المقدسي وجغرافية سورية في القرن العاشر للميلاد
المقدسي من أفضل كَتَبَة الجغرافية بين قدماء العرب، فنتخذه كمثال يوقفنا على ما بلغه أولئك الأئمة من الكمال في هذا الفن، وأخَصُّ ما نطلبه منه المعلومات التي أثبتها في كتابه عن سورية وطنه كما عرفها في زمانه، أعني في القرن العاشر للمسيح، وهذا ما حدا بنا إلى إرصاد مقالة خاصة للنظر في تأليفه.
***
المقدسي وتأليفه
ليس المقدسي أول من تولى وصف الشام، لكنه يفوق على من تقدَّمه بوفرة معلوماته وبحسن أسلوبه، والحق يُقال: إنه تحرى في عمله طريقة نظامية تجعل تأليفه في مقام رفيع.
ولد شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر البنَّاء نحو (السنة ٣٣٦ﻫ/٩٤٧م) في القدس الشريف، فدُعي لذلك بالمقدسي، وهو الاسم الذي ندعوه به اختصارًا فيما يأتي، وكان جده مهندسًا بارعًا في الشام، وهو الذي ابتنى ميناء عكَّا كما أفادنا حفيده؛ إذ قال فيه (ص١٦٢ و١٦٣): «لم تكن «عكا» على هذه الحصانة حتى زارها ابن طيلون (طولون)، وقد كان رأى صور ومنعتَها واستدارة الحائط على ميناها، فأحبَّ أن يتخذ لعكا مثل ذلك المينا، فجمع صُنَّاع الكُورة وعرض عليهم ذلك، فقالوا: لا يهتدي أحد إلى البناء في الماء في هذا الزمان، ثم ذُكر له جدنا أبو بكر البنَّاء وقيل: إن كان عند أحد علم هذا فعنده. فكتب إلى صاحبه على بيت المقدس أن يُنهضه إليه، فلما صار إليه وذكر له ذلك قال: هذا أمر هيِّن عليَّ بفِلَق الجُمَّيْز الغليظة. فصَفَّها على وجه الماء بقدر الحصن البري وخيَّط بعضها ببعض، وجعل لها بابًا من الغرب عظيمًا، ثم بنى عليها بالحجارة والشِّيد، وجعل كلما بنى خمس دوامس ربطها بأعمدة غلاظ ليشتد البناء، وجُعلت الفِلَق كلما ثقلت نزلت حتى إذا علم أنها قد جلست على الرمل تركها حولًا كاملًا حتى أخذت قرارها، ثم عاد فبنى من حيث ترك كلما بلغ البناء إلى الحائط القديم داخَله فيه وخيَّطه به، ثم جعل على الباب قنطرةً، فالمراكب في كل ليلة تدخل الميناء، وتجرُّ السلسة مثل صور.»
تعاطى «المقدسي» في أول أمره التجارة، وتجشم لذلك أسفارًا أعدته للدروس الجغرافية، وكان يشعر في قلبه ميلًا عظيمًا إلى معرفة البلدان، ولم يزل يقوى فيه ميله إلى أن انقطع إلى ذلك الفن بتمامه، فطاف كل بلاد الإسلام — اللهم إلا السند والأندلس، ثم باشر نحو السنة ٩٨٥ تصنيف كتابه، فبلَّغه كماله بعد ثلاث سنوات، أما سنة وفاته فلا تزال مجهولة، وكذلك تفاصيل ترجمته لا نعلم منها إلا القليل مما أثبته عن نفسه في مطاوي كتابه، الذي دعاه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم».
