المارد
اختلاف المارد عن بقية مخلوقات العالم السفلي، في أن الجن الذكر هو جن، والجن القرين — الذي يشارك الناس حياتهم — هو عامر. فإذا ظهر للناس في شكل ما، فهو روح. أما إذا مال إلى الأذى وأفعال الشر فهو شيطان، ومن زاد على ذلك فهو مارد.
يقول ابن منظور في تفسير كلمة «مارد» «هو العاتي الشديد». وتقول الموسوعة: «الغول أو المارد حيوان خرافي، اعتقد فيه العرب الجاهلون، وهو عندهم من الخوارق. ورُوي أن بعض الآدميِّين تزوَّج من إناث الغيلان. ومما يشير إلى وجود علاقة بين هذا الحيوان الخرافي وبين الأساطير والديانات القديمة، ما يُروى عن علاقته ببعض الظواهر الطبيعية كالبرق والرعد. والمشهور أن الغول يهلك بضربة واحدة من السيف، فإذا ضُرب الثانية عاش …»
يسمِّيه أهل بحري الغول، وهو شر أنواع الجن. يُقدِم على أفعال الأذى والقتل، والتهام ما يقوى على التهامه.
سمَّاه المتعلمون من أمثال خليل الفحام وحجازي أيوب وخليفة كاسب، العملاق، وسماه المشايخ وشيوخ الحلقة وقباطنة البلانسات، المارد، وهو الغول في تسمية بقية أهل بحري. سماه جودة هلال رجل البحر. وجد في تسميات المارد والغول والعملاق ما يُثير الخوف.
صار المارد هاجسًا لأهل بحري. يُقلقهم ترامي صوته، ويتابعون ما يُروى عن ترصده للسفن التي تغادر البوغاز، أو تدخل منه.
إذا اقترب البلانس من منطقة ما بعد البوغاز، صعد صياد إلى أعلى البلانس، يحاول أن يتبين ما إذا كان للمارد أثر.
الضباب يتكثف خارج المنطقة. يُضفي على المرئيات شحوبًا، فلا تبين عن ملامحها ولا قسماتها. تترامى صفافير البواخر التي تتأهب للإقلاع، أو لدخول الميناء.
يبطِّئ البلانس من انطلاقه، أو يتوقف تمامًا. لا يعاود الانطلاق بسرعة، إلا إذا هتف الصياد من أعلى الصاري: ألسطة.
تترامى رائحته إلى مسافة بعيدة، يتشممها الصيادون والبحارة، يحاولون تبيُّن موضعه. يهجر البحارة سفنهم، ويترك الصيادون شباكهم في قلب المياه. لا يحاولون جذبها. يبتعدون عن المكان. حين يميزون صوت المارد في تراميه من موضع قريب. مَن يجازف بالمرور دون أن يضع المارد في باله. يجازف بحياته، وحياة كل من معه.
يحدسون — من توالي صيحات المارد — ما إذا كانت النوة تواجه سفينة، أو شخصًا.
فرض مخافته إلى ما بعد الإسكندرية بمسافة، إلى حيث تُطل موانئ ومدن بعيدة.
هل له عائلة؟ هل له زوجة أو زوجات؟ هل له أبناء أو أحفاد؟ هل يحيا بمفرده، أو يتصل بمن يعيشون بالقرب منه، أو في أماكن بعيدة؟
قال غريب أبو النجا إن المارد ليس وحشًا بحريًّا، لكنه من الجن، يمتلك خصائصها، وقدرتها على الأذى بالإيماء دون فعل جسدي. تلاوة آية الكرسي والفاتحة والصمدية، تكفل تقييد الجن في موضعه، وإيقاف أذاه.
تعدَّدت الحكايات حول رؤية المارد.
قال السعداوي شبانة: إنه يُشبه الإنسان تمامًا.
قال غريب أبو النجا: هو إنسان مضروب في أربعة أو خمسة.
