فاروق الأول
في ٢٩ أبريل ١٩٣٦م، تناول رواد مقهى «الزردوني» نسخة «الأهرام» من خليفة كاسب. على الجانب الأيمن من صفحتها الأولى صورة للملك فؤاد، تحتها عبارة «مات الملك»، وعلى الجانب الأيسر صورة للملك فاروق، تحتها عبارة «ليحيا الملك».
قدَّمت الصحف الملك الجديد — مع استعدادات تولِّيه العرش — على أنه يُتقن اللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، ويُجيد ركوب الخيل، وقيادة السيارات، والسباحة، والألعاب الرياضية المعروفة.
حرص بدوي الحريري أن يكون في الميناء يوم عودة فاروق من أوروبا. عرف اسم الباخرة «فيسروي أوف إنديا». ترقب وصولها.
•••
هو فاروق بن أحمد فؤاد. وُلد في الحادي عشر من فبراير سنة ١٩٢٠م. أنهى دراسته في الأكاديمية العسكرية البريطانية عقب وفاة أبيه. عاد في الأسبوع الأول من مايو ١٩٣٦م. ظل ملكًا لمدة عشرة أيام فقط، ثم حول مجلس الوزراء سلطاته إلى مجلس وصاية حتى يبلغ سن الرشد في الثامنة عشرة من عمره. وكان سيُبلغه في ٢٩ يوليو ١٩٣٧م. كانت الوزارة — آنذاك — برئاسة مصطفى النحاس. حسبت أعوام ميلاده بالتاريخ الهجري لا الميلادي (وُلد في الحادي عشر من فبراير سنة ١٩٢٠م). يصبح سن الرشد عنده هو الثامنة عشرة الهجرية، وليس الميلادية. بعد انتهاء مدة الوصاية في ٢٩ يوليو ١٩٣٧م استقل فاروق عربة مطلية بالذهب، تجرُّها ستة خيول، انطلقت في شوارع القاهرة إلى مجلس النواب. أقسم الملك اليمين، وهو يضع يده اليمنى على نسخة من القرآن، ويُمسك صولجانًا بيده اليسرى: «أقسم بالله أنني سوف أحترم الدستور، وقوانين الدولة المصرية، وسوف أحافظ على استقلال الوطن، وأحمي أراضيَه».
وَرِث عن أبيه خمسةَ قصور، وعدة فيلات واستراحات من ساحل البحر المتوسط شمالًا إلى السودان جنوبًا، ومساحات واسعة من الأراضي الزراعية، تبلغ عشر كل الأراضي المصرية المزروعة، وأكثر من سيارة، منها عشر سيارات رولزرويس، وسربًا من الطائرات الملكية، واليختَين البحريَّين «المحروسة» و«فخر البحار». وكان أبوه يستثمر ٣٠ مليون جنيه في بنك مصر، وما يقارب نصف هذا المبلغ في بنوك أجنبية.
في عهده وُقِّعت معاهدة ١٩٣٦م بين مصر وإنجلترا. حلت فيها المسائل الأربعة المعلَّقة في تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٤م، واستقلت مصر — في ظاهر الأمر — استقلالًا تامًّا.
تزوج في ١٩٣٨م العشرين من يناير، من الآنسة صافيناز ذو الفقار (فريدة في الاسم الملكي). استمر الاحتفال بالزفاف الملكي ثلاثة أيام. عادت — في هذه المناسبة — أعداد من عمال الميناء المفصولين إلى أعمالهم، وأفرج البكباشي حمدي درويش عن المحبوسين في تخشيبة قسم الجمرك، وإن استثنى المعتقلين لدواعٍ سياسية، وانطلقت الألعاب النارية من «التيرو»، وتدلَّت الأنوار على واجهات المباني الحكومية، ونصب التجار أقواس النصر أمام محالهم، وفي الميادين القريبة، ووُزِّع الطعام والكساء على المحرومين، وخرجت جلوة للطرق الصوفية من أبي العباس، وأقامت الكنائس حفلات قداس، وقدمت جمعية «إكشورة» الإسرائيلية الطعام للفقراء.
أُعلن — رسميًّا — في ١٩٤٨م طلاق فاروق من فريدة. أُعلن — في العام نفسه — طلاق شاه إيران من الإمبراطورة فوزية.
•••
أنشأ محمد علي باشا قصرَ رأس التين في أوائل القرن التاسع عشر. يقع في نقطة التقاء قرية راقودة وجزيرة فاروس. في نهاية الانحناءة ما بين خليج الأنفوشي، والامتداد إلى المينا الشرقية، والاتجاه إلى غربي المدينة.
