدها في نفسه من زمن بعيد. كرر الطواف، والتلبية، والتهجد، والدعوات.
أسقط الشيخ الرزاز تكذيب الناس لما رآه، وعاشه، لأنه رآه وعاشه بالفعل.
وفي يوم قائظ، انبثقت المياه من النافورة الساكنة، وسط ميدان الخمسة فوانيس. لم تصمت إلا بعد أن لطف الجو. قالت الروايات إن سيدي علي تمراز أشفق على مريديه وزوَّار مقامه. غادر الجامع. ضرب النافورة الصامتة براحته. انبثقت المياه. عاد إلى موضعه داخل المقام.
•••
الباب الرئيسي لجامع سيدي علي تمراز يُطل على ميدان «الخمسة فوانيس». سُمي بهذا الاسم لوجود خمسة فوانيس على هيئة دائرة، وسط الميدان. يُحيط بها موقف لعربات الحنطور. على يمينه شارع إسماعيل صبري، وتقاطعه مع شارع فرنسا. على يساره — من ناحية — شارع الأباصيري، يتجه إلى شارع التتويج، وميدان المساجد، يتوازى معه شارع سراي محسن باشا. يتجه إلى الشوارع الضيقة، المفضية إلى شارع الكناني والموازيني والحجاري والدحديرة الخلفية لجامع أبي العباس. ظل الناس يتجنبون السير فيه سنوات طويلة، لرواية عن عفريت يسكن الخرابة المهجورة على ناصيته. ثم اختفى العفريت بعد أن شغلت موضع الخرابة بناية حديثة. على يسار الشارع أيضًا — في الموازاة — شارع قصر رأس التين. يمضي — يمينًا — إلى الموازيني والحجاري، ويسارًا إلى أول شارع الميدان، ويمتد إلى تقاطعاته مع شوارع أبي وردة (في نهايته باب الجمرك رقم واحد) وصفر باشا وجودة، ثم موقف الترام، ومدرسة إبراهيم الأول الثانوية، ومستشفى رأس التين، المقابل، ومقابر البطالمة، وحديقة السراي، وقصر عصمت هانم محسن، المطل على خليج الأنفوشي.
الأعمدة رخامية. الجدران مكسوة بالرخام، مغطاة بالآيات القرآنية والرسوم والنقوش. إفريز السقف مزين بالنقوش والآيات القرآنية. المحراب مكسوٌّ بالفسيفساء والزخارف رخامية، وزخرفت جدران القبة بأشرطة من الرخام المتعدد الألوان، وبلاطات من القيشاني عليها أسماء الله الحسنى. قوائم الضريح خشبية مكسوة بالقماش الأخضر، ثُبِّتت على مسامير عُلقت فيها لفافات صغيرة. المنارة من ثلاثة طوابق، رشيقة، تعلو البيوت المحيطة بها. القبة مزينة بالنقوش.
غابت — فيما بعد — الفوانيس الخمسة، واختفت عربات الحنطور. تناثرت على نواصي الشوارع. حلَّت — بدلًا منها — سيارات التاكسي والملاكي. شغل الميدان — لأعوام طويلة — سوق العيد. يبدأ قبل شهر رمضان بأسابيع. يظل إلى ما بعد عيد الأضحى. يشغى بالزحام والابتهالات والأدعية والموسيقى والمواويل والأغنيات ودقات الطبول والدفوف ولعلعة الزغاريد ورش الملح والمراجيح والأراجوز وصندوق الدنيا وأكشاك الختان وخيام الصوفية والفتاة الكهربائية وألعاب النشان والقوة والثلاث ورقات.
اكتسب الجامع سمعة هائلة في أعوام إمامة الشيخ عبد الستار.
قَدِم إليه المصلون من أحياء الإسكندرية، ومن المدن القريبة. يريدون سماع خطبة الشيخ عبد الستار، قبل صلاة الجمعة. يتناول فيها قضايا مهمة في أمور الدين والدنيا.
رُوي أن الشيخ عبد الستار كان يعرض خطب الجمعة على سيدي علي تمراز. يكتب النقاط المهمة لما يريد التحدث فيه. يضع الورقة فوق المقام — بعد صلاة العشاء — ثم يأمر وهو يغادر الجامع، فتُطفأ الأنوار، وتُغلق الأبواب. أول ما يفعله عند قدومه لصلاة الفجر، أنه يأخذ الورقة من فوق الضريح. ما يوافق ولي الله على الخطابة فيه، يتركه، ما لا يوافق عليه كأنه لم يكتب.
أدرك الشيخ عبد الستار — من الكلمات على هوامش خطبته التالية — أن غضب ولي الله في درجته القصوى. كانت مشيخة الأزهر قد أعلنت انتساب الملك إلى آل البيت. الكلمات مكتوبة بخط النسخ: نحن آل البيت نعرف مَن هو منا، ونرفض الاستثقال!
تحدَّث الشيخ عبد الستار — في خطبته — عن آل البيت، هؤلاء الذين أذهب الله عنهم الرجس، وطهَّرهم تطهيرًا.
غلبَه الانفعال: إذا كنَّا قد سكتنا على إهانة أنفسنا، فلن نقبل إهانة الدوحة المحمدية.
ما توقَّعه المصلون، تأخر حدوثه. نجَّى الله الشيخ عبد الستار من محاولة قتل. ثم نُحِّيَ عن عمله، فلزم بيته.
•••