نعمات
توشوش المرأة القوقع، وتُعيده إلى نعمات.
تقذف به نعمات على الرمال كما يُقذف نرد الطاولة. تُتمتم بكلمات مدغمة، كأنها تتلو آياتٍ من القرآن، أو تدعو، أو تبتهل.
يثق الناس في قدرتها على ضرب الرمل، والمندل، وضرب الودع، وطرْق الحصى، وقراءة الطالع في النجوم، وفنجان القهوة، والكف، وقراءة أوراق الكوتشينة وكف اليد.
قدرة التنبؤ بالغيب تمكِّن صاحبها من التعرف على الأحداث التي لا يراها أحد، سواء في الزمان أو في المكان.
تكشف الأسرار والخفايا، وتقرأ الأفكار. تُضيف بغمزات العين وتعبيرات اليدين وتأوُّد البدن إلى إقناع محدِّثها بأنها تُجيد قراءة الفنجان والكف والودع. تستطيع منها أن تتنبأ بحظوظ الناس، والمصير الذي قُدِّر لهم. تُطيل التحديق في قاع الفنجان، وفي بقايا القهوة على حافته. تتحدث عن أخبار الغيب وقراءة المستقبل. حياة الإنسان، ماضيه وحاضره ومستقبله، على راحة يده.
قد تسكت عن كشف الغيب إن اتصل بالماضي، تتنبأ بالمستقبل وحده. الخطوط والتعرجات تَشِي بما يدفع المرء إلى إعادة التفكير فيما جرى، وما يتوقعه. قد تُعيد بعض التعبيرات التي اعتادت قولها لكل مَن يلجأ إلى نبوءاتها: قدامك سكة سفر، احذر عدوًّا قريبًا، الثلاثاء يوم سعد.
ربما ألقَت تنبؤاتها في صورة ألغاز تطلب الحل: حاذر من السمك الرعاش، فلدغته قاتلة. يأوي الشيخ الكبير إلى بيته الساكن قبل أن ينتهيَ العام. لن تجد الترسة مَن يأكل لحمها. لا خوف من سحب الصيف. السماء الصافية تُغيم ويهطل المطر. ليس نزول المطر شرًّا كله. كومة الحطب تحتها رماد يُشعل النيران في موعدها. نصيحتي للنملة أن تخزِّن الحبَّ في بيتها.
تُحسن التعرف — من خلال نظرتها المتأملة — على ما قد تُخفيه النفس، ولا تُعلنه.
نُسب إليها قدرة على التنبؤ بجنس الجنين، وموت الأهل والمعارف، والأحداث المتوقعة.
عرف الناس منها بعضَ أحوال ماضيهم، وبعض تنبؤات مستقبلهم. اعتقد الكثير من أهل بحري في صدق روايتها لأحداث الماضي، وتنبؤاتها في وقائع كثيرة.
تُضيف نعمات إلى قولها «أبين زين»، عبارة «أدق وأطاهر». لا يحتاج ختان الأنثى إلا موسى وحفنة بُن ولفة شاش. تُفسح المرأة — من نساء البيت — ما بين ساقَي البنت. مرات قليلة، أبدَت عجزها أمام استمرار النزيف. تركت للحاج جودة هلال إنقاذ البنت.
•••
الغجر — في معجم أوكسفورد للغة الإنجليزية — من أصول هندية. ظهروا — لأول مرة — في بداية القرن السادس عشر في إنجلترا. وكان يظن أنهم قَدِموا من مصر. ووصف المعجم بشرتهم بأنها داكنة، مُشربة بصفرة، وشعر أسود. يُطلِق الرجال لحاهم وشواربهم. حتى شعر الرأس قد يكتفون بتضفيره في كعكة أشبه بما تفعله النساء. نساؤهم يدلُّون الأقراط المستديرة من آذانهم. أهم أشغالهم الحدادة، وتبييض النحاس، وإصلاح الكوالين، وصناعة المفاتيح والأحذية والسلال والغرابيل والأقفاص، ودق حوافر الخيل، وكي البهائم، والختان، ودق الوشم، والحلاقة تحت الأشجار، وعلى الجسور، وداخل البيوت. ربما ارتزقوا من تجارة الخيل — يسرقونها — ورواية الحكايات المسلية. يمارسون السحر، وفتح المندل، وقراءة الكف والودع والفنجان، وضرب الرمل، ويجعلون من شعر الحيوان تعاويذَ لعلاج الأمراض، ودرء الحسد، ومغالبة النحس. عُرفوا بأعمال الحواة والشعوذة وترويض الحيوان.
