محمد كاظم ميلاني
الإسكندرية في عام ١٩٠٢م.
مضى عشرون عامًا على الاحتلال الإنجليزي لمصر. القوات الإنجليزية في معسكراتها أعلى مرتفع كوم الدكة، وفي الميناء الغربية، ومصطفى باشا. البلاد بلا أحزاب، والوزارة برئاسة مصطفى فهمي باشا. وباء الكوليرا يجتاح المدن والقرى المصرية. أرصفة المواني تستقبل — كل يوم — عشرات العمال الأجانب، فرارًا من الاضطهاد العثماني في دول الشام وأرمينيا واليونان، وبحثًا عن المغامرة والثراء، وفرص العمل الغائبة في فرنسا وإنجلترا وإيطاليا، وغيرها من بلاد أوروبا. الرواية تُنشر في باب الطرائف. غالبية الأدباء ينظرون إلى القصة بعين الرفض. الفنون التشكيلية — قبل أن تنشأ التسمية — عيب، أو حرام. تسمية الفنون التشكيلية غير موجودة في حياتنا. المناقشات دائرة حول فتوى الإمام محمد عبده بأن وَضْع التماثيل في الميادين العامة ليس حرامًا، المقصود هو تمثال محمد علي باشا، يمتطي صهوة جواده، في الميدان المسمَّى باسمه. ارتقَت الألحان والأصوات المطربة، وزاد الإقبال على سماع الموسيقى والغناء. واعتاد الكثيرُ من الأُسَر مشاهدةَ العروض المسرحية، وحضور حفلات الرقص الأوروبي، وقدمت أول عروض سينمائية على مسرح الهمبرا. البيوت المطلة على البحر تُعاني مدَّ الأمواج، لا يصدُّها حواجز من أي نوع. تواصل تشييد البيوت على النسق الأوروبي. الشوارع الرئيسة مرصوفة بمستطيلات البازلت. أَلِف الناس القطار والبخار. السيارة تحل — بالتدريج — محل الجواد. بدأ خط الترام بين محطة الرمل ومنطقة بولكلي في استخدام الكهرباء. أول إنشائه في ١٨٦٣م بمركبات تجرُّها الخيول، تحوَّل — بعد أشهر — إلى استخدام البخار. شركة ليبون تزوِّد البيوت بالكهرباء. المياه النقية تَصِل إلى أحياء وسط البلد. الحنفية العمومية تعددت في الساحات الخالية. الرجال والنساء يستبدلون بالجلاليب والملاءات اللف والعباءات واليشمك واللبدة والطربوش والفستان. سلامة حجازي يرفع الأذان من مئذنة البوصيري. الرواة يقرءون السير الشعبية على المقاهي، وفي الخلاء. الأدباتية يرتجلون القصائد الشعرية والزجلية. المناقشات لا تنتهي في حلقات السياسة والأدب داخل المقاهي المحيطة بجامع أبي العباس. الأفندية والمتعلمون يتابعون خطب مصطفى كامل في تياترو الهمبرا، غالبية الأحاديث عن الأزمنة وفسادها، والساعة وأشراطها. معظم الصحف تطبع في المدينة، ٨٢ جريدة ومجلة من مجموع ٣٤٤ دورية في مصر كلها، تتحدث عن مئات الآلاف من المصريين الذين يسهرون الليالي في موالد الأسياد والأولياء، وعن إعراض الكثير من الشبان عن الزواج لسهولة ممارسة البغاء، وعن المرأة المتحدثة، الغارقة في زينتها، السابحة في أهوائها، التي ترتدي الملابس الفارهة، وتتنزه في الحدائق، وتشاهد المسارح. تعيب على ما تشهده البلاد من مساوئ التمدن: التحرر من التقاليد والآداب، مجاراة الأوروبيِّين، التمتع باللذات، كثرة السهر والسمر في الحانات والمراقص والملاهي، مغازلة الشبان للفتيات بصوت مسموع، إقبال طلبة المدارس على التدخين. قعدات السمر — داخل البيوت، وفوق الأسطح — تناقش ما أثاره كتاب قاسم أمين «تحرير المرأة». في ١٩٠٠م أصدر قاسم أمين كتاب «تحرير المرأة». وتولَّت نشره دار الترقي للطبع والنشر. على الرغم من أن عدد نسخ الطبعة الأولى لم يَزِد عن ألف، فقد ظلت في المكتبات عدة أعوام قبل أن تنفد.