لا أحد يدري إن كان الموقع من اختيار محمد علي، أم أنه ترك الأمر لمستشاريه من العلماء الأجانب، فأجادوا اختيار هذا الموقع. هو في عنق الزجاجة التي يحيا داخلها حيُّ بحري.
تعلو القصر قباب من طراز الروكوكو. صمَّمه المهندس الإيطالي مينوتولي. أشرف ثلاثة مهندسين معماريِّين على بنائه. بدأت عملية البناء في سنة ١٨٣٤م، وانتهَت في ١٨٤٥م، ثم أُضيف إليه جناح في ١٨٤٧م، وأُضيفت قاعة في عهد الملك فؤاد، جدرانها محلَّاة بآيات من القرآن، والأحاديث النبوية، وأقوال الحكماء العرب. تتدلَّى من وسط السقف نجفة ذات نقوش ومنمنمات عربية.
يحتل القصر زاوية في أول بحري — أو في آخره — تُطل على البحر من جهات ثلاث، امتدادًا لشبه الجزيرة المتصلة بشبه جزيرة الإسكندرية. يشكِّل تجاورًا جغرافيًّا، لكنه يختلف في عزلته وناسه وبناياته وحرَّاسه وحدائقه ومظاهر الأبهة.
الفرجة هي ما يملكه أهل بحري على الداخلين إلى القصر، والخارجين منه، وثكنات الحرس الملكي، والبوابات الهائلة، والصاري الذي يعرفون بالعلم فوقه إن كان الملك في داخله، وانطلاق البروجي في مواعيد لا يُدركون بواعثها، والحديقة المستلقية أمامه.
يضمِّن الناس ما رأوه مناقشاتهم. يُضيفون إليه ملاحظات ومبالغات.
الأميرة فوزية هي آخر مَن شهد القصر مولده ١٩٢١م من أفراد الأسرة المالكة. لهذا السبب — ربما — أحبها أبناء بحري، وأظهروا فرحتهم لزوجها من ولي عهد إيران.
نسب الصياد السعداوي شبانة إلى نفسه فضلَ إنقاذ فاروق من الموت، قبل أن يُصبح وليًّا للعهد.
كان السعداوي يبحث عن الموضع المناسب للصيد، في المسافة من أول الطريق الملاصق لحديقة رأس التين إلى انحناءة خليج الأنفوشي.
هتف لصراخ الطفل بعد أن أفزعَته خيل السراي في جولتها الصباحية. أربكت قيادته للدراجة التي كان يقودها خارج السراي، فكاد يسقط تحت حوافر الخيل.
جرى الصياد سويلم أبو العلا بآخر ما عنده. احتضن الطفل، وقفز به بعيدًا.
بدا الفزع في عينَي الضابط أول طابور الخيالة. أخذ الطفل من يدي الصياد. عرض عليه — ربما لشراء صمته — مبلغًا هدية.
اعتذر الصياد عن قبول المبلغ: هو مثل أولادنا!
حين وصلت باخرة الملك من أوروبا — فجر الأحد ٢٥ يوليو ١٩٣٧م — كان السعداوي شبانة واحدًا من الآلاف، وقفوا داخل الفلايك والدناجل واللنشات، يستقبلون عودة الملك الجديد بالموسيقى ودقات الطبول والدفوف والأغنيات، والهتاف بحياته. ظهر التغير على التكوين الجسدي للولد الذي أنقذه السعداوي — ذات يوم — وعلى ملامحه.
أمضى خمسة شهور في رحلته خارج مصر. قرأ الحاج جودة هلال في الجريدة عن تنقل الملك بين سويسرا وفرنسا وإنجلترا. تذكَّر السعداوي مدة الرحلة، وموعد الوصول، وإن نسيَ أسماء البلاد التي زارها الملك، أو أنه لم يستوعب أسماءها.
•••
عندما وصل الملك إلى الإسكندرية، صَعِد إلى ظهر الباخرة رجال الياوران، ورئيس الوزراء، والوزراء. فوجئ فاروق بمن يُلثم يده، ثمة مَن اكتفى بالانحناء فوق يد الملك الممدودة.
ما حدث كان نقطةَ تحول في نظرة فاروق إلى الحاشية ورجال الحكم. أضاف إلى سلبية النظرة، ما قاله رئيس الحكومة مصطفى النحاس — بعد لقائه بالملك — عن حكمة صاحب جلالة الملك المحبوب، وعن إرشاداته السامية، ونصائحه الغالية.
