البيان في الإنجليز والأفغان
إن الأمة المؤلفة من أفراد يختلفون في المشارب، وتربطهم روابط الاجتماع والجنس، وتلحمهم وحدة اللغة والأصل والموطن، ويطيعون شريعة واحدة لا تُفرق بين الكبير والصغير، وتحكمهم سياسة واحدة وحكومة واحدة، هذه الأمة تكون رمزًا لسعادة الفرد الواحد الذي يتألف هو نفسه من عناصر عدة تجمع بينها قوة الجذب المشترك، كما يتألف من أعضاء شتى مختلفة الأشكال في بنيتها العامة توحد بينها قوة روح محركة واحدة.
وسعادة الاثنين (الأمة والفرد) تنشأ من حركات الجسم ككل، وهي التعبير الظاهر عن الروح الكامنة التي تنشط الإنسان وتحركه نحو التماسك والتروي واليقظة والحزم، وتحثه على اكتساب العلوم والمعارف، وتوجهه نحو الصنائع والاختراع، وتنقذه من الكوارث، وتحميه من محن الدهر، ومن تلك الحركات الجبرية التي لا تتحكم فيها إرادته أو اختياره، مثل الحركات البدنية التي تنشط بارتفاع الأمم وسقوطها، وتشكل السلسلة التي لا نهاية لها، وهي سلسلة تربط ما يقع اليوم بالعلة الأبدية.
والعجز عن تحقيق السعادة أو فقدان السعادة بعد تحقيقها بسبب الأمة أو الفرد يكون نتيجة إهمال ذلك المحرك المتصف بالكمال والمتصل بالحركات المجمعة التي أشرنا إليها، أو نتيجة عدم الاهتمام بأي جزء من هذه الحركات، ولكن إذا حدث أن نتج العجز عن تحقيق السعادة — مع ما يترتب عليه من مضاعفات — من غياب أي جزء، فإن الإنسان لا يكون عندئذٍ مسئولًا؛ لأن الأمر يتعدى نطاق تحكمه ومجال إرادته. ومن ثمة فإن الذي يخسر السعادة في مثل هذه الحالة ليس من القبيح أن يُلام أو يُنتقد، ولا هو يملك مبررًا عادلًا للندم أو تأنيب الضمير، ولكن إذا نشأ ذلك العجز من داخل مجال إرادته؛ فإن الخاسر يستحق الاستنكار والتقريع، ويجب أن يبدي أسفه على إهماله لما كان داخل نطاق تصرفه.
هذا المعيار الفلسفي الذي يشير إلى تلك القوانين الفطرية للطبيعة يصلح مقياسًا لقياس ظروف الأمم وأحوالها في السعادة والشقاء، وكذلك يصلح مقياسًا لكيل الثناء والمديح، أو التقريع والانتقاد لماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها.
ماضي الإنجليز
وبناء على هذا سوف نستخدم ذلك المعيار في استعراض تاريخ الشعب الإنجليزي العظيم، الذي يصمم الآن على خوض حرب مع أفغانستان، حتى يمكن أن نكتشف أسباب سعادته الماضية، ونستطيع أن نحكم على استمراره أو ركوده في المستقبل فنقول: لقد بعث الخطيب المشهور شيشيرون خطابًا إلى أحد الفاتحين «الرومان» لإنجلترا رجاه فيه ألا يرسل أسيرًا إلى روما؛ لأن الإنجليز جنس أمي غير متعلم، لا يعرفون الخُلُق المهذب، ولا يُقبلون على اكتساب المعارف، ولا سيما الهندسة والموسيقى.
وقد درج النورمانديون أيضًا حين احتلوا الجزيرة الإنجليزية على تكبيل أعناق أهلها بالأغلال؛ لأنهم أدركوا انحطاطهم وتخلفهم، ومع ذلك فقد لاحظ هؤلاء الأهالي ما أحرزه جيرانهم من تقدم في العلوم والمعارف، وما استمدوه منها من مزايا، وما تحقق لهم — نتيجة ذلك — من مرتبة عالية، فتأثروا ونشطوا إلى حد أن مزاجهم كله أصابه التغير، واعتراه ظمأ عارم لتحصيل العلوم، واتجه هذا الظمأ أول ما اتجه إلى الصنائع أساسًا، ثم تطور فأصبح تجاريًّا، سرعان ما اتسعت معاملاتهم بسببه اتساعًا هائلًا. وقد ساعدت على ذلك القوة القاهرة للظروف؛ مما ترتب عليه في النهاية تتويج جهوده بالنجاح الكامل.
ولما اشتد ساعدهم، وبلغوا أوجهم، ووقفوا بقوة على أقدامهم، راحوا يتأملون في أحوال جيرانهم الإسبان والبرتغاليين والهولنديين والفرنسيين الذين فتحوا مختلف البلاد والأصقاع، واكتشفوا الجزر، وأسسوا المستعمرات، وأرسلوا أيضًا بعثات إلى جميع أركان المعمورة، وأطلقوا السفن في المحيطات الشاسعة شرقًا وغربًا. ثم قادهم هذا التأمل إلى العزم على التنافس والتباري مع أولئك الجيران، ومع ذلك كان عليهم أن يتغلبوا على عقبة كبيرة، وهي قلة الرجال. ولعلاج ذلك اتخذوا سياسة قوامها «التغرير والتلبيس، ونصب فخ المواربة وشرك المخاتلة»، وبهذه السياسة حققوا أهدافهم، وتفوقوا على سائر الأمم الأخرى، إلى حد أن المتأمل في جلافة تحولهم، وبرود جِبِلَّتهم، قد يتساءل: كيف تأتَّى لهم تحقيق النجاح بهذه الوسائل الماكرة، والثبات على نجاحهم، وحماية وضعهم عن طريقها؟
غير أنهم استغلوا هذه الوسائل كسلاح يهاجمون به الأمم والممالك، وأثبت السلاح في أيديهم مضاءة في إثارة الفتن في مختلف الإمارات، وتقليب الواحدة على الأخرى، وخلق المنازعات بين الحكام ورعاياهم.