•••
حدد قاسم أمين دعامتَي التحرير الحقيقي للمرأة بأنهما: التعليم ونزع الحجاب. وذهب إلى أن «تربية النساء أهم من تربية الرجال في الهيئة الاجتماعية»؛ لأنه يجب أن يكنَّ عظيمات وفاضلات ليكون الرجال عظماء وفضلاء؛ لأن «الرجال يكونون كما تريد النساء». وقال: «لست ممن يطلب المساواة بين المرأة والرجل في التعليم، فذلك غير ضروري، وإنما أطلب الآن، ولا أتردَّد في الطلب، أن توجد هذه المساواة في التعليم الابتدائي على الأقل، وأن يُعتنَى بتعليمهن إلى هذا الحد، مثل ما يُعتنَى بتعليم البنين.» وفنَّد قاسم أمين ما كان مستقرًّا من ادعاءات بأن الإسلام فرض الحجاب على المرأة، وأكَّد أن القرآن والسنة أباحا تغطيةَ المرأة لكل جسمها، ما عدا وجهَها وكفَّيها. وأفاض في شرح عيوب الحجاب، وأنه يُضعف الصحة، ويمنع المرأة من تلقِّي العلم، بل إنه قد يمنع الخطيب من رؤية خطيبته، فيكثر الطلاق: «إن المرأة التي تحافظ على شرفها وعفَّتها، وتصون نفسها عمَّا يوجب العار وهي مطلقة غير محجوبة، لها من الفضل والأجر أضعاف ما يكون للمرأة المحجوبة، فإن عفة هذه قهرية. أما عفة الأخرى فهي اختيارية، والفرق كبير بينهما، ولا أدري كيف نفتخر بعفة نسائنا، ونحن نعتقد أنهن مصونات بقوة الحراس، واستحكام الأقفال، وارتفاع الجدران؟!»
طالب قاسم أمين أن يتم ما دعا إليه بالتدريج وليس بالطفرة. لم يدعُ إلى رفع الحجاب بصورة مطلقة، لكنه نادى بما أسماه «الحجاب الشرعي» «ربما يتوهم ناظر أنني أرى الآن رفع الحجاب بالمرة، لكن الحقيقة غير ذلك، فإني لا أزال أدافع عن الحجاب، وأعتبره أصلًا من أصول الآداب التي يلزم التمسك بها. غير أني أطلب أن يكون منطبقًا على ما جاء في الشريعة الإسلامية هو الحجاب الشرعي، وهو الذي أدعو إليه، كشف المرأة وجهَها وكفَّيها. ونحن لا نريد أكثر من ذلك.» وأكد الكاتب أن الإسلام لا يشكِّل عقبةً في طريق حصول المرأة على حقوقها «ولو كان لدين ما سلطة وتأثير على العوائد، لكانت المرأة المسلمة اليوم في مقدمة نساء الأرض»، بعكس الديانة المسيحية — مثلًا — التي لم تضع — في رأي قاسم أمين — نظامًا يكفل حرية المرأة، ويبيِّن حقوقها. أما السبب الحقيقي في تأخر وضع المرأة في المجتمعات المسلمة، فمبعثه النظم المستبدة سياسيًّا واجتماعيًّا، وتأثيرها على الدين.
في ذلك العام، أصدر محمد كاظم ميلاني رواية «السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين». أراد — كما قال في تقديمه للرواية — أن يناقش دعوة قاسم أمين، وما لقيته من ردود أفعال.
•••
قدم الراوي/الكاتب نفسه بأنه وُلد من أب إيراني وأم مصرية، فضلًا عن انتساب الأم إلى ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب. قبل أن يتم المرحلة الابتدائية (١٣٠٥ هجرية) ألزمه والده العمل في الدكان الذي يملكه بسوق الطباخين، الموازي لشارع الميدان. يصفه الكاتب بأنه أهم مركز تجاري للبضائع الشرقية: الأبسطة والشيلان وغيرها.