ومما يستحبه القارئ فوق ذلك في مطالعة تأليف المقدسي حرصه على سياق الأخبار وتنسيق الأوصاف، فترى الأبواب متواصلة على أحسن طريقة وأضبط أسلوب، لا يفارقه همه في النظام وترتيب المواد، على خلاف ما ترى في كتب مَن تقدَّمه، مثال ذلك أنه في كلامه عن كُورَة قنسرين جعل قصبتها حلب، وقد أحس بأن القارئ يعترض عليه في ذلك، فسبَّق بالرد على اعتراضه بما حرفُه (ص١٥٦): «فإن قال قائل: لم جعلت قصبة الكُورَة حلب وههنا مدينة على اسمها؟ قيل له: قد قلنا إن مثَل القصبات كالقُوَّاد والمدن كالجند، ولا يجوز أن تجعل حلب على جلالتها وحلول السلطان بها وجميع الدواوين إليها وأنطاكية ونفاستها وبالس وعمارتها أجنادًا لمدينة خربة صغيرة، فإن قال: هلَّا استعملت هذا القياس في شيراز؟ فأضفت إليها إصطخر ومدنها؟ قيل: لما وجدنا بإصطخر مدنًا أحدقت بها وتباعدت عنها استحسنَّا ما فعلناه ثَمَّ، والاستحسان في علمنا هذا ربما غلب القياس.»
وهي لعمري خطة محمودة أنْ لا يصف الكاتب إلا ما رآه عيانًا، وعليها جرى المقدسي فزاد في اعتبارنا مقامًا، وكذلك تراه ينبه القارئ إذا ما احتاج إلى وصف شيء لم يعاينه، مثال ذلك قوله (ص١٢) عن اليمن: «أما طريق اليمن فلا أكاد أضبط مراحلها كغيرها من الكُوَر، غير أني أذكر ما عرفت وأُجمل ما سمعت.»
ولكن دعنا الآن نواصل بحثنا في التأليف الذي نحن بصدده.
بلاد الشام على عهد المقدسي
وكان صاحب هذه الأسطر قد ألحق بوصفه للشام خارطةً كما فعل بسائر الأقاليم، إلا أن هذه الخارطة لم تُنشر بالطبع فلا يسعنا الحكم عليها لنوجه إليه الثناء أو اللوم، كفعلنا بالخوارط التي رسمها كَتَبَة العرب.
وبعد هذه المقدمات ترى المقدسي يستقري كُوَر الشام واحدةً واحدة مباشرة من جهة الشمال، وهو يحصيها ستة: قنسرين، ثم حمص، ثم دمشق، ثم الأردن، ثم فلسطين، ثم الشَّراة، وهذه الكُوَر توافق الخمسة الأجناد التي قُسمت إليها بلاد الشام منذ أول الفتح الإسلامي، والكُورَة الأولى أي قنسرين تنطبق مع ولاية حلب الحالية تقريبًا، لكننا لا نفهم كيف استطاع المقدسي (ص١٥٤) أن يدخل فيها جوسيَّة الواقعة على مسافة ست ساعات جنوبي شرقي حمص، ولعل النُّسَّاخ تصرفوا بتقديم بعض الأسطر أو تأخيرها فشوشوا الترتيب، أما كُورَة الأردن فكانت تشمل في جملة مدنها طبريَّة وقدس وصور وعكا واللجون وكابل وبيسان وأذرعات، وذلك ما يوافق من أنحائنا الحالية كل متصرفية عكا وقسمًا من متصرفية نابلس وقائمقامية صور وبعض متصرفية حوران، أما كُورَة الشَّراة فإن المقدسي (ص١٥٥) قد جعل «قصبتها صُغر ومدنها مآب ومعان وتبوك وأذرُح ووَيْلة ومَدْيَن.» وصُغر هذه هي المذكورة في التوراة، كان موقعها جنوبي بحيرة لوط، وقد استولى عليها الخراب منذ زمن طويل وسنعود إلى ذكرها. هذا مُحصَّل تقسيم كُوَر الشام كما كانت في القرن العاشر.
وها نحن نستقري كل كُورَة؛ لنرى ما يقول المقدسي فيها، قال عن حلب (ص١٥٥): «وأما حلب، فبلد نفيس خفيف حصين، وفي أهلها ظُرف ولهم يسار وعقول، مبني بالحجارة عامر، في وسط البلد قلعة حصينة واسعة فيها ماء وخزائن السلطان، والجامع في البلد، شربهم من نهر قُوَيق يدخل إلى البلد إلى دار سيف الدولة في شباك حديد، والقصبة ليست بكبيرة إلا إن بها مستقَرَّ السلطان، لها سبعة أبواب: باب حمص، باب الرقة، باب قنسرين، باب اليهود، باب العراق، باب دار البطيخ، باب أنطاكية، وباب الأربعين مسدود.»
