عمران الخولي
رفع عينيه عن البلانس وقال في لهجة مستاءة: إذا كشطت طلاء البلانس، فلن يبقى سوى ألواح خشب مفككة!
واتجه بنظره ناحية البحر: عندما تهبُّ العاصفة على البر، فإنك تستطيع الاختباء داخل أيِّ بناية حجرية. أما إذا فاجأتك النوة في قلب البحر، فأنت لن تملك فعل أي شيء إلا أن يتدخل الله برحمته!
قبل أن يفتح ورشته في القزق، عمل في بناء العمارات، وصنْع الأبواب والنوافذ. ثم أخلى مساحةً من شاطئ الأنفوشي لصنع قارب صغير، أول ما جرى صنعه في القزق.
لجأ إلى مقام أبي العباس.
تمتم بما لا يجعل البلانس الذي يصنعه يغرق أبدًا. لم يَعُد ما يصنعه من بلانسات — من يومها — يعرف الغرق. لا تقلبه النوات، ولا يصطدم بالصخور، أو السفن العابرة.
امتلأ القزق — فيما بعد — بالنجارين والميكانيكية والمقفلطين والنقاشين، وبمفردات القزق: المنشار والمخرطة والفارة والإزميل والمطرقة والقادوم والمثقاب.
قلَّت السفن الشراعية أمام سفن البخار، المحرك، البواخر، وإن يصنع في القزق السفن ذات الشراع: الفلايك، اللاتس، اللواتس، وغيرها. الشراع مصنوع من «القلع». قماش مشمع مما تُصنع منه الخيام. يشتريه من مينا البصل.
اشتهر بميله إلى صناعة أنواع من السفن، تختلف عن غيرها مما يركب البحر. يُضيف إليها، يطورها، قوارب الصيد والنزهة، لنشات الخدمات البترولية، ناقلات المياه، وحدات خدمات المواني. يُعنى بالتصميمات وتأمينات السلامة والنقوش والزخرفة. يشتري البلانسات المستهلكة، والتي انتهى عمرها الافتراضي. يُجددها، فتقترب مما كانت عليه، يُضيف إليها ما تستخدمه البلانسات الجديدة. إذا احتاج الأمر، فهو يستبدل أعمدة الرفاصات والزفف والسيلات. قد يلجأ إلى تفكيك البلانس، واستخدام أجزائه في صناعة البلانسات الجديدة. حلمُه أن يجعل من القزق أكبر مركز لصناعة السفن الخشبية، من البلانسات الضخمة إلى الفلايك.
يختار لبدء صنع البلانس يومًا مشمسًا.
يبني بدن البلانس من الخشب والحديد، لكي يواجهَ الأمواج العالية والنوات وتقلبات الطقس والصخور والدوامات. يعرف كل ما يتصل بتجارة الأخشاب، وتصنيعها. يستخدم أنواع الخشب التي لا يؤثر فيها الماء، وألواحها عريضة، وانحناؤها طبيعي، وتقاوم الحشرات والتسوس والانتفاخ. يُفيد من أفضل الأخشاب المحلية، التوت، السنط، الكافور، لا يلجأ إلى الأخشاب المستوردة إلا لضرورة. يستطيع تبيُّن ما إذا كانت كتلة الخشب تصلح لصنع سفينة، بالنظرة المتفحصة، أو بالطرق الخفيف للتعرف على الأجزاء الصلبة والمجوفة، أو التي يتخللها التسوس أو الرطوبة.
كل مركب: بلانس، لنش، دنجل، كوتر، فلوكة، له ثخانته في الخشب، وله عرضها.
يعرف أنواع الخشب، ما يصلح لجسم السفينة، وما يصلح للأغراض الأخرى: الأبواب والنوافذ والدواليب والطاولات والمكاتب والكراسي.
حدَّد لصبيانه صفاتٍ يحرصون عليها في صناعة السفن: الأمان، المتانة، الطفو، القوة والقدرة على الاحتمال، الثبات، التأكد من سد الفجوات بين ألواح الخشب. إذا انتهى صنع البلانس، اختبره — قبل أن يُبحر — في السرعة، والقدرة على المناورة، والانسياب على الماء، والتحول إلى الاتجاهات المختلفة، والقدرة على الإبحار عكس الريح، والسير في الطرق المتعرجة.