قال خليفة كاسب: أثق أن هؤلاء الناس هم الذين بدلوا أخلاقه!
بدا تدخُّل الحاشية وموظفي البلاط الملكي في شئون الحكم معلنًا. يُجرون الصفقات، يعينون الوزراء وكبار الموظفين، يُصدرون أوامر الاعتقال. تحوَّل حمدي درويش إلى أداة منفذة لأوامر رجال القصر — ونسائه أيضًا — وقراراتهم.
عرف عن فاروق إهمال نصائح الزعامات السياسية وقيادات الحكومة، والإنصات لنصائح خدمة الإيطاليين، وائتمانهم على أسراره، ومواربة الباب لينطلق وراء نزواته.
أدرك رفقي زلابية — من تردُّده على قصر رأس التين — أن للحاشية تأثيرًا، يفوق — ربما — تأثير الملك نفسه. يمتلكون الدهاء، وسعة الحيلة، والقدرة على التدبير، وإحكام الخطط. هم الذين يسألون، ويشيرون، وينصحون. الملك يكتفي بنظرة متابعة، وضحكات متقطعة للملاحظات التي تستهويه.
ألقى خليفة كاسب باللوم على علي ماهر في إفساد الملك، من قبل أن يجلس على العرش.
تعددت إقالة فاروق لحكومة الأغلبية. أسلوب الممارسة الذي كان لأبيه السلطان (الملك فيما بعد) فؤاد. لم يَعُد يحترم الدستور، ولا البرلمان، ولا الشعب نفسه، أو ممثليه، ولا حقوق الأغلبية. لا يستشير حتى أقرب مساعديه فيما يفعله — قراراته من مخه — حتى الذين زينوا له خطوات البداية، سار بقية الخطوات دون أن يُعنَى بآرائهم. حتى أحمد حسنين باشا، مربيه ومعلِّمه، والمخطط لسياسة الملك وقراراته، أهمل فاروق نصائحه وملاحظاته، أهمله الملك كما أهمل الحاكم بأمر الله معلِّمه برجوان، حين لم يَعُد له به حاجة.
تسرَّبت إلى بيوت بحري ومقاهيه وجوامعه وزواياه وورش القزق وقعدات الصيادين حكايات الشراهة في الطعام والجنس. تكلم الخدم عن مسميات الطعام التي يصعب نطقها، وعن الأجنبيات اللائي يقمنَ في جناح الملكة السابقة فريدة، وعن سهرات القمار في قاعة المكتبة حتى الصباح.
تحدَّث عمران الخولي عن حفلات الغناء والرقص في قصر رأس التين إلى طلوع الشمس، وعن زجاجات الويسكي والشمبانيا والمجلات والأفلام الجنسية، وألبومات النساء الجميلات، تعرض على الملك، فيختار مَن تصلح لمضاجعته. نساء من كل الدنيا، عرايا، وفي أوضاع مثيرة. كان يحرص على شراء الصحف التي تهاجم الملك. يوصي بائع الصحف أمام فرن حبيب. يحجز له نسخة الصحيفة، قبل أن يفطن أعوان البكباشي حمدي درويش إلى ما قد يحمل هجومًا على السراي، أو على الحكومة.
روى جودة هلال أنه أتى من سوق الترك بأعشاب ودهانات، لمَّح من طلبها من خدم السراي، أنها لمساعدة الملك في علاقاته النسائية.
قال بدوي الحريري: مَن كان يصدِّق أن الملك الذي ركبنا البحر لاستقباله في عودته من الخارج، هو الملك نفسه الذي تهتف المظاهرات الآن بحياته!
في صباح الأحد ٢٥ يوليو ١٩٣٧م، استقلَّ بدوي الحريري قاربًا مع عمران الخولي وغريب أبو النجا. أضافوا إلى مئات البلانسات واللواتس والدناجل والفلايك. انتشرت في المساحة الواسعة أمام الميناء. علت الموسيقى والطبول والدفوف والزغاريد، والهتافات بحياة الملك.
رأى الحريري — في وقفته فوق البلانس — رجال الحاشية والوزراء يصعدون السلم إلى أعلى الباخرة، الراسية على رصيف الميناء. صافحهم الملك. لثَّموا يده، أو انحنوا فوقها. قرأ — في صحف اليوم التالي — أحاديث مستقبلي الملك عن حكمته، وإرشاداته السامية، ونصائحه الغالية.
