علية عشماوي
تكتفي بالبخار المنبثق من الدش. ثم تُزجِّج حاجبَيها، وتضع الكحل حول عينَيها، وتجري على بشرتها بالزيوت العطرية ومستخلصات الأعشاب، وتُطلي شفتَيها بلون أحمر داكن، وتقلم أظافرها، وتدعك كعبَيها بالحجر الخفاف، وتُسدل شعرها المنكوش، المصبوغ، على الكتفين، وترتدي فستانًا زيَّنت أطرافه بالترتر، ويُظهر ضيقُه تكويناتِ جسدها.
تلتقي في حمام الأنفوشي بفتيات وعوانس ومطلقات وأرامل.
تعيب على الرجل حب السيطرة، وما يضعه من قيود على أهل بيته. تتحدث عن حق المرأة في أن تحيا حياتها، بعيدًا عن إملاءات الرجل وسطوته، عن الحياة الهانئة خارج بحري، يكتفي الناس من البحر بأكل سمكه، لا شأن لهم بالصيد — إلا للتسلية — والشباك، والبلانسات، وما إذا كان البحر حصيرة أم نوة، والبيع، والشراء، والرزق الصعب. تكرر ما ترويه عن سماعها سيد درويش يغنِّي في كوم بكير، قبل أن يسافر إلى القاهرة، وقبل أن تستقر في بيتها بشارع الفرماني.
– لما أتَته الشهرة استعادت أيامه. ما أذكره أن صوته لم يكن جميلًا.
وتُشيح بيدها في استهانة: لعل ألحانه هي التي أعطَته الشهرة!
تضع عينها على مَن تلقَى منها استجابة. تدعوها — في مرة تالية — لزيارة بيتها. لا تحاول وصل التعارف وسبل اللقاء إلا بعد أن تطمئن إلى الاستجابة تمامًا. تشدِّد على كلِّ مَن تعمل بواسطتها، لا تقول لا. لا ترفض ما يطلبه الرجل مهما يكن غريبًا أو مقرفًا، هذه هي المتعة التي يريدها، وعلينا أن نلبِّي إرادته.
اقتصر عملها على تيسير فرص اللقاء، والتستُّر عليها، بعيدًا عن الأعين. لديها ألبومات، بها صور فتيات في أوضاع عارية، ودفاتر بعناوين وأرقام تليفونات. لها علاقاتها بمديري الفنادق الكبرى. لا يسأل موظف الاستقبال عن الاسم، ولا الصفة، ولا يطلب إثبات الشخصية. تذكر المرأة الاسم المتفق عليه. يتقدمها الخادم إلى باب المصعد.
ساد بين أهل السيالة فهمُ أن البكباشي حمدي درويش يبسط حمايته على علية، فهي تأمن في حياتها من أيِّ توقُّع.
قال سيد حلال عليه: لكل مومس فتوة يحميها. أما المعلمة علية عشماوي فحاميها هو شيخ المنسر نفسه!
تحدَّث شحاتة عبد الكريم عن الشقة التي استأجرَتها علية عشماوي على ناصية شارع الترسانة البحرية وشارع وكالة الليمون. أهدَت مفتاحها للبكباشي حمدي درويش. يستضيف فيها مَن يشكينَ الأزواج أو الجارات أو أصحاب العمل، أو من يُلقى القبض عليهن بتهمة ما، أو مَن تنظر إليهن علية عشماوي بعين البكباشي، فيُعجبنَها.
امتدَّت علاقاتها إلى نسوة أجانب من كامب شيزار والإبراهيمية وكليوباترة، إيطاليات ويونانيات ومالطيات، وراقصات في الكازينوهات المطلة على البحر. تكتفي بمعرفة الاسم، وتدلُّ الرجل على مَن تُخمن أنه الأقرب لما يطلبه.
قالت لشحاتة: أصعب شيء أن يتحول ما تُحبه إلى مهنة. لا أحد يُنكر لذة الجنس، لكنك تتناسى اللذة وتفكر في العائد الذي تجنيه. حتى التعبير عن النشوة تفرضه ضروراتُ المهنة!
أردفَت في صوت فاتر: قد أكون حزينةً حتى أظافري، وأدل زبونًا على الأوضاع التي لم يفطن إليها.
وتراقص على شفتَيها ظلُّ ابتسامة: لك أن تتصور راقصةً تتثنَّى وهي تُعاني ألمًا في مفاصلها؟!