أخفق الجميع في تبيُّن تكوينه الجسدي، وما إذا كان في هيئة البشر، أم في هيئة مخلوق ينتمي إلى البحر؟
قال الغواص عبد الصمد كسبة إن للمارد هيئة آدمية، وإن اختلفت سحنته عن سحن البشر. تتقاذف كرات النار من فمه المفتوح، يرافقها دخان كثيف يغطى ملامحه، وما حوله.
وقال الصياد صادق أبو المعز إنه لمح نظرة المارد. لا تبين عن اتجاه معين، كأنه يحيط كل شيء بنظرته التي لا تثبت.
لم يحدق فيه غريب أبو النجا جيدًا، وإن لاحظ — من هيئته — أنه لا يمكن أن يكون سمكة. هو مخلوق ينتمي إلى البحر، لكنه ليس من الأسماك، يتصاعد من قلب دخان، اختلط فيه السواد بالبياض. أنفه ينفث اللهب. صدره يتغطى بالشعر الكثيف. أصابع يدَيه وقدمَيه متصلة بغشاء جلدي، كذلك الذي يَصِل يدَي وقدمَي الإوزة. لصوته صخب النوة في عزها، أو كأنه الرعد المنذر بسقوط المطر. إذا أطلق صيحة، اهتزت لها السفن البعيدة، كأنها اصطدمت بعاصفة. قد يلجأ مَن يؤذيه صوته إلى وضع إصبعَيه في أذنَيه.
روى السعداوي شبانة أن المارد حين يريد أن يأكل سمكًا غير نيِّئ، يمد يده إلى الأعماق، ويخرج بسمكة هائلة. يعلو بها في مواجهة الشمس حتى تشويَها، فيأكلها. ربما فعل الأمر نفسه إذا التقطت يدُه بشرًا من فوق الأمواج، أو من داخل سفينة عابرة.
ثم وهو يعبر بيدَيه، إنه شاهد المارد يبتلع سفينة — متوسطة الحجم — بركابها.
هل قامته — كما روى بدوي الحريري — بارتفاع ثلاثة طوابق من بناية قديمة؟ هل يخرج الدخان من فمه ومنخارَيه وعينَيه وأُذُنَيه ودبره، وتنفسه أشبه بالشخير؟ هل حدقة العين الوحيدة في منتصف جبهته قطعة جمر؟ هل يقوى فكَّاه على ابتلاع قارب صغير؟ هل يغطي الشعر جسده، وتطول أظافر يدَيه وقدمَيه، في هيئة المخالب التي تمزِّق الأجساد أشلاء؟
تراءت لضياء خير الله صورة المارد في فيلم السينما: هل هو مثل كينج كونج؟
قال قنبر عبد الودود: لا تشبِّه الخيال بالحقيقة. مارد البحر حقيقة!
قال غريب أبو النجا إن الموت هو مصير مَن يراه المارد. مَن لا يُفلح في المرور من بين ساقيه، تلتقطه يده، أو تدوسه قدمه، أو يشل حركته بنظراته النارية. يأكله — في النهاية — يقضمه، يمضغه، يلتهمه.
ربما حمل الشخص، ورفعه بيده إلى آخر ما يستطيع، ثم يتركه، فيغوص — بردة الفعل — في أعماق البحر، أو يتكسر على الصخور المتناثرة.
للمارد موضعه — الذي لا يبتعد عنه كثيرًا — بالقرب من البوغاز. عينه الوحيدة تحرق مَن تُسلِّط نظراتها عليه. رؤيته تعني الموت. لا يُفلت مَن تقع عليه عينه. في شعر جسده ما يُشبه المغناطيس، يجتذب المراكب والبشر. حتى السفن العابرة إن أطال التحديق فيها، اشتعلت بالنيران مرة واحدة، لا تترك فرصةً لمحاولة إطفائها. يصطاد السفن العابرة، يحطم السفن الكبيرة، أو يقضمها. يبتلع البلانسات الصغيرة والدناجل واللانشات والفلايك. مَن ينوي الإمساك بهم، لا يستطيعون الابتعاد عنه، ولا الإفلات من قبضته. الخطوة الواحدة من قدمَيه تساوي مئات الخطوات التي يقطعها البشر. إذا وطأَت قدمُه مركبًا، تطايرت أجزاؤه على هيئة قطع صغيرة، تناثرت في مساحات من المياه.