أُنشئت سوق شارع الميدان في أواسط القرن التاسع عشر. صورته — قبل ذلك — مجرد بنايات قليلة، تعلو دكاكين صغيرة، متناثرة، وحركة المرور متثائبة.
كانت سوق الطباخين واحدة من الأسواق المتقاطعة، والمتوازية، مع شارع الميدان، ثم أُزيلت نتيجة عمليات الهدم والبناء، أو استبدلت بها تسميات أخرى، نتيجة غياب حِرَف، ونشوء حِرَف أخرى، مثل سوق المغاربة، وسوق الترك.
فضَّل الكاتب — بعد فترة — أن يتخذ لنفسه دكانًا ملاصقًا لدكان الأب، جلب إليه أنواعًا من الخردوات والأحجار الأصلية والتقليد والأصناف الإسلامبولية والإفرنجية، وعُنيَ بلوازم النساء الحديثة.
إذا كانت الظروف قد أجبرت الصبي كاظم على أن يهجر الدراسة، فإنه — على حد تعبيره — لم يترك المطالعة «ولا آن، وما كنت أسمع عن جمعية إلا وانضممت إليها، ولا عن طغمة إلا أنالها، ولا عن جريدة إلا طالعتها، ولا مجموعة إلا ذاكرتها.» وثابر الراوي/الكاتب على القراءة في اللغات العربية والتركية والفارسية والفرنسية «لم أترك فيها المطالعة عند الفراغ من الأشغال، ولا طلب الراحة من الأيام والليالي.» قرأ كل ما صادفَته يداه في مكتبة أبيه: مروج الذهب، الأغاني، العقد الفريد، الكامل، المحاسن والأضداد، المفضليات، ديوان الحماسة. وقرأ قصص حمزة البهلوان والأميرة ذات الهمة وعلي الزيبق المصري ووقائعه مع دليلة المحتالة وابنتها زينب النصابة.
ظل الراوي/الكاتب في عمله، إلى اللحظة التي أمسك فيها القلم، وبدأ في كتابة روايته.
ذات صباح، دخلت الدكان فتاة «كأنها حور الجنان»، تغزل الراوي في جمالها بأبيات من الشعر. كان يتبعها خادم وخادمة «حسب عادة أكابر السيدات» إذا خرجنَ لقضاء مهمة في الذهاب والعودة. وحين تكلَّمت لتطلب ما تريد أضاعت بعذوبة لفظها حواسه «ما سمعت بأفصح وأرق منه كلامًا، مهما اجتهد الأصمعي أو أبو تمام».
ظهرت الفتاة في حياته ومضَت كأنها حلم، وتحولت — في اللحظة التالية — إلى شاغل له في الصحو والمنام. أخذت عليه حياته، فهو لا يفكر إلا فيها.
أمضى الشاب أيامه التالية متنقلًا بين الأسواق والدكاكين، يمنِّي النفس بلقاء فتاته، حتى تصوَّر أنها ليست حقيقة، وأنها لم تكن من البشر، أو أنها ملك من السماء. وبعد أن أوشك على اليأس من لقائها، لَزِم دكان جواهرجي في ممر بشارع الضبطية. جعله موضعًا يراقب منه حركة الطريق، لعله يلتقي بفتاته.
لمَّا أخفق الشاب في العثور على فتاته في مدينة الإسكندرية، أزمع أن يترك المدينة إلى القاهرة، ربما قَدِمت المحبوبة منها لقضاء إجازة الصيف. وأقام في العاصمة ضيفًا على صديق له هو «عارف»، يقضي طيلةَ النهار في البحث عن محبوبته، ويتعرف — في الوقت نفسه — على مشاهد وتصرفات لا تُهملها ملاحظاته.
روى الشاب لصديقه عارف حكايته منذ زارت الفتاة دكانه، واختفائها كأنها لم تكن.