أصدرت الحكومة البريطانية قانونًا للطرق العامة في ١٩٥٩م، حدَّد الغجر بأنهم أشخاص اعتادوا حياة الترحال، أيًّا كان عِرقهم أو أصلهم، سواء تنقَّلوا في الشوارع والأسواق، أو عملوا في السيرك. ثم حذف القانون الإنجليزي عبارةَ «غجري» من قانون الطرق العامة، لأنها صفة عنصرية.
ألغى القانون تسميةَ الغجري، لكن التسمية ظلت قائمة. اشتهروا بخفة اليد، وأعمال «الهجامة». رُويَ أنهم يسرقون كلَّ ما تَصِل إليه أيديهم: الطعام، المال، الأشياء المنزلية، النفائس الصغيرة. ورُويَ أنهم يبيعون أولادهم، ويستبدلونهم، ويمارسون طقوس الجنس الجماعي، ولا يؤدون شعائر الدين.
•••
من الصعب أن نَسِم نعمات زيدان — رحمة الله — وفق ما ذكرته المراجع المختلفة، بأنها غجرية، أو تنتسب إلى فئات الغجر. هي لا تعرف اللغة الخاصة، السيم الذي يتكلم بمفرداته الغجر، وبَشَرتها أميل إلى البياض، وعيناها بلون الخضرة، وشعرها أصفر ناعم ينسدل إلى ما بعد الكتفين.
لعل تسمية الغجرية لأنها عاشت طفولتها في صحراء المكس، اقتصر عملُ أبيها على بيع المخدرات، أمضَت أمها معه أقل من ثلاث سنوات، ثم فرَّت مع عشيق لها.
ظلت نعمات معظم سِنِي طفولتها في خيمة بأطراف الصحراء، تنقَّلت بين المدن في عربات نقل، حملَت ما تسلَّمَته من أبيها إلى المشترين، رحلت — وعادت — مع أسرتها — فرارًا من مطاردة البوليس — إلى العديد من المدن.
ضاقت بإهمال الأب، ومعاملة زوجاته. ثلاث منهن طُلِّقن، فلم يَعُد مع الأب سوى زوجة واحدة، وأبناء كثيرين.
لم تتحدث عن أهلها: من أين؟ … عاداتهم وتقاليدهم، ونظرتهم إلى أهل الإسكندرية، وإن عزلوا أنفسهم عن بقية أحياء المدينة، وجعلتهم في موضع الشك كثرة الأسفار والترحال، وما يدينون به من عادات وتقاليد.
للبشر أوطانهم التي يعيشون فيها، وينتمون إليها. للطيور أعشاشها، للسباع والدببة عرائنها، للذئاب أوجارها، للثعالب مآويها، للفئران جحورها، للزواحف شقوقها. لكل الحيوانات والطيور ومخلوقات البحر أوطانها. وطن النبات هو الأرض التي ينمو فيها.
لم يشغل أهل نعمات تسمية الوطن، ولا تأملوا معناها. الأرض باتساعها هي الوطن، دون انتماء إلى موضع بالذات. الترحال يُلقي وراءه بالتسمية والمعنى والحنين والانتماء. الصلة بينهم وبين مساحة الأرض التي يعيشون فيها، يستوطنونها، لفترات تقصر أو تطول. لا شأن لهم بالبحر، ولا الشوارع، ولا المساجد، ولا البيوت. الخيمة — حيث تدق أوتادها — هي الوطن حتى يأتيَ أوان الرحيل. يفكُّ الخيمة، يرتحل من الموضع الذي أقامها فيه إلى موضع آخر. تظل هي وطنه.
يرتحلون دائمًا، يتنقلون باستمرار، يلتمسون المأوى، والأعمال التي تُعينهم على ظروف الحياة. حتى مولدهم، ووفاتهم، يجري في أثناء الترحال. تختلط أماكن الميلاد، ولا يعنيهم أين يموتون، ولا الأرض التي تضمُّ أجداثهم.
اللحظة وحدها تشغلهم، لا صلة لها بما قبل ولا بعد. يعيشون يومًا بيوم، لا علاقات جيرة، ولا صداقة، ولا انتماء خارج الجماعة. لا عقود زواج، ولا قسائم طلاق، ولا حتى مأذون يتم — على يديه — الزواج والطلاق.