وعلى أساس هذا المبدأ سلكوا حين طمعوا في محطة في البحر الأبيض المتوسط، ورغبوا في سلخها من الممتلكات العثمانية كي يؤسسوا بها مستعمرة، كما أرسلوا الرسل إلى المرحوم الشاه عباس، شاه إيران؛ كي يُحرِّضوه على حكومة البلاد، ويغروه على التحالف معهم في إذلالها. وعلى هذا النحو نجدهم، حين وضعوا أقدامهم على سواحل الهند، مهد البشرية وينبوع التشريع، يحرضون النوابين والراجوات الهنود ضد عاهلهم تيمور، ويغرونهم على التمرد عليه والاستقلال عنه، ثم أخذوا يعينون هذا على ذاك، ويؤلبون الآباء على أولادهم، والوزراء على الأمراء، حتى حققوا غرضهم بتأسيس حكمهم فوق جميع راجوات الهند.
كذلك كان الإنجليز هم أيضًا الذين وحدوا أوروبا بأسرها ضد بونابرت حين بدءوا يخشون على أنفسهم منه، وأدركوا أنه أنشأ علاقات ودية مع تيبو سلطان عاهل مدراس، بل إنهم عقدوا معاهدة مع فتح علي شاه، عاهل فارس، تقضي بأن يرسل قوات إلى خراسان عندما قرر تيمور شاه الأفغاني أن يزحف بجيش إلى الهند، كذلك سعوا إلى مساعدة شاه شجاع، السلطان الأفغاني المخلوع، عندما سمعوا أن الروسي فيكوفيتش قد جاء إلى أفغانستان كي يدعو الأمير دوست محمد خان لعقد معاهدة مع شاه فارس.
وفي تلك المناسبة سيروا جيشهم إلى داخل البلاد، تحت قيادة شاه شجاع، ونجحوا في خلع دوست محمد خان، وإحلاله محله، كما اتصلوا بالفرنسيين كي يعاونوهم في معاركهم مع روسيا، عندما أدركوا أن الروس يطمعون في القسطنطينية «الآستانة»، وهم يعرفون جيدًا أن روسيا إذا نجحت في تحقيق ذلك الهدف فسوف يُقطع طريقهم إلى الهند عبر أفريقيا عاجلًا أو آجلًا — وقد أُغري الفرنسيون على الانضمام إليهم في حرب القرم — ولكن خسائر الإنجليز في الرجال والمال لم تصل إلى عُشر ما خسره الفرنسيون، وكانوا هم أيضًا الذين أغروا الأمير دوست محمد خان على الاستيلاء على مدينة هرات، مفتاح الهند، وكان يحكمها وقتذاك أحد أقرباء شاه إيران؛ وذلك خوفًا منهم أن تعقد روسيا معاهدة مع فارس.
والخلاصة أن من يرجع إلى تاريخ الماضي يقتنع، لا محالة، بأن الإنجليز لم يكفوا قيد شعرة عن اتباع ذات السياسة الثابتة في تحقيق غاياتهم في الشرق والغرب، وفي العالم القديم والحديث. وبالسير على هذا المنوال نجحوا في كل مكان، وراحوا يستولون على الأمم، ويضمون الأراضي، ويوسعون بذلك نفوذهم، إلى حد أن ممتلكاتهم تُشكل منطقة تصل إلى ما يساوي محيط الكرة الأرضية. ولو ألقى متفرج نظرة عجلى على نجاح هذه الاستراتيجية، وعلى جماعة المتعلمين والإداريين البارزين، وعلى عدد هؤلاء القوم ومصادر ثروتهم، لمال إلى الشك في إمكان اهتزاز أسس مملكة عظيمة كهذه، أو فرار أقل قطعة من الأرض وقعت تحت سيطرتهم، ولكن إذا راجع المتأمل حكمه، ودقق قليلًا في الموضوع، لاكتشف أن السياسة الإنجليزية تقوم على أساس هشٍّ، وأن قبضتها ضعيفة، وأن القوة الناشئة منها لها ذات الخصائص، وبالرغم من أنها تبدو — لقصير النظر — ضاربة في أعماق التاريخ.
ومع ذلك، يجب أن نضع في ذهننا أن هذا الضعف وغياب التماسك لا ينشئان من أي حاجة إلى العقلاء والحصفاء بين أولئك القوم، فهم يتحركون من خطأ مستهجن كامن في طبيعتهم، ألا وهو الأنانية التي تُعد فيهم من الدرجة الثالثة؛ وذلك لأن حب الذات له ثلاث درجات مختلفة: الأولى: حين يحب الشخص نفسه ويحب الغير أيضًا، بغير دافع المصلحة. وهذه صفة الإنسان الكامل، والأخرى: هي حب الذات، وحب الغير إذا كان في هؤلاء الغير منفعة، دون إضرار بهم. وهذه صفة الإنسان المتوسط الفضائل. والأخيرة: هي حب الذات وتحقيق المكاسب حتى على حساب الإضرار بالعالم كله. وهذه أدنى أشكال تلك الصفة.
ومع أن الذي تكون فيه هذه الدرجة الدنيا يظهر حبه لذاته، فهو في الحقيقة عدو لنفسه؛ لأن أنانيته تؤدي به إلى مسالك خطرة، وتلحق به كثيرًا من الشرور؛ وذلك لأن من يتميز بهذا الغرور لا يكف عن الاستخفاف بحقوق الغير، ولا يحرص إلا على خدمة غاياته، فالغرور يعميه أولًا عن الصواب، وبذلك يمنعه من التمييز بين الشر والخير. ثانيًا يُغْري مَنْ على شاكلته بمعارضته؛ لأن العقل البشري مفطور على كراهية الذين لا يحترمون حقوقه، ثم هو يؤدي به أخيرًا إلى الطمع فيما يملكه الغير، والتخطيط لحرمانهم مما يملكون، فيحدث — بالطبع — العداء والنزاع.