عرض عارف على الراوي أن يصحبه إلى بعض الأماكن التي قد تتردد عليها فتاتُه للتسوق أو للنزهة.
كانت تلك فرصةً للراوي كي يشاهدَ ويتأمل ويُبديَ الملاحظات، بل ويُعلن انتقاده للعديد من الظواهر السلبية. رجَّح عارف أن تكون الفتاة «من وجوه المصريات»؛ فزيارتها إلى الإسكندرية لقضاء إجازة الصيف. واقترح عارف على صديقه أن يلزم نقطة في شارع الموسكي الموصل للسكة الجديدة، أمام محل الخواجة سمعان، والذي تتردد عليه أعدادٌ كبيرة من النساء لشراء احتياجاتهن.
لزم الراوي الموضع الذي حدده صديقه، لم يتركه من الصباح إلى المساء، ثم صحبه عارف إلى الأزبكية للقاء بعض الأصدقاء.
طرق محمد كاظم باب حجرة الشيخ سلامة حجازي في كواليس مسرح إسكندر فرح: ألَا يعد التشخيص حرامًا؟ … وهل يوافق الشرع على وقوف المرأة فوق خشبة المسرح؟
قال سلامة حجازي: حتى الغناء لم أمارسه إلا بعد أن استفتيتُ العلماء!
– الغناء يختلف. التشخيص حرام، وسفور المرأة أمام الغرباء حرام!
طالت ملاحظات الراوي على ما شاهده من تسابق «في مضمار الملاهي وسوء المنقلب». واتجهت الجماعة — بعد ذلك — إلى أحد المسارح «مارستان من الصراخ والضحك والشخر والنخر والهذيان».
في صباح أحد الأيام، ذهب الراوي إلى الموقع الذي حدَّده له عارف في ناصية الممر. طالعَته مواكب ما يسمَّى بمولد الفار. وهي مواكب تمرُّ من شارع محمد علي إلى مسجد السيدة نفيسة، تتمةً للاحتفالات بمولد حفيدة الرسول.
ينتقد الراوي الزحام والتصاق الأجساد وحركات البغي والضلال والصخب والصياح … إلخ. ويتساءل: «أترضى السيدة الطاهرة — في يوم احتفال مولدها — بهذه الأفعال الشنيعة؟ … كلا! وألف كلا! … فما هي وجدها إلا غاضبون يتبرءون من هذه الأمور الفظيعة فندمت لرؤيتي هذا الموكب، وهذا الفجور، ورجعت آسفًا على حالنا وتقهقُر الأمور. فلماذا ضعفت عقائدنا وقمنا نقلِّد الأجانب؟ ولماذا تركنا الفضائل واتَّبعنا المصائب؟ وكلما رأينا في الغربي عادةً قبيحة تمسَّكنا بها وتجنَّبنا المليحة؟» إلخ.
ثم يعيب الراوي اختلاط اللغة، وما يُحدثه من اختلاط الطباع. ويتأمل أحوال علماء الدين الذين ضاع احترامهم — على حد تعبيره — بين الناس، وأصبح لا همَّ لهم إلا الكسب والتداخل مع الأمراء والأعيان لحضور الولائم والأفراح.
يصحب كاظم صديقه عارف إلى عرض لمسرحية هملت التي قدَّمتها جوقة إسكندر فرح، وقام ببطولتها «الشيخ سلامة حجازي الصييت الشهير».
يدين الراوي الحضارة الغربية التي حاول البعض من الذكور والإناث تقليدها؛ فمن «شروط حضور التمثيل وسُننه المتبعة، أن تكون صدور السيدات عارية، ونهودهن بارزة غير ممتنعة»، «وكل فرد يشير لمن يغازلها وتغازله».