أعانه سامي بهاء الدين ليتحول من صناعة السفن بالخشب إلى صناعتها بالصلب، تكسيتها بالصلب.
استبدل الصلب بالخشب. تكلفة الخشب أكثر من الصلب، ويحتاج — بين فترة قصيرة وأخرى — إلى عَمرة، أو إصلاح. البلانسات المصنوعة من الصلب تقلُّ حاجتها إلى الإصلاح.
رفض بهاء الدين أن يتقاضى فائدة على مائة ألف جنيه دفعها. اكتفي بالقول وهو يربت كتف الخولي: الناس لبعضها!
يضوع البخور من حول هيكل البلانس، وفي قلبه، حتى لا تتسلل إليه الأرواح الشريرة، تلتصق به، ويجري البناء والطلاء فوقها، فتظل جزءًا منها، تحمل الشؤم والخطر إلى حيث يسافر. قال: لماذا نَسْلُق الصنعة ما دمنا نستطيع صنع بلانس يواجه أقسى النوات؟
لا أحد يعرف ماذا في ضمير البحر، ما يعتزم أن يُقدِّمه أو يأخذه. قاسم، صياد من بحري، غدرَت به النوة، اختطفَته. سُمي باسمها.
قال: البحر كريم … لكن إذا فاضت أمواج كرمه ابتلعت البشر والمراكب!
ثم وهو يهزُّ رأسه: البحر غدار!
البحر ليس في كل الأوقات حصيرة. البحر الساكن — دائمًا — خيال مستحيل. إنه يواجه — في كل لحظة تأثير النوات. ينقلب الهدوء في وقت ما، في لحظات غير متوقعة، إلى نوة عنيفة، هوجاء، تنقلب فيها زرقة الأمواج إلى رمادية قاتمة.
اختيار لون البلانس مهم. ما يتفاءل به صاحب البلانس أو ملَّاحوه. اسم البلانس حقٌّ لصاحبه وحده. يُطلق عليه — في الأغلب — اسم أحد أبنائه أو أحفاده. يترك لمن يُحسن الخط والوشم مهمةَ تزيين جوانب البلانس بعينٍ تطرد الحسد، وكلمات ضد الحسد، وبالنقوش والخطوط، والعبارات التي تدعو بالسلامة.
وقال المعلم عمران — وهو يدفع إلى البحر بلانسًا جديدًا، في لهجة متباهية: صار القزق أكبر من هذه التسمية. إنه الآن ترسانة بحرية!
يفضل الجمعة موعدًا لنزول البلانس إلى البحر.
يرفض ساعة النحس في ذلك اليوم. هو يوم مبارك، وهو أفضل الأيام، على أن يكون البحر حصيرة، والنوات غير مرئية. لكنه يتشاءم من غياب الطير فوق الساحل لحظة بدء الرحلة. يعتبره نذيرَ خطر يتهدد البلانس. ليس غرق البلانسات — دائمًا — من فعل النوات، ولا من أذى مخلوقات البحر.
يتجنب الصيادون لقاء الحانوتي شحاتة عبد الكريم. يبتعدون عن مجلسه في قهوة مخيمخ. يميلون في سيرهم إلى شوارع جانبية تبتعد عن بيت الرجل. يعزون إليه أفعال السحر التي تقلب البلانسات، تُغرقها بطاقمها، وبالصيادين. يلجأ إليه الحساد وذوو النيات الشريرة. يدفعون له، فيعمد إلى التعاويذ.
شاهد أهل بحري ما تبقَّى من حطام البلانس «قدورة».