المياه — حين يقف — لا تعلو على ركبتَيه، كأنه عمود هائل، أسود، ينبثق من قلب البحر إلى أعلى الجو. يبدو البحارة والصيادون تحت ظله الهائل أشبه بالأصابع الصغيرة، الظل كأنه ستارة داكنة، تبدو المرئيات وراءها شاحبة. يضع أصبع قدمه على طرف الباخرة. تتطقطق، وتميل على جنبها. تقتحمها المياه، فتملؤها تمامًا. تبدأ في الغوص داخل الأعماق.
لم تَعُد السفن — كبيرها وصغيرها — تأمن السير في منطقة البوغاز.
إذا لمح المارد سفينة، فإن الدمار مصيرها، يلحقها بأنفاسه المشابهة للريح العاصفة، تقلب السفينة، وتغرق مَن فيها. رُوي الكثير عن النوات التي أحدثها المارد لاجتذاب السفن البعيدة، حتى يُتاح له من الزمن ما يَصِل به إليها.
لم يكن يكتفي بالاعتراض، ولا التخويف، لكنه كان يُضيف إلى طعامه من مخلوقات البحر. كل ما تحمله السفن التي يُغرقها.
قال سويلم أبو العلا إن صوت الأنين أو النواح الذي يترامى بالقرب من موضع وجود المارد، هو أرواح القتلى الذين صرعهم، أو التهمهم. تظل في الموضع، تستغيث بمن يتحدى المارد، يطرده، أو يقضي عليه. تظل في نواحها حتى يأتيَ مَن ينتقم لها.
رُوي أن حياة المارد في منطقة البوغاز هي بأمر من جنية البحر، كبيرة الجنيات، لها بهاؤها وحسنها الدائم. لا ينقضي بكثرة الإنجاب، ولا توالي السنين، كأنها شربت ماء الخلود، فتظل في عمر الشباب.
زاد غضبها بضربة الخنجر التي قذفها بها كرم حامد. اتجهت بعدائها إلى ناس بحري. اختارت للمارد موضعه خارج البوغاز. ينال بأذاه مَن تميزهم من أهل بحري. لإيماءة فعله صوتٌ يعرفه. يترك ما لا تحرِّضه على التهامه.
هذه المساحة من البحر مملكته. هو الملك والرعية، لا يخضع إلا لما تأمره به جنية البحر. هي سيدة كل البحار. ما تأمر به يلبِّيه كلُّ مخلوقات الأعماق.
قَدِم المارد — بأمر من الجنية — من أعماق البحار البعيدة. وقفتُه وتحرُّكُه ونومُه في المدخل المفضي إلى مدن الأعماق. تنشق الأمواج الساكنة عن جسم عملاق يتصاعد في الفضاء كنافورة، يرفع الأمواج معه، تعلو، وتهبط، كالسيل. يلتقط البلانسات والدناجل واللوتسات والفلايك التي يشك فيمن يستقلُّها، وما يُضمره.
إذا التقطت عينُه الوحيدة في منتصف الجبهة، نظرة شخص، اجتذبَته تمامًا. عراه صمتٌ أو ذهول. لا يملك التحول عن موضعه، سواء كان في قارب بمفرده، أو وسط جماعة. من المستحيل أن يقاوم، أو يبذل أيَّ جهد للفرار، كأنه نائم، أو أصابه إغماء. قد يلتقط الرجل بين سبَّابته وإبهامه، يقرِّبه من عينَيه، يتأمله، يتشمَّمه بمنخارَيه. ثم يقذف به إلى فمه.
•••
مضى الصياد الحسيني زهران بقاربه ناحية البوغاز، أطال التوقف والتلفت في المنطقة التي قالت الروايات إن المارد اختارها.
تتحدث الحكايات عن القمقم الذي خرج منه المارد. هل لمارد البوغاز قمقمه الذي يعود إليه، فتُغلق عليه السدادة؟
انشقت المياه.