يمارسون عزف الموسيقى، والغناء، والرقص، وعلم الفراسة، وقراءة الطالع، والختان، وصنع السلال، والضرب على الطبول والدفوف، وألعاب الحواة، والاحتيال، والتسوُّل ونقل الشائعات. فهمهم للشرف ضبابي، أو غائب. حتى طقوس الدين لا يؤدونها، لا يعرفونها.
تحدَّثت روايات عن عصابات من الغجر، تنزل — متسللةً، أو مقتحمةً — إلى أحياء الإسكندرية. يمارسون العنف، يسرقون، يدخلون في معارك مع فتوات الأحياء، يدخلون أماكن إقامتهم إلى أماكن أخرى، تحسُّبًا لردود الأفعال.
دارت — وهي صغيرة — مع ابن عم لها، في الشوارع والميادين، وعلى المقاهي. تُمسك بجلبابه، ويمسك بيدَيه مقود قرد، وطار، ينقر عليه ليجتذب اهتمام الوقوف والمارة.
كانت تصنع من الأصداف والقواقع عقودًا وأساورَ وأقراطًا ومشابك، تبيعها للنسوة الجالسات على أبواب البيوت.
أدركت جمال جسدها وملامحها، من النظرات، وعبارات الإعجاب، والغزل، ومحاولات التحرش.
تعدَّدت محاولات اجتذابها، وإغوائها، لكنها لم تُفصح عن ميل لأحد، حرصت أن تُبقيَ الوُدَّ بينها وبين الجميع، توزِّع ابتسامتها، تُظهر الاستجابة للإيماءة والدعابة والنكتة. بدت نظرات الرجال متشابهة، أو أنها نظرة واحدة. تتفحصها، تُعرِّيها، تبحث عما تطلبه. يثق كلٌّ منهم أنه هو وحده في حياتها. قد يتسلَّون في جلسات المقاهي بسيرة نعمات، يُضيفون إليها، يجعلون أنفسهم أطرافًا في مواقف، نعمات طرفها المقابل.
عيناها، اتساعهما، خضرتهما الصافية، أقوى أسلحتها في التأثير على مَن تريد استمالته. تُدرك أن الجنس هو العلاقة التي تربط بينهم وبينها، الإثارة، الرغبة، الشهوة، الملامسة. اتهمت بأنها أفسدَت رجالًا كثيرين على زوجاتهم.
أظهرت غضبها لقول خليل الفحام: هل أصل الغجر من مصر؟
– ما شأني بهذا السؤال؟!
– ألستِ غجرية؟
– في العراك إن أردت، لكنني من الإسكندرية.
تردُّدها على الدائرة الجمركية، وما حولها، والكلام مع البحارة الأجانب والسائحين، أتاح لها التحدث بالعديد من اللغات. تستطيع أن تأخذ وتُعطي، وإن لم تعرف القراءة والكتابة، لا باللغة العربية، ولا بغيرها من اللغات. تمازح الجميع، تتبدل ملامحها — في اللحظة نفسها — بين الابتسام والغضب.
حين تعالَى — من ورائها — فحيحُ شوقي أبي سليمان، استدارت، وواجهَته.
صرخ الرجل، وسقط على الأرض. حرص — فيما بعد — أن يبتعد عن طريقها.
أحبها الصياد علاء حسونة.
بعد أن غيَّبَته النوة — أو أن عروس البحر — في رواية غريب أبو النجا. هي التي اختطفَته. رفضت أن تعود إلى صحراء المتراس. ظلت في حجرتها داخل حوش بيت الأسطى عمران الخولي. تخرج — كل صباح — إلى البيوت والمقاهي والكورنيش. تُنفق على نفسها مما تعلَّمته قبل أن تهجر أهلها.
صادقت مدني الحوشي صبي حميدو شومة.
دفعها لإعالته. تسرق له الطعام من دكاكين شارع الميدان، والسجاير والأشياء الصغيرة من البيوت التي تتردد عليها. ربما تغافل سيدة تقرأ طالعها، تسرق من رسغها ساعة، أو إسورة ذهبية.
دعاها التاجر ريحان عسكر إلى شقة تعلو وكالته في شارع سوق السمك القديم.
تبين — بعد انصرافها — غياب بيجامة وغيارات داخلية. صحب صبيانه إلى بحري. أجبر الحوشي على نزع البيجامة، وكل ما عليه. تركه عاريًا.