يتسلل طيف الحبيبة إلى نوم الراوي فيحلم بها. ظهرت الحبيبة كسحابة رقيقة، أو كملك. وانتفضت، فإذا هي المحبوبة المفارقة. سألها الوصال، فأرجأت كل شيء إلى حينه. وصحا من نومه. وينصح عارف صديقه — إشفاقًا لما آلت إليه أحواله — أن يزورا حلوان «فاصرف عنك هذه الأحزان، وهيا معي سوية لنرى مدينة حلوان.» وتصادف عيناه الخادم الحبشي الذي رافق الحبيبة حين زارَته في الدكان. وعرف منه أن أسرة الفتاة تقضي الشتاء في حلوان. كانت مشتى! وتقضي الصيف في الإسكندرية. وأخبره الخادم باسمها «وحيدة»، وهي وحيدة أبوَيها. عانت — لفترة — من مرض يهدد حياتها، ومن ثَم كان تنقُّلها بين الإسكندرية وحلوان. وتوسل كاظم بتجارته للحصول على موعد من وحيدة ليعرض عليها ما قد ترغب في شرائه. اقتنى من السوق بضائعَ جميلةً حدس أنها ستروق لفتاته، واتجه إلى الدار التي وصفها له الخادم الحبشي. دخل قاعة الاستقبال، وبعد تناول القهوة طلبته السيدة للداخل. كانت رجلاه كأنهما شعلة القنديل في هبات الهواء، أو كأنه مريض فارق الفراش، تغلَّب عليه الضعف فلا تحمله ساقاه من التخاذل.
التقى — أخيرًا — بحبيبة عمره. تُفاجئه الحبيبة بأنها أميل إلى ممارسة الحرية بموافقة والدَيها «وقد صرَّحا لي أن أستعمل التفرنج وأسير على هواي، وأخرج بغير مئزر وحجاب حسب مشتهاي، بخلاف ما يجب على ذوات الحجاب من فرائض العفاف، والتمسك بفضيلة التمنع من مخالطة الرجال والاستخفاف، والشاهد على قولي هذا طلبي مقابلتك هنا بتمام الحرية، مع عدم جوازها عند أغلب المسلمين المتمسكين بالقواعد الأصلية. فما هذا الذنب وهذا التعود مسئوليتهما عليَّ، بل الذنب كل الذنب على والدَيَّ، لأنهما أباحا لي هذا التصرف وعوَّداني متابعته، بعدما استصوبا رأي فلان المنادي برفع الحجاب (قاسم أمين!) ولزوم مخالطة الإناث بالرجال.» ويتساءل الراوي — بينه وبين نفسه: كيف تبدأ الفتاة بإظهار حبِّها له قبل أن يُبادئها هو بذلك؟
لمَّا رأت الذهول تملَّكه، قالت: «لا تستغرب حالتي؛ لأني أرى الصدق دائمًا يجب. وما خروجي لهذا الحد إلا من الصداقة، فلا أرغب في التملُّق ولا لي بها علاقة، فما أشعر بشيء في الضمير إلا وأظهرته، وما أرى من واجب إلا واستعملته. وهذه من بعض محاسن الحرية التي تعوَّدتها، وعن والدَيَّ الشفيقَين أخذتُها.»
كانت الفتاة إذن تنفذ ما يطلبه الأبوان دون أن تقتنع هي بذلك، سارت في تلك الطريق «إلى الآن بغير إرادة، ولكن نفسي مستقيمة؛ ولذلك تراني عند الخروج أتستر فوق العادة. ولو أردت الخروج عاريةً لما منعني أحد، بل كان والدِي يسرُّ سرورًا ما له أمد!»
حرَّض الأب ابنتَه على ما سماه كاظم ميلاني بالانحلال. هي تلتقي بضيوف أبيها، وتُجالسهم، وتصادق الشاب الذي يستهويها، وتميل لتصرفات ربما أراد كاظم ميلاني — من تجسيدها — أن يصور التطبيقات السلبية لدعوة قاسم أمين، لو أن ذلك ما حدث! وفي المقابل، فقد وافق الشاب — أعماه الحب! — على أن الفتاة عنوان الفضيلة — هذا هو تعبيره! — والكمال من بعض شيمتها.
صارحَته الفتاة بأنه لم يحاول وحده العودة للقائها بعد أن زارته في دكانه بالإسكندرية؛ فقد تقلَّبت بعدها «على فراش الأمراض والسقام» … «ولا تظن أن يوم حضوري بحانوتك كان أول مرة، بل من قبلها كنت أزورك خفيةً، وعلى اختفائي كنت مصرَّة. ولمَّا تغلَّب عليَّ الغرام عند مبارحتي الإسكندرية تظاهرتُ كما حصل لأتمكن من مكالمتك طويلًا، وأستميلك أو أصادف الفشل، فرأيت بعض التأثير على محيَّاك الباهر من أول مكالمة، فأملت خيرًا من البدء للخاتمة.»
أقسم الحبيبان على «دوام المحبة والعهد». وقبَّل يدها، وقبَّلت جبينه؛ لأن «قبلة الغرام لا تكون إلا بهذه الكيفية». ودعَته إلى تناول الغداء معها. ولما أبدى إشفاقه من أن يصل والدها وهو في البيت طمأنَته بأن أباها ليس له عليها طائل!
التقى الشاب — في الليلة نفسها — بوالد وحيدة «اسمه محمد بك، وكنيتُه لا تفيد». ولبَّى الشاب دعوة الرجل لزيارته في البيت الذي كان قد التقى فيه بفتاته، قبل ساعات قليلة. ودار حوار، تناول قضايا دينية واجتماعية، وثارت آراء وملاحظات.
عندما بدَت مشكلات الإسلام مختلطة ومتشابكة، فإن الراوي/الكاتب يُشير إلى الإيرانيِّين الشيعة، وما يتميزون به من الاتحاد الذي ردُّوا به الأجنبي عن التدخل في أمورهم، ومنعه من السيطرة عليها. ويهبنا الكاتب — من خلال حديثه إلى محاوريه — ملامح من حياة الشيعة الاثنَي عشرية، وصولًا إلى أن اتحاد الإيرانيِّين وتمسُّكهم بالدين، دفع عنهم نفوذ الأجنبي، وخلَّص الوطن المسكين.
بعد أن غادر الأصدقاء بيت محمد بك، أصرَّ الرجل على أن يستضيف الراوي. ودخلَت وحيدة الحجرة، وجلست «بقرب والدها أمامي وجهًا لوجه بكل حرية، وأخذت تُسارقني النظر وتشير بإشارات معنوية. وكان والدها يُطنب في هذه الأثناء على مَن جوَّز رفع الحجاب، ويقول: نِعم الرأي رأيه، فقد نطق بالصواب. وناقش الشاب نفسه — بالطبع — في تلك الحرية التي تتمتع بها الفتاة بتأييد — أو بتحريض — من أبيها!»
تعددَت زيارات الشاب إلى بيت المحبوبة، وتعددت كذلك لقاءاتهما خارج البيت، وأقامت أسرة محمد بك — الأب والأم والابنة — في بيت الشاب، بدعوة منه، «وصارت العائلتان ببعضهما مولعة، ولكن والدتي لم تستحسن خطةَ تبرُّج وحيدة، وتأسفَت كثيرًا على تمسُّكها بالبدعة الجديدة، وشاورتني باستقباحها لهذه البدعة الفاسدة، وأظهرتُ عدم جواز تأهُّلي بها إن بقيَت على هذه القاعدة، فوعدتُها بأني مهما كنت مغرمًا مفتونًا، فلا أقبلها حليلةً ولو ذُقت لبعادها المنون.» مع ذلك، فقد تواصلَت ليالي «المسامرة والمصاحبة والمزح والسرور والملاعبة». أما النهار، فقد شغله الراوي للبحث في عقيدة أهل الشيعة.
حاول الكاتب أن يجعل معلوماتِه وآراءَه نبض مساجلات بينه وبين «العقلاء والفضلاء» الذين أحاطوا به من كلِّ فجٍّ لمناقشته حسابات الدخل والخرج، لكن المساجلات تحولت إلى ما يُشبه الدراسة المطولة، التي تناقش ما يبدو من أوجه الاتفاق والاختلاف، وأنه «لا فرق ولا اختلاف في الأساس، وما سمعناه وما أشيع عن هذه الطائفة هو محض اختلاق ومساس».
ثم يعود الراوي إلى سيرة الحبيبة، التقى بها مصادفةً في أحد المتنزهات، لا تعلو فيه غير ألحان الموسيقى والرقصات، ويزدحم بالشبان والفتيات اللائي يرتدين اليشمك للتحلية، والحجاب الذي ليس فيه إلا الاسم.
يقف الراوي وصديق له على حافة بحيرة صناعية داخل المتنزه، يشاهدان «الصارخ والصارخة، والضاحك والباكية، بعين الاستغراب والحيرة. وبينما أنا وصاحبي نتندم على هؤلاء النسوة اللاتي خلعن الحياء، لركوبهن مع الرجال كي يتعلقن بهن … ترى الواحدة تترامى على الثاني، والثانية تتظاهر بحركاتها للآخر فيعاني، وما أدراك ما يعاني.»
يلمح الراوي بين كل هؤلاء حبيبته وحيدة: «لا كان التقليد ولا كنَّا لزمانه، ولا كان اليوم الذي يصرح فيه المجتمع باختلاط شبانه. من التي أراها، وكنت أقسم بذيلها الطاهر (نسيَ مصارحته لأمه بأنه مهما كان مغرمًا بالفتاة، فلن يقبلها حليلةً ولو ذاق لبعادها المنون!) وكيف بالاختلاط أصبحت كالعواهر، خرجت تتسند على ذراع أحد الفتيان، كأنه من الأقارب أو من الخصيان.»
واجه الشاب الفتاة بأنه قد أحلَّها من «كل رباط ووثاق بيننا، فلا عهد ولا اتفاق بعد هذا يجمعنا». وبعث كاظم رسالةً إلى محمد بك، أشار فيها إلى «أن الله ضرب على نساء المسلمين حجابًا مستورًا، فخرقه أحدُ الناس — يقصد قاسم أمين — جهلًا، فأوسعتم الخرق، باتِّباعكم إياه ظلمًا وفجورًا، فالمرأة مرآة خدرها وبيتها، ولا تصلح لزوجها وبنيها، إن جاوزت بابها وسترها».
اختتم الراوي/الكاتب رسالته بسحب يده لعدم توافق المشرب «وليس في مذهبي هذا مما يستغرب. يجب على المسلم أن يتعصب لدينه وعرضه، ولا يتساهل فيهما لميله وغرضه.»
•••
قرأ حجازي أيوب روايةَ «السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين». قال إنها صدرت عن معنًى أخلاقي، ينتصر للصواب، ويدين الخطأ. العين ناقدة، ترى، وتتأمل، وتُصدر الحكم. محمد كاظم ميلاني يدين اختلاط النساء بالرجال، والتعرِّي في حمامات السباحة، وشرب الخمور، ولعب القمار، وغيرها من المظاهر التي أتاح له البحث عن فتاته أن يتعرف إليها.
دعوة قاسم أمين في تحرير المرأة والمرأة الجديدة تبين عن ملامح مؤكدة في الحرية التي أتاحها الأبوان لابنتهما، وكما تقول، فإنهما أباحا لها «هذا التصرف، وعود إلى متابعته، بعدما استصوبا رأيَ فلان المنادي برفع الحجاب — تقصد قاسم أمين — ولزوم مخالطة الإناث بالرجال، وشرح فضيلته.
سأل حجازي أيوب: لماذا قاسم أمين؟
قال محمد كاظم: هل ضاقت به الكتابة، فلم يجد إلا ما دعاه تحرير المرأة؟
– ليس قاسم أمين أول مَن كتب في ذلك الموضوع. نساء كثيرات كتبنَ عن وضع المرأة، وضرورة تحررها ومساواتها بالرجل، وكل ما كتبه قاسم أمين في كتابه!
حدَّثه عن عائشة التيمورية وهند نوفل وزينب فواز ولبيبة هاشم وملك حفني ناصف.
قال محمد كاظم ميلاني في لهجة باترة: من حق المرأة أن تدافع عن بنات جنسها، تلك ليست مهمةَ الرجل!»
•••