حملَته الرياح والتيارات المائية. أدرك الناس أن مَن كانوا في البلانس قد اختطفهم البحر. تحدَّث الريس خلف زيدان عن السحر الذي دسَّه شحاتة عبد الكريم في طعام الصيادين. جعل المستحيل ركوبهم البحر، وقيادتهم للبلانس. بدوَا كالمنومَين، يتكلمون ويتحركون، وهم خاضعون لتأثير السحر. أسلموا البلانس — دون أن يفطنوا — للأمواج. غابت الوقفة وراء الدفة، وملاحظة أحوال الجو. أغاثهم جنيُّ البحر، قبل أن يرتطم البلانس بصخرة في قلب البحر. قفز إلى موضع الدفة. أدارها في الاتجاه الصحيح. الطعام المسموم أذهلهم عن رؤيته. صحَوا (كانوا قد ناموا، أو أُصيبوا بالإغماء) على الصيحات والنداءات والزغاريد تترامى من الشاطئ.
يأخذ عمران الخولي مسحةً من تراب مقام أبي العباس. يُعيد المسح بها على دفة السفينة. يَثِق أنها ستحفظ البلانس — بشفاعة المرسي — من النوات والأعاصير، ومن الغرق.
يُبدي استعداده للتنازل عن جزء من أجره لإعداد احتفال يناسب ما بذله في صنع البلانس. يُقام سرادق، تبدؤه تلاوة للشيخ مصطفى إسماعيل. تعزف فرقة موسيقية. يرقص سيد حلال عليه. يغني ماهر الصاوي. يوزع الشربات، وتُذبح الأضاحي. تضغط الأيدي المغموسة في الدم على جوانب البلانس. يحرص على تشحيم بدن البلانس، فيسهل انسيابه في الماء.
يعلو صوت عمران الخولي: الفاتحة لسيدنا الخضر!
يعرف أن الخضر على منبر من نور، بين البحر الأعلى والبحر الأسفل. واجب مخلوقات البحر أن تسمع للخضر وتُطيع. حتى الأمواج والرياح عليها طاعة الخضر — بتأييد الحق سبحانه — فهو يُنقذ مَن يستغيث به في أوقات الخطر.
ترفع الدعامات التي تُمسك البلانس، ويرفع الهلب، ويقذف الجانب بزجاجة ماء ورد، وينزلق البلانس على الحاملين الحديديَّين الموصلين بين اليابسة والبحر إلى قلب الماء. تتعالى الزغاريد والأغنيات والدعوات:
يشقُّ البلانس الأمواج في مناطق يحسن ركوبها، وإن أخلى عمران الخولي مسئوليته من الجزر التي يتوقع أن تسكنها الشياطين والجان والمخلوقات الغريبة. لم يكن كذلك يقترب من حطام السفن الغارقة، أو الأخشاب الطافية فوق الماء، قد تَشِي بوجود أشباح، أو أطياف، أو أرواح تبحث عن ثأرها.
إذا كانت الباخرة قد غرقَت بالقصد، فإن أرواح القتلى لا تهدأ قبل أن تحصل على الثأر. قد تحيد الضربة عن الموضع الذي تقصده.
لماذا يضع نفسه في احتمال الخطر؟!
•••
المحروسة، يخت اشتراه الخديو إسماعيل، لنقل الإمبراطور نابليون الثالث ملك فرنسا وزوجته الإمبراطورة أوجيني من بلدهما، بالإضافة إلى الملوك والأمراء الذين استضافهم إسماعيل لحضور احتفالات افتتاح قناة السويس، وإعادتهم — بعد انتهاء الحفلات — إلى بلادهم.
ظلت المحروسة يختًا ملكيًّا، تئول ملكيته إلى حكام مصر، بتعدد المسميات: الخديو، السلطان، الملك. هو يخت من ثلاثة طوابق. يصعب أن يكون بارجة، أو مدمرة، ويصعب أن يكون «بلانس»، ويصعب أيضًا أن يكون لنشًا، أو حتى قاربًا. اليخت هي التسمية المناسبة.
أثَّر توالي الأعوام على «المحروسة».
لم تَعُد — كما كانت — أجمل القطع البحرية المماثلة في العالم. بدَت الحاجة إلى إصلاحها ضرورية، لا لإنقاذها من الغرق فقط، وإنما للحفاظ عليها كأثر تاريخي مهم.
رسا العطاء على شركة إيطالية متخصصة في عمليات الإصلاح، لقاء مليون جنيه.