استوقفت محمود سعيد في سيره — أمام خادمه — ناحية الوسعاية المقابلة لساحل الأنفوشي: لماذا لا ترسمني كما تفعل مع غيري؟
كان مشغولًا باسكتش لوحة «الصيد العجيب». تأمل ما تشغى به الحلقة في ساعات الصباح الأولى: البيع والشراء والفصال وطبالي السمك والنداءات والمياه الراكدة ورائحة الزفارة.
أردفت في لهجة تدلل: تراني قبيحة؟
اصطبغ وجهُ محمود سعيد بالحمرة، وهمس بما لم يتدبره، ولا التقطَته أذناها. أشاح عنها، وواصل السير.
قال لها عمران الخولي: زرته في بيته بجناكليس. يرسم اثنتَين هاجر وحميدة.
– لماذا ليست نعمات؟
– لا يرسم غيرهما.
أضاف مستدركًا: لوحات قليلة، رسم فيها نساء من أسرته وخدمه!
لم تكن تحب النزول إلى البحر.
قد تجلس بجوار ملابس النساء في لحظات نزولهن البحر قبل أن يتأكد الصباح. تحرس الملابس، وتطمئن إلى غياب النظرات المتلصصة. ترفض مَن يعرض اصطحابها في قارب. تبتعد عن تداخل لسان الموج ورمال الشاطئ. تسير على الرمال الدافئة. تكتفي بنفض قدميها، قبل أن تدسَّهما في الشبشب البلاستيك.
عرف عنها قدرتها على استمالة الرجال، وسلبهم أحوالهم.
تدين للممارسة بما يُرضي الرجل، ما يُثير شهوته. تعلَّمت أن جسدها هو بضاعتها، تُتيح التمتع به لمن يُثمِّنه. تلجأ إلى الكلمات الداعية والإيماءات والإشارات والنظرات، وكل ما يجتذب شبقية الرجل. تفعل ما تعجز عن فعله نساء الحي.
حياة الانطلاق، والتنقل بين المواضع، أتاحَت لها أن تعرف ما لا يعرفه حتى الرجال. تُجيد الملاطفة والعناق والفحيح. تُفاجئ مَن توافق على عناقه بما لم يَدُر بباله، ويُنسيه نفسه.
هزَّت كتفَيها بالرفض، حين دعَتها علية عشماوي إلى بيتها.
طفحَت لهجة علية بالسخرية: هل تفضِّلين قصر الملك؟
– أحبُّ أن أختار الرجل الذي أنام في سريره.
– وهل ستجدين مَن يختارك؟
تنمرت ملامحها: لست خادمة رجال!
– هل تظنين نفسك السفيرة عزيزة؟!
قالت وهي تندفع في طريقها: أنت السفيرة عزيزة!
تعدَّد الرجال في حياتها. مَن حاولوا استمالتها، أو مغازلتها، أو تحرشوا بها. طبيعتها المزاجية تدفعها إلى الرفض. ربما التقت بمن سبق التقاؤه بها، فلا تعرفه. يحاول تذكيرها. تُغمض عينَيها، أو تقطِّب جبهتها، تظهر التذكر، أو تُشيح بيدها دلالة اليأس.
محمود فياض هو الذي مالت إليه، وسعَت لمعرفته.
رأته — لأول مرة — أمام دكان الطيبين. الجلسة الهادئة، المسترخية، الكتفين العريضتين، الشعر الأسود الغزير يُطل من فتحة القميص، العينين الساهمتين لا تتبين إلى أين تتجه نظراتهما.
أكثرت من التردد على الدكان. أعطت وأخذت مع الحاج محمد الطيبين. أطالت نظراتها نحو محمود فياض. عيناها تنطقان بالغواية. تأمل رد الفعل الذي تريده.
•••
كان عراقي أبو سنة أول مَن التقط نظرة المعلم بدوي الحريري للغجرية نعمات. تردُّدها على الحلقة قليل. معظم شرواتها من الفرشات أمام البناية.
قصدت الحريري في شروة مرجان. لم تَطُل مساومتها له، وإن بدا الحريري كأنه يشاهد المرأة للمرة الأولى.