وكانت أنطاكية في أيام المقدسي قد انحطت عن رتبتها السابقة، بعد تقدمها على كل مدن الشام؛ ولذلك يكتفي الكاتب بذكرها دون وصفها، وعلى خلاف ذلك حمص، فإنها كانت نالت نصيبًا وافيًا من الفخر، قال المقدسي في تعريفها (ص١٥٦): «حمص ليس بالشام بلد أكبر منها، وفيها قلعة متعالية عن البلد تُرى من خارج، أكثر شربهم من ماء المطر، ولهم أيضًا نهر، ولما فتحها المسلمون عمدوا إلى الكنيسة فجعلوا نصفها جامعًا، عنده بالسوق قبة على رأسها شبه رجل من نحاس، واقف على سمكة تديرها الأرياح الأربع، وفيه أقاويل لا تصح، والبلد شديد الاختلال متداعٍ إلى الخراب.»
وهو قول جليل يدل على ما بلغه فن البناء والهندسة في بلاد الشام بين أهل الذمة.
أما المدن الساحلية فإنها على ما يظهر كانت قليلة الشأن بالنسبة إلى حمص ودمشق، فإن المقدسي لا يكاد يزيد على ذكر أسمائها، حيث قال (ص١٦٠): «صيداء وبيروت مدينتان على الساحل حصينتان، وكذلك طرابلس إلا أنها أجلُّ.» بخلاف بانياس فإنها كانت في ذلك العهد مدينة عامرة واسعة الثروة بما يأتيها من غلال كُورَة الحُولة، التي يدعوها المؤلف «معدن الأقطان» قال (ص١٦٠): «ومدينة بانياس على طرف الحُولة وحدِّ الجبل أرخى وأرفق من دمشق، وإليها انتقل أكثر أهل الثغور لما أُخذت طرسوس، وزادوا فيها وهي كل يوم في زيادة، لهم نهر شديد البرودة يخرج من تحت جبل الثلج، وينبع وسط المدينة، وهي خزانة دمشق رفقة بأهلها بين رساتيق جليلة، غير أن ماءها رديٌّ.»
ومن المدن التي أفاض المؤلف في وصفها طبريَّة، وكانت إذ ذاك أعظم خطرًا منها اليوم. مع انطباق وصفها إجمالًا مع وضعها الحالي، قال (ص١٦١): «طبريَّة قصبة الأردن وبلد وادي كنعان، موضوعة بين الجبل والبحيرة، وهي ضيقة كربة في الصيف مؤذية، طولها نحو من فرسخ بلا عرض، وسوقها من الدرب إلى الدرب، والمقابر على الجبل، بها ثمانية حمامات بلا وقيد ومياضٍ عدة حارة الماء، والجامع في السوق كبير حسن، قد فُرش أرضه بالحصى على أساطين حجارة موصولة، ويقال: «أهل طبريَّة شهرين يرقصون، وشهرين يقمقمون، وشهرين يثاقفون، وشهرين عراة، وشهرين يزمرون، وشهرين يخوضون.» يعني يرقصون من كثرة البراغيث، ويلوكون النبق، ويطردون الزنابير عن اللحم والفواكه بالمَذابِّ، وعُراة من شدة الحر، ويمصون قصب السكر، ويخوضون الوحل. وأسفل البحيرة جسر عظيم عليه طريق دمشق وشربهم منها، عليها بما يدور قرى نخيل، والسفن فيها تذهب وتجيء، وماء الحمامات والدواميس إليها، لا يستطيبها الغرباء، كثيرة الأسماك، خفيفة الماء، والجبل مطلٌّ على البلد شاهق.»
ثم أتبع المؤلف وصفه بذكر بلاد فلسطين، وقد قدمنا فُوَيْق هذا تعريف عكا وميناها الخطير، المشابه بحسنه مينا صور الذي وصفه بما يلي (ص١٦٣): «وصور مدينةٌ حصينة على البحر، بل فيه، يُدخل إليها من باب واحد على جسر واحد، قد أحاط البحر بها، ونصفها الداخل حيطان ثلاثة بلا أرض، تدخل فيه المراكب كل ليلة ثم تجر السلسلة التي ذكرها محمد بن الحسن في كتاب الإكراه، ولهم ماء يدخل في قناة معلقة، وهي مدينة جليلة نفيسة، بها صنائع ولهم خصائص، وبين عكا وصور شِبه خليج؛ ولذلك يقال: «عكا حذاء صور إلا أنك تدور.» يعني حول الماء.»
ولم يكن المؤلف لينسى وطنه بيت المقدس، فأفرد له وصفًا مطوَّلًا يُستشفُّ من ورائه حب الكاتب لمسقط رأسه، وأورشليم كانت إذ ذاك كما هي اليوم مدينة معتبرة؛ ولذلك أحببنا أن ننقل قسمًا من كلامه، وليس شاهدٌ أدلَّ على فضل المقدسي من هذه المنقولات التي نُثبتها في كلامنا مع حُسن بيانها لأحوال الشام في عصره، قال بعد ذكره للرملة قصبة بلاد فلسطين (١٦٥–١٦٧): «بيت المقدس ليس في مدائن الكُوَر أكبر منها، وقصَبات كثيرة أصغر منها كإصطخر وقابن والفرما، لا شديدة البرد، وليس بها حَرٌّ، وقلَّما يقع بها ثلج، وسألني القاضي أبو القاسم ابن قاضي الحرمين عن الهواء بها، فقلت: سَجْسَجٌ لا حر ولا برد شديد. قال: هذا صفة الجنة. بنيانهم حجر لا ترى أحسن منه، ولا أتقن من بنائها، ولا أعفَّ من أهلها، ولا أطيب من العيش بها، ولا أنظف من أسواقها، ولا أكبر من مسجدها، ولا أكثر من مشاهدها، عنبها خطير، وليس لمُعتَّقتها نظير، وفيها كل حاذق وطبيب، وإليها قلب كل لبيب، ولا تخلو كل يوم من غريب، وكنت يومًا في مجلس القاضي المختار أبي يحيى بن بهرام بالبصرة، فجرى ذِكر مصر إلى أن سُئلت: أيُّ بلدٍ أجلُّ؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيُّها أطيب؟ قلت: بلدنا؟ قيل: فأيُّها أفضل؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيُّها أحسن؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيُّها أكثر خيرات؟ قلت: بلدنا. قيل: فأيُّها أكبر؟ قلت: بلدنا. فتعجب أهل المجلس من ذلك وقيل: أنت رجل محصل، وقد ادَّعيت ما لا يُقبل منك، وما مثَلك إلا كصاحب الناقة مع الحجاج، قلت: أما قولي: «أجلُّ»؛ فلأنها بلدة جمعت الدنيا والآخرة، فمن كان من أبناء الدنيا وأراد الآخرة وجد سوقها، ومن كان من أبناء الآخرة، فدعته نفسه إلى نعمة الدنيا وجدها، وأما طيب الهواء فإنه لا سمَّ لبردها ولا أذى لحرِّها، وأما الحُسن فلا ترى أحسن من بنيانها، ولا أنظف منها ولا أنزه من مسجدها، أما كثرة الخيرات فقد جمع الله — تعالى — فيها فواكه الأغوار والسهل والجبال، والأشياء المتضادة كالأُتْرُجِّ واللوز، والرُّطَب والجوز، والتين والموز، وأما الفضل فلأنها عَرْصَة القيامة، ومنها المحشر وإليها المنشر، فتحوي الفضل كله، وأما الكِبَر فالخلائق كلهم يُحشرون إليها، فأيُّ أرضٍ أوسع منها؟! فاستحسَنوا ذلك وأقرُّوا به.»
ودونك ما كتب عن مآب (ص١٧٧): «مآب في الجبل كثيرة القرى واللوز والأعناب، قريبة من البادية، ومؤتة من قراها، وثَمَّ قبر جعفر الطيار.»
•••
وهذا القول الأخير غاية في الصواب؛ فإن المقدسي لم يكن ليصادق على مذهب أسطرابون ومن حذا حذوه، بأن العاصي يمكن ركوبه على الأقل من أنطاكية. وهو زعم لا صحة له حتى مع حصر الكلام وتخصيصه بهذا القسم الصغير، فإننا قد تحققنا بنفسنا الأمر؛ إذ سِرنا في وادي العاصي من أنطاكية فوجدناه لا يصلح لمرور القوارب.
ومن الظواهر الجوية التي ذكرها المقدسي الندى في أنحاء الشام، وخصوصًا في بعض جهات فلسطين، فقال (ص١٨٦): «ينزل على فلسطين في كل ليلة الندى في الصيف إذا هبت الجنوب حتى يجري منه مزاريب المسجد الأقصى.» ومما رأيناه بالعيان أننا بتنا في دئبان بين الكرك ومادبا في شهر آب سنة ١٩٠٥ تحت ظل السماء، فلما قمنا صباحًا شعرنا بالندى قد بلل أغطيتنا، حتى أمكننا عصرها لو شئنا، ومثل هذا الندى يسقط في الناصرة من عمل الجليل، وفي بزيزًا في ناحية الكُورَة (لبنان). ووفرة الندى كما هو معلوم من البركات التي يستدرُّها الناس من السماء، ويعِد بها الكتاب الكريم كالغيث والمطر.
وكذلك عدَّد المعادن الشامية، وتعداده مهم لشئون الصناعة في زمانه، قال (ص١٨٤): «به — أي إقليم الشام — معادن حديد في جبال بيروت، وبحلب مغرة جيدة، وبعمان دونها، وبه جبال حمر يُسمى ترابها الصمغة، وهو تراب رخو، وجبال بيض تسمى الحوَّارة، فيه أدنى صلابة يُبيَّض به السقوف، ويُطيَّن به السطوح، وبفلسطين مقاطع حجارة بيض ومعدن للرخام ببيت جبريل، وبالأغوار معادن كبريت وغيره، ويرتفع من البحيرة المقلوبة ملح منثور وخير العسل ما رعى السعتر بإيليا وجبل عاملة، وأجود المري ما عُمل بأريحا.»
ومن غريب ما رواه (ص١٨٤) في مجاري الأنهار، قوله عن بردى عند خروجه من دمشق، فزعم «أنه ينقسم قسمين، بعض يتبخر نحو البادية وبعض ينحدر فيلقى نهر الأردن»، وبديهي أن نهر بردى ليس هو مطلقًا من سواعد الأردن. ومن مزاعمه أيضًا (ص١٨٤) أن في بحيرة لوط جبالًا. وهو رأي تفرَّد به المقدسي ولا أصل له، وكذلك يسمِّي بحر القلزم «بحر الصين» ويُطلق الاسم عينة على خليج العجم، وفي قوله دليل على اتساع تجارة الصين في زمانه، وشيوعها في مدن بحر القلزم الساحلية، أما الجبال فقد وصفها المقدسي وصفًا خفيفًا غير وافٍ بالمرام، ومما قال في لبنان (ص١٨٨) إنه «كثير الأشجار والثمار المباحة»، ثم ذكر عبَّاده ويلوح من قوله فيه أن جنوب هذا الجبل لم يكن مأهولًا على عهده.
فيرى القراء من هذه التفاصيل سبب إعجاب المستشرقين بتأليف المقدسي، فيا ليته كان وجد له أخلافًا مثله ذوي عقل ثاقب يفقهون الأبحاث الجغرافية، فكان هذا العلم أصاب ترقِّيًا عظيمًا، إلا أن أغلب الكَتَبَة الذين جاءوا بعده كانوا دونه، اللهم إلا الشريف الإدريسي.
ومما استفاده القارئ أيضًا من هذا البحث كما نظن أنه يرى ما طرأ على بلاد الشام من التقلبات، واختلاف الأحوال في أطوار التاريخ فمنها ما يزيد وينمو، ومنها ما ينقص ويتقهقر على حسب كوارث الدهر، وهذا يلوح من درس كل الكَتَبَة الجغرافيين من العرب، فإنهم وإن لم يبلغوا شأو المقدسي، إلا أنهم تركوا لنا معلومات ثمينة تؤدي بنا إلى معرفة بلادنا في قرون شتى، مع ما جرى فيها من الماجريات في نظامها وتقاسيمها وتجارتها وبقية أمورها، مما يستفيد منه المؤرخ لاستطلاع أحوال البلاد، وإدراك الحوادث الجارية فيها جيلًا بعد آخر.