وافق البرلمان على اعتماد المبلغ، ووقَّعت الحكومة العقد، وانتقلت «المحروسة» إلى مواني لإصلاحها.
كان يرأس الحكومة — آنذاك — إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس الحزب السعدي.
عندما تغير مجلس النواب السعدي، وجاءت حكومة الوفد بمجلس ذي أغلبية وفدية. كانت الليرة الإيطالية قد انخفضت أمام الجنيه المصري. وجدت حكومة الوفد نفسها مطالبةً بسداد فرق عملة للشركة، هو ٣٢٠ ألف جنيه.
كانت المحروسة في مواني إيطاليا. وكانت الشركة قد تقاضت مبلغ المليون جنيه.
لم يكن بوسع الحكومة — ومجلس النواب بالتالي — سوى الموافقة على دفع فرق العملة، إنقاذًا لليخت ذي القيمة التاريخية والأثرية.
عادت المحروسة بعد إجراء الإصلاحات، وإعادة اللمسات الفنية إليها.
لجأت الحاشية إلى عمران الخولي، لصنع إضافات في قاعات اليخت وحجراته. عُنيَ بها كما يجب العناية بيخت ملك.
استدعَته الحاشية — بعد أيام قليلة — لإجراء إصلاحات في فيلا الملك بالعجمي. ضايقَته مراقبة الحرس الملكي والموظفين المدنيِّين. تعددت التوجيهات والتنبيهات والملاحظات.
أصاخ السمع لهمسات الخدم أن الدواليب والخزائن المغلقة بها ثروة هائلة. ربما — إذا قامت ثورة — حملها الملك في سفره إلى الخارج.
•••
حين عرض رفقي زلابية على عمران الخولي أن يبنيَ — في القزق — سفينةً كبيرة، سأل الخولي مستوضحًا: بلانس؟
قال رفقي زلابية: أريد قصرًا متحركًا.
وفرد ذراعَيه بامتدادهما: أريد يختًا لا يقل في حجمه ولا فخامته عن المحروسة.
يعتز الخولي بأنه شارك في عمل عَمرة ليخت الملك «المحروسة». عانى الذهول لرؤية القاعة الزرقاء، العربية الطراز، والقاعة الفرعونية، وقاعة التدخين التي لم يشهد مثلها.
وشى صوته بسخرية: للصيد أم لنقل الركاب؟
– لرحلاتي.
ثم وهو يفرد يدَيه باتساعهما: أقل شيء يجب أن يكون في فخامة اليخت فخر البحار، أو اليخت الشراعي فيض البحار.
لاحقَته متابعات زلابية وملاحظاته. زادت، حتى علا صوته يتساءل إن كان ما يريده سفينة نوح؟
أهمل زلابية قوله، وواصل إبداء تصوراته. تزويد اليخت بمحركات داخلية، ومولد كهربائي كبير، وجهاز لتقطير المياه، وحمامات، وحجرات نوم، وصالونات، وشاشة عرض سينمائي، ومهبط لطائرة هليوكبتر، وحمام صغير للسباحة، وأنابيب أوكسجين، وبِدَل غطس.
شدَّد على انسياب اليخت، مناورته السريعة، مرونته في الحركة، سواء كان البحر حصيرة، أم علَت أمواجه. سهولة انطلاق رحلاته إلى أعالي البحر والمحيطات.
قدَّم لعمران من المقدمات ما دفعه إلى كتم تساؤلاته. نسيَ عمال القزق أوقات البطالة، والعمل في البلانسات والفلوكات وعمليات الترميم والصيانة.
بعد أن أنهى القزق صنْعَ اليخت، كان رفقي زلابية قد غاب عن بحري. لم يجده الخولي في قصره المطل على رأس التين، ولا في الجوامع أو المقاهي أو الأسواق أو الشوارع. اختفى تمامًا، حتى من حياة أسرته. خفتت أصوات الموسيقى والغناء. قيلت روايات كثيرة، وإن اقتصر تصديق الناس على أن عروس البحر اشتاقت إلى رجلها القديم، فأعادَته إلى دنيا السحر في الأعماق.
•••