ولا جدال في أن الشعب الإنجليزي العظيم مصبوب في هذا القالب.
أنانية الجنس الإنجليزي
البرهان التالي يقوم على استخدام المنطق، من المعلول إلى العلة، ويصلح دليلًا لأولئك الذين يبحثون عن العلم، ويجدر بالسائل أن يعتني بملاحظة النتائج التي ترتبت على الأنانية المفرطة عند الإنجليز.
- أولًا: سنضرب المثال بالأمريكيين الذين ثاروا على الإنجليز، فمع أنهم يشتركون معهم في اللغة والدين نراهم يظهرون لهم عداوة صريحة، ولا يرجون شيئًا أفضل من أن يروا مملكتهم في حكم الزوال. وليس من السهل إدراك مثل هذا المشهد الرهيب إلا بإرجاعه إلى حب الذات المفرط الذي شرحناه؛ لأننا نرى أن وحدة شعبين في اللغة والعقيدة رباط أقوى من أي رباط آخر بين البشر.
- ثانيًا: منذ نحو عشرين عامًا اتحد شعب الهند — سنيين وشيعيين ووثنيين — وتآمروا على الإطاحة بالاستعباد الإنجليزي، وكان أهل السنة بقيادة فيروز شاه، والشيعة بقيادة باجس قدر، وأمه البيجوم صاحب، والوثنيون بقيادة نانا روا صاحب. وقد ثار هؤلاء على الإنجليز، وقتلوا وذبحوا الكثيرين منهم، إلى حد أن حكمهم للبلاد أوشك على السقوط، وما زال الشعور بالعداوة والبغضاء قائمًا، وقد تحققا بدرجة عالية إلى حد أنه لا يُوجد هندي لا يصلي من أجل زحف الروس إلى حدود الهند، ولا ينتظر اقترابهم متلهفًا حتى يتمكنوا من تخليصهم من السيطرة الإنجليزية.
ونعود فنقول: إن من الواضح أن هؤلاء القوم الإنجليز إذا لم يكونوا قد وطنوا أنفسهم على الانفراد بالمنافع التي عند الغير، وانحطوا بأنفسهم إلى أخذ ما ليس لهم، لما أمكن ظهور مثل هذا التحالف بين شيع تعتنق آراء شديدة التعارض، وهي شيع كان يمكن، في ظروف غير هذه، أن تفرح الواحدة بالشرب من دم الأخرى.
مقارنة بين الإنجليز والأمم الأخرى
ما أبعد المسافة بين هذه السياسة وسياسة الروس الذين يعدهم الإنجليز متخلفين بلا حدود، وجماعة من المتوحشين والهمج! فحكومة هؤلاء الروس لم تحتل بلدًا إسلاميًّا واحدًا، ولا تحكمت في قبيلة من قبائله، مثل: داغستان، أو قازان، أو القوقاز، أو القرغز، أو طشقند، أو قوقند، أو سمرقند، أو جزخ، أو بني قورفان، أو قرقول، أو خيوة، أو عرانجي، حيث لم تنجح في اجتذاب حب الناس، ولكنها قامت بترقية الكثيرين منهم إلى المناصب العالية، واختارت من بينهم قوادًا وضباطًا للجيش.
أما في الهند فلا تجد أحدًا رُقِّي إلى مثل هذه المناصب ولا إلى وظائف أقل منها، ناهيك عن ضخامة عدد الناس، وتحكم السلطة البريطانية فيهم. ومن ثمة فأنت في البلاد المختلفة التي عددناها لا تلقى أحدًا ساخطًا، ولا أحدًا شاكرًا للحكم الروسي، بل لن تجد فارسيًّا واحدًا لا يميل إلى الروس ويثني عليهم أكثر من الإنجليز، مع أن الروس ارتكبوا أعمالًا شريرة في حق الفرس في الماضي، حين استولوا على جانب كبير من أراضيهم، في حين لم يرتكب الإنجليز شيئًا من ذلك، بل إن الصحف الإنجليزية تقول: إن الفرس هم الذين هيجوا الأفغان على الإنجليز.
بل ما أبعد الفرق بين سياسة الإنجليز وسياسة الفرنسيين في الجزائر! فأهل ذلك البلد أكثر رضا وسعادة — بغير حدود — من أهل الهند، وكيف لا يصح ذلك إذا تأملنا في اختلاف الطريقة التي يُعاملون بها؟ لقد دعوا هذا العام — الفرنسيون — مشايخَهم إلى المعرض، وعند وصولهم قدم لهم كبار مسئولي الدولة ألوانًا بهيجة من الترفيه، وأجلسوهم جميعًا حسب رُتَبهم ومكانتهم، وأظهروا لهم أيضًا ألوانًا أخرى من الاهتمام، فرطبوا قلوبهم، ثم طلبوا منهم بعد ذلك أن يرسلوا ممثلين لهم في الجمعية الوطنية «البرلمان»، حتى يساهموا في تحقيق المزايا التي تحقق لجنسهم.
والحق أن الأمة الفرنسية قد كسبت قلوب الشرقيين باعتدالها في صفة الأنانية، وحبها العام للخير والبر، وبذلك يحق للشرقيين أن يحبوها في المقابل، والحق أن تلك الأمة لم تنفك تظهر عواطفها الكريمة في جميع أنحاء الشرق.
انظر إلى مصر التي يتخذها الإنجليز طريقًا إلى الهند، هل تجد فيها أي مؤسسة نافعة؟ وأي آثار تدل على حب الحرية المنزه عن الهوى من أصل إنجليزي؟ كلا، فمهما كان وجود مثل هذه الدلائل فإنما تشير إلى الفرنسيين، ولن تجد في مصر مدرسة واحدة للمعارف أو العلوم، منذ عهد المرحوم محمد علي باشا، إلا كان مؤسسها ومنظمها وناظرها فرنسيًّا، فتحية إلى الأمة التي تنطق أعمالها بمدحها، والتي يشهد العالم كله على فضائلها وطهارة ثوبها الذي لم يدنسه تلوث الطمع.
الإنجليز في مؤتمر برلين
أذكر أيضًا سلوك الإنجليز في مؤتمر برلين، حيث عرضوا للبيع بعض أقاليم تركيا، فقد تعهدوا هناك، فضلًا عن هذا، بخرق المعاهدات، ولا سيما ما يخص منها أهل الشرق، الذين كانوا — وقتذاك — على قناعة كاملة بغدرهم، وكانوا حقًّا من الاقتناع بذلك إلى حد أن لو جاءهم الآن صوت من السماء معلنًا صدق وعودهم، وتمسكهم بكلمتهم لما صدقوه ولا أطاعوه، غير أن هذا هو أسلوب الإنجليز الذي لا يتبدل؛ فهم حين يريدون نوال شيء أو يفكرون في ضرر يسعون إلى تحقيقه عن طريق المعاهدات، وهي مجرد أدوات التغرير والتدليس، ولا يترددون في نقضها في سبيل خدمة مصالحهم. وهذا ما فعلوه في الهند، ولا سيما مع سلطان لكنو الذي قبضوا عليه ونقلوه إلى كلكتا.
إن السياسة الضعيفة تنشأ من العقل المضطرب، وتنبت من الشره والطمع اللذين ينبعان بدورهما من تلك الصفة المستهجنة، ألا وهي الإفراط في الأنانية، وقد أثارت هذه الصفة أعداء الإنجليز عليهم، وجعلت أصدقاءهم يشعرون نحوهم بالاشمئزاز، فهم — على سبيل المثال — رفضوا مذكرة أندراسي، وبذلك أسخطوا عليهم النمساويين الذين وضعوا تلك المذكرة بكل ما لديهم من إخلاص، ثم تمت الموافقة عليها — بخط أندراسي — من الأباطرة الثلاثة، كما أنهم — أي الإنجليز — رفضوا مذكرة بسمارك، وهو السياسي الذي يجب على من يرفض رأيه أن يعد نفسه لرأي أشد وطأة بذات المعنى.
وبذلك أحنقوه عليهم، ومعه جميع أحزاب ألمانيا، بل إنهم أثاروا على أنفسهم كراهية جميع الوطنيين العثمانيين عندما منعوا جنودهم في لاميج من تنفيذ الأوامر التي تلقوها، وأغروا أمير تلك البلاد على التنكر للسلطان، وكذلك الحال حين حرضوا العثمانيين على رفض المذكرتين، ثم انضموا بعد ذلك إلى الدول الأوروبية الكبرى الأخرى عند قبولها لمذكرة الآستانة.
وقد حدث هذا نفسه عندما أوحوا للعثمانيين بأنهم سيعينونهم على أعدائهم إذا هم قاتلوا، ولكنهم تركوهم — وهم في أشد الحاجة إليهم — بعد أن قادوهم إلى الحرب التي يعرف الجميع نتائجها، وكذلك حين عارضوا معاهدة سان ستيفانو، وجاهدوا في سبيل انعقاد مؤتمر برلين، بالرغم مما عبرت عنه جميع الصحف حين فضلت المعاهدة السابقة للعثمانيين على المؤتمر من حيث المزايا، ويمكن أن تضيف إلى هذا كله أنهم؛ أي الإنجليز أيضًا، كانوا السبب في مذبحة المسلمين في البوسنة والهرسك.
لقد اكتسبوا، علاوة على هذا، كراهية مرة من جانب روسيا التي سوف تثأر لنفسها في القريب العاجل، وذلك بإصرارهم على دخول سفنهم البوسفور، وحشدهم القوات في مالطة، ومحاولتهم تجاهل معاهدة سان ستيفانو، وإعلانهم عن نيتهم للاستيلاء على ممري بولان وخيبر، واقتراحهم مد سلطتهم على جزيرة رام هُرْمُز التي تُعد أقرب طريق إلى ساجستان على حدود قندهار، وقد أثاروا اشمئزاز اليونانيين أيضًا بعجزهم عن حفظ وعودهم لهم.
- أولًا: لأن هؤلاء حرضوهم على الدخول في حرب مع بروسيا، وغرروا بهم حين كان واجبهم أن يؤيدوهم.
- وثانيًا: لأنهم — الإنجليز — تخلوا عن التوسط بينهم حتى تسببوا في تضحيات جسيمة للفرنسيين كان يمكن توفيرها لو أنهم وقفوا بجانبهم، أو تفاوضوا طبقًا للمعاهدة.
- وثالثًا: لأنهم زعموا سيادتهم على قبرص التي تُعد ذات مركز مهم كبوابة إلى سوريا وآسيا الصغرى ومصر، كما هو معروف عامة.
ومن الغريب أن نقول إنهم استولوا على قبرص بحجة الدفاع عن الأراضي العثمانية في آسيا الصغرى، ولكن ألم يكونوا هم الذين تعهدوا من قبل مع الدول الكبرى الأخرى على سلامة الإمبراطورية العثمانية؟ لماذا إذن تراجعوا أثناء الحرب الأخيرة؟ هل فسدت تلك المعاهدة الأولى حتى احتاج الأمر إلى تدعيمها بمعاهدة أخرى؟ ولماذا حددوا مسئوليتهم هذه المرة بحدود آسيا الصغرى؟ ألم يكن ذلك لأنهم تنبئوا باهتزاز ظلهم فوق الهند، فأسرعوا لضمان بديل في أرض قريبة من بريطانيا؟ إن الأراضي العثمانية في أوروبا ممنوعة عليهم، بل إنهم غير مؤهلين لمناقشة وضعها، ومن ثمة حولوا أبصارهم إلى الأقاليم الشرقية، وتعهدوا بالدفاع عنها.
وعلاوة على هذا كله، بدءوا ممارسة سياستهم الهندية في تركيا، كما جاء في تصريح منشور لقائد إنجليزي، ولكن حين رأوا أن فرنسا وإيطاليا تراقبان تحركاتهم شرعوا في إثارة الخلاف بينهما، حتى يبعدوا أنظارهما عنهم، ويظل الساحل لهم وحدهم، ثم وهبوا تونس لفرنسا، كما جاء في الأنباء، ولكن الفرنسيين من الذكاء بحيث لا تنطلي عليهم الخدعة، ومن الحرص بحيث لا يُؤخذوا على غرة، كما أنهم — الإنجليز — أشعلوا غضب الإيطاليين، أحفاد الرومان، الذين كانت بريطانيا أشد ما يبغضون من توابعهم، بسبب احتلالهم قبرص التي كانت من قبل إحدى ممتلكات الرومان، ولا تزال آثارهم باقية فيها، وكذلك بسبب تحركاتهم الأخيرة في مصر.
نصيحة إلى الإنجليز
والآن فهذه الأمور التي صنفناها أمامكم تشكل عللًا كثيرة، مباشرة وغير مباشرة، تدل على سقوط السعادة، وهي بعض ثمار الأنانية الفاضحة.
لا جدال في أن هذه الصفة تحكمها الإرادة، ومن ثم فإن من تكون فيه الأنانية فيستخدمها في إيذاء الغير، إنما يكون سلوكه باعثًا على الاستهجان وموجبًا للندم؛ ولذلك يجدر بحكماء الشعب الإنجليزي العظيم أن يتدارسوا الأمر فيما بينهم، وأن يرجعوا فورًا عن طريق الإفراط إلى طريق الاعتدال، وأن يخلصوا أنفسهم بعد ذلك من فكرة أنهم لا يخطئون في أفكارهم، وأن يكفوا عن خداع أنفسهم حول مبلغ ممتلكاتهم الشاسعة، واستمرارها المطول تحت مظلة نفوذهم.
وا أسفاه! سوف يمضي وقت طويل قبل أن يصحح هؤلاء القوم سلوكهم، إلا إذا شاء الله غير ذلك، ففي اعتقادنا أن حبهم لذاتهم وشرهَهم وطمعهم في زيادة مطردة.
هل يمكن لأحد، حقًّا، أن يعجز عن ملاحظة هذا الطمع عند الإنجليز في إصرارهم على الاستيلاء على الممرات الواقعة على حدود الإمارة الأفغانية، وفي تجهيزاتهم القتالية لغزوها، بحجة أنها توشك على الدخول في حلف مع روسيا، محاولين — في الوقت ذاته — إخفاء دهائهم وحيلهم التي لا تخفى على أحد، مدعين أنهم مجبورون، بالرغم من إرادتهم، حتى يتفادوا العدالة والنزاهة؟ غير أنهم انقادوا إلى هذه السبيل، بغض النظر عن عواقبها، بفعل غرورهم وسياستهم التي لا تحيد. وسوف نميط اللثام الآن عن ضعف حجتهم هذه، ونوضح بعض القضايا الممكنة لأغراضهم الراهنة، حتى نميز بين الحق والباطل، والعادل والظالم.
أحداث الماضي الأفغاني
منذ نحو اثنين وعشرين عامًا جمع ناصر الدين شاه جيشًا، وزحف به إلى هراة فاستولى عليها، وأبدت الحكومة الإنجليزية قلقها إزاء ما حدث، وخشيت على سلامة وضعها في الهند، وقد ترتب على ذلك أنها أرسلت أسطولًا إلى الخليج الفارسي، وأعلنت الحرب على فارس، واحتلت جملة نقاط من أراضيها على الساحل. وبعد نحو عام تم الصلح بين البلدين، وكان من بين شروطه أن يكون حاكم هراة أفغانيًّا، وأن تكون حاميتها من الأفغان، بالرغم من أن الاتفاق تم على أن يظل ضرب العملة باسم الشاه، وأن يستمر ذكر اسمه في الصلاة بالمسجد.
وتنفيذًا لهذا الاتفاق عُين السلطان محمد خان — صهر أمير أفغانستان وابن عمه — حاكمًا على ذلك الإقليم، ومع ذلك لم يقض هذا على مخاوف الحكومة الإنجليزية، ولا هدَّأها، فكانت خطوتها التالية أن تحرض دوست محمد خان على الاستيلاء على هراة، بعد أن وعدته في حالة نجاحه بأن يتلقى منها، هو وخلفاؤه من ذات الأسرة، إعانة شهرية قدرها مائة ألف روبية، ثم جند الأمير جيشًا، وبعد قتال مطول توفاه الله، ولكن الإقليم لم يتم الاستيلاء عليه إلا بعد وفاته، واستمرت الحكومة الإنجليزية في إرسال الإعانة المذكورة بانتظام كل شهر.
وتلا ذلك أن وقع النزاع بين أبناء الأمير الذين على قيد الحياة: محمد أفضل خان، ومحمد أعظم خان، وشير علي خان، ولي العهد، وتطور النزاع في النهاية إلى فتنة، وعند ذاك أوقف الإنجليز المبلغ الموعود.
المباحثات الأخيرة مع الأمير
ومع ذلك، حين استقرت سلطة محمد أعظم خان تمامًا، أحس الإنجليز بميل من جانبه نحو روسيا، فدخلوا في مراسلات مع شير علي خان، ووعدوه بتجديد المنحة إليه إذا هو نجح في الوصول إلى الحكم، والتزام التوقف عن اتباع سياسة أخيه، وعندما نجح ونشر سلطته في جميع أنحاء أفغانستان دعوه إلى أمبالا، ورتبوا له استقبالًا حافلًا، ودفعوا له ما وعدوه به، ثم استمروا في الوفاء بالتزامهم الذي فرضوه على أنفسهم، حتى أصابتهم — مرة أخرى — نوبة من الشره والطمع، بسبب تجدد خوفهم وخشيتهم اقتراب الروس من حدودهم، وهو خوف يرجع إلى وعيهم بضآلة ما في أيديهم من حب الهنود، الذين يضمرون لهم الكراهية الدفينة نتيجة ما استحلوه لأنفسهم — بغير وجه حق — من أمورهم.
ولما كانوا يجهلون الدواء الصحيح لهذا الداء، ألا وهو بذل الجهود المضنية لضمان الود عند الناس، فقد قرروا الاستيلاء على ممر خيبر، وكذلك ممر بولان، عند تخوم بلوجستان، وهي قطر كان تحت حماية أفغانستان منذ عهد أحمد شاه، بل وغير هذين من ممرات على حدودهم، كي يرضوا نزعهم إلى الطمع، متخيلين — دون جدوى — أنهم بذلك يداوون داءهم العضال، ويُهدِّئون جميع مخاوفهم.
وحتى عند ذاك، حين تخيلوا خطأً أنهم يعملون تحت راية الحق، وأقنعوا أنفسهم بأنهم لا ينوون أن ينحرفوا قيد خطوة عن طريق الحق، إذا بهم مرة أخرى يعودون إلى الحيلة والخديعة، فخاطبوا الأمير، بعد توقف المنحة، بما معناه: «لسنا مقتنعين بما تبديه نحونا من ودٍّ واهتمام، وحتى إذا أكدت هذا لنا فلسنا نثق في مقدرتك على الدفاع عن بلد ضد الغزاة، فإذا رغبت — بناء على هذا — في استمرار العلاقات الودية التي بيننا وبينك، وزيادة الإعانة، فلا بد أن تُسلم الممرات لنا.»
وكما كان المتوقع، لم يلق هذا الاقتراح استحسانًا عند الأمير، فنشأت — بسبب ذلك — حالة من البرود بينه وبين الحكومة الإنجليزية، وفي ذلك الوقت حدث أن وصلت إلى أفغانستان بعثة روسية تحمل المجاملات المعتادة بين الملوك، واستُقبلت بالحفاوة المعتادة، ولكن هذه الحادثة ضخمت مخاوف الحكومة الإنجليزية، فاستغلتها في شن حرب على الأمير، وأرسلت إلى الإمارة رسولًا يحرسه ألف فارس، ويصحبه مائة ضابط ومهندس، وذلك بعد أن أصبح من المعلوم أن الأمير لا يسره استقبال بعثة كهذه.
وقد ساهمت جملة اعتبارات مهمة في توجيه سلوكه إزاء هذا الموضوع، فقد فكر في الطابع غير العادي الذي اتخذته البعثة، على خلاف المعتاد من البعثات بين الدول، حيث لا تزيد على عشرة أشخاص أو نحو ذلك، واضطر إلى منع مرورها ببلده خشية أن تبدو مسيئة في نظر أهله، وحتى يخمد فتنة أوشكت على الاشتعال بسبب ذلك.
واتخذت الحكومة الإنجليزية — كعادتها وبناء على تصميمها السابق — رفض الأمير ذريعة لإنكار المعاهدة، وقطع العلاقات الودية، وشن الحرب، وحشد جيش على حدود أفغانستان، وفي تلك الأثناء شرعت الصحف الإنجليزية في تهديد الأمير بالطرد المهين من أراضيه.
كانت هذه حيلة الإنجليز عندما قرروا غزو أفغانستان، ونحن نهيب بجميع محبي العدالة وجميع رجال السياسة وسائر صحف أوروبا، أن تعلن ما إذا كان الأمير مضطرًّا لاستقباله مثل هذه البعثة مقابل خطر اشتعال فتنة في إمارته، وما إذا كان ثمة قانون أو عُرف سياسي يجبره على التخلي عن جزء من أراضيه.
النتائج المحتملة للحرب
- أولًا: يعلم كل من له علم بأخلاق البشر وسجاياهم أن الأفغان جنس قوي، شجاع،
حازم، غيور على شرفه، متحمس في عقيدته، عازم على عدم الخضوع لحكم أجنبي
طالما أن يديه قادرتان على حمل السيف. ومن الصعب إدراك أن الإنجليز
يمكن أن ينسوا المذاق المر للنصال الأفغانية، في وقت كانوا هم فيه
مسلحين بأكمل البنادق والمسدسات، ولم يكن عند الأفغان أسلحة نارية على
الإطلاق، وكيف يمكن أن ينسوا ذلك حقًّا، والجبال التي حملت الشهادة على
النزاع سبحت في دم مواطنيهم، وعجَّت وديانها بعظامهم وجماجمهم؟ ماذا
يدعوهم مرة أخرى إلى ذلك البلد الذي مروا فيه بتلك التجربة
الشنيعة؟
تقول الصحف الإنجليزية: «لكي نؤدب الأمير ونعاقبه.» ولكنها تقول ذلك متناسية — فيما يبدو — حقيقة أنه يملك ما يصل إلى ٦٠ ألفًا من الجنود المنظمين جيدًا، المجهزين تجهيزًا كاملًا بالأسلحة النارية، فضلًا عن ٣٠ ألفًا آخرين يوجد بينهم — كما أبلغني شخص موثوق به وصل مؤخرًا من هناك — ضباط ومهندسون روس.
صدقوني إن الإنجليز وضعوا أنفسهم في موضع حرج، وهم مندفعون بغير تفكير إلى دوامة من المتاعب يصعب عليهم الخروج منها.
- ثانيًا: ينساق الإنجليز إلى الحرب دون أن يتأكدوا من أنهم لن يضطروا إلى التراجع بجيش منقوص، فما أفدح العواقب إذا حدث ذلك! سوف تشتعل نار الثورة في الهند مثلما حدث حين اقترب جيش الشاه من هراة، لا سيما إذا أعلنها شيخ الجبال، أخوند السواطي، حربًا دينية، ودعا الناس إلى الجهاد.
- ثالثًا: بعد المنافسة التي قامت بين الإنجليز والروس على صداقة الأمير، ليس
من غير المحتمل أن تنتهز روسيا الفرصة، عند انفجار المعارك، تعقد حلفًا
سريًّا مع الأمير، وتدخل معه في معاهدة سرية، هجومية ودفاعية، يكون شاه
إيران أيضًا طرفًا فيها، وتقضي بأن يساعد كل طرف الآخر على استئصال حكم
الإنجليز في الهند، واقتسام أراضيها فيما بينهم، وربما خدعتهم —
الإنجليز — التصريحات الرسمية للروس، التي قرروا فيها مرارًا وتكرارًا
أنهم لن يمدوا سلطانهم إلى أوركانج وخيفا، وأنهم لن يقيموا تحصينات في
خوارزم، في حين — كما ظهر فيما بعد — كانوا يفعلون العكس
تمامًا.
وعلاوة على ذلك، فمن المحتمل جدًّا أن يكون الأمير قد حقق تفاهمًا مع أولئك النواب والراجوات الهنود الذين لا يحرصون إلا على انتظار فرصة تمكنهم من قتال الإنجليز، ومسح عار العصيان الأخير هناك، عندما دُنِّست معابدهم وذُبح زعماؤهم ورؤساؤهم الروحيون، وعندما قتل الإنجليز — برغم ادعائهم العدالة — ستين شخصًّا، شكًّا منهم في أن يكون كل من هؤلاء نانا راو صاحب، وحين حولوا القصر الملكي في دلهي إلى إسطبل لماشيتهم، ومخزن لمهماتهم وأدواتهم الحربية، مثلما فعلوا أيضًا مع الكلية المشهورة التي كانت مخصصة للشعراء الدينيين في لكنو.
- رابعًا: ليس من غير المحتمل، فوق هذا كله، أن يقوم الأفغان — بدافع من الكراهية والحقد الخالصين — بتسليم بلادهم للروس، إذا اضطروا إلى ذلك، وعندئذ يجد الإنجليز أمامهم شيطانًا لا حليفًا.
- خامسًا: إذا افترضنا أن ينجح الإنجليز في دخول أفغانستان، أفلا يعبر الروس جبال الأوكسوس ويحتلون بلخ بحجة أنها من أقاليم بخارى، وأن أهلها من الأوزبك، وأن الأفغان ضموها إلى بلادهم دون حق، وبذلك يجبرونهم على تسليمها؟ وعندئذ سوف تسقط المينا في أيدي الروس، ويحولونها إلى معسكر لجندهم الاحتياطي، يرسلون منه قواتهم إلى هراة وقندهار؛ لأنه لا يوجد أي عقبات طبيعية في ذلك الطريق، ثم يرسلون قوات من فرسان القوزاق للاستيلاء على ممرات هندكوش، ويسيطرون على باميان التي تعد مفتاح كابول.
- وسادسًا: إذا نجح الإنجليز في الاستيلاء على أفغانستان، فإنهم إما أن يظلوا
بها أو يضموها إلى أراضيهم، وفي الحالتين سوف يشاركون الروس في الحدود،
ومن ثمة يُعرِّضون أنفسهم إلى نزاعات وأخطار لا نهاية لها. ومن الناحية
الأخرى، إذا انسحبوا من البلاد بعد إخضاع الأمير، وطيِّه تحت جناحهم،
فإن أي حرب تُعلن عليه ستكون حربًا عليهم.
ولكن إذا هم قنعوا باحتلال الممرات تاركين الإمارة وشأنها، فسوف يكونون في هذه الحالة قد نجحوا في تحويل الأفغان — الشعب المحارب الذي لا يُساوم على كراهيته، المصمم على القصاص والثأر — إلى أداة جاهزة في أيدي روسيا لاستخدامها كيفما شاءت. ومن ثمة تكون النتيجة إزاء الإنجليز أسوأ وأفدح مما لاقوا من قبل.
ولكن إذا اعترض معترض هنا بأن الإنجليز سيحمون أراضيهم باحتلال الممرات المؤدية إلى الهند، وبعدها لا يقعون في خوف من الروس أو الأفغان، فإننا نجيب أولًا: إن الاستيلاء على الممرات لن يمنع القبائل الأفغانية التي تقطن الجبال المطلة على الهند من الإغارة المستمرة على الأراضي البريطانية، ونجيب ثانيًا: إذا رغب الروس، في ظل الظروف التي فرضناها، أن يعلنوا الحرب على الإنجليز، فسوف يتحالفون مع الأفغان، ويتجمعون في قندهار، ويزحفون من هناك إلى فوشاخ ثم قلعة ناصر دون أن يواجهوا أي اعتراض من شعب بولان، ومن هنا يتحركون نحو السند، أو قد يتخذون طريق جونداوا أو طريق ساجستان المؤديتين إلى قلعة ناصر، حيث لا توجد أي عقبات.
وهنا لا نملك إلا أن نتساءل: ما الذي دفع الإنجليز إلى التفكير في احتلال جزيرة رام هُرمُز، بغية جعلها محطة ومخزنًا لقواتهم ومهماتهم الحربية، ومنها يزحفون — عند الاحتياج — بجيش يسد الطريق المؤدية إلى الطريقين اللتين ذكرناهما نحو جونداوا وساجستان؟ إن هذا التحرك يحمل عداء صريحًا نحو الشاه، ويدفعه إلى التحالف مع روسيا، وفوق هذا وذاك فإنه قد لا يفيدهم؛ لأنه ليس من المرجح — في حالة غياب العوائق الطبيعية — أن يقدروا على مواجهة الروس والأفغان مجتمعين.
بل يجب أن نضع في أذهاننا أنهم إذا استولوا على الممرات فلا بد أن يدعوها تحت حراسة الجنود الهندوس، الذين تنكر للولاء منهم مائة ألف جندي، نتيجة سوء المعاملة من الإنجليز زمن العصيان الذي سبقت الإشارة إليه، وأداروا في وجوههم — وجوه الإنجليز — الأسلحة التي زودوهم بها لمحاربة أعدائهم.
- سابعًا: سوف يحرم الإنجليز أنفسهم، بإعلانهم الحرب على أفغانستان، من كل أمل
في صداقتهم من جانب الحكومة العثمانية ورعاياها المسلمين؛ إذ كيف
يتوقعون، في مثل هذه الحال، أن يرتبطوا بالصداقة مع السلطان العثماني،
الذي يبايعه المسلمون بلقب الخليفة، وهو مركز ديني لا يستطيع صاحبه أن
يداوم على عقد علاقات ودية مع أولئك الذين يشنون حربًا على إمارة مسلمة
أكثر ولاءً للإسلام من سواها؟
إن السلطان الآن يسعى إلى الحصول على تأييد المسلمين عامة، ولكنه سوف يفشل في ذلك لا محالة إذا هو امتنع عن الوفاء بواجبات مركزه، وكيف يستطيع الإنجليز أن يجازفوا بالاعتماد على إخلاص رعايا السلطان المسلمين، بعد أن مر هؤلاء بتجربة مرة معهم، فضلًا عما يرونه الآن من إعدادهم لمحاربة إخوانهم المسلمين؟ إنه لمن الغرابة أن الشعب الإنجليزي يصر — بالرغم من كل سلوكه هذا — على أن يعد نفسه مكلفًا بحماية المسلمين والدفاع عنهم، في حين أن المسلمين قاسوا الأمرين على أيديهم، كما لم يقاسوه من قبل ومن بعد على أيدي الآخرين.
فهم الإنجليزُ الذين حرموهم من الهند، تلك البلاد العظيمة الشاسعة، الخصيبة في منتجاتها، التي يصل سكانها إلى أكثر من مائتي مليون، منهم ٥٠ مليون مسلمون، وهم الذين تاقوا — فضلًا عن ذلك — إلى الاستيلاء على أقاليمها الباقية، إلى حد أنهم أعدوا العدة أخيرًا لإنشاب مخالبهم فيها. وكان من الممكن أن يفعلوا ذلك ما لم تقم مقصات العدل والنزاهة الفرنسية بتقليم هذه المخالب، وحجب مخططاتها.
أجل، إنهم يقومون بحماية المسلمين، ولكن كما يحمي القصاب حَمَلًا من الذئاب حتى يذبح هو الحمل ويسلخه، ومن الغرابة أن ينسى المسلمون هذا كله، ويظنوا أن الروس أفظع أعدائهم، في حين أن هؤلاء لو غزوا بلاد المسلمين مائة سنة لعجزوا عن أن يستحلوا لأنفسهم هذه الغنائم التي استحلها الإنجليز.
إن ما سطرناه حتى الآن لم ينبع من تعصب ولا من حقد، ولكنه بيان لا زخرف فيه، وشرح لحقيقة حال القضية، وفي نيتنا أن نُتبع هذه المقالة بأخرى نشرح فيها شخصية الأفغان، وعاداتهم، وأسلوب معيشتهم، وشكل حكومتهم، حسب ما يقتضيه كلٌّ من هذه الموضوعات.
رد على رد
رأينا في جريدة النحلة فصلًا لحضرة محررها الفاضل القس لويس صابونجي، حجة الشرقيين على الغربيين، وبرهانهم عليهم، خصوصًا على المتصلفين من الإنكليز الذين طالما رموا الشرقيين بالتبربر والتوحش، معنونًا بعنوان: «مصر والإنجليز وأفغان»، ذكر به أنه اطلع على مقالتنا المدرجة في بعض أعداد «مصر» السابقة المتعلقة بالإنجليز والأفغان، وأمعن فيها النظر، فحكم بأن الإفراط في حب الوطن قد قادنا للتساهل مع اليراع، والغلو في مواضع منها، مستدلًّا بأن بعض ما ذكرناه في شأن أمة الإنجليز غير منطبق على الوقائع التاريخية.
ثم ذكر أنه بعدما رفع فحواها لوزارة الخارجية ترجمها حضرة الفاضل القس جرجس باجر الفقيه حرفًا بحرف، وبعدما نشرت في جورنال «فورتنيتلي»، واطلع رجال الإنجليز على مضامينها اضطربوا وهاجوا وماجوا، وإن كُتابهم لا بد أن يشمروا عن ساعد الجد للرد على ما ذُكِرَ في تلك المقالة.
وقد رأيت من الواجب أن أعلن لحضرة القس الفاضل المحرر أنني لا أحسب أن حب الوطن، بل ولا حب الذات يعدل بي عن سَنَن الحق، ويحول بيني وبين حقيقة الواقع، وأن الأمور التي بيَّنتها في أحوال الإنجليز إنما هي بنسبة الواحد إلى الألف من أعمالهم، ولي على ذلك براهين واضحة، وحجج بينة أقيمها عند الاقتضاء. ومع ذلك لا أُنكر على حضرته أنه عند التطبيق قد رأى مخالفة بين بعض مضامينها وبين ما أنبأ عنه بعض التواريخ.
ولكن غير خافٍ على ذكائه أن تلك التواريخ من رَقَّمَتها أيدي حب الذات الإنجليزي بأقلام العُجب ومداد الغرور، فلا جَرمَ أنها تحكي الحق، ولا تنبئ عن الواقع، وكيف تطيب نفوسهم بكشف حقيقة أعمالهم وقد علموا أن السعادة في التغرير والتلبيس، ونصب فخ المواربة وشرك المخاتلة؟!
وإني أقدم واجب الشكر لحضرة القس الفقيه، حيث عُنِيَ بترجمتها لتعلم الأمة الإنجليزية أن أحوالها غير خافية على الأمم الشرقية. وأما ما ذكره من هيجانهم لدى الاطلاع عليها فقد كنا نتحققه؛ لما كان ذلك شأن المريب إذا أحس شعور غيره بما سينطوي عليه، وأما ما سيقيمه كُتَّابُهم من التمويهات والمغالطات، فلا نراها إلا حبال السحرة، وسيبتلعها عصيُّ الحق وبرهان الصدق بمقالات، بل برسائل تُنشر لكشف حقيقة سيرهم، وتبين واقع أمرهم.