ثم وهي تنفخ في كوب الشاي الساخن: الدعارة مهنتي!
رأى سكان شارع الفرماني، معتمد الجرسون بقهوة كهرمان، وهو يصعد — آخر كل ليلة — إلى شقتها. تعرف — ويعرف الجميع — أنه يعطي جسده لمترددين على القهوة. يصحبونه إلى بيوتهم، أو يطلعون به الخرابة المهجورة في دحديرة أبي العباس. تجد فيه ونسًا وإشباعًا، دون أن يخضعها للبلطجة أو الابتزاز.
لما عايرها حميدو شومة برفقة معتمد، قالت في ضيق: فحولته لا شأن لها بالقوة الجسدية.
ولكزَت فخذَه بأصابعها: أترك لأمثالك تدليك قدراته، ليصعد إلى شقتي — مستعدًّا — آخر الليل!
وأطل من انفراجة شفتَيها سنٌّ علويٌّ من الذهب: أنتم تدلكونه … تُعِدونه لي!
ثم في لهجة تقريرية: لهذا أصاحبه.
•••
همست الشائعات في أُذُن السعداوي شبانة، أن ابنته زارت علية عشماوي، بعد أن تركت بيته. استغاث بالسمرة فتوة العطارين. تسلل إلى علية من النافذة المطلة على الشارع الخلفي.
أطلت القسوة — واضحة — في عينيه: أين فتنة؟
قالت في صوت ممزق: مَن فتنة؟
– فتنة يا امرأة. بنت السعداوي شبانة.
وهي تغالب الخوف: لا أعرف … جاءتني فطردتها.
لم ترفض عرض فتنة. منذ اختارت مهنتها، اكتفت بالوساطة، لا ترفض عرضًا من الرجل الذي يطلب، ولا المرأة التي تعرض. فتحت عينَي فتنة على ما لم تكن تعرفه، على ما ينبغي أن تعرفه. حدَّثتها عن طبيعة العلاقة. قد تهونين الأمر على نفسك بما ينتظره منك الرجل. اجعلي انتظاره طويلًا، وصعبًا. الصياد يعتز بالسمكة التي لا تسقط في شباكه بسهولة.
علَّمتها كيفية التعرف — بيدها — إلى ما قد يحمله الرجل من أمراض، التظاهر بالنشوة حتى لو كانت مجهدة، التأوُّد، التثنِّي، الفحيح الهامس، الغنج، تحمُّل المداعبات، والكلمات البذيئة، والتصرفات الشاذة.
الارتباك في ملامح فتنة وشى بما تعانيه، وهي تتهيأ لدخول الحجرة التي سبقها إليها الرجل.
قالت: هل أفعل مثلما تفعل المرأة مع زوجها؟
قالت علية: دَعِي الأمر له. ليس مطلوبًا منك أي شيء!
قال السمرة: طردتها أو سلمتها إلى الإنجليز؟!
نترت الهواء بيدَيها، فتعالت وسوسة الأساور الذهبية حول الساعدين: أنا لم أجبرها على ما تكره … هي التي طرقت بابي.
– بابك مفتوح دائمًا.
– نعمة، أحمد الله عليها.
– هل أصبحت الدعارة نعمة؟!
أزمعت أن تستضيف فتنة، لا تعرفها بأحد، حتى تتبين من يقدِّرها، ويفهم قيمتها. الجوهرة النادرة لا تتفحصها إلا العين الخبيرة.
فاجأها بالسؤال: كم تقاضيت من الضابط الإنجليزي؟
حاولت أن تتكلم — لم تجد كلامًا — توالَت الصور أمامها متقافزة، متراقصة، كالأطياف أو الأشباح، تتشابك، تلتحم، تتباعد، تشحب ملامحها، تتجلَّى سافرة. ليس مجرد الخوف ما سيطر عليها. شعرت أنها لا تقوى على الحركة، يصعب أن تغادر موضعها.
تداخلت في نفسها، كتِرْسة تتداخل في دَرَقتِها.
لم تقدر على مقاومة الطعنات المتلاحقة في جسدها. قفز السمرة من النافذة، قبل أن يجتذب صوتُها نساءَ البيت والجيران.
تبين قولها في حشرجة الصوت: لا شأن لي بما حدث لفتنة!
•••