رأى خليل الفحام وخليفة كاسب — ذات عصر — رجلًا ضئيل الجسد، له سحنة الأجانب، يتمشَّى على لسان السلسلة.
تكلم الفحام — بعد ابتعادهما — عن وظيفة الرجل في السراي الملكية. لا يقطع في أمر دون مشورته، ولا يوقع على معظم المراسيم دون أن يناقشه.
تعرف الناس — في فترات متباعدة — على رجال الديوان الذين يشاهد صورهم في الصحف: حافظ عفيفي، أنطونيو بوللي، جارو، كافاتزي (مربِّي الكلاب الملكية)، السائق الخاص حلمي حسين، بيترو، حسن يوسف، الطبيب يوسف رشاد، إسماعيل شيرين، كبير الياوران عمر فتحي باشا. يدخلون القصر بسياراتهم، أو يتمشون في المنطقة القريبة من القصر.
لم يَعُد للوزراء رأيٌ ولا أمر ولا نهي. ما يقضي به رجال الحاشية، ويوعزون به للملك، يجري توقيعه، وتنفيذه، دون أن يعودوا لأحد.
ضج الناس منهم.
قال خليفة كاسب: هذا رجل لا يمكن أن تُصلحه مواعظ ألف من أمثال عبد الستار.
ووشى صوته بنبرة يائسة: مَن يحيطون به، تأثيرهم عليه أقوى!
حين عرض فاروق على أرملة الأمير عمر طوسون أن يتزوجها بعد طلاقه من زوجته فريدة، قالت فاطمة وهي تُشير إلى رجال الحاشية: كرامتي تمنعني من الجلوس إلى هؤلاء الناس!
– لماذا؟ … ستُصبحين ملكة مصر.
– ما فائدة أن أُصبح ملكة بدون ملك؟!
وكررت إشارتها إلى الرجال المتناثرين: بولي ومن معه هو الملك الحقيقي، وأنت خادمهم!
شاهد خليل الفحام الملك فاروق — ساعة العصر — في أوقات متباعدة. يقطع المسافة على الكورنيش الحجري الموازي لسور حديقة رأس التين. يصطف جنود الحرس الملكي، يمنعون الاقتراب. يصوب الملك بندقيته إلى طيور البحر. يجعل صيدها هدفًا، فتسقط في البحر.
قال: لعله أشفق من صيد الطير للسمك فأراد العكس.
وأظهر التأثر: ما يُخيفني أن يصوب رصاصاته إلى صخرة الأنفوشي. قد تعود النتائج بمصيبة علينا وعليه!
قال بدوي الحريري: السراي تُطل على البحر … لماذا لا يصيد هناك؟
– لعله يريد أن يُظهر قدرته على التصويب.
ثم مطَّ شفته السفلى: ولعله يريد إعجاب الناس!
يقف الأولاد على رصيف الكورنيش الحجري، وفوق المراكب المقلوبة على رمال الشاطئ. قد يستقل سيارته الحمراء ذات السقف المطوي — بمفرده — بعد الغروب. المسافة من رأس التين إلى المنتزه ٢٦ كيلومترًا. تقطعها السيارة المسرعة في دقائق. قد يميل إلى «التيرو» داخل منطقة السلسلة. يُصر على المراهنات في التصويب على الأطباق. عندما يتواصل صوت الطلقات إلى قرب الفجر، يعرف الناس أن الملك اطمأن إلى مهارته في التصويب.
•••
استعاد فاروق فقرةً — تصفَّحَتها عيناه — في تقرير البكباشي حمدي درويش إلى الديوان الملكي: «… وقال الشيخ عبد الستار منوفي في دعاء خطبة الجمعة: خلِّصنا من حاكمية البشر، واجعل الحاكمية لك وحدك!»
رفع الملك رأسه بعد قراءة هذه الفقرة: لمن يتجه الرجل بدعائه؟
قال كبير الياوران: إنه يدعو الله!
قال الملك في لهجة متسائلة: لماذا لا يأخذه الله؟!
وافق الملك على اقتراح لكريم ثابت بأن يصليَ في جوامع بحري، فيعيد لصورته ملامحها المطلوبة. يخلع على الأئمة عباءات فضفاضة من السندس المزين بنقوش الفضة وقصب الذهب. يوزع رجال الحاشية المنح والعطايا على الفقراء وأهل السبيل. يستمع إلى آيات من سورة الكهف يتلوها الشيخ مصطفى إسماعيل، أو الشيخ أبو العينين شعيشع، أو الشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، أو الشيخ محمود خليل الحصري. يشارك المصلين نداءات العيدين: لبيك اللهم لبيك … لبيك لا شريك لك لبيك.