خرجت منها يدٌ غير آدمية، لها أظافر كالمخالب، تصاعد الجسد المتصل باليد. ساقاه — حين وقف — كساقَي شجرتَين متجاورتَين، شعره الكث، الطويل، يجرُّه على الأرض، جسدُه مغطًّى بالأعشاب والطحالب. أصابع يديه مخالب حيوان، صوته كالرعد، التماعُ عينَيه كوميض البرق، أنفاسه كالريح العاصفة.
التقطه المارد من فوق القارب. نقله من يد إلى أخرى. وضعه على رأسه. قذف به في الهواء، واستعاده. ظل يلعب به، يلاعبه، حتى أدركَه الملل، أو أنه أشفق على الحسيني فأطلقه. لم يصدق أنه حصل على حياته، وهو يحرك المجدافين — في اتجاه الشاطئ — بآخر ما عنده.
•••
حذَّر بدوي الحريري من أن المارد له وليفة. إن التقى بها، وضاجعها، أنجبا العشرات من المردة. يستوطنون المياه المحيطة بالإسكندرية. يبتلعون البشر والشوارع والأبنية والمدن. شدد الحريري على ضرورة قتل المارد بوسيلة ما، أو إبعاده إلى خارج البوغاز، فلا يعود.
اكتفى أهل بحري — من تحذير الحريري — بهز رءوسهم.
يعرفون أن المارد مثل الموت، لا سبيل إلى الفرار منه.
حاول الصيادون والبحارة أن يتصدوا له. حذَّرهم الحريري من أن الخواص السحرية التي يمتلكها المارد، تمنع اختراق الرصاص جسده، أو احتراقه بالنار. يؤذي ولا يؤذَى. يقتل، ويلتهم، ومن الصعب أن تُلامسَه يدٌ بشرٍّ.
حين وجَّهوا قذائفهم ناحيته، تملَّك الغضب المارد، تطوَّحت يداه وقدماه. علَت صيحاته المرعبة، المخيفة، كأنها قصف الرعد، أو سقوط حجارة من فوق جبل، أو انبثاق بركان في أعماق البحر، تحوَّل إلى ما يُشبه شجرة الجزورينا العالية. تختلط الملامح في أوقات الغروب والظلمة. نفث اللهب والدخان الأبيض من فمه وفتحتَي أنفه. حرَّك الأمواج من حوله في دوامات متلاحقة، ابتلعت المراكب القريبة من المكان.
وضع شحاتة عبد الكريم عملًا يلامس جسد المارد، فيسقط كطلل. لم تجد الفكرة مَن ينفذها، فظلت كالأمنية.
أعد الأبجر لقتل المارد. يتسلق ظهره، ويضربه — بخنجر مسموم — في عنقه، أو كتفه، ضربات نافذة، متوالية.
أطال التحدث في التفصيلات، وما ينبغي فعله، حتى لا ينتبه المارد، فتحدث الكارثة.
وهو في القارب — قبل أن يبلغ البوغاز — عدل الأبجر عما اعتزمه، وعاد إلى المرسى.
أعاد شحاتة عبد الكريم القول: ليس في الدنيا سلاح يمكن أن يقتل المارد. به سحر يمنع عنه الموت.
قال غريب أبو النجا: لكن كل كائن حي لا بد أن يموت!
– ما أعرفه أن مخلوقات العوالم السفلية لا تموت. المارد من هذه العوالم.
لم يَعُد الكثير من راكبي البلانسات واللنشات والقوارب يمرون أمام المنطقة خارج البوغاز، أو يقتربون منها. يتجنبون الموضع الذي يعيش فيه. فرض الخوف نفسه بتعدد الروايات، عما يلحقه المارد من الأذى بالعابرين، أو تسبقهم التحذيرات بأن يبتعدوا عن المنطقة.
قالت علية عشماوي إن كرم حامد هو الشخص الوحيد الذي يمتلك من الشجاعة والمكر ما يواجه به المارد. قد لا يقتله، لكنه يستطيع — بحِيَله التي لا تنفد — أن يُبعده عن منطقة ما بعد البوغاز. يُتيح للسفن أن تغادر الإسكندرية، وتعود إليها، دون أن تخشى خطر الموت.
•••