حدَّج الأنوثة في جسدها بنظرة متفحصة: القامة الطويلة، المدملجة، الشعر الأصفر المنسدل على الكتفين، العينين الخضراوين، الأنف الأقنى، المخزوم بقرط ذهبي مستدير، الشفتين المكتنزتين، لا تخلوان من شهوانية، الوشم ذي الخطوط الخضراء، المتوازية، من الشفة العليا إلى نهاية الذقن، تفصيلات ما تحت العباءة السوداء، الاستدارات، والتكويرات، والإيماءات المحرضة، الخلخالين الملتفَّين حول ساقها، يصدر عن احتكاكهما صوتٌ لا يُحدثه الخلخال المفرد.
التقطَت اختلاس نظراته لجسدها.
أبطأت من خطواتها، حرصت على التأود، والتثني، وترقيق الصوت، والتحدث بميوعة وغنج.
أخذ الحريري من المرأة، وأعطى. ترك لها فنجان القهوة، تقرأ التقاطعات والتشابكات في داخله، وعلى حافته. وجد الصدق فيما روَته عن ماضيه، وفي اقتراب توقعاتها بما يعيشه، ويأمله.
حين مضَت ناحية باب الحلقة، زاد من تحريك مشاعره رنين الخلخال في ساقَيها.
عرف الناس أن كثرة تردُّد نعمات على بيت الحريري لإجادتها قراءة الفنجان ووشوشة الودع وضرب الرمل.
ملكَت عليه أفكاره ومشاعره ورغباته. يصحو على تصوُّر قسماتها، وإيماءاتها، وكلماتها المحرضة. صارت — في حياته اليومية — هي البدء والمنتهى.
تأملت نفسها وهي تُمسِّد نهدَيها. استدارت ناحية الباب. قالت: أريد الحمام.
أشارت إلى جسدها، وهي تغالب الارتباك.
قال: لماذا؟
– يجب أن أستحم.
أعاد تأمُّلَها.
بدا — في كل جزء من جسدها — ما يحرك الشهوة. أحس بالنيران تشتعل.
قال في لهفة: أريدك هكذا. تحممي بعد أن نقضي وقتًا.
اجتذب ذراعها في عفوية قاسية. استعاد هدوءه في اللحظة التالية. همس بالرغبة في أن تظل كما هي. يُثيره الطين الملتصق بالبشرة ورائحة العرق.
اقتحمت به ما لم يتصور مجرد رؤيته، أو الوقوف على حوافه من الكهوف والأحراش والغابات.
عراه — في لحظات التوقُّد — ما يُشبه الجنون. تقبَّل الإثارة والقسوة. لا رفض، ولا تذمر، ولا تقزز. ما أقدمت على فعله تقبَّله. كتم صوته عن التألم، استعذب خمشها له بأظافرها، وعضَّات أسنانها المغروسة في كتفه.
أغمض عينيه على التوقع، وإن لم يتوقع فعلًا محددًا. هي تملك ما لا يعرفه، ولا يتصوره، وإن استغرقته نشوة مطلقة.
•••
أحدث زواج بدوي الحريري من نعمات صخبًا في بحري، أعلى مما تُحدثه مضاجعة كرم حامد لزوجته في أمواج الأنفوشي.
مَن سرَّب الخبر؟
غابت الإجابة المحددة، لكن الناس تناقلوا الخبر. همسوا به، دُهشوا، تندروا، خمَّنوا التوقعات.
أغمض الحريري عينيه، وأظهر التأثر: تعلمت من نعمات أن المضاجعة الحلال لا لذة فيها.
قال جودة هلال: لكنك تزوجتها.
– شرطي لزواجها أن نواصل ما كنا فيه.
وبصوته المفعم بالتأثر: اسمي بدوي، لكنني لست السيد البدوي، والمرأة ليست فاطمة بنت بري!
وواجه نظرة جودة هلال: أنا رجل عادي، أردت المرأة فاقتنيتها بالحلال!
ثم وهو يُشيح بيده: أليس الزواج أرحم من كبيرة الزنا؟!
أهمل همسات بأن زواجه بها لم يمنعها من إقامة علاقات أخرى، جانبية، وعابرة.
زواج نعمات بالحريري أكَّد ما ذكرته المراجع أن معدل أربع زيجات كل مائة مع غير الغجر، يُفضي إلى نسبة تبلغ سبعين في المائة لغجر بهم دماء غير غجرية، وأن ثلاث زيجات كل مائة، تَصِل بالنسبة إلى ثلاثين في المائة.
•••