قال فاروق: سأصلي الجمعة القادمة في أبي العباس.
كان معظم أدائه لصلاة الجمعة. أشهر نزوله الإسكندرية. في جامع المرسي. للجامع باب ملكي يُطل على مقامات الأئمة الاثنَي عشر، والسيالة.
يهبط من المركبة الخشبية المزينة بالذهب، يجرُّها ستة جياد. يصعد الدرجات الرخامية، ويهبط عليها، بين صفين من المشايخ، تعلو أصواتهم بالأدعية، تدور في أيدي خدم الجامع مجامر البخور، تتضوع روائح اللبان والجاوي والمستكة والعنبر والصندل. تترامى — من خلف صفوف الجنود — زغاريد وهتافات بحياة ملك مصر والسودان، وملك الشباب، والملك الصالح، والمصري الأول.
يتقدم الوزراء، يسلِّمون عليه، يلثِّمون يده، أو ينحنون عليها.
يقام — بعد صلاة الجمعة — ما يُشبه الحفل الديني، أدعية خاصة وابتهالات، تعلو بها أصوات المشايخ من موظفي وزارة الأوقاف. الملك يتوسط صحن الجامع. من حوله رجال الحاشية. المشايخ حول الجميع يرددون أدعيتهم وابتهالاتهم.
لم يُخفِ عمر فتحي إشفاقه: لعل الأصوب أن نبتعد عن أبي العباس هذه الأيام.
استطرد في نبرة محذرة: المظاهرات التي تخرج منه بعد صلاة الجمعة لا تنقطع.
أومأ الملك ناحية حمدي درويش، في وقفته آخر القاعة: ماذا يفعل الأمن إذن؟
قال كريم ثابت: من حق مولانا أن يحدِّد الجامع الذي يؤدي فيه الصلاة.
قال عمر فتحي: لعل في زيارة الجوامع القديمة فرصة جيدة، لكي تُرممها وزارة الأوقاف، وتُعيد تأثيثها.
قال الشماشرجي محمد حسن: لتكن الصلاة إذن في علي تمراز.
•••
أهل بحري شهود على أحداث ذلك اليوم. المصادفة — وحدها — هي التي أملت التطورات. اليوم هو السادس والعشرون من يوليو. مقر الوزارة في بولكلي. إقامة الملك ما بين قصر المنتزه ورأس التين.
تطلع خليفة كاسب إلى السماء — بتلقائية — يبحث عن الطائرات التي دوى صدى صوتها. رفع الكراديسي، جرسون قهوة مخيمخ، صوت الراديو، يبثُّ الأناشيد والموسيقى الحماسية.
قَدِم الناس على ترامي طلقات رصاص متتابعة من ناحية السراي.
روى الواقفون — منذ الصباح — ما حدث: أطلق الحرس الملكي رصاص بنادقه على صفوف جنود الجيش أمام السراي. ردَّ الجنود بطلقات متتالية من المدافع الرشاشة. لحظات، ثم تحرَّك منديل أبيض من شرفة جانبية.
قال عمران الخولي: ألَا يحكمون من القاهرة … لماذا لا تدور معاركهم فيها؟
قال خليل الفحام: الإسكندرية مدينة مهمة.
– مهمة في الصيف فقط … تهمنا نحن طول العام.
ردَّد الواقفون أمام جنود الجيش يحملون البنادق ويرتدون الخوذات، والكردونات والدبابات، ومدافع الميدان (لم يتجاوزوا العشرات) هتافات تقول: الجيش جيش الشعب … الجيش حامي الأمة … أهلًا أهلًا بالحرية … يسقط الملك … لا ملكية بعد اليوم.
أمر حمدي درويش جنوده بألَّا يتصدوا للمظاهرات. إنها تؤيد الجيش. من غير المتصور أن يمنع البوليس تأييد الشعب للجيش.
وزَّع الجنود على النواصي والمفارق البعيدة. يتقدمون بتقدم المظاهرات إلى مناطق أكثر بعدًا.
قال خليفة كاسب إن رجال الملك هم الذين دفعوه لدخول حرب فلسطين. أرادوا كتم سخط الناس، إلهاءهم عن قسوة الحياة.
