محمود بيرم التونسي١
محمود بيرم التونسي. وُلد في شارع البوريني بالسيالة في ٤ مارس ١٨٩٣م. كان جده قد هاجر من تونس إلى مصر، في منتصف القرن التاسع عشر، بعد خلافه مع أعمامه. لم يحدِّد التاريخ، وإن قالت روايات إنه عام ١٨٤٠م. استقرَّ في الإسكندرية، وأنشأ مصنعًا للحرير بشارع الميدان.
كان محمود ولدًا وحيدًا، وكانت له أخت وحيدة. حفظ القرآن في كتَّاب الشيخ جاد الله، القريب من زاوية خطاب، وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة والحساب. يخرج من الكتَّاب — ظهر كل يوم — إلى المصنع. يقضي غالبيةَ اليوم، يُطالعه الزحام، وتلاقِي رفع الأذان، ورواة السير الشعبية في المقهى المواجه، والنداءات، والصيحات، والشتائم، والجبب والجلابيب، والبدل، والملاءات اللف.
لم تؤكد الروايات إن كان بيرم قد التحق بمدرسة الرشاد الابتدائية بعد أن ترك الكُتَّاب، أمضى سنوات في المعهد الديني، في دراسة غير منتظمة. لم يحمل — على حدِّ تعبيره — سوى شهادة «لا إله إلا الله».
مات أبوه قبل أن يبلغ الرابعة عشرة من عمره. حاول بيرم أن يلحق ظروفه، ما تبقَّى من ميراثه عن أبيه.
عُنيَ بأن يُدير المصنع الذي ورثه، لكن سنَّه الباكرة، وغلبة الفنان على الإداري في طبعه، عجَّلت بإفلاس المصنع.
تزوجت أمه — نجيبة بنت عبد الخالق، من الإسكندرية — برجل من بحري.
عمل — لفترة — في دكان زوج أمه لصنع سروج الجمال. ثم عمل في دكان بقالة بالسيالة.
حاول تعليم نفسه بنفسه، وقرأ كل ما صادفه من الصحف والكتب، وتردَّد على موالد الأولياء، وحلقات الذكر، وليالي الإنشاد، والتسابيح، والسير الشعبية. طالت جولاته في شوارع بحري وحواريه وأزقَّته، وعلى شاطئ الأنفوشي، وفي حلقة السمك، وداخل المينا الغربية.
اختزن الكثير من سير الراوي الشعبي على مقاهي بحري، وغناء الصيادين وهم يُلقون الشباك ويسحبونها، وحفلات عقد القران والزفاف والختان والموالد والمناسبات الدينية وقراءات دكان البقالة، ودروس إمام أبي العباس، ومناقشاته في معهد المسافرخانة. ربما استكمل مناقشات المعهد الديني في قهوة بلبل بالسيالة، وقهوة صالح أبو الشهود (المهدي اللبان فيما بعد) المجاورة لجامع سيدي علي تمراز.
عرف الطريق إلى قهوة مخيمخ، بالقرب من جامع أبي العباس. يجلس فيها الفقهاء والقراء، غالبيتهم من المكفوفين. تتداخل في مناقشاتهم متابعات لألحان سيد درويش، وأغنياته.
حين عاد إلى الدكان بعد غيبة طويلة، طالبَه البقال أن يعود من حيث أتى.
أقدم على التجارة في سوق المغاربة.
كادت تتكرر مأساة خسارة المصنع، لولا تدخُّل زوج أمه. اشترى له — من بقية الميراث — بيتًا يعيش من إيراده.
تُوفيت أمه في عام ١٩١٠م، فانتهَت صلته بزوج الأم. حاول أن يجاوز وضعه الجديد، القلق. فتح — بما وَرِثه عن أبيه — دكان بقالة في السيالة.
أولى زوجاته ابنة عطار في شارع الميدان. أنجبت له ولدًا وبنتًا. بعد وفاتها تزوَّج ثانية، أنجبت له بنتًا. وكانت حاملًا عند تغيبه عن مصر.
من أساتذته — وإن لم يلتقِ به — عبد الله النديم. حاكاه في فن الزجَل، وعُنيَ بأدواته، واستخدم اللغة العامية بما يُشكل خصوصيةً لفنه.
لجأ إلى السخرية متنفسًا عما يغيظه من أوضاع المجتمع. نشر قصائده الأولى في صحف الإسكندرية ما بين عامَي ١٩١٦م و١٩١٨م.
ربطَت بينه وبين سيد درويش صداقة. يتجه بيرم إلى كوم الدكة، ويتجه سيد إلى بحري. قد يلتقيان في مقهى بوسط البلد، أو بار كوستي بشارع أنسطاسي. تتصل أحاديثهما، لا تكاد تتجاوز سيرةَ الفن.
ألَّف بيرم للمسرح الغنائي روايةَ «شهرزاد»، لحَّنها سيد درويش، ولاقَت أغنياتُها نجاحًا لافتًا، وكتب في الثلاثينيات روايةَ «ليلة من ألف ليلة». ثم كتب مسرحيات أخرى للمسرح الغنائي، وأفلامًا للسينما ولأم كلثوم وعبد الوهاب، بالإضافة إلى الشعر والزجل والأغنية وحوارات المسلسلات الإذاعية والمقالات.
•••
تلقَّف بيرم ما تناقلَته الشائعات عن أحوال السلطانة نازلي أول أيام زواجها من السلطان فؤاد. سجَّل ما استمع إليه في أزجال. ردَّدها الناس في الشوارع والأسواق، وعلى المقاهي، وعند الخروج من الأسواق. رُويت حكايات كثيرة عن نازلي صبري، عائلتها، جدها الأول، خطفها، حبسها، هروبها. اختلطت الحكايات بأحداث ثورة ١٩١٩م.
رفضت إدارة المطبوعات — في أثناء الثورة — أن توافق لبيرم على إصدار جريدة من تمويله وتحريره. أصدر — دون ترخيص — «المسلة … لا جريدة ولا مجلة»، هاجم فيها الاحتلال والسلطان والأسرة المالكة. كتب أزجالًا عناوينها «القرع الملوكي» و«البامية السلطاني»، وغيرها.
قال بيرم: قيل الكثير عن شجاعة طنطا، ووطنية دمنهور وأسيوط ومدن مصر الأخرى. لم أكن من هواة تحطيم المصابيح، أو إشعال النار في عربات الترام. لا أحب أن أموت برصاصة طائشة. أردت أن أشارك في الثورة. أصدرت «المسلة … لا جريدة ولا مجلة». شغلني ما أكتبه فيها. قررت أن أسلك طريقةَ فتوات بحري عندما يقررون «تقويض» حفل. يحطمون الكلوبات، أو يدمرون الموتور. يحل الظلام، ويتوقف المصنع عن العمل. الموتور الذي تصورته هو السلطان فؤاد.
كتب بيرم في رسالة إلى محمد التابعي: «طلبتَ إليَّ أن أُحدثك عن ثورة عام ١٩١٩م. كانت — يا ولدي — ثورةً من النوع الذي لا يُبقي ولا يذَر، وقد تركها الإنجليز تتأجج وتتآكل، إلى أن يخمد أُوارها، ثم يعالجوها بالطرق الناعمة. أيقن الشعب أن أمانيَه الوطنية أصبحت في يديه. وقال الإنجليز: نعم، وها هو سلطانكم المستقل وبرلمانكم، وما عليكم إلا إرسال السفراء والقناصل إلى كافة نواحي العالم. وكانت جريدة «المقطم» — لسان القائد الإنجليزي — بدأت تتحدث من الأمير أحمد فؤاد الذي سوف يُسنَد إليه منصب خطير في الدولة المصرية. وتساءل الناس عن الأمير فؤاد، لأن رجال ذلك البيت وأميراته لم يكونوا يومئذٍ موضوعًا تخوض فيه الصحف إلا بقدر معلوم. فقال القائلون: آه، أحمد فؤاد المقامر الذي لا ترحب به أندية القمار لأنه مفلس، ولا يُسدد ديون القمار … أحمد فؤاد الذي يركب الحنطور ولا يدفع للحوذي أجرته … أحمد فؤاد الذي يفتح منازل أصدقائه ليلًا ويطلب الطعام!»
وذات يوم، مرَّ موكب عظمة السلطان أحمد فؤاد من شارع رأس التين، وقد جلس في مركبته التي تجرُّها ستةٌ من الجياد، وفي شمائل زينة القرون الوسطى. فلما مضى الموكب أخذ الشعب السكندري يقول: عامل زي قبانية مينا البصل … ده أصله شيخ زامة … شنباته زي شنكل الجزار.
أدرك العارفون أن الحركة الوطنية قد تحولت إلى زفة، عريسها السلطان أحمد فؤاد، وموائدها كراسي البرلمان ووظائف السلك السياسي. ثم أذاعت جريدة «المقطم» عزم السلطان الزواج، ودقت طبول العرس بين ضجيج المعارك القائمة بين البوليس بقيادة ضباطه الإنجليز، وبين جماعات الشعب في كل عاصمة وقرية، وأخذ الناس يتحدثون عن العروس نازلي صبري، وأسرتها، وجدها الأول، وكيف خُطفت، وكيف حُبست، وكيف هربت، واختلطت أحاديث الناس عن زواج السلطان، بأحاديثهم عن بطولة البلاد التي قامت فيها الثورة.
ما أشجع طنطا، وما أعظم وطنية دمنهور، ولله درُّ أسيوط ومدن الصعيد. ولم أسمع مَن يقول: لله در الأنفوشي، وهو مسقط رأسي في حي رأس التين، وفيه يعيش منذ خمسة آلاف عام أرذل أنواع البشر، كما قال علماء الشعوب. ولم أكن من هواة تحطيم المصابيح، أو إشعال النار في الترام، لأني لا أحب أن أموت «فطيس» برصاصة عسكري، لكنني أردت أن أشارك في الثورة، وطبقت فرخ الورق «جاير الجاير» على ثمانية أوجه، وسميته «المسلة». ولما كان بدون رخصة، كتبت في الرأس «المسلة … لا جريدة ولا مجلة». ولكن ماذا أكتب في «المسلة» وأنا لا أعرف شيئًا في الدساتير، أو في السياسة؟!
سلكت طريقة فتوات الأنفوشي عندما يقررون هدم العرس. يكفي أن تحطم الكلوب، أو تضع لغمًا تحت الموتور الذي يدير المصنع، لكي يُمسيَ العرسُ في ظلام دامس، ويتعطل المصنعُ كلُّه عن العمل. والموتور هو السلطان أحمد فؤاد، والمناسبة حاضرة، وهي قصة نازلي، وما يقال عنها، وعن ظروف زواجه بها. من هنا، كانت افتتاحية «المسلة»، وهي على وزن أغنية سورية جاءت حديثًا إلى مصر، وانتشرت فيها، ومطلعها: مرمر زماني … يا زماني مرمر … قلبي تولع في هواك يا الاسمر. ولها نغمة عذبة، مرسلة، فلم تحتَج الثورة، البامية السلطاني، إلى ملحن أو موسيقار. وها هي الأنشودة:
تلك كانت ظروف الزجل الذي كتبه بيرم التونسي في أحمد فؤاد ونازلي. البنت — في الزجل — هي نازلي. الغفلة هو السلطان فؤاد. ثمة النونو والوزة وغيرها من المفردات المحملة بالإشارات والتلميحات.
صدر قرار من السراي بنفي بيرم خارج مصر.
أمر حمدي درويش ضباطه. ألقوا القبض على الناشط السياسي محمود بيرم التونسي. وضعوه ٢١ أكتوبر ١٩١٩م على ظهر سفينة في طريقها إلى فرنسا.
•••
عاد بيرم إلى مصر ١١ فبراير ١٩٢٠م. دامت عودته الأولى إلى مصر ستة أشهر. يقول في ذكرياته: «… ذلك أنني بعد أن نُفيت من مصر سنة ١٩١٩م، تمكنت من العودة إليها خفيةً، حيث قابلت الشيخ سيد درويش في القاهرة، وأقمت معه، وألَّفت له رواية «شهرزاد». وكادت السلطات أن تنسى أمر ترحيلي من مصر، إلى أن نبَّههم إلى ذلك حضرات الزملاء.»
هل كانت الوشاية هي السبب في ترحيله ثانية، أو أن الزجل الذي كتبه في هجاء الملك فؤاد بعد ولادة ابنه فاروق، هو الذي دفع به داخل الباخرة المتجهة إلى فرنسا؟
رُويَ أن البكباشي حمدي درويش فسَّر معاني الكلمات. البستان هو القصر الذي كان يقيم فيه السلطان فؤاد. فاميلية على بمعنى أسرة محمد علي. باديشاه تعني بالفارسية سلطان. الشهر الخطأ بمعنى أن الابن وُلد قبل تسعة أشهر من الزواج.
طلب السلطان فؤاد من السفير الفرنسي أن يُبعد التونسي ذا الحماية الفرنسية عن مصر. كانت تونس خاضعةً للاحتلال الفرنسي. في ٢٥ أغسطس ١٩٢٠م أُعيد التونسي إلى بلاده.
نفى شوقي أبو سليمان أن يكون له دور في إرشاد السلطات المسئولة عنه، لكن البوليس أفلح في الوصول إليه، وأعادَته السلطات إلى المنفى.
كل أصدقائه كانوا في وداعِه على رصيف الميناء، ما عدا سيد درويش. بعث إليه برسالة يعيب فيها على سيد درويش تقاعسه عن وداعه. فاجأَته صحف القاهرة — وهو في المنفى — بنبأ وفاة سيد درويش.
كتب بيرم:
ظل بيرم التونسي في المنفى نحو عشرين عامًا. عاش البطالة والرفض العنصري. عمل في مصنع للبسكويت، ومديرًا للعلاقات العامة في مؤسسة للخردوات ولعب الأطفال، وعاملًا في مكتبة هاشيت، وغاسلًا للأطباق في مطعم مصري بالحي اللاتيني.
عانَى الحنين والشوق إلى القسمات الشاحبة والبحر والبلانسات والشباك والشوق إلى الملامح التي لم تترك رؤاه: شايف من تحت البرقع … أهدابها مرعرعين … والفم المحمودية … والرأس هيه التين.
تنقَّل بين المدن. عَمِل فيما لا تؤهله له قدراته، بمقابل لا يضمن الوجبة التالية.
لقب التونسي أتاح له استقرارًا في أعوامه التونسية. ثم أبعدَته السياسة في ظروف لا تختلف عمَّا عاناه في مصر. لم يستطع العمل في الصحافة التونسية، كما لم يستطع الكتابة في صحف مصر.
كتب في رسالة إلى الحاج جودة هلال: «أتكلم في تونس بالعربية، وكنت أتكلم في الإسكندرية باللغة نفسها، لكنني أشتاق للإسكندرية، هي الميلاد والنشأة. يشغلني السؤال: هل هذا هو معنى الوطن؟»
هاجر بيرم إلى فرنسا. عمل شيالًا في معامل تقطير الخمور. واصل إرسال أزجاله إلى الصحف المصرية. ثم عاد — بالحنين — ١٩٢٢م إلى تونس. ظل يعاني، حتى صدر قانون فرنسي في ١٩٣٢م، بترحيل العمال الأجانب إلى بلادهم.
عَمِل محررًا في جريدة «الزمان» التونسية، ثم أصدر مجلة «الشباب» التي هاجم فيها سياسة فرنسا في المغرب العربي. أمر الحاكم الفرنسي بإبعاده إلى سوريا، وظل — لمدة عامين — يتنقل في بلاد الشام، حتى قررت السلطات الفرنسية إعادته إلى فرنسا.
غادر تونس في ١٧ أبريل ١٩٣٧م، على ظهر باخرة اتجهت به إلى منفًى غير محدد. رابع يوم أذاعت إدارة الأمن العام بالقاهرة بيانًا عن وصول المدعو بيرم التونسي — مخالفًا للقانون — إلى مصر. دعَت إلى إبلاغ البوليس عن مكان وجوده، بينما طالبت «الأهرام» بعفو ملكي.
السؤال عن معنى الوطن، هو الذي أملى على بيرم التونسي أن ينزل — متخفيًا — من الباخرة المتجهة إلى فرنسا ١٩٣٨م. قفز من الباخرة، وهو في طريقه من الشام إلى فرنسا.
هادن الملك فاروق في أزجاله. هاجم — في الوقت نفسه — مظاهر الفساد والانحلال، وتواصلَت حياتُه في مصر — مستفيدًا من أمر لرئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي — بتجاهل وجود بيرم في مصر.
روى المعلم بدوي الحريري عن الأعوام التي أعقبَت عودة بيرم من المنفى. كان مصابًا بالربو، المرض نفسه الذي أُصيب به — فيما بعد — حجازي أيوب صاحب المكتبة الحجازية. زاد جو الإسكندرية من تأثير المرض. تعددت نوبات المرض حتى بعد أن استقر في القاهرة.
أقام في البيت رقم ٦ بحارة حلاوة، المتفرعة من شارع ابن بريقع. من طابقين، أشبه بنقطة تتصل ببقية شوارع بحري. يمضي إلى اليسار ناحية ميدان المساجد وشارع السيالة وجوامع أبي العباس وياقوت العرش ونصر الدين. يميل إلى شارع الأباصيري، أو التتويج، أو يتجه ناحية الميناء الشرقية. قد ينحرف ناحية اليمين إلى شارع الحجاري، ومنه إلى شارع رأس التين، أو الموازيني، ثم إلى شارع الميدان والشوارع المحيطة حتى المنشية.
كانت الكتابة والتأليف — في رواية الريس الحريري — شاغلَ بيرم. كتب الزجل والموال والمقامة والحوارات العامية. يُطيل الوقوف على شاطئ الأنفوشي، يتأمل حركة البيع والشراء في حلقة السمك، يستريح إلى ظل شجرة في حديقة سراي رأس التين، يستند إلى عمود في صحن أبي العباس، يخلو إلى قلمه وأوراقه على مائدة في أحد المقاهي. لمحه الحريري يخوض زحام الموالد، يتأمل الباعة ومفردات نداءاتهم، يتابع — باهتمام — شدَّ حبال الجرافة كأن الأمر يخصه.
منذ ١٩٤٩م انتظم عمل بيرم في الصحافة القاهرية. بدأ في «أخبار اليوم»، ثم انتقل إلى «المصري» ١٩٥٢م، وفي ١٩٥٥م شارك في تحرير الجمهورية. ومُنح الجنسية المصرية في ١٩٥٤م.
اختار مكانًا لكتابة إبداعه — في أعوام حياته الأخيرة — قهوة في شارع السد بالسيدة زينب. ربما لأنها كانت تُذكِّره بقهاوي بحري. وحين تفاقمَ مرضُه بالربو انتقل في ١٩٦١م — سعيًا للشفاء — من بيته في شارع النواوي، بالقرب من جامع السيدة زينب، إلى بنسيون في حلوان، لكن ظروفه الصحية ظلت على حالها.
وجد في فترة علاجه فرصةً لكتابة ذكرياته. روى ما يُعرف وما لا يُعرف. استعاد صور الأنفوشي والسيالة ورأس التين والبحر والغزل والصيادين والحلقة والأولياء وبنات بحري.
واصل الإبداع، حتى غادر الحياة في الخامس من يناير ١٩٦١م. صُلِّي على جثمانه في جامع السيدة زينب. دُفن في المقابر القريبة من الجامع. إكرام الميت دفنه، وكلها أرض الله، لا فرق بين مقابر السيدة زينب ومقابر العامود.
عرَف أصحاب الدكاكين في شارع السد قدْرَه. أضاءوا — وقت الجنازة — أنوار دكاكينهم، تحيةً للميت.
في نهايات أيامه، التقى به حجازي أيوب، وهو يمشي — بخطوات متباطئة — بالقرب من دار القضاء العالي.
سأله حجازي أيوب عن سيناريوهات الأفلام، والأغاني، والفوازير.
قال بيرم: أُصارحك أني لست راضيًا عن ذلك كلِّه، لكن ماذا أكتب غيره؟
وتنهَّد: أنا تعبت!
قال حجازي أيوب: لولا المشكلة التي أوقع فيها بيرم نفسه، ربما كان سيظل في بحري، لا يتركه إلى مكان آخر.
•••