قنبر عبد الودود
صعد إلى الجزيرة الصخرية، تسلَّقها. حدَّثه شحاتة عبد الكريم عن الفعل السحري لخيط الدم المتسرب من الصخرة، في أفق الأنفوشي.
توقف حيث أشارت الأيدي. حاول تبيُّن خيط الدم المتسرب من الصخرة. يعينه في الفعل السحري لاستعادة ما فقده.
لم يشاهد أثرًا لدم. أرجعه إلى خداع النظر.
عاود الصعود إلى قمة الجزيرة. يرنو إلى بحري: البيوت والمآذن والنخيل والشوارع المتقاطعة والساحات والميادين والحدائق وقصر رأس التين. يتلفت ناحيةَ الجوانب الثلاثة الأخرى. الفراغ — ما عدا تناثر قوارب صغيرة — يحيط به إلى نهاية الأفق.
لو أن عروس البحر أحبَّته. توافق أن يظل على الساحل، لا تصحبه إلى الأعماق. يأمرها، فتلبِّي ما يطلبه، مطالبه، تطلع له من قلب المياه. يعلو صوتها: ماذا تطلب؟ أو: شبيك لبيك، أو أنا خادمتك!
يتوسل، فترضى أن تُعيد إليه ملامحه. الجن دينهم الإسلام كما البشر وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.
ما أرهق تصوره أن جسم عروس البحر ينتهي بذيل سمكة. كيف تعشق البشر إذن، وتُضاجعهم؟
انطلق في اتجاه الشاطئ.
سار — في موازاته — على طريق الكورنيش، رنا إلى الأفق والبلانسات والقوارب الصغيرة، تأمل صيادي الجرافة والطرَّاحة والسنارة والجالسين على الكورنيش الحجري، والكراسي ذات المظلات، والمارة، وزحام الطريق.
بدا الأفق — أمامه — لا متناهيًا، يصل إلى أبعد مما يراه. لا توقعات، ولا بشر، ولا مدن. لا أي شيء غير ما يعرفه، ويحيا فيه، ويقف على شاطئه.
لم يلحظ الأمر في البداية، ولا أعاد الالتفات إلى المرآة. لكن ما يشبه غلالة الصدف غطَّت صلعة الرأس، وأعلى الجبهة. امتدت إلى قرب الأذنين.
أعاد النظر، لعل ما رآه بتأثير النوم، أو أنه يحلم!
فرك عينَيه، وحدَّق. ظلت الملامح الغريبة على ثباتها.
شهق بالخوف.
زاد خوفه لما جرى بطرف إصبعه على رأسه. بدَت الغلالة صلبة، كأنها أصداف حقيقية. لا يدري متى ولا كيف تكوَّنت؟ وهل هي مؤشر لمرض غامض؟ وهل يصل التغيُّر في ملامح الوجه إلى بقية الجسد؟ هل يضمر العنق، فيأخذ هيئة عنق السلحفاة، وتُغطي الدرقة الصلبة ظهره، وتَضعف ساقاه، فيزحف كالتِّرسة، ولا يقوى على الحركة إذا انقلب على ظهره؟
ما زاد من قلقه أنه كان يصحو على ركوب التِّرسة كتفَيه. يزيح — بتلقائية — ما توهَّم أنه قدما الترسة، أو رأسها، من فوق عنقه أو كتفه. يحلم، لعله كابوس — قبل الصحو — أنه حاول طرد التصاق الترسة بالتقافز، أو الجري، أو اللف حول النفس.
قال عمران الخولي فيما يُشبه الدعابة: أنت تدفع ثمن حرصك على كوب الترسة!
أهمل الدعابة في قول الخولي.
هل يكون كوب الترسة — كل صباح — هو السبب فيما جرى؟ وهل تمتد الأصداف إلى بقية جسده، إن ظل على عادته اليومية؟
كان الحاج جودة هلال قد نصحه بارتشاف دم الترسة. يعالج ما يعانيه من فقر الدم، ويمنع أمراضًا كثيرة. بدَّل موعد تردده على الحلقة.
لم يَعُد يقتصر على الأحد — إجازته الأسبوعية — غيَّر طريقه من البيت في شارع فهمي الناضوري، إلى قهوة الزردوني.
يعرف من المعلم بدوي الحريري موعدَ ركوب البحر، والعودة منه. يميل إلى الحلقة. يقف مع المحيطين بعربة اليد، حتى يخترق اللمبةَ رجلان يحملان الترسة من ساقَيها الخلفيَّتين، فلا تعض الأيدي. يضعانها على ظهرها، يدركان أنها — بهذا الوضع — لن تقوى على الحركة. سخونة الدم المنبثق من موضع حز العنق، تتصاعد بالبخار. تمتد الأيدي لملء الأكواب، قبل أن يفقد الدم سخونته، يتخثر ويصعب ارتشافه. يلاحقه البائع بالهتاف: مرة واحدة!
يرتشف كوب الترسة، ثم يعود إلى جلسة القهوة.
قال خليفة كاسب: ما جرى لك انتقام للترسة.
قال قنبر: ما ذنبي؟
– حرصك الغريب — كل صباح — على شرب دمها.
– هل كان ينتهي ذبحها لو أني لم أشرب الدم؟!
واتجه إلى الريس خلف زيدان: ألَا ترى عشرات الأكواب تحت ثقوب عربة الترسة؟!
استطرد في لهجة متصعبة: الكوب الوحيد الذي أتناوله … هل هو سبب اختفاء الترسة؟
قال خليفة كاسب: إذا رفض الناس شراء لحمها وشرب دمها، فلن تحاول البلانسات صيدها!
تحدَّث قنبر عن الأسباب الأخرى لانقراض الترسة: التوسع العشوائي بالقرب من الشواطئ، قتل أجنة الترسة بالعبث في الرمال، السير بالدراجات والموتوسيكلات وعربات اليد، وضع المراكب فوق مساحة الشاطئ، الأصوات والأضواء التي تضلل الترسة، فلا تنزل إلى البحر.
قال في تأكيد: أنت تتهم مَن نزل البحر بأنه لوَّثه!
حدَّق الريس بدوي الحريري في ظهر يد قنبر: الحمد لله، ما حدث في الوجه وحده.
قال قنبر: كل موضع في الجسد يمكن مداراته إلا الوجه.
ثم في لهجة تقطر حزنًا: هل أضع قناعًا؟!
– إذا كان ما حدث قد اقتصر على الوجه، فإن الشفاء ممكن.
نزل البحر، بنصيحة من شحاتة عبد الكريم. مضى حتى بلغت المياه عنقه. تعثَّرت قدمُه في الحصى والأعشاب. أدرك أنه على حافة الغميق. توقف، وغطس برأسه في الماء. كرر المحاولة بلا عد. توقف بألم في العنق.
في اليوم التالي، عاود السير داخل المياه حتى بداية الغميق. كرر ما فعله في اليوم السابق.
كرر المحاولة في الأيام التالية. طالعه وجهُ الموج بتغير ملامحه. هي ملامح الترسة، لم يطرأ عليها تحوُّل.
شغله الأمر في أثناء تمدده على السرير: هل يجري عليه ما يجري على الترسة؟
يعرف أن الترسة — إذا قلبت على ظهرها — تُعاني انعدام الحركة. لا تستطيع القيام، ولا تحريك أقدامها، ولا تقدر على التلفت. تبدو نائمة، مسكينة، بلا حول.
حاول القيام من تعمد النوم على الظهر. يعروه الخوف من أن يظل في موضعه، لا يستطيع الحركة.
نصحه شحاتة عبد الكريم أن يرتشف ما يساوي كوبًا من خيط الدم المنحدر من صخرة الأنفوشي. يستبدلها بدم الترسة. لا يعالج تحور الملامح، وإن أوقفه. تثبت الملامح على ما هي عليه.
للترسة درعها. لو غطَّى الدرع صدره، يستطيع أن يُداريَه بصديري الصيادين، أو بقميص. ربما يضع جلبابًا بطول جسده. ما أزعجه أن التشابه في ملامح الوجه: العينين المستديرتين، الملتهبتين، الأنف المتكور، العنق النحيل، المتغضِّن، المتداخل التجاعيد.
صَحِبه سويلم أبو العلا في قاربه، قبل أن يغطس قرص الشمس — بكامله — وراء الأفق، الموعد الذي حدده شحاتة عبد الكريم. تسلَّق الصخرة حتى موضع الثقب الذي يتساقط منه الدم. فتح فمه على آخره، وتلقَّى القطرات، تحمَّل السخونة في الفم والحنجرة. تراجع بالخدر، سرَى في ذراعَيه. عاد إلى القارب وهو يلوك الدم في فمه، لا يعبأ بتساقط القطرات على ثيابه.
هوَّن عليه الشيخ عبد الستار ما حدث، لا يأذن الله بشرٍّ ولا ضر إلا على سبيل الاختبار، أو الابتلاء.
عرف أنه يواجه خطرًا مجهولًا، لا يعرف طبيعته، ولا مصدره، ولا مداه. قنع بما قسم الله له. صبر على البلاء. اعتبره أزمة طارئة تزول بتوقفه عن ارتشاف دم الترسة. أدرك أن ما يُعانيه بتأثيرات يحملها دم الترسة، ولا يعرفها.
أبدى غريب أبو النجا شكَّه في أن يكون الدم الذي ارتشفه قنبر من جني تقمَّص هيئة الترسة. بعد حزِّ عنقه فوق عربة اليد، لمَّ أجزاءه المقطعة. عاد إلى هيئته الحقيقية، وإلى حيث يسكن في البحر، لكن التأثيرات التي أحدثَتها دماؤه في سحنة قنبر ظلت على حالها.
ما زاد في ألم قنبر، أنه بدأ يخاف من نفسه، من الملامح التي تتبدل وتتحور. لم يَعُد يُطيق الليل والظلمة. يحرص أن يضيء النور حتى لا يواجه ما يغيب عنه تصوره. وعوَّد نفسه أن يحلق ذقنه دون أن ينظر في المرآة.
أضافت النظرات المتطلعة، المتسائلة، المتحيرة، المستغربة، إلى إحساسه بالألم. ماذا ترون؟ هل تمتد سكاكينكم، فتجزَّ عنقي، وترشفَ دمى؟!
تمنَّى العيش في جزيرة بعيدة، لا يرى أحدًا، ولا يراه أحد. يتقوَّت مما يهبه له الله من رزق السماء والبحر والأرض.
•••
اسمه الحقيقي قدري عبد الودود. قَدِم إلى الإسكندرية من رشيد وهو في الثامنة عشرة من عمره. أقام عند خالة له في شارع السيالة. أمضى أيامًا في التعرف على الحي، والتردد على الدائرة الجمركية للبحث عن عمل. توسَّط له جودة هلال عند بدوي الحريري. ألحقه شيالًا في شونة الغلال بستاني. ثم ضمَّه الحريري إلى أطقم بلانساته، وأركبه البحر.
•••
لمَّا طال ابتعاده عن البحر، زاره المعلم بدوي الحريري. لم يجد في ظروفه ما يصدُّه عن الرحلة القادمة.
اطمأن إلى غياب التحديق في عينَي الحريري.
مضى — بهمِّ تدبير الوجبة التالية — إلى مرسى القوارب بالميناء الشرقية. أبحر البلانس إلى ما بعد السلوم. أهمل قنبر — بانقضاء الوقت — ما إذا كان الرجال قد فطنوا إلى الملامح الغريبة في وجهه.
صحا الرجال — فجر اليوم الخامس — على صيحة قنبر عبد الودود. عمَّق ظل المارد الهائل من ظلمة الأمواج الساكنة.
الروايات متعددة عن مارد يطالع السفن خارج البوغاز، طويل القامة، أعلى من صاري البلانس. يأذن للسفينة بالمرور، أو يهوي عليها بقبضة يده، فيُغرقها. ربما ابتلع السفينة. سواء كانت «بلانس» أو قاربًا صغيرًا، كأنها لم تكن. يمتلك من القوة ما لا يمتلكه البشر. لا تستطيع الضربات — مهما أجادت التصويب، أو بلغَته من القوة — أن تهزَّ وقفته العملاقة، أو تصيبَه بالأذى. تلتقي من حوله التيارات، وتتشابك. تُحدث ما يُشبه الدوامة الهائلة. تجتذب السفينة، تدور بها، حتى تبتلعها تمامًا. مَن يجد سفينته بين ساقي المارد، فإن نجاته في تلاوة آيات القرآن، والأدعية، والابتهالات، وفي رحمة الله، وشفاعة نبيه، وأوليائه الصالحين.
تصاعد المارد من قلب الماء. أطلق صيحات رهيبة، اهتزت لها الأمواج والريح والسحب. اتجه ناحية البلانس من نتوء صخري، متصاعد من المياه. ارتفعت صرخات ركاب البلانس واستغاثاتهم في مواجهة الخطر المحتوم. ألقى غالبية الركاب بأنفسهم في قلب الأمواج المتلاطمة، وحاولوا الاختفاء وراء الصدوع الصخرية البعيدة. لكن يد المارد الطويلة حطَّت على الأجساد، تقذفها في الفم المفتوح.
لم يَعُد في البلانس مع قنبر إلا ستة صيادين، رضُوا بالمصير المقسوم.
رفض قنبر أن يبتلعهم المارد في جوفه. أمر، فقذف الرجال المتبقون بكل ما على البلانس من صواري وقلاع ومعدات وأخشاب. اتسعت مساحة الفوضى، فاطمأن المارد إلى غرق البلانس. عاد إلى حيث يقيم في قلب الأمواج، ومضى البلانس — بركابه السبعة — ناحية الساحل.
أرجع الأسطى عمران الخولي ما حدث إلى بركة تراب المقام التي حصل عليها من مقام أبي العباس، وإن حرص أصحاب البلانسات — من يومها — على خروج قنبر عبد الودود في رحلات خارج الإسكندرية. يطمئن البحارة والصيادون للخروج معه. يرحلون إلى السواحل القريبة، والبعيدة، لا يشغلهم إن رحل البلانس إلى أعالي البحار.
•••
وهو يميل من شارع السعارنة إلى شارع الميدان، أغمض قنبر عبد الودود عينَيه بالتأثر، لتناهي صوت الرجل يهتف فيمن لم يره: تظن نفسك قنبر؟!
•••