قال جودة هلال: يجب على قادة الجيش أن يشكروا الملك لأنه حرص أن تظل حركتهم بيضاء.
قال خليفة كاسب: هم الذين حرصوا على ذلك.
– كان بوسعه أن يسكت عن إطلاق المدافع من مبنى الحرس الملكي، أو يطلب تدخُّل قوات الإنجليز.
وشَى صوت عمران الخولي بلهجة تحذير: لو أنه ركب رأسه، ربما لم يأخذ مليمًا واحدًا من الأموال التي خرج بها!
•••
روى عمران الخولي أحداثَ اليوم الأخير، من ابن عم له، يعمل طباخًا في القصر.
أنصت فاروق — صامتًا — إلى نصائح الحاشية بأن يستعين بقوات الإنجليز الموجودة في منطقة القناة، يحرِّك قواتٍ من الإسكندرية، يلجأ إلى قوات البحرية، يأمر قوات الحرس الملكي.
قال عمر فتحي باشا كبير الياوران: كما أرى، الحرس الملكي على ولائه، والسلاح البحري كذلك. لو أن مولانا قاد سيارته إلى معسكرات مصطفى باشا فسيجتث التمرد من جذوره.
تعدَّدت النصائح، والملك على صمته، لا يناقش، ولا يُبدي رأيًا، يضرب راحةَ يده بقبضة اليد الأخرى، يزفر، ينتتر من جلسته، يذرع المسافة — في معاناة واضحة — بين الكرسي والنافذة المطلة على البحر.
اتجه إلى رجال الحاشية بنظرة تقطر ألمًا، وهزَّ رأسه دلالةَ الرفض.
أدرك خليفة كاسب أن الملك قد اقتنع بنصيحة علي ماهر باشا، حين قَدِم إليه — في الصباح — بفكرة التنازل عن العرش.
قال فاروق: أنا لست جبانًا. سأقاوم … عند الحرس الملكي مدافع أكبر من مدافع الجيش المصري.
قال علي ماهر: ليس الأمر بعدد المدافع ولا ضخامتها. أنا لا أرضى لك أن تتسبب في حرب أهلية. حركة الجيش يؤيدها الشعب، لا أريد لك أن تقف ضد الشعب.
لما ترامت طلقات المدفعية من ناحية السراي، حدس عمران الخولي تكرار ما جرى — في الصباح — من تبادل للنيران. انتظمت الطلقات، حتى الطلقة الحادية والعشرين، ثم توقفت.
فسَّر خليفة كاسب عددها بأنها تحية استقبال أو وداع.
قال في لهجة واثقة: لا بد أن الملك رحل. هذه الطلقات في وداعه.
روى أبو حلاوة أنه شاهد الملك وهو يقود سيارته الحمراء على طريق الكورنيش، في الطريق من قصر المنتزه إلى قصر رأس التين. دخل القصر. تركه آخر النهار، في السادسة تمامًا، إلى الباخرة المحروسة. انطلقت به إلى المنفى.
قال الحاج جودة هلال إنه عرف تدبير عزل الملك من الحكم، ونفيه خارج مصر، قبل أعوام من حركة الجيش. لم يُحدد اسمَ مَن أبلغه ولا صفته. اكتفى بالقول: الحوت الكبير تأكله صغار الأسماك!
•••
ظلت سيرة فاروق في حياة الناس أعوامًا قليلة.
شحبت — في توالي الأحداث — وتلاشت. لم يعودوا يترددون على حديقة السراي في ليالي رمضان، ولا يتابعون موكبه، أو قيادته للسيارة الحمراء — بمفرده — في طريق الكورنيش، ولا يرددون الأغنيات التي تتحدث عن الملك الذي يُحبه شعبه.
نسيَ الناس الاسم. استبدلوا به أسماء أخرى: جمال عبد الناصر ويوسف صديق وأنور السادات وعبد الحكيم عامر وخالد محيي الدين ويوسف وهبي وعبد الحليم حافظ وفاتن حمامة وعبد الباسط عبد الصمد وأم كلثوم وصالح سليم وتحية كاريوكا وعبد اللطيف أبو هيف وزينات علوي وحسن إبراهيم والضظوي وعبد الوهاب وعصمت عبد المجيد ومحمود الخطيب وسعاد حسني وصلاح جاهين.
صارت الدنيا غير الدنيا.
في ١٧ مارس ١٩٦٥م مات الملك السابق فاروق، بتأثير أزمة صحية مفاجئة. كان في الخامسة والأربعين